إهداء الكتاب
مقدمة
1 - أصل الأقباط وسبب تسميتهم
2 - علوم قدماء الأقباط ومعارفهم
3 - عوائد الأقباط القديمة المشهورة
4 - ملابسهم وهيئتهم
5 - ديانتهم ولغتهم
الباب الأول
6 - ملوك قدماء الأقباط الوطنيون
7 - حكم الرعاة على بلاد القبط
8 - استرجاع ملوك القبط الوطنيين سلطتهم
9 - تملك الأيثيوبيين والآشوريين على بلاد القبط
10 - رجوع السلطة لملوك القبط الوطنيين
11 - تملك العجم على بلاد القبط
12 - ملوك القبط الوطنيون بعد طرد العجم
13 - حكم العجم على بلاد القبط دفعة ثانية
14 - حكم اليونان على بلاد القبط
15 - حكم الرومان على بلاد القبط
16 - حكم الدولة العربية الإسلامية على الأمة القبطية
17 - حكم الدولة المحمدية العلوية الفخيمة
الباب الثاني
مقدمة
18 - النهضة القبطية الحديثة
19 - رغائب الحزب التوفيقي ومآرب الحزب الإكليريكي
20 - حالة الأقباط الحالية الراهنة
إهداء الكتاب
مقدمة
1 - أصل الأقباط وسبب تسميتهم
2 - علوم قدماء الأقباط ومعارفهم
3 - عوائد الأقباط القديمة المشهورة
4 - ملابسهم وهيئتهم
5 - ديانتهم ولغتهم
الباب الأول
6 - ملوك قدماء الأقباط الوطنيون
7 - حكم الرعاة على بلاد القبط
8 - استرجاع ملوك القبط الوطنيين سلطتهم
9 - تملك الأيثيوبيين والآشوريين على بلاد القبط
10 - رجوع السلطة لملوك القبط الوطنيين
11 - تملك العجم على بلاد القبط
12 - ملوك القبط الوطنيون بعد طرد العجم
13 - حكم العجم على بلاد القبط دفعة ثانية
14 - حكم اليونان على بلاد القبط
15 - حكم الرومان على بلاد القبط
16 - حكم الدولة العربية الإسلامية على الأمة القبطية
17 - حكم الدولة المحمدية العلوية الفخيمة
الباب الثاني
مقدمة
18 - النهضة القبطية الحديثة
19 - رغائب الحزب التوفيقي ومآرب الحزب الإكليريكي
20 - حالة الأقباط الحالية الراهنة
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
تأليف
توفيق عزوز
إهداء الكتاب
لرب السياسة والكياسة ورجل الحزم والعزم، صاحب الهمة المشهورة والحكمة المعروفة عطوفتلو أفندم بطرس باشا غالي ناظر المالية الأفخم ...
سيدي المفضال ...
جرت عادة جهابذة التأليف والتصنيف، وخدام الأقلام، رجال التحرير والتحبير، أن يهدوا كتبهم ويقدموا مؤلفاتهم لمن يرون فيه الجدارة واللياقة. فمنهم من يهديها لمن كان عالما نحريرا، أو جهبذا مفلقا خطيرا؛ تقربا منه واعترافا بفضله ونبله، ومنهم من يقدمها لمن كان غنيا مثريا، ولو لم يدر شيئا من العلوم والمعارف؛ ليستظل تحت ظل سعته ويساره الظليل الوارف.
أما أنا فقد آليت على نفسي أن لا أحذو هذا الحذو ولا أنحو هذا النحو. على أنني قد استصوبت - ولا أخالني إلا مصيبا - أن أقدم إليكم كتابي هذا بمثابة هدية قبطية أرجو أن تحظى من لدنكم بالقبول وتفوز بالاستحسان؛ وذلك لأني من أبناء طائفتكم الذين هم في يم فضلكم وكرمكم الخضم مغمورون غارقون، وبأنظار عنايتكم وحسن رعايتكم مشمولون ومرموقون.
وناهيك ما لكم على طائفتنا بأسرها من الأيادي البيضاء والمناقب الحسناء التي هي أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر.
فيا حبذا لو تكرمتم علي بقبول تلك الهدية، وغضيتم الطرف عن قصوري وتقصيري. أطال الله أيامكم ونفعنا بنفثات هممكم ونفحات معارفكم وعلومكم، إنه السميع المجيب.
بنده محسوبكم
توفيق عزوز
مقدمة
تمهيد مفيد
لا مراء ولا مشاحة أن الوقوف على ما كانت عليه الأمم الغابرة، ومقابلته على ما آلت إليه حالتها الحاضرة، أمر ترتاح له الروح وتصبو إليه النفس؛ بناء على أن الإنسان يميل بطبعه إلى ذلك كل الميل.
وناهيك ما في ذلك من الفوائد الجمة، والمزايا المهمة، التي تجل عن الوصف والتعبير، ويقصر دون سردها وتعدادها قلم الكاتب النحرير، بل لا يصل إلى إدراك كنهها وماهيتها فكر كل جهبذ خطير خبير.
لأن الاطلاع على تاريخ الأمم السالفة قد يدعو إلى تحسين العوائد، وتدميث الأخلاق، والسعي وراء احتواء الفضائل والتحلي بها، واجتواء المساوي والرذائل والتخلي عنها. وهذا هو سر تقدم الأمم ومصدر ترقيتها، وأصل حضارتها ورفاهيتها وسعادتها، ومنشأ مجدها وسؤددها وأبهتها.
فالتاريخ مرآة يرى الإنسان في داخلها أسباب التقدم والترقي فيهتدي إلى معرفتها ويقدم على مناولتها وممارستها، ويرمق ببصر بصيرته بواعث التأخر ودواعي الانحطاط والتقهقر؛ حتى يصبح على بصيرة منها، فيحجم عنها ويسعى في ملاقاتها وتداركها بأنجع الوسائل وأنفع الوسائط. وبهذه المثابة يكون واقفا على قبيله ودبيره، وعارفا طريق الوصول إلى معارج الفلاح ومدارج الارتقاء والنجاح. وهذه هي أفضل غاية وأجل بغية يجد في طلبها المجدون، ويتنافس في تحصيلها ونوالها المتنافسون.
