ودعامة تلك الحقوق كلها، حق العمال في التكتل وتكوين نقابات تدافع عن مصالحهم، وحق الإضراب كسلاح لحفظ حقوقهم أو للحصول عليها.
أتى الحبيب بورقيبة بفكرة كانت أساسا للعمل، وهي أن الشعب إذا استيقظ ونظم صفوفه هو الذي يخلص نفسه بنفسه من الاستعمار، وهو الذي يدخل على الدولة والمجتمع نظاما يضمن له السيادة والحرية والرفاهية، فينبغي إذن أن يسير الحزب الحر الدستوري على مبدأ اتصال القادة بالشعب اتصالا دائما عميقا قويا، مهما تكن التكاليف، وأن يتحمل في سبيله كل التضحيات، فكان الحزب في العهد الأول من كفاحه (من 1933 إلى 1944) يناضل في جبهتين: يناضل ضد الفرنسيين الذين يقاومونه، تارة بالقوانين الاستثنائية والمحاكم الزجرية، وطورا بالحديد والنار، ويقاوم مقاومة أصعب وأشق الركود والخنوع والعقلية البالية والتفرقة والأوهام المستولية على قسم كبير من الشعب، حتى أيقظ القلوب وأنار العقول وقضى على الخرافات، وحطم التقاليد البالية والعصبية القبلية، والتعصب البغيض، وأحدث ثورة في النفوس عميقة، وإذا بشعب اليوم غير شعب الأمس.
وإن اتصال القادة بالشعب اتصالا مباشرا يتخذ طرقا شتى وأساليب متنوعة، ويعتمد على دعاية عصرية منظمة نظاما محكما توجه الرأي العام توجيها وطنيا قوميا، وتوضح له الغايات الأساسية التي ينبغي أن تكون دوما حاضرة في أذهان التونسيين، وتشرح له الأهداف الجزئية التي تهيئ تحقيق تلك الغايات البعيدة، وتبين له أيضا مقاصد المناورات السياسية الدقيقة وتعوده على فهمها بالإشارة والتلويح، ولم يتم ذلك إلا لمعرفة قادة الحزب بنفسية شعبهم وميوله وطبيعته والامتزاج به، فيرتفعون به إلى مستواهم في التفكير السياسي، ويقودونه حسب المصالح الوطنية العليا لا حسب العواطف والانفعالات والحماسة.
وكانت أعظم وسيلة في دعاية الحزب الاجتماعات العامة التي اتخذت قوالب متنوعة وانقسمت إلى أصناف متعددة؛ فتبتدئ عادة باتصال بعض الدعاة اتصالا فرديا بالقرية أو المدينة أو الجهة لفحصها واختيار بعض الوطنيين بها يكونون كالنواة للعمل المقبل ويجمعون حولهم كتلا صغيرة؛ يجتمع بهم ذلك الداعية، وبعد أن يتم ذلك العمل الذي يتطلب أسابيع وشهورا أحيانا يشرع الحزب في اجتماعات أوسع، يرسل لها بعض خطبائه المفوهين مصحوبا بأخصائيين في التنظيم، يشتغلون بعد الاجتماع بتوثيق الروابط وإدخال الترتيبات الحزبية واختيار المسئولين على قيادة الحركة في تلك الجهة اختيارا مؤقتا. وعندما يتم التمهيد وتتكون المؤسسات الحزبية ويتهيأ الجو، إذ ذاك يقصد أحد القادة تلك الجهة، فيبلغ أنصار الحزب ودعاته ذلك الخبر إلى القاصي والداني ويبثونه في الأسواق والبوادي، وتزين المدن والقرى بالأعلام، ويهيأ في الغالب طقم الموسيقى، وفي الميعاد المضروب تخرج عشرات السيارات لتستقبل الزعيم في الطريق على بعد 10 أو 20 كيلومترا من مقر الاجتماع، ويجتمع السكان خارج المدينة، ويصطف قسم من الشباب «الدستوري» على حافتي الطريق، ويذهب قسم آخر منه على الدراجات النارية ليلتفوا بسيارة الزعيم، وما أن يظهر وسط الطريق حتى تتعالى الهتافات باستقلال تونس وبالجهاد في سبيلها، وتعزف الموسيقى الألحان القومية وتصدح الشبيبة الدستورية بالأناشيد الوطنية وتتبعها الجماهير، ويدخل الزعيم إلى المدينة تحت الأعلام الخفاقة وسط الجماهير المتحمسة والنساء المزغردات. وما أن يأخذ مكانه فوق منصة الخطابة وحوله من الرجال المسئولون على الحركة حتى تهدأ الأصوات، فيصبح ذلك الجم الغفير من الشعب الذي جمع الغني والفقير والمرأة والرجل والشاب والشيخ والعالم والجاهل في صعيد واحد كأن على رءوسهم الطير، ويبدأ الاجتماع بتلاوة آي الذكر الحكيم، ثم يتعاقب الخطباء أمام الميكرفون وبعد كل خطيب منهم أنشودة وطنية قوية.
