Taariikhda Ummadda Qibdiiya
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
Noocyada
كل ذلك يجري والقوم وقوف ينظرون إلى ذلك بعين الإعجاب والبشر؛ مبتهلين إلى الله جل جلاله أن يعيد الألفة والوفاق، ويمنع أسباب النفرة والشقاق، على أنه لم يكن يخطر على بال أحد أن وراء السويداء شياطين وأفاعي يمقتون هذا الإصلاح الخيري - لغاية في النفس - ويبذلون قصارى جهدهم في تقويض أركانه وهدم بنيانه الوطيد، لا ذمة عندهم فتبكتهم، ولا ضمير لهم فيوبخهم، ولا هم من تلقاء أنفسهم يرعون ويرتدعون، أولئك قوم طمس الله أبصارهم وأعمى بصائرهم، فأصبحوا ولا هم لهم إلا هدم ما بناه غيرهم، فلا هم ينفعون ولا هم يكفون، كأنهم المقصودون بالذات من قول الكتاب، لا يدخلون ولا يدعون الداخلين يدخلون، فهؤلاء القوم الأغبياء الذين دبت فيهم روح البغضاء والشحناء من جهة أرباب المجلس، طفقوا يحضون غبطة البطريرك ويحرضونه على عدم موالاة انعقاد المجلس، فرضخ لمشورتهم وأذعن لمقترحاتهم عن طيب خاطر وبساطة ضمير، ولا تعجب أيها الحبيب من فوز هؤلاء الأغبياء؛ فإن لهم اليد الطولى في التداهن والدهاء، والتلون الذي يفوق تلون الحرباء، ومن كانت هذه صفاتهم وأوصافهم فليس ذلك الأمر ببعيد، بل هو أقرب إليهم من حبل الوريد؛ ومن ثم عاد الانقلاب السريع والتغير الحثيث؛ فوقفت حركة أعمال المجلس، وانحلت المدرسة الإكليريكية الكلية ثانيا، وأمر البطريرك وجزم وصمم على عدم وجود المجلس مطلقا، وذلك كله إنما نشأ من تأثير آراء مشيريه المتلونة، واقتراحات مدبريه الخبيثة التي أخذت من قلبه كل مأخذ، وقانا الله من نفاق المنافقين ومكر الماكرين.
أما جمعية الإصلاح التي نوهنا عنها آنفا فانتهزت هذه الفرصة وطفقت تحرر النشرات وترسل الخطابات إلى الفريقين تارة سرا وطورا جهرا، تحثهم فيها على نزع أسباب الخصومات، ورفع دواعي المشاحنات والعداوات، والعود إلى الوفاق والاتفاق، وكذا بعث أيضا المرحوم إسماعيل باشا المفتش تذكرة غير رسمية يحض فيها غبطة البطريرك على الالتئام والوئام مع المجلس، فأذعن غبطته أخيرا مرضاة لخاطر سعادته، ولكن كان هذا الإذعان وقتيا ثم عاد إلى ما كان عليه؛ فذهبت جميع هذه المساعي أدراج الرياح، وهكذا أخذ الخطب يتفاقم والخصام يتزايد ويتعاظم، فأهملت الشئون وتوقفت حركة الإصلاحات الطائفية وانحل المجلس انحلالا كاملا.
النهضة الثانية
من يرضى بالذل والخذلان أو من يتحمل الهوان والامتهان إلا الخسيس الجبان الذي منعت عنه قوة الإدراك والتمييز، ونزعت منه حاسة الشعور والإحساس؟! أو من العقلاء يرى أن غيره من الخلائق في صعود وسعود ويرضى لنفسه بالتأخر والتقهقر؟! لعمري إن نفوس الأحرار الأبية تأبى ذلك كل الإباء، وتصبوا إلى مجاراة الفضلاء والنبلاء، ومباراة الرجال الكرام العظام، سنة الشهامة من قديم الأزل، وهيهات أن تجد لسنة الشهامة الغريزية تغييرا أو تبديلا. تلك كانت مبادئ بعض فضلاء الطائفة بعد انحلال المجلس الملي وسقوطه في هذه الدفعة الثانية، تلك السقطة التي هلعت لها قلوب أحباء الخير ونصراء الإصلاح، وجزعت من هولها أفئدة زعماء الحق ودعاة الصدق، الذين آلوا على أنفسهم وأخذوا على عهدتهم أن لا يألوا جهدا ولا يعلوا مهدا، ما لم يروا طائفتهم تضارع غيرها من الطوائف المتمدنة المتقدمة شأن الغيورين الأحرار الذين يفضلون «النار على العار».
ففي سنة 1883 - أي عقب إطفاء وانقضاء الثورة العرابية الشهيرة - نهض هؤلاء الفضلاء نهضة ثانية يطالبون بحقهم المسلوب منهم ظلما وعدوانا.