ولا ريب أن تاريخ الأمة القبطية لمن التواريخ الخليقة بالذكر والحقيقة بالنشر؛ نظرا لما وعاه وحواه من الحكم المنثورة، والمواعظ المأثورة التي يفتقر إليها أفراد الهيئة الاجتماعية كل الافتقار، ويضطر العاقل إلى معرفتها جل الاضطرار؛ لأنه يمثل للمتأمل بأجلى وضوح ما كانت عليه تلك الأمة من سمو المكانة ورعاية الجانب. وما تحصلت عليه من العلوم والمعارف التي لم يجارها في مضمارها مجار، ولم يبارها في ميدانها مبار. وإنها لم تصل إلى ما وصلت، ولم تتحصل على ما تحصلت إلا بهمة وجهائها ونبلائها ورؤسائها. أيام كان هؤلاء الرؤساء لا يسعون لغاربهم، بل يعرفون ما لهم وما عليهم، ويغارون على مصلحة أمتهم ويشق عليهم أن يروها في حالة يرثى إليها. عالمين أن العار والشنار إنما هو منسوب إليهم إذا هم أهملوها ولم يعبئوا بأمرها، ويكترثوا بإصلاح شئونها. وأن الشرف والفخر إنما هو عائد عليهم إذا سعوا في ترقيتها وإصلاح حالتها؛ لأنه إن لم يهتم صاحب الدار بما فيها فهيهات هيهات أن تقوم لها قائمة إذ لا ينتظر إصلاحها ممن لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ثم يشخص هذا التاريخ أيضا أمام عيني الناظر ما آلت إليه حالتها من السقوط والهبوط، الذي لم يكن يخطر بالبال. لولا أن دوام الحال من المحال. ومتى علم ذلك وتحقق ما هنالك، يستفد عندئذ الفائدة المقصودة بالذات، ألا وهي إصلاح ما اختل واعتل وإحياء ما درس وما مات.
فإليكم إليكم أيها المصريون عموما، وخلف هذا السلف المبارك خصوصا تاريخ آبائكم الأولين وأسلافكم السالفين. حتى إذا علمتموه ووعيتموه فاحذوا حذوهم واختطوا خطتهم. واسعوا في رأم الخلل ورأب الصدع، فعساكم تعيدون شهرة أولئك القوم التي لعبت بها أيدي العدم.
واعلموا أن آثار أجدادكم وعظام آبائكم قد قامت اليوم تطالبكم بحقوقهم المقدسة المسلوبة، وكأني بها تناديكم وتناجيكم قائلة: ألا رحم الله قوما عرفوا ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات؛ فقاموا بأدائها خير قيام، وألا قاتل الله خلفا هدم ما بناه السلف، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه.
فهل يجمل بنا أن يطرق مسامعنا هذا النداء ونحن عن إجابته وتلبية دعوته غافلون ساهون؟!
فهلموا بنا أيها الأفاضل الأماثل، نعير هذا النداء جانب الالتفات. وكفانا كفانا ما أحدق بنا وأحاق بطائفتنا من الآفات والعاهات؛ حتى يقال نعم الخلف الذي اقتفى أثر السلف، وذلك إنما يكون بإخلاص النيات، وحسم أسباب العداوات والخصومات. فإننا إذا اتحدنا قلبا وقالبا، واعتصمنا بعروة الالتئام والوئام، وصرمنا حبال البغضاء والشحناء، فزنا بنوال آمالنا وأمانينا التي هي إصلاح هذه الطائفة حتى تصبح رافلة في حلل التقدم والارتقاء. ومختالة في ثياب الهناء والرخاء تحت ظل أمير بلادنا، ومالك قلوبنا قبل رقابنا، الملك العادل الجليل، صاحب المجد الأثيل، خديوينا الذي تعلقت بأهداب كرمه وحلمه الآمال والأماني «أفندينا عباس باشا حلمي الثاني» أدام الله أيامه مقرونة بالعز والصفاء. ولا زلنا له عبيدا مخلصين في السراء والضراء. وحفظ لنا الوزراء الكرام ورجال مصر العظام ما مرت الأيام وكرت الأعوام، بمنه وكرمه آمين.
الفصل الأول
أصل الأقباط وسبب تسميتهم
إنه لما كان الغرض من وضع هذا الكتاب الإتيان على ذكر تاريخ الأقباط من ابتداء نشأتهم الأولى إلى انتهاء حالتهم الأخيرة، وجب علينا - والحالة هذه - أن نتكلم أولا عن أصل نشأتهم وسبب تسميتهم، ونسبتهم فنقول: الأقباط هم من ذرية قفطايم بن مصرايم بن نوح عليه السلام، ويسمون أقباطا بالنسبة إلى قفط وهي اسم لبلدة في الصعيد، قيل إنها أول مدينة تأسست في وادي النيل لما أتى مصرايم بن نوح وتوطن في مصر مع أولاده وأولاد أولاده الذين منهم قفطايم هذا، وهو الذي سميت هذا البلد باسمه.
فقفط إذن هي أول بلدة وطأتها أقدام أجدادنا الأقباط؛ فكانت منبت شعبتهم، ومسقط رأسهم، ومحط رحال مجدهم.
وقد اشتهرت قفط في أيام ملوك مصر الوطنيين بالقوة والمجد، وازدادت ثروتها خصوصا في أيام البطالسة؛ إذ امتدت مواصلتها واتسعت تجارتها مع بلاد العرب.
ولما تغلب الروم على مصر ورأوا ما كانت عليه مدينة قفط من الأهمية، وأنها من أعظم أمهات مدن الديار المصرية سموا مصر بأسرها «إيجيبت».
هذا ولقد علم بعد طول التنقيب والتنقير، وزيادة الاستقراء والاستقصاء، أن لفظة «إيجيبت» هذه مركبة من كلمتين يونانيتي الأصل؛ إحداهما: «آي» بمعنى أرض أو بلاد، والثانية: «جبت» بمعنى القبط؛ فيكون مجموع معنى الكلمتين «أرض القبط أو بلاد القبط» وهو الاسم الذي تناقل وتداول بين الأجانب عن هذه البلاد إلى الآن.
فالأقباط إذن هم سلالة المصريين القدماء الذين بلغوا الدرجة القصوى والشأو العظيم في العلوم والمعارف، وأحرزوا قصب السبق في مضمار التالد منها والطارف، وارتضعوا أفاويق الحكم واللطائف، وتفيئوا تحت ظلها الظليل الوارف. كيف لا وهم أول من فتحوا البلاد ودوخوا العباد، وشيدوا المدارس وأنشئوا المجالس، ووضعوا الشرائع ونبغوا في سائر الفنون والصنائع.
وها هي آثارهم الباهرة ومآثرهم الفاخرة لم تزل ولا تزال بين ظهرانينا تعرب عن فضلهم ونبلهم، وتترجم عن سمو مداركهم وكمال تقدمهم، فسل الأهرامات الباذخة، والمسلات الرفيعة والهياكل الشامخة، والأبنية الشائقة الشاهقة تجدها كلها ألسنة ناطقة وأفواها لافظة، تفصح عن براعة أولئك القوم الأولين والأسلاف السالفين.
ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى بيان أو إقامة دليل وبرهان أنه لا يتسنى لمن لم يكن متضلعا من العلوم والمعارف وواقفا على كنه أسرارها، أن يأتي بمثل هذه الآثار والمآثر الخطيرة الباهرة، التي تبهر البصر وتخلب اللب وتأخذ بمجامع القلب.