وأخيرا يقف الزعيم وسط عاصفة من التصفيق، فيشعر الإنسان بلحمة عجيبة ووحدة امتزجت فيها روح الزعيم بروح الجماهير التي اشرأبت منها الأعناق واتجهت العيون، وتعلقت النفوس بالكلمات النورانية، بل بجرس الصوت ونغمته ونبراته، فتنفعل بانفعاله وتغضب لغضبه وتفكر إذا ما أجبرها على التفكير. وكانت خطب الزعماء لا ترمي إلى إنماء الحماس الذي ينطفئ بسرعة، بل كانت دروسا سياسية تزيح اللثام عن الاستعمار ونواياه وطرقه المنعرجة الملتوية وأهدافه البعيدة والقريبة، كما تكشف القناع عن الحقائق التونسية المرة وعن أمراضنا المزمنة وعيوبنا التي ينبغي أن نتخلص منها، ثم تهدي إلى طريق معالجة أنفسنا وسبل النجاة مما نحن فيه وما يتطلبه تحرير الفرد والوطن من نكران الذات ومن تضحيات وصبر وثبات. وأخيرا يشرح لهم الموقف السياسي بتدقيق تام، ويختم الاجتماع بنشيد الحزب الرسمي والناس وقوف، ويختلط بعد ذلك الزعماء بالشعب كأفراد منه؛ لأن التقديس انتزع في تونس من الأشخاص، ولا تقديس إلا للفكرة القومية.
ولما شاهدنا بالتجربة المتكررة أن ذلك الاتصال المباشر بالشعب أفيد للقضية وأعظم مفعولا من كل الطرق الأخرى، عددنا الاجتماعات العامة والخاصة وكررناها ونوعناها. وللحزب أكثر من أربعمائة شعبة في المملكة التونسية، يجتمع المنخرطون في كل واحدة منها مرة في كل أسبوع أو نصف شهر على الأقل؛ ليكونوا مطلعين على تطورات الحالة. ويعقد دعاة الحزب المتجولون عشرات الاجتماعات في كل أسبوع، أما الزعماء فإنهم في تنقل دائم ودعاية شفاهية مستمرة. ولندرك مقدار هاته الناحية من جهودهم، يكفي أن نعلم أن في تونس الصغيرة الرقعة 250 كيلومترا عرضا و550 كيلومترا طولا يقطع بعضهم بين المائة ألف كيلومتر والثمانين ألف كيلومتر في العام الواحد في جولات متتابعة.
لم توهب حرية الاجتماع والكلام إلى الحزب الحر الدستوري، بل أفتكها افتكاكا وأخذها عنوة وضحى بمئات ومئات من أتباعه، وضحى قادته أيضا بحريتهم وحوكموا أحكاما قاسية المرة تلو المرة لأجل تلك الاجتماعات؛ لأن الحريات كلها مفقودة بتونس منذ شهر أبريل 1938، والحزب نفسه محجر قانونا، فمن يتلفظ بكلمة «دستور» ومن يجتمع بأكثر من ستة أشخاص معرض لثلاثة أعوام سجنا وغرامات مالية فادحة. وبما أن تحقيق الأهداف القومية تتطلب إيقاظ الشعب وتكتله، وبما أن تلك النهضة مستحيلة وذلك التكتل لا يتم إلا بتلك الاجتماعات العامة؛ قرر الحزب أن يقوم بها ويكلفه ذلك ما يكلفه، فبدأ على إثر الحرب العالمية الثانية بالاجتماعات الصغيرة إلى أن نمت وترعرعت وأصبحت تعد عشرات الآلاف، فوجدت فرنسا نفسها أمام الأمر المقضي، فإما أن تقدم على إيقاد ثورة عامة، وإما أن تغض الطرف شيئا ما. وحاولت إيقاف تيارات الاجتماعات تارة بإصدار أحكام قاسية على المسئولين عن عقدها والمتكلمين فيها، وتارة تنزل إلى أماكنها جنودها ودباباتها لتمنعها فتتم في أماكن أخرى، فقد ابتدأ التونسيون في الحقيقة معركة التحرير في ذلك المجال.
ثم كان الحزب يصدر منشورات أسبوعية يوزعها على شعبه فقط للتوجيه وتحديد مواضيع الداعية، وبيان الأعمال المتنوعة التي يتطلبها الموقف وما أحدث في الأنظمة الداخلية، فيبث ما فيها إلى أعضاء الحزب ثم إلى الجماهير، وذلك اتصال آخر كاد يكون مباشرا.
وللحزب صحيفتان رسميتان تنطقان باسمه؛ الأولى باللغة العربية تتوجه إلى الشعب التونسي، والثانية بالفرنسية تتوجه إلى الأجانب، وله صحف متعددة شبه رسمية؛ اثنتان منها يوميتان: الواحدة صباحية والأخرى مسائية، وبجانبها عشرات من الجرائد الأسبوعية منها السياسية ومنها الأدبية ومنها الدينية ومنها الفكاهية والهزلية، حتى إن جميع الصحافة التونسية أصبحت موالية للحزب تدافع عنه وتنشر آراءه، ما عدا بعض الصحف الهزيلة التي تمولها السفارة الفرنسية.
وأخذ الحزب أيضا ينشر الرسائل الصغيرة وبعض الكتب. (4) النظام الحزبي
Bog aan la aqoon