ويتميز الشيخ «القرني» بوجه خاص بسعي النساء العواقر إليه طلبا للحمل، وعلى ضريجه لا يزال القرنان معلقين، أما الذبائح المستحبة تقربا إليه فهي ذوات القرون، وكل حسب قدراته، وحبذا لو كان كبشا، أو ثورا لمن استطاع إليه سبيلا، أما الكلمة «عويس» فهي اسم شعبي واسع الانتشار في مصر. لكنه في معارف باحث مهموم بالميثولوجي ليس سوى صيغة مقلوبة من اسم تراثي ميثولوجي عريق، هو «يسوع» أو «يشوع» أو «عيسى» ويعني المنقذ أو المخلص، ويعني أيضا المبعوث والمبروك. وقد تخلف الاسم «يشوع»، و«يشع»، في العبادات العبرية بعد ذلك. فأصبح هو الإله «يهوه» المعروف أيضا في الكتاب المقدس باسم «ياه» وباسم «إهيه»، والاسم «يوشع» أو «يشع» أو «يشوع» ملصق من كلمتين هما: «ياه» + «شا»، التي أصبحت بالإدغام «ياهوه» رب القبيلة الإسرائيلية، والملصق يحمل المعنى الذي ذهبنا إليه. فالشطر «ياه» من الهواء، والشطر «شا» من كلمة شاة التي تعني في اللغات السامية كل ذوات القرون، والملصقان يعينان في النهاية الشاة الهوائية أو الشاة الطائرة، وهو أبلغ تعبير عن المعبود القمري.
وحول الأمر تفاصيل هائلة اكتفينا منها بما يعني موضوعنا ولصيق الصلة به؛ لوضع صورة سريعة لما وصل إليه الإنسان من معارف، بناها على علاقته بالطبيعة من حوله، وتحولت إلى معارف مقدسة في الحضارات القديمة بالمنطقة، وقتما كان «الإسكندر المقدوني» يطمئن على حدوة حصانه، ويركب فرسه ليسافر طوافا أو فاتحا لتلك البلدان، وهي المعارف أو المقدسات التي ستضيء لنا مساحة أوسع حول لغز «ذي القرنين».
الأصول
والآن؛ من هو «الإسكندر المقدوني»، ولماذا احتسبناه هو ذا القرنين نفسه القرآني؟ بعد أن زرعنا البذار عبر الصفحات السالفة، وحان وقت القطاف، خاصة مع ما أوردنا من مادة علمية بعنوان «الجذور» تبدو منبتة الصلة بما قبلها، كما لو كانت إيقاعا نشازا، أو قولا في غير مقامه. «الإسكندر» هو «الإسكندر الأكبر بن فيليب الثاني» من أمه «أوليمبيا أو أوليمباس»، وهو ربيب الفيلسوف اليوناني الأنشر «أرسطوطاليس» وتلميذه، وهو القائد اليوناني الفذ الذي توجهت فتوحاته - ضمن خطته لضرب الإمبراطورية الفارسية التي أسسها «قورش» صاحب تاج القرنين - نحو أرض الفراعنة، بغية الاستيلاء على بوابة الشرق القديم، وقتما كانت تدين بديانة «آمون» الخروف رب الدولة (لا يظن مشتبه أننا نقلل من شأن آمون، فالمسيح في الأناجيل أيضا كان خروفا، بل كان الخروف الأعظم)، و«آمون» في الاعتقاد هو الروح لأوزيريس صاحب العائلة المقدسة، وهي عقيدة تثليث تعبد إلها أبا هو «أوزير» وإلهة أم هي «إيسة» وإلها ابن هو «حور»، والابن «حور» يعد أصل السلالة الملكية الحاكمة وجدها البعيد، بالضبط كما كان الابن الإلهي «تموز» في العراق القديم؛ لذلك كان الفرعون يعد ابنا للإله يجري في عروقه الدم السماوي الشرعي، الذي يكتسب بموجبه شرعية الحكم. وفي حالات نادرة كان يستولي على عرش البلاد قهرا بعض الطامحين، لكن كان على من يطيق ذلك أن يرضي الكهان بالمال والأراضي والمناصب؛ ليعترفوا به ابنا للإله الأعظم «آمون»، وأنه أيضا حفيده عبر «حور» الابن الإلهي، وذلك قبل أن يتزوج الأميرة الوريثة ويصبح حكمه مشروعا.