الفصل الثاني
علوم قدماء الأقباط ومعارفهم
لقد برع قدماء الأقباط خصوصا في علوم الفلسفة الكيماوية والعقلية، وعلم الهيئة والنجوم، وعمل الصيني والزجاج، وفن النقش والتصوير والبناء، وإجادة التحنيط. وبلغوا أيضا الدرجة القصوى في الهندسة، وقد أتقنوا علم الطب إتقانا عجيبا غريبا؛ وذلك لأن كل طبيب كان يتفرغ لفرع واحد من فروع العلوم الطبية فيتقنه ويتفنن فيه كل التفنن؛ ولذا كثرت لديهم الأطباء المتفننون المتقنون لسائر فروع الطب، وخصوصا ما كان متعلقا منها بأمراض العيون لكثرة انتشارها وتفشيها في بلادهم المصرية، إلى غير ذلك من الفنون المتنوعة التي يشق على أبناء هذا العصر الإتيان بمثلها، ولا سيما فن البناء والنقش على الأحجار والتحنيط، تلك الفنون التي حارت في إدراك كنهها وماهيتها عقول فحول العلماء المتأخرين؛ لذا لا عجب إذا علمت أيها القارئ النبيل أن جميع العلماء الأعلام، ومشاهير الرجال العظام كانوا يهرعون ويتقاطرون أفواجا أفواجا من كل فج عميق إلى بلاد القبط؛ ليرتشفوا من مناهل علوم أولئك القوم الذين فاقوا سائر الأمم المعاصرة والمجاورة لهم والمكتنفة ببلادهم، كما دلت على ذلك صحف التاريخ ونطقت آثار الأخبار.
الفصل الثالث
عوائد الأقباط القديمة المشهورة
لا ريب أن الأمة المتمدنة المتقدمة إنما يطلق عليها هذا الاسم إذا هي كانت على جانب عظيم من دماثة الأخلاق، وطهارة الأعراق، وكريم الشيم، وجميل الشمائل، وذلك كله لا يظهر جليا إلا في العادات التي خصت بها كل أمة على حدتها دون غيرها.
ولنورد هنا ما اتصل بنا من عوائد أجدادنا الأقباط المشهورة فنقول: لقد كان لقدماء الأقباط عوائد كثيرة شهيرة صادرة عن الحكمة والسداد، نخص منها بالذكر ما اشتهر بين الورى، وعرف لدى العام والخاص والداني والقاصي، كعدم إتاحتهم لموتاهم بالدفن إلا إذا أحسنوا عملا ولم يقضوا سني حياتهم هملا. وكان هذا الحكم الصارم يسري على الرفيع والوضيع، والخطير والحقير، والغني والصعلوك، والمالك والمملوك على حد سوى. وذلك مما يدل على ميلهم للحق والإنصاف، وعدم جنوحهم إلى الإجحاف والاعتساف، ومعاملتهم لجميع الناس بالعدل والقسطاس، ومن عاداتهم أيضا أنه لا يسوغ للابن أن يمتهن غير مهنة أبيه وجده؛ لكي يتقنها ويحسنها سعيه وجده. ومنها حكمهم على مجتري الجرايم ومجترحي الجنح بقطع أعضائهم التي مكنتهم من إتيان هذه المنكرات، وارتكاب تلك الجنايات، فالسارق كان يقطع يمينه، والكذوب المزور المختلق الإحن والمحن يقطع لسانه، وهلم جرا.
وهذه العادة وإن لم توافق مشرب أهل هذا العصر، وتطابق مقتضيات التمدن الحالي، على أنها لا تخلو على كل حال من الحكمة والسداد كما قدمنا.
وكانت العادة الجارية عند الملوك أن يكافئوا من نبغوا في صناعتهم أو برعوا في مهنتهم من أهل رعيتهم؛ لكي يستفزوا غيرتهم ويحركوا نخوتهم للاهتمام بإتقان أعمالهم وتحسين أشغالهم، وهذه هي الخطة التي يختطها الأوروباويون الآن، ويستعملها الغربيون في غالب الأحيان، نقلا عن أجدادنا وأسلافنا الذين سبقوهم إليها؛ فكان لهم الفضل المتقدم.
ومن عوائدهم أيضا احترام شبانهم لشيوخهم الاحترام الزائد.
ومن عوائدهم التي كانوا بها يحافظون على جنسيتهم وأصولهم: أنهم كانوا يتجنبون الأجانب تجنبا شديدا، ويمتهنون كل من لم يكن من مواطنيهم؛ فلا يجالسونه ولا يتناولون معه طعاما البتة، ولعلنا نجد هذه العادة جارية في بعض الممالك الغربية العظمى للآن.
وكانت أحكامهم لا تصدر إلا من مجالس مؤلفة من ثلاثين قاضيا، لهم رئيس يرأسهم هو بمثابة رئيس المحكمة عندنا؛ حتى يباشروا الأعمال على غاية ما يرام، من تمام الإحكام والانتظام.
أما العلوم والمعارف فكانت قاصرة على الكهنة دون غيرهم؛ ولذا كانوا في ذلك الوقت أصحاب الشأن الرفيع بل أهل السلطة والسيطرة على الجميع.
الفصل الرابع
ملابسهم وهيئتهم
كان قدماء الأقباط أقوياء أصحاء، متصفون بطول القامة وضخامة الجسم، كما استدل على ذلك من آثارهم التي خلفوها بعدهم على حد قول القائل:
إن آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
أما ملابسهم فكانت عبارة عن ثياب من الكتان، لها سجق وفوقها برانيس منسوجة من الصوف الأبيض، ولكن لم يكن يتاح لهم أن يأتزروا بتلك الملابس في مساجدهم ومعابدهم، بل كانوا يقتصرون على الثياب البسيطة ليس إلا، وكذا لا يسوغ لهم أن يكفنوا بها موتاهم لأن ديانتهم كانت تحرم عليهم ذلك.
ثم أخذت بعدئذ ملابسهم تتغير بتغير الدول الحاكمة عليهم؛ إذ كانوا يقلدونهم في جميع حركاتهم وسكناتهم، إلى أن لبسوا أجزاء الجبة والقفطان ثم الشراول ثم «المنطلون ومتعلقاته» كما هو المشاهد الآن؛ وذلك لاختلاطهم وامتزاجهم بالأجانب كما سترى.
أما الإكليروس فيلبس «الآن» قفطانا من النوع المعروف بالغزلية مع طربوش عليه عمة تشبه عمة الكلدان، وجبه سوداء طويلة الأكمام، والراهب فيهم يمتاز عن القسيس العادي المتزوج بقطعة من الصوف الأسود، بعرض أربع أصابع تتدلى من تحت الطربوش إلى وراء العنق، تعرف عندهم بالقلاسوة، ويتميز الرهبان المقيمون بأديرتهم بلبس الصوف غالبا بخلاف المترددين في المدن والبلاد؛ فإنهم يماثلون الإكليروس العلماني غير مميزين عنه في شيء إلا بالقلاسوة ليس إلا.
