وقد شربوا حتى كأنّ رقابهم ... من اللينِ لم تخلق لهن عظامُ
وقال أبو نواس نحو ذلك
ركبٍ تساقوا على الأكوارِ بينهمُ ... كأسَ الكرى وانتشى المسقيُّ والساقي
كأنَّ أرؤسهمْ ... والنومُ واضعها على المناكبِ لم تعدلْ بأعناقِ
ومما يدخلُ في هذا الباب من حسن التشبيه قول ابن الرومي يصف قدحًا أهداه إلى علي بن يحيى في أبياتٍ بعضها متعلق ببعض
وبديعٍ من البدائعِ يسبي ... كلَّ عقلٍ ويطبي كل طرف
دقَّ في الحسنِ والملاحةِ حتى ... ما يوفيه واصفٌ حقَّ وصفِ
كهواءٍ بلا هباءٍ مشوبٍ ... بضياءُ أرققْ بذاك وأصفِ
وسطُ القدرِ لم يكبرْ لجرعٍ ... متوالٍ ولم يصغرْ لرشفِ
لا عجولٌ على العقولِ جهول ... بل حليمٌ عنهنَّ من غير ضعفِ
ما رأى الناظرونَ قدًا وشكلًا ... فارسًا مثلهُ على ظهرِ كفِ
فيه لونٌ معقربٌ عطفتهُ ... حكماءُ القيونِ أحسنَ عطفِ
مثلَ عطفِ الأصداغ في وجناتٍ ... من غزالٍ زهى بثغرٍ وطرفِ
وقال في قدح رأى فيه نبيذًا أسود
علني أحمدٌ من الدوشابِ ... شربةٌ نغصتْ سوادَ الشبابِ
لا تراني وفي يدي قدحُ الدو ... شابِ أبصرتَ بازيًا وغرابِ
وقال البحتري نحو ذلك المتقارب
فجاء نبيذٌ له حامضٌ ... يشقُّ على الكبدِ المقفره
إذا صبَّ مسودهُ في الإناءِ ... فكأسُ النديمِ به محبره
وقال ابن المعتز
أخي ردِ كأسَ الخمرِ عني فلا خمرا ... تبدلتَ منها أسودًا حالكًا مرا
كأنَّ بأيدي شاربيها إذا انتشوا ... محابرَ وراقينَ قد ملئتْ حبرا
ومن التشبيه الحسن قول البحتري في إناءٍ أرق
قد أتتنا تلك الهدية والصهباءُ من خيرِ ما تبرعتَ تهدى
لبست زرقةَ الزجاجِ فجاءتْ ... ذهبًا يستبينُ في اللازوردي
وقال ابن المعتز
غدا بها صفراءَ كرخيةً ... كأنها في كأسها تتقدْ
فتحسبُ الماء زجاجًا جرى ... وتحسبُ الأقداحَ ماءً جمدْ
وقال الطائي
وكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نارٌ ونورٌ قيدا بوعاءِ
أو درةٌ بيضاءُ بكرٌ أطبقتْ ... جبلًا على ياقوتةٍ حمراء
وقال ابن المعتز
منْ لي على رغمِ الحسودِ بقهوةٍ ... بكرٍ ربيبةِ خانةٍ عذراء
موجٍ من الذهبِ المذابِ تضمهُ ... كأسٌ كقشرِ الدرةِ البيضاءِ
وهذا قول أبي نواس
فالخمرُ ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤةٌ ... من كفِ جاريةٍ ممشوقةِ القدِ
باب ٣٦ في
النرجس
ومن جيد ما قيل في النرجس ما أنشدناه المبرد
نرجسةٌ لا حظني طرفها ... يشبهُ دينارًا على درهمِ
وقال عبيد الله بن عبد الله فيه المنسرح
ترنو بأبصارها إليك كما ... ترنو إذا خافت اليعافيرُ
مثلَ اليواقيتِ قد نظمنَ على ... زمردٍ فوقهنَّ كافورُ
كأنها والعيونُ ترمقها ... دراهمٌ وسطها دنانيرُ
وقال أبو نواس
لدي نرجسٍ غضِّ القطافِ كأنه ... إذا ما منحناهُ العيونَ عيونُ
مخالفةٌ في شكلهنَّ فصفرةٌ ... مكانَ سوادٍ والبياضُ جفونُ
وقال وذكر العلةَ في أنه كعينٍ لا تطرفُ فصار التشبيه تامًا وهو
كأنما النرجسُ يحكي لنا ... عينَ محبٍّ أبدًا تنظرُ
لا تطرفُ الدهرَ لإشفاقها ... تخوفًا من نظرةٍ تقصرُ
وقال آخر
وكأنّ العيونَ في النرجسِ الغضِّ عيونٌ قد وكلتْ بالسهودِ
وقال ابن الرومي يفضل النرجس على الورد
خجلتْ خدودُ الوردِ من تفضيلهِ ... خجلًا توردها عليه شاهدُ
لم يخجل الوردُ الموردُ لونهُ ... إلا وناحلهُ الفضيلةَ عاندُ
للنرجسِ الفضلُ المبينُ وإنْ أبى ... آبٍ وحادَ عن الطريقةِ حائدُ
فصلُ القضيةِ إنَّ هذا قائدٌ ... زهرَ الربيعِ وإنَّ هذا طاردُ
شتانَ بينَ اثنينِ هذا موعدٌ ... بتسلبِ الدنيا وهذا واعدُ
وإذا احتفظتَ به فأمتعُ صاحبٍ ... بحياتهِ لو أن حيًا خالدُ
ينهي النديمَ عن القبيحِ بلحظةٍ ... وعلى المدامةِ والسماعِ مساعدُ
أطلبْ بعقلكَ في الملاحِ سميهُ ... يومًا فإنكَ لا محالةَ واجدُ
1 / 41