وكان «أوزير» أو «أوزيريس» هو رب الخلود الدائم باعتباره إله النبات، وهو الإله الحي الغائب أو الرب الحي صاحب موازين الحساب في الآخرة، وقاضي الثواب بالجنة والعقاب بالنار، وكان لقبه الأشهر هو «خنتي آمنتي» أي صاحب مملكة الغرب، أي مملكة الخلود، حيث كان المصريون يعتقدون أن البشر يرحلون بعد موتهم غربا مع الشمس «آمون» في مركبها السماوي إلى عالم الخلد؛ ليعيشوا هناك في مملكة «أوزير»؛ لذلك كان الحج إلى كعبة «أوزير» في أبيدوس ، وإلى معبد «آمون» في واحة سيوة، ضرورة إيمانية للخلاص من الذنوب، حيث يغتسل المؤمن هناك أو يتعمد في عين «أوزير» وفي البحيرة المقدسة لمعبد «آمون»، أو ما كان يسمى وقتها «عين الحياة» فتلقى عنه أوزاره، ولم تزل عين «أوزير» وبحيرة «آمون» قائمتين إلى اليوم، يقصدهما العامة بغرض الاستشفاء والإخصاب، وهناك تتراءى الشمس للناظر وهي تغرب في بحيرة «آمون»، مشكلة مشهدا جلاليا، لم يزل يترك في النفوس أثره القديم.
97
ويؤكد «ه. آيدرس بل» أن الاحتلال الفارسي لمصر كان قاسيا، ولم يعامل عقائد المصريين بالاحترام الواجب، بعكس تلميذ «أرسطو»، «الإسكندر» المقدوني الذي لم يتبع في فتح أعظم بلاد الشرق سياسة البطش الفارسية، إنما استثمر ما تلقاه عن أستاذه من حكمة، واستخدم الدبلوماسية في استغلال الدين لتثبيت حكمه، فما أن وضع جنوده أقدامهم على البر المصري، حيث قرية كانوب الساحلية (وهي التي حولها إلى حاضرة كبرى هي الإسكندرية)، وبعد أن استسلم له الوالي الفارسي، حتى أعلن «الإسكندر بن فيليب الثاني» ولاءه لآلهة مصر الوطنية وخضوعه لها، كما أشاع بين الناس أنه ما قدم من بلاده إلى مصر، إلا لينقذ آلهتها من الامتهان الفارسي، ويقدم لها فروض الولاء والطاعة.
وبالاتفاق المرضي للطرفين، الإسكندر والكهنة، اعترف الكهان بالإسكندر ابنا شرعيا للإله المصري، ولكن بشرط أن يقوم بالحج إلى واحة «آمون» ماشيا حافيا يتقدم الجماهير؛ ليعلن هناك ولاءه للآلهة، ثم ليتسنى له كسب الخلود بالشرب من بحيرة الحياة، وإزاء رغبته في فتح العمق المصري سلميا دون مصادمة، قام «الإسكندر» بالرحلة القاسية في الصحراء القاحلة الساخنة من أجل الحج،
98
مدللا على استحقاقه التلمذة لعبقري زمنه «أرسطو»، ولا شك أنه يمكننا أن نرى من خلال سجف الزمن عيون الرضا ترعاه من كل الشعب المصري، وربما ابتهلت الألسن وأطلقت عليه لقب المخلص، الذي خلصها من الطغيان الفارسي «عويس». وبالفعل يحدث التاريخ أن «الإسكندر» استولى على مصر وعلى قلوب جماهيرها المؤمنة، وأعلنه الكهان حاكما شرعيا على البلاد بالحكمة الأرسطية وحدها.
Bog aan la aqoon