أما رؤساء الكنائس والأساقفة والبطريرك فملبوسهم غالبا من القفاطين الحريرية، والفرجيات الجوخ، ويلتحفون بشيلان من حرير على رءوسهم وأكتافهم، والأساقفة يتميزون عن رؤساء الكنائس بشكل العمامة؛ إذ يلبسون عمامة قائمة من طربوش وقماش حريري ملفوف على مقو مدور مرتبط ببعضه وبالطربوش بانعقاد محكم لا يمكن حله إلا بنقض العمامة من أصلها، مشابه لعمائم مطارنة وبطاركة السريان، بخلاف عمامة باقي الإكليروس، التي هي مركبة من طربوش وشال حريري، أو صوف ملفوف عليه لفا بسيطا، بدون ارتباط يمكن حله في أي وقت.
الفصل الخامس
ديانتهم ولغتهم
أما من حيثية الدين فلا يسعنا إلا أن نقول بأن أجدادنا الأقباط قد امتطوا فيه صهوة الشطط، وركبوا غارب الخطا ومتن الضلال والغلط؛ إذ كانوا يعبدون التماثيل والأصنام الحجرية دون مبدع الكائنات ورب البرية.
على أنه قد قيل إن الكهنة منهم كانوا يعرفون أنه يوجد إله أوحد، متفرد بالقدرة والعظمة التي لا تدخل تحت عد أو حد، وأن هذه الأصنام والتماثيل إن هي إلا رمز يشير إليه ويدل عليه، ويذكر الخلائق بقدرته وحكمته التي لا يدرك كنهها من البشر أحد. ولكن هؤلاء الكهنة قد جاءوا أمرا إدا، وحادوا عن جادة الصواب جدا؛ إذ لم يلقنوا هذه التعاليم لخاصة الشعب وعامتهم، حتى يكونوا على بصيرة من كنه ديانتهم، بل عرفوها وأخفوها وفي زوايا قلوبهم ستروها وواروها. فأشد اللوم والتثريب على الكهنة الذين حجبوا عن الشعب هذه الحقيقة؛ إذ كان القوم كما نوهنا وألمعنا منقادين لكهنتهم ومقلدين لحركاتهم وسكناتهم، فلو كانوا علموهم هذه المبادي المعتدلة لأذعنوا لأقوالهم، ورضخوا لأحكامهم؛ فالكهنة المصريون ملومون أشد اللوم لإخفائهم الحقيقة عن الجمهور ضدا لسرائرهم وتعقلهم، والشعب ملوم لتصديقه ما ينكره العقل ويشهد ببطلانه الحس.
ولكن لم تلبث أن ظهرت الديانة المسيحية وانتشرت بين أبناء الأمة القبطية في عهد حكم الدولة الرومانية عليهم، لما أتاهم مار مرقس الرسول كارزا ومبشرا بكلام الله الحي، وناطقا بروح الإنجيل والوحي، فقبلوها وتدينوا بها كما سيأتي ذلك مفصلا.
أما لغتهم فكانت اللغة الهيروغليفية القديمة التي لم تزل منقوشة على أحجارهم الضخمة، وآثارهم الجمة المهمة كالموجودة الآن في الجيزة وصقارة، وغيرها من التي لم تكتشف بعد.
وكانت هذه اللغة تكتب أولا بصور مستعارة من الأشياء الطبيعية، وباصطلاحات دالة على الألفاظ المعنوية دلالة عقلية ظاهرة، فكانوا إذا راموا التعبير عن مفتاح مثلا وضعوه بصورته المعهودة، أو الإفصاح عن طير أو غيره، رسموه بشكله وهيئته وهكذا.
ولكنهم توصلوا بعد ذلك إلى كتابتها بحروف دالة على الأصوات.
ولكن لسوء الطالع أخذت تلك اللغة تنحط رويدا رويدا حتى كادت تندرس وتطمس معالمها؛ وذلك لأن الملوك الأجانب الذين تولوا على مصر - وخصوصا العرب - كانوا يحجرون عليهم التكلم بها.
أما هذه اللغة فإنها استمرت أجيالا مستطيلة مجهولة للعموم، وذلك نشأ من تسلط الدول الأجنبية من يونانيين ورومانيين وعرب على بلاد القبط كما قلنا، وتسلط لغتهم على لغة البلد الأصلية، وإهمال أشكال كتابتها الخصوصية التي معرفتها هي الواسطة الأمينة للنطق بها إهمالا كليا، ومع أن الأقباط القدماء لم يبخلوا على العالم في إحراز أشكال كتاباتهم، بل حفروها حفرا لا تمحوه الأجيال على هياكلهم وأهرامهم وعمدهم ومسلاتهم، ومقابرهم وغيرها من آثارهم الباقية للآن شاهدة لعنايتهم، فإذا أهملت معرفة تلك الأشكال بالكلية؛ كان الناظرون إلى صورها والمتأملون في حروفها لا يرون منها إلا ألغازا مبهمة وأسرارا متعتمة، أخيرا حان الزمان لاكتشاف هذا الكنز الأدبي، وذلك في عهد وجود الجيش الفرنساوي بمصرنا؛ إذ قد عثر الضابط الفرنساوي المدعو بوسارد (سنة 1799 ميلادية موافقة سنة 1515 للشهدا قبطية) على حجر أسود في مدينة رشيد، وعليه كتابة بثلاثة حروف مختلفة؛ الأول: الحرف الهيروغليفي الذي يرى غالبا على الأطلال المصرية، وهو الذي كان يستعمله الكهنة وأمثالهم، والثاني: الحرف الديموتي أو الديموطيكي، وهو الخط المعتاد الذي كان يستعمله العوام، والثالث: لحسن الحظ باللغة اليونانية. وقد اجتهد بعض الأوروبيين حينذاك في حل الخطين المصريين الأولين بواسطة الخط اليوناني، ولم يهتدوا إلى التمام. أخيرا كان الفضل في ذلك لمهارة العالم الفرنساوي شمبوليون؛ فإنه استخرج من الحجر الرشيدي معرفة الهيروغليف المصري - وكلمة الهيروغليف لفظة يونانية مركبة من كلمتين؛ «هيرو»: أي مقدس، و«غليف»: أي: حفر، والمعنى : الكتابات المقدسة - وذلك أنه لما رأى في الكتابة اليونانية اسم الملك بطليموس أو بطولميس، ووجد في الهيروغليفية كلمة منحصرة في خط إهليليجي تحقق من مراجعة أسماء أخرى منحصرة في إهليليجيات أخرى منقوشة على إحدى المسلات، وعرف أن الحرف الأول حقيقة هو الباء والثاني التاء ... إلخ، ومن ذا أخذ يستدل على باقي الحروف والأشكال، وبما أنه كان عارفا باللغة القبطية الجاري كتابتها بالأحرف اليونانية، وقد حل أشكال الحرف الهيروغليفي على ما ذكرنا؛ فمن قراءة الهيروغليفي عرف أن اللغة المصرية هي نفس اللغة القبطية الموجودة، إنما الأولى كانت بالخط المصري والثانية بالخط اليوناني، ومع أن اللغة القبطية اتخذت الحرف اليوناني وذلك من جري تسلط اليونانيين على مصر إلا أن ألفاظها الأصلية هي نفس الألفاظ المصرية القديمة، ولو أن كثيرا من الألفاظ اليونانية أدخلت فيها للآن، وكان لهذه اللغة ثلاثة اصطلاحات؛ الأول: الصعيدي وهو الذي كان مستعملا غالبا في الوجه القبلي وأكثر الهيروغليفات المنقوشة محررة به، والثاني: البحيري وهو المستعمل الآن لدى الأقباط، والثالث: البثموري نسبة إلى البثمور، وكان الأقباط الحافظون على الاصطلاحات الثلاثة في محرراتهم الأدبية والدينية ومخاطباتهم الأهلية، كما تدل الآثار الباقية للآن إلى أن تغلب الجهل وتسلط القسر، وأخذت معرفتهم في لغتهم تتنازل جيلا فجيلا؛ حتى انتهى الأمر إلى إهمال استعمالها بينهم بالجملة.
