ولم تقل دولت شيئا إلا: ابن الكلب السافل.
ولم تسمع فايزة شيئا، بل استمرت في ثورتها المريرة الساخرة: بنت عمه، وماله لا يخطب بنت عمه؟ وماذا تستطيع أن تقول بنت عمه؟ هل عندها خطاب غيره؟ إنه الوحيد الذي وازن بين مالها وصممها فوجد المال أعظم فخطبها، أتستطيع أن ترفض؟ وماذا تقول إن رفضت؟ إنها ما زالت صغيرة، ومن سيخطبها حين تصبح كبيرة؟ إنها لا تريد الزواج، وماذا تصنع الفتيات إلا الزواج، إن الوقت متسع أمامها، ومن سيسأل عنها في هذا الوقت المتسع؟ لا بد أن تقبل بنت عمه، وإن كانت تعرف أنه يخطب مال أبيها، نعم وإن كانت تعرف، ولتقم الأفراح والليالي الملاح، فسيتزوج ابن العم من ابنة عمه الصماء، فوا فرحتاه.
وارتمت فايزة على السرير باكية في نشيج عال أليم حتى لم تستطع دولت إلا أن تنسى ما أصابها من هذا الخبر، فراحت تربت فايزة في إعزاز وحب وإشفاق، وأحست حينذاك أنهما كلتيهما طعينتان بسكين واحدة، هي يسري.
ودق جرس التليفون وظل يدق فترة حتى وافاه أحد الخدم، ثم لم تسمع دولت الخادم يتكلم، وإنما سمعته يضع السماعة مكانها، فعرفت أن يسري يطلبها، فعزمت ألا تجيبه في المرة التالية، ودق جرس التليفون ثانية، وترددت، وسارع الخادم، فكان حظه من الحديث كحظه في المرة الأولى، ودق الجرس ثالثة فقصدت هي إليه وسمعت يسري يقول ردا على صوتها: غدا في الساعة السادسة.
ووضعت السماعة وعادت إلى فايزة واحتوتها بين ذراعيها، وتفجرت دموعهما معا.
الفصل الثلاثون
أكنت أطمع في الزواج به؟! إذن فما لي قد غضبت هذا الغضب؟ شاب متعلم موظف ابن ناس، أكنت فكرت حين أسلمت نفسي له أنه سيتزوجني، لعل هذا التفكير راودني عن أخيه، أما عنه هو فلم أفكر في الزواج به على الإطلاق. لماذا لم أفكر؟ لست أدري، فما هذا الغضب الذي تولاني؟ ألعلي غاضبة لأنه لم ينبئني، أم لعلي غاضبة لأنه سيكون في أحضان غيري، بعلمي، أم لعلي مشفقة على فايزة، أم تراني غير غاضبة وإنما كنت مأخوذة بالنبأ حين سمعته؟ ماذا أقول له حين ألقاه؟ وماذا تراه يقول هو؟ إنني لا أستطيع عنه غناء، إنه الرجل الوحيد الذي عرفته، فكيف أغنى عنه؟ سأقبل عذره، أي عذر يلقيه.
ولكن أترى ألقاه كما عودته في بهجة أم أصطنع الغضب؟ لأترك هذا إلى ما تمليه علي نفسي عند اللقاء. وإلام يدوم بي هذا الحال؟ ألا من نهاية؟ لقد ضمنت الآن على أية حال أنني سألازم فايزة حتى بعد زواجها، وأين أجد زوجا مثل يسري؟ ولكن ماذا بعد؟ إنني أكبر مع الأيام وأخشاها، إنها رفيق غادر هذه الأيام، فماذا تخبئ لي؟ لو أن أخي بذل بعض الاهتمام بي، ولكن كيف؟ لقد قطعت رحلته ما كان بيننا من صلة هينة وازداد التباعد بيننا حين استقل ببيته وتركني في هذا البيت، أما كنت خليقة أن ألقى واحدا من زملائه في بيته فيطلبني؟ ولكن أأستطيع اليوم الوصول إلى زواج كهذا، وكيف؟ ألا يجدر بي أن أبحث هذا الأمر مع يسري؟ نعم، لا بد من ذلك، مبلغ يسير من المال أعود فتاة كما كنت، فإني أعرف الحاجة توحة، وهي ما زالت تقوم بهذه العمليات، سيستطيع بعد زواجه أن يدبر لي ما أريد، لا شك أنه سيستطيع.
بلغت دولت بيت أخيها وفتح لها عم إدريس الباب، وما هي إلا هنيهة حتى كان عم إدريس في طريقه إلى مقهاه وفي جيبه خمسة وعشرون قرشا.
ولم يتأخر يسري ووجد الباب مفتوحا، فدخل ووجدها جالسة في البهو على الأريكة التي شهدت أول الصلة بينهما. وكانت لا تزال تدير في رأسها هذه الأفكار عن مستقبلها وماضيها، وقد غشت وجهها سحابة من الحزن، لاقاها هو بابتسامة عريضة: لا، لا، لا أطيق هذا الوجوم، إنه لا يتفق وهذا الجمال.
Bog aan la aqoon