فلما توقع منهم غبطة البطريرك ذلك، عقد العزيمة على عدم تلبية دعوتهم وإجابة طلبهم «مهما أفضى الحال» وكان ذلك بناء على ما أشار به عليه مشيروه أرباب الخداع والدهاء، فلما علموا ما انطوى عليه ضمير غبطته، ومن كان على شاكلته وعلموا أن مطالبتهم هذه لا تجديهم نفعا عمدوا إلى الاجتماعات والمداولات؛ عساهم يتمكنوا من تنفيذ مآربهم وتتميم رغائبهم، فاجتمعوا في غاية طوبة سنة 1599 قبطية الموافق 6 فبراير سنة 1883 مسيحية، اجتماعا عموميا حضره عدد يتجاوز المئة وعشرين شخصا من وجهاء ونزهاء ونبهاء الطائفة، المهذبين العارفين طريق الإصلاح الحقيقي، وفي مقدمتهم سعادة بطرس باشا غالي، وحضرات البكاوات الموقرين، ولما استقر بهم الجلوس خاطبهم سعادة الباشا بما مؤداه أن الغرض من هذا الاجتماع هو المداولة والمفاوضة في طريقة ناجعة ووسيلة نافعة، تمكنهم من إعادة المجلس، فأجمع الجميع على وجوب المبادرة إلى ذلك، ثم اتفقوا على إحاطة غبطته بما ارتأوه من الآراء السديدة والاقتراحات المفيدة؛ فأبى كل الإباء، وأخيرا اجتمع أكابر الشعب القبطي وعرضوا المسألة على دولة رئيس النظار المرحوم شريف باشا الذي عرضها على سمو الخديوي الأعظم المغفور له محمد توفيق باشا، فاقتضت إرادته الكريمة صدور أمره العالي للمرحوم الباشا رئيس النظار في 4 جماد أول سنة 1300 / 13 مارس سنة 1883 نمرة 1 الناطق بوجوب تشكيل المجلس، ولما صار تبليغ هذا الأمر الكريم لغبطة البطريرك لم يسلم في مبدأ الأمر، فانتدب البعض من أبناء الطائفة لتفهيمه بما ينبغي عن لزوم الإذعان لأوامر الجناب العالي، فلم يعرهم إلا أذنا صماء؛ فكانوا كمن يضرب في حديد بارد، ثم حرر خطابا لدولة الباشا رئيس النظار جوابا على ما صدر منه، مؤداه أن العادة المعتادة منذ القدم بأن لا يكون لهذه الطائفة مجلس لأنه لا لزوم له، وأن ذلك يخالف القواعد الدينية والعقائد الكنائسية ... إلخ.
ولكن فضلا عن كل ذلك لم تعر الحكومة أقواله جانب الالتفات، بل صدر أمر آخر يقضي بتكرار التنبيه عليه بإطاعة الأوامر العلية وتشكيل المجلس، فأذعن أخيرا رغما عنه، ثم بعث برقاع الدعوة الرسمية لأبناء الطائفة للحضور بالدار البطريركية، وكان ذلك في أيام الصوم المقدس 14 برمهات سنة 1599، وقد حضر هذه الحفلة غبطته بذاته مصحوبا بأحد الأساقفة، وبعد تقديم الدعاء للعزة الإلهية، خاطب الجمهور بما مؤداه أنه من حيث إن أعيان الطائفة رغبوا تشكيل المجلس كالسابق، وطلبوا ذلك من الحكومة السنية كنا افتكرنا تأخير ذلك، حيث إننا الآن في أيام الصوم لكن اقتضى الحال لصدور أمر أفندينا؛ فطاعة للأمر - حيث كل منا يلزمه إطاعة الأوامر الخديوية - لزم اجتماعكم لانتخاب أعضاء ونواب المجلس. ثم نهض سعادة الباشا وأظهر للحضور الغرض الأصلي من هذا الاحتفال، وأردف كلامه بالدعاء لسمو الخديوي المعظم ووزرائه الفخام، وتلا خطاب دولة رئيس النظار السابق صدوره لتبليغ الأمر العالي؛ ومن ثم أخذ كل من الحاضرين ينتخب من يرى فيه الجدارة واللياقة، ثم عرضت صورة الانتخاب على الجناب العالي فصدق عليها.
وعلى هذا النسق وذاك النمط تم انتخاب المجلس في الدفعة الثانية بهمة هؤلاء القوم الأفاضل المحترمين، وأولئك السادة المصلحين الموقرين، الذين لم يتمكنوا من نوال بغيتهم والحصول على أمنيتهم إلا بعد العناء الشديد والجهد الجهيد؛ ومن ثم سارت الأعمال ثانيا على محور الاستقامة وكمال الاعتدال، ولكن أبى الدهر إلا أنه يعاكس هذه الطائفة المنكودة الحظ فقيض لها شياطين آخرين لا ذمة عندهم ولا دين، طفقوا يوغرون صدر غبطة البطريرك ويثيرون خاطره ضد المجلس؛ حتى تمكنوا من نوال غرضهم الخبيث، فانقطع غبطته عن حضوره، ثم أخذ التواني والتراخي يزداد رويدا رويدا حتى تأخرت الجلسات وتوقف سير القرارات، وبالإجمال عومل هذا المجلس اللاحق بما عومل به المجلس السابق؛ حتى كاد يبطل وينحل رأسا، فكانت العوامل المحرضة لغبطة البطريرك على مقته وإيقاف حركته هي نفس العوامل التي أدت إلى انحلال المجلس الأول - أي دسائس ذوي المآرب الشخصية والرغائب الذاتية - حمانا الله من خداع كل مكابر ومهاتر، ووقانا من شر الخادعين المنافقين الذين باعوا دينهم بدنياهم.
النهضة الثالثة
من تعود على عادة خصوصية صارت ولا شك له عادة ثابتة، وملكة راسخة لا تمنع عنه ولا تنزع منه، ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء، ومن تطبع على شيء وشب عليه صار هذا التطبع فيه طبعا ملازما له، ووضعا خاصا به، فهكذا كان الحال مع نبلاء الطائفة القبطية وأغبياء الطغمة الإكليريكية؛ فإن كلا الطرفين كانا مصرين على السير في خطتهما وعدم العدول عن منهجهما.
Bog aan la aqoon