ثم بعد مضي أمد مديد، وعهد عهيد؛ صارت هذه اللغة القبطية لا تستعمل إلا في الطقوس الكنائسية، وفي أيام الحسن الذكر البطريرك كيرلس الأكبر العاشر بعد المائة جعلها تعلم في المدارس التي أنشأها في حياته.
وبعد أن كان لا يوجد أكثر من اثنين أو ثلاثة يعرفون هذه اللغة، صار يوجد الآن عدد عديد من الذين يحسنون التكلم والكتابة بها، فكان إحياء هذه اللغة الشريفة القديمة من ضمن مآثر غبطة هذا البطريرك الجمة، وآثاره المهمة التي خلدت له ذكرا حميدا في متون التواريخ وبطون المؤلفات يتضوع شذاه في الآفاق، ويملأ الصحف والأوراق، لا يمحوه مرور الأيام وكرور الأعوام.
الباب الأول
ملوك الأقباط وحكامهم
الفصل السادس
ملوك قدماء الأقباط الوطنيون
لقد مر على الأقباط حين من الدهر ذاقوا في خلاله لذة الاستقلال، وتمتعوا بمزايا الحرية الحقيقية، وكان ذلك في أيام ملوكهم الوطنيين قبل استيلاء الدول الأجنبية عليهم، وقد أنبأنا التاريخ بأن ملوكهم الأوائل كانوا من مصاف الأحبار كما أسلفنا.
على أن هذه السلطة لم تدم مخولة لهم؛ بل انتزعها منهم أحد الوطنيين الغيورين، ألا وهو الملك «مينا» الذي أسس البلاد حكومة منتظمة ووضع لها قوانين عادلة.
فالملك «مينا» هذا أول ملك انفرد بالسلطة والسيطرة بعد الكهنة، وكان متصفا بالهمة والحكمة وحسن السعي، وحسبنا على ذلك دليلا ما أتاه من الأعمال الجلال؛ إذ هو الذي بنى مدينة «منف» التي تدعى الآن «ميت رهينه» وحول النيل عن مجراه من جانب صحراء «لبية» وجعله في الوادي الذي يجري فيه الآن بين الجبلين، إلى غير ذلك من الإصلاحات والتنظيمات التي مهدت لبلاده طريق التقدم والارتقاء، وأوردت رعاياه موارد الهناء والرخاء.
ثم أخلفه في الحكم أخوه «ثتا» وكان عالما نحريرا وجهبذا خطيرا، له في الطب رسالة أتى فيها على ذكر أصل التشريح الصحيح، وتلك الرسالة هي التي أتمها وكملها «استنس» صاحب اليراع المشهور والباع الطويل الراسخ القدم في أصول هذا العلم.
وبعدئذ حكم الأقباط 26 عائلة ملوكية وطنية أشهرها ما يأتي بحسب الترتيب والتعقيب؛ أولا: الملك «سميس» الذي فشا في عصره الوباء بالديار المصرية، وأهلك من الناس جما غفيرا وعددا عديدا، فعكفت الأهالي على ارتكاب الدنايا والمعاصي، والفتن التي أفضى بها الأمر إلى حصول هيجان عظيم لم ينته إلا بانتهاء مدة عائلته.
و«بينوتريس» الذي سن قانونا جديدا مؤداه أنه يجوز للنساء الترشح لمنصب الملك عند عدم وجود الذكور أو انقراضهم، قاصدا بذلك عدم خروج الملك من عائلته الملوكية، وقد ادعى هذا الملك القرابة للآلهة، ولقب نفسه «بابن الشمس»، فنسج على منواله من أتى بعده من خلفائه، وألزموا الرعية بعبادتهم واعتبارهم بمثابة آلهة ذوي تصرف مطلق فاعلين مختارين.
ومنهم «نخروفيس» الذي قمع سكان صحراء لبية الذين شقوا عصا الطاعة عليه فكبح جماح عصيانهم، وجعلهم مذعنين صاغرين، ومن مآثر وآثار عائلة هذا الملك «المعروفة» أبو الهول الموجود بين هرمي الجيزة والهيكل الموجود بالجهة القبلية من أهرام الجيزة.
ومنهم «خوفو» وكان رجلا مقاتلا يصبو إلى اقتحام الأهوال، وولوج معامع القتال، وتشييد البنايات، وبناء الآثار والعمارات؛ إذ هو الذي بنى الهرم الكبير الموجود بالجيزة، ولا صحة لما ادعاه البعض من أن هذا الملك كان ظالما لرعيته.
وكذا أخوه «خفرم أو خفرع» الباني للهرم الثاني «ومنكرا أو منقريوس» الرافع للهرم الثالث الموجود خلف الهرمين السابقين، وهذا الملك هو الذي وجدت جثته داخل هرمه؛ فأرادت دولة الإنكليز نقلها إلى دار تحفها، فأبى الله إلا حرمانها من نوال هذه الغنيمة الباردة فأغرق السفينة به في ساحل «البرتوغال» ولم يتحصل على شيء منها سوى غطاء التابوت، وهو لم يزل محفوظا في دار تحفها إلى الآن.
