في هذه العذوبة والصفاء يجمل نجيب كل هذا الذي حدث. لم تضع ثروتهم ولم يفقدوا عائلهم ولم يصبهم الدهر في جاههم ومالهم ومجدهم وآمالهم، لم يحدث شيء من هذا، وإنما انتقلوا من بيت إلى بيت، هذا كل ما حدث.
وفي عناق حار اختفت الدموع التي ترقرقت في عيني خيري، وفي أهلا وسهلا تهدج بها صوته بدا منه لصديقه الشكر والحب والإعزاز. وجلس الصديقان. - والله زمان يا نجيب. - أي والله، زمان. - هيه ما أخبارك؟ - كلية الحقوق طبعا، كما تعرف. - طبعا.
وأوشك صوته أن يتهدج ثانية، ولكنه جمع نفسه وهو يقول: كنا ننوي الالتحاق بها معا. - وما المانع الآن؟ - أني موظف، أظنك عرفت. - نعم أعرف، ولكن ما يمنعك أن تذاكر معي؟ - أخاف أعطلك. - بالعكس، فأنت من بعد الساعة الثانية لا عمل لك، وستكون أحرص على المذاكرة مني، فأنا قد أعتمد على المحاضرات، بينما لن تعتمد أنت إلا على المذاكرة. - نبحث الموضوع. - لا نبحث ولا يحزنون، وعلى فكرة أصبحت أعيش وحدي في شقة خاصة بي. - ماذا؟ - ما سمعت. - ولماذا، كفى الله الشر؟ - رقي أبي إلى باشكاتب محكمة قنا، وطبعا لم يكن بد أن أظل وحدي. - ومن يخدمك؟ - استأجرت خادما كسولا لا يعرف من شئون البيت شيئا، يخيط الزرار فلا يتماسك إلا ريثما يدخل في العروة، ثم يسقط على الأرض شاكيا جهل من ركبه ، ويطبخ الأرز فيصبح لبخة أو يطبخه فيصبح حصى. - اطرده.
ويفكر نجيب قليلا وهو يقول: والله أظن مسألة الطرد هذه مستحيلة. - لماذا؟ - قريبي. - قريبك؟! - جدا، ثم لا يتقاضى أجرا. - طبعا لا يتقاضى أجرا، إنه خليق أن يدفع لك أجر إبقائك له، من هو هذا القريب؟ - نجيب كامل. - من؟
ويغرق الصديقان في الضحك، ويقول نجيب: أصدقت أن لي خادما؟ أجننت؟ مرتب أبي يسع الكتب بطلوع الروح، فمن أين أجيء بالخادم؟ - إذن فأنت وحيد! - وحيد!
ومد نجيب شفته مخرجا نغمة تتأرجح بين السرور والخبث، وقال: ليس دائما.
وأشرق وجه خيري بالفهم، ولكنه فضل أن يبدو كأنه غبي لا يفهم ما يقصد إليه صديقه. - لا أفهم. - بطبيعة الحال، الملابس تحتاج إلى غسل. - وما شأن هذا بوحدتك. - الغسالة آية في الجمال. - ومن أين لك بأجرها؟ - في الثلاثين من عمرها، وأنا في العشرين. - عظيم، غيره. - زوجة صاحب البيت، صاحب البيت في الستين من عمره، وهي في الخامسة والعشرين، وأنا ...
ويقاطعه خيري: في العشرين، مفهوم، غيره. - هذا هو الثابت، وكله مع التساهيل. - وكله مجانا. - المسألة لا تخلو من زجاجة عطر للغسالة، وهدية صغيرة للست، إنها حاجات بسيطة، والقادمات من الخارج يكتفين بالعشاء، والطماعة تذكرة سينما. - ما ألذ وحدتك ومذاكرتك، عنوانك، أسرع.
الفصل الخامس عشر
كانت سميرة هانم تجلس إلى ولديها وابنتها نادية في حجرتها التي اتخذوها مكانا يقضون به يومهم إن لم يكن لديهم زائر، وتنقلت سميرة هانم بعينيها على وجوه أبنائها ثم قالت في نفسها: «نحمدك يا رب ونشكر فضلك، أخذت المال والعائل وتركت البنين، أكمل كرمك يا رب وبارك فيهم.» ومست فؤادها نفحة من راحة لا تلبث تهفو إلى القلوب الحزينة فتمنحها إشراقا وأملا. وفي غمرة من هذا الإشراق قالت الأم لخيري: هيه يا معلم، ألم تنته من مكتبتك؟
Bog aan la aqoon