ومنهم «أبايوس» الذي كان مغازيا ومقاتلا مثل الملك «خوفو»، ومنهم نيتوكريس ربة الجمال والجلال التي لقبها «مانيثون» «بموردة الخدين»، ولهذه الملكة نادرة تاريخية شهيرة غريبة؛ إذ قد كان لها زوج يدعى «بنيوفيس» الثاني وهو أيضا أخوها، ففي السنة الثانية من حكمه قام عليه أعداؤه فقتلوه فانتقمت له زوجته أو إن شئت قل أخته «نيتوكريس» وأخذت له بثأره بطريقة عجيبة وكيفية غريبة. وبيان ذلك أنها أتت بهم إلى مقاصير تحت الأرض، وأعدت لهم فيها وليمة شائقة، وأحضرت إليها كمية وافرة من المطاعم والمشارب الأنيقة، فلما التهوا في لذات المأكولات والمشروبات أمرت بأن ينساب عليهم ماء النيل من سرداب معد لذلك من قبل فأغرقتهم جميعا. ثم قتلت نفسها خوفا من القصاص المزمع أن يلحقها.
وقد امتازت أيام هذه الملكة بإتقان فن التصوير؛ فترى أن صورهم كانت حائزة سائر المحاسن من اعتدال القامة واستدارة الوجه ورقة الأنف إلى غير ذلك، وقد يترتب على ذلك تقدم العلم أيضا؛ لأن الصناعة إن هي إلا من ضمن نتائجه.
ومنهم الملك «أمينامهات» أو «أمختيب» الأول الذي سعى في استخراج الذهب من بلاد النوبة، ثم «أوزريس» الأول صاحب المسلة المشهورة الموجودة الآن في المطرية، «وأموزيس » صاحب العمارات الجسيمة الموجودة بالفيوم والمشيد بحيرة قيرون المعروفة ببحيرة «موريس»، وهو الذي بنى أيضا القصر الجسيم المسمى «لايرينت» المحتوي على ثلاثة آلاف قاعة منها 1500 في الدور الأول و1500 فوقها في الدور الثاني، وأخيرا الملك «تيماوس» الذي أغارت في أيامه «الهكسوس» أو الرعاة على البلاد القبطية.
الفصل السابع
حكم الرعاة على بلاد القبط
أما هؤلاء الرعاة «الهكسوس» وتسميهم العرب العمالقة أيضا؛ فهم قوم اتصفوا بسماجة الطباع وفظاظة الأخلاق، أغاروا على بلاد القبط من نواحي آسيا الجنوبية واستولوا على الوجه البحري فجأة، ثم تكاثر عددهم حتى صار كرمال القفار وقطرات الأمطار، فأخذوا يدمرون الهياكل والمدن ويفتكون بالأهالي، فاضطر حين ذاك الملوك الوطنيون أن يأووا مع جماعة من رعيتهم إلى الصعيد؛ حيث حكموا هناك في مدينة «طيبة»، فانقسمت حينئذ بلاد القبط إلى قسمين عظيمين معاصرين لبعضهما:
الأول:
فرع أهلي أصلي وملوكه غير معلومة، وكان مركز حكمه بالوجه القبلي الذي قاعدته مدينة «طيبة» كما قدمنا.
والثاني:
فرع متغلب أجنبي ومقره مدينة «منفيس»، وأول ملوكه الملك «سلاطيس» الذي أفرغ قصارى جهده في ترتيب الحكومة وتنظيم الأحكام، وتشييد الحصون الحصينة والقلاع المنيعة في النقط التي كان يخشى منها هجوم العرب والبدو الذين هم على شاكلته، أو المصريين الحاكمين في الصعيد الذين كان يعتبرهم أعداء ألداء له.
ولا ريب أن هذا أدل دليل يدلنا على أن هؤلاء العمالقة لما عاشروا الأقباط أقلعوا عن أخلاقهم الذميمة، وأعرضوا عن طباعهم الممقوتة، وأصبحوا عارفين بواجباتهم الملوكية التي لم يكونوا ليعرفوا لها اسما ولا رسما.
ومن ضمن ملوك هؤلاء الرعاة أيضا الملك خوفيس المشهور عند العرب بالريان بن الوليد، وهو الذي اتخذ «يوسف» له وزيرا لما فسر له الحلم وألفاه بضروب الحكمة والتدبير خبيرا.
أما ملوك القبط الأصليون القاطنون بالصعيد كما مر؛ فكانوا ساهرين متيقظين آخذين كل الاحتياطات اللازمة للتوقي من غارات وهجمات أعدائهم الرعاة. ولطالما حاولوا مقاتلتهم وانتزاع البلاد من أيديهم واسترجاع سلطتهم إليهم، إلى أن أتاح الله لهم ذلك.
إذ في أيام الملك «أوموزيس» اتحد جميع أقباط الصعيد قلبا وقالبا وهجموا دفعة واحدة على الرعاة؛ فقيض الله لهم نصرا مبينا، ومكنهم من أعدائهم تمكينا. ولكن لسوء الحظ أدركت الملك «أموزيس» المنية قبل نوال هذه الأمنية، فاقتفى أثره في هذه الخطة ابنه «أخميس»؛ إذ استمر في محاصرتهم والتضييق عليهم، حتى تمكن في آخر الأمر من طردهم بالكلية من سائر تخوم البلاد القبطية، بعد أن حكموا عليها نحو نصف جيل تقريبا من سنة 3200 قبل الميلاد إلى سنة 100 قبله.
الفصل الثامن
استرجاع ملوك القبط الوطنيين سلطتهم
وبهذه المثابة تسنى للأقباط استرجاع سلطتهم، وانتزاع بلادهم من يد أعدائهم، ثم طفقوا يعمرون ما دمرته ملوك العمالقة من الهياكل الدينية والعمارات المدنية، وأول الملوك الذين حكموا على بلاد القبط بعد طرد الرعاة «الملك أخميس» الذي قطع دابرهم عن آخرهم، وأنقذ البلاد من شرهم وجورهم، ولقد اشتهر ملوك هذه الدولة الوطنية الثانية بالغزوات والفتوحات.
فمنهم الملك «أمنحوتيب» الذي فتح بلاد «كوش» «والأيثيوبية» وجعلها لقبا لولي عهده؛ فكان يقال له «أمير كوش».
ومن أشهر ملوك هذه الدولة الملك طوطوميس الأول، ثم طوطوميس الثاني الذي تمكن من إدخال الولايات السودانية تحت حكمه، واهتم كسلفه ببناء العمارات وتأسيس المباني، على أنه قضى نحبه ولم يرزق ابنا يرث الملك من بعده، فآل أمر الحكم إلى أخيه «طوطوميس» الثالث. ولما كان هذا الأخير قاصرا أقاموا «أخته حاشاذو» وصية عليه ونائبة عنه، فتزوجت به وشرعت في إدارة حركة المملكة بكل همة وشهامة.
وبما أنها كانت ولوعة بالفتوحات والغزوات شأن أبنائها السالفين استولت على بلاد «سورية» وضربت عليها الجزية، ومن آثار هذه الملكة المشهورة تشييد المسلتين الكائنتين «بالكرنك» التي لم تزل إحداهما قائمة إلى الآن تنادي بهمتها العجيبة وشهامتها الغريبة. وكان على رأس كل من هاتين المسلتين تاج من ذهب هرمي الشكل، ولقد نقشت الملكة تاريخ غزواتها على جدران أحد آثارها المدعو «بالدير البحري»، ولما بلغ الملك طوطومس الثالث أشده وأدرك رشده استولى على الأحكام، فارتقت في أيامه بلاد القبط ارتقاء كليا؛ إذ فتح جزيرة قبرص وجزيرة كريد ومدينة نينوى، ويقال إنه أدخل تحت طاعته سواحل جنوب إيطاليا.
ولهذا الملك آثار جمة نخص منها بالذكر مدينة «هليوبولس» - أي المطرية - ومنف وجزيرة أصوان، ثم توفي بعد أن حكم نحو 45 سنة تقريبا.
ومنهم أمنوفيس الثالث الذي كان مهابا حسن السياسة في السلم والحرب، وقد اشتدت المملكة في عهد ولايته إلى داخل بلاد الحبشة. وأغلب آثار هذا الملك موجودة بجزيرة أصوان، وجبل السلسلة، وبجهة طرة وجزيرة الطور.
ومنهم الملك أمنوفيس الرابع، وكان هذا الملك يأخذ الجزية من الممالك الخاضعة لسلطته كجاري العادة. وقد تزوج بامرأة أجنبية؛ فأدخلت في البلاد عبادة الشمس فحقد الأقباط عليه وشددوا النكير على فعله هذا، ولما اتضح له ذلك خاف على نفسه فنقل تخت المملكة من طيبة إلى المدينة التي شيدها، وسماها بمدينة المنيا، وتعرف الآن باسم تل العمارنة.
وبعد موته نسخت عبادة الشمس التي أدخلها إلى البلاد مرضاة لخاطر زوجته، وهذا الملك هو صاحب الصورة المشهورة الموجودة بالأقصر.
ومنهم الملك رمسيس الأول، وهو الذي تجرأ على مقاتلة قبيلة الخيتاس فانتصر عليهم، ثم خلفه ابنه منفطه أوسيطوس، الذي كان رجلا غيورا على مصلحة الأمة ومتصفا بالهمة والحكمة. وقد يستدل من الأبنية التي شيدت في أيامه أن فن النقش والعمارة تقدم تقدما تاما، ويقال إنه هو الذي صنع المسلة التي نقلت إلى رومية، ومن المؤكد أنه هو أول من حفر الخليج لتوصيل ماء النيل بالبحر الأحمر. وقد فتح أيضا طريقا للقوافل من آسيا إلى جبل أتوكي وأوجد بها عينا «أردوازية» صناعية لشرب المسافرين إذا أضناهم التعب، وأنهكهم الظمأ وأعياهم النصب.
ومن مناقبه أيضا غزو بلاد السودان والشام ونينوى وبابل وأقصى بلاد أرمينية؛ إذ يظهر أن بعض الممالك التي كانت تابعة في مبدأ الأمر لحكام مصر خرجت عن طاعتهم، فاضطر إلى محاربتهم وإخضاعهم، ثم خلفه ابنه «رمسيس» الثاني المسمى عند اليونان «سيزوستريس» وقد كان هذا الملك أعظم جميع ملوك مصر قوة وشوكة، ومن صفاته الخاصة به الملازمة له حبه لرعيته حبا شديدا زايدا حتى لقد جعلهم أسراء طاعته ورهيني إشارته، فكان إذا مر بالأزقة والشوارع ضجت الناس وهتفت بالدعاء له والتأييد لسلطانه كأنه المقصود بقول القائل:
كأنك من كل النفوس مركب
فأنت إلى كل الأنام حبيب
وقد نسب إليه اليونان افتتاح بلاد العجم، وبلاد الهند والعرب، وبعض ممالك أوروبا، وقالوا إنه ضرب الخراج على عشرين أمة واسترعاها، ومما يدل على حسن سياسته وكياسته أنه كان كلما فتح مملكة أجنبية أبقى بها شرذمة ليست بقليلة من الأقباط الأصليين الوطنيين؛ لينشروا في جميع أنحائها وأرجائها مبادئهم القويمة وأخلاقهم وعوائدهم المرضية.
وبعد وفاته أعقبه في الملك الملك منفطة أو منفتاح الثاني، وفي أيامه دخل جماعة من اليونان والصقليين إلى البلاد القبطية بقصد الاستيلاء عليها؛ فلم يمكنهم من نوال بغيتهم، بل صدهم بجيشه الجرار وردهم على أعقابهم خائبين، وقد قيل إن خروج بني إسرائيل من مصر كان على عهد هذا البطل الهمام المقدام، ولكن هذا الزعم لم يتأكد بعد.
ومنهم أيضا «رمسيس الثالث» الذي أتى بأعمال جديرة بالذكر وحرية بالاعتبار؛ ولذا كان من أعظم ملوك الأرض طرا شأنا وأسماهم مكانة؛ إذ قامت في أيامه بلاد الحبشة والنوبة، وأغاروا على البلاد المصرية فهزمهم وصدهم، وأدخل أيضا تحت سلطته كسائر الملحقات المصرية، وأباد جميع أعدائه برا وبحرا، وغادرهم في حيرتهم؛ مرتبكين متعجبين من تلك الجسارة والشهامة التي تجاوزت الحد.
ولكن أبى الدهر إلا أن تسقط وتهبط بلاد القبط في أيام خلفائه الذين لم ينسجوا على منواله، ولم يحسنوا التصرف ولا تدبروا في نتائج أعمالهم.
وبيان ذلك أنه في أيام رمسيس الثالث عشر آخر ملوك هذه الدولة الشهيرة تداخل رئيس كهنة الإله آمون في أمر الأحكام والسلطة الإدارية التي انتزعها منهم الملك ميناس كما سلف آنفا. ثم انضم إلى هؤلاء الكهنة أيضا حزب مؤلف من سذج الشعب، وما زال الجدال على هذا المنوال بين حزب الكهنة وبين الحزب الملوكي، حتى انتزع أخيرا رئيس الكهنة السلطة من الملك رمسيس المذكور.
ولا ريب أن هذه الحادثة التاريخية القديمة تضارع كل المضارعة حادثتنا القبطية الأخيرة الشهيرة، كما وأنها تدل أيضا على طموح كهنتنا إلى السلطة العالمية، وجنوحهم إليها وولوعهم بها منذ القدم.
أما حكم هذه الدولة الكهنوتية الجديدة فقد استمر نحو 178 سنة، وفي ذاك الزمن أخذ اليونان مدينة تروادة، ولكن لم تأت هذه الدولة بعمل يذكر فيشكر، بل عاش ملوكها عيشة التواني والكسل، وماتوا بدون أن يخلفوا بعدهم أدنى عمل؛ ولذا دعاهم المؤرخون بالملوك أهل الكسل وأرباب البطالة، وغاية ما علم من آثارهم أنه كان يوجد لأولهم المدعو منداس حجر ببريا أصوان، منقوش عليه كتابة بالقلم اليربائي تحتوي على طلب الدعاء بحفظ الذات الملوكية أي منداس، ولقد كانت هذه الدولة معاصرة للملك داود وابنه سليمان اللذين استوليا على أغلب الملحقات المصرية بدون أن يجدوا من يمانعهم أو ينازعهم من الأقباط.
ولما دام الحال على هذه الوتيرة مدة من الزمن شق هذا الأمر على قدماء الأقباط، إذ علموا أنهم إذا استمروا على هذا التواني والتهاون ضاعت بلادهم وساءت حالهم، فريثما تضعضعت حالة هذه الدولة الكهنوتية المتقاعدة ظهرت عائلة من بسطة الكائنة بقرب الزقازيق، وخلعت منها الحكم ثم استولت على جميع البلاد القبطية، وجعلت مدينة بسطة المذكورة عاصمة بلادها ومركز ملوكها.
وأول ملوك هذه العائلة شبشاق الأول الذي غزا بلاد فلسطين، واستولى على جميع قلاعها وسلب أموال قصورها الملوكية، ثم أخلفه في الحكم ابنه سار حدون الأول المذكور في التوراة باسم زاراق الحبشي، وهو الذي حارب مملكة يهوذا كسلفه، على أنه خذل وآب بصفقة المغبون. والظاهر أن هذين الملكين كانا من الأجانب الذين توطنوا، أو أن لهم قرابة أو مصاهرة مع الأقباط الأصليين؛ لأن أسماءهم تحاكي أسماء ملوك العراق والأكراد، وليس لهم من العمارات والآثارات ما يستحق الذكر.
وفي مدة هذه العائلة تجزأت بلاد القبط إلى ولايات صغيرة كان يرأس كل ولاية منها رئيس من الليبيين، ونظرا لإهمال ملوك هذه العائلة تداخل هؤلاء الرؤساء فيما لا يعنيهم وتجاوزوا حدودهم؛ حتى اغتصبوا وظائف الحكومة، فاختلت حركة البلاد واعتلت حالتها، فزحف إليها في ذاك الزمن الأيثيوبيون من جهة الجنوب والآشوريون من جهة الشمال، فانحطت البلاد انحطاطا كليا ، وضعفت قوتها وخرج عن حكمها سائر ملحقاتها. ثم أعقب هذه العائلة عائلة أخرى كانت أسوأ منها حالا وأكثر تهاملا وتكاسلا، فازداد في عهدها تمزق وتغرق بلاد القبط، وانقسمت على عشرين ولاية، كان يحكم على كل ولاية منها أمير مخصوص، وفضلا عن هذا وذاك فلم تكتف بلاد السودان عن الخروج عن طاعة ملوك القبط بعد أن كانت منقادة لهم، بل شنت الغارة أيضا على البلاد القبطية؛ حتى وصلت إلى إقليم منف، واستمرت البلاد على هذا التجزء إلى أن نهض أحد العشرين أميرا المدعو تفتحوت وانتزع من شركائه الملك بمؤازرة الزنوج، ثم أسس عائلة أخرى غير هذه العائلة، أشهر ملوكها واحد فقط وهو الملك بوخوريس، وكان شهما هماما غيورا على مصلحة بلاده؛ إذ اهتم بتنظيمها وترتيبها وتهذيب أهليها، مع المحافظة التامة على الروابط الأجنبية، ولكن الأمة القبطية القديمة امتهنته واتهمته بأنه أهان الثور الذي كانت تعبده، فاستعانت على نزعه من السلطة بالملك سباقون ملك النوبة الذي كان وقتئذ قد شق عصا الطاعة عليه، فأغار الملك سباقون هذا على بلاد الأقباط، فساعدوه هم بأنفسهم على الاستيلاء عليهم، ولما وقع بوخوريس في قبضة هذا الجبار العنيد لم يشفق عليه بل ألقاه في النار حيا.
الفصل التاسع
تملك الأيثيوبيين والآشوريين على بلاد القبط
ومن ثم صارت بلاد القبط تابعة للأيثيوبيين، وأول ملوكهم الملك سباقون الذي ألمعنا عنه في الفصل السابق، وقلنا: إنه استولى على مصر وأحرق الملك بوخوريس، ولكن لما صفا له الجو تغيرت طباعه وتحسنت أحواله، فانتقل من حالة القساوة والغباوة إلى الرقة والشفقة، فمال بكليته لتمدن الأقباط وتدين بدينهم، واشتهر بحب الرعية وحسن التدبير، ويقال إنه أول من أبدل العقوبة بالقتل، وجعلها بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولما ذاع صيته بين الورى وشاع وملأ الأسماع استنجده ملك إسرائيل وملك الفنيقيين وملك فلسطين لكي يساعدهم على هزم ملك آشور الذي اشتهر بالقوة والبطش؛ إذ كان يكدر ويعكر كأس راحة هذه الممالك الثلاث. فأجاب الملك سباقون دعوتهم ولبى إشارتهم وحشد جيشا عرمرميا ثم توجه لمحاربة شلمنسو ملك آشور ، ولكن الدهر عاكسه فهزم هو والمتحالفون معه، وضل مدة من الزمن إلى أن اهتدى أخيرا إلى الطريق الموصل لبلاده، وكانت هذه الهزيمة الغير منتظرة سببا في عصيان قاطني الوجه البحري عليه، وانفصالهم عن حكمه، واستقلالهم تحت حكم أسطفانيطس أحد أقارب الملك بوخوريس الذي مات محروقا كما قدمنا، فانحاز سباقون إلى الصعيد ثم مات.
وأخلفه ابنه سواخوم الذي رام أن ينتقم لأبيه من أمراء الوجه البحري الذين شقوا عصا الطاعة عليه، فتمكن من ذلك، وحكم بلاد القبط فقام عليه أخوه طهراق وقتله، وانتزع الحكم من يده، وفي عهد طهراق هذا أغار ملك آشور على بلاد القبط فاستولى على منفيس وطيبة، ثم طفق يصلح ما اختل من نظامها واعتل، وأرجع لأمرائها العشرين امتيازهم وضرب عليهم الخراج.
ولكنه ريثما عاد إلى بلاده قام طهراق المذكور واستولى عليها ثانيا، فرجع ملك الآشوريين وانتزعها منه، وسلمها للعشرين رئيسا، ثم عاد إلى وطنه وهو يظن أن طهراق لا يجسر على الحرب ثانيا، ولكن ساء ظنه فإن طهراق عاد بعودته إلى العصيان، وهكذا أصبحت بلاد القبط غنيمة باردة تتناولها وتلعب بها أيدي الآشوريين والأيثيوبيين إلى أن تركها طهراق أخيرا من تلقاء ذاته لرؤية رآها في المنام، وكذلك تركها الآشوريون لما علموا أن تملكهم عليها يكلفهم من التعب والنصب ما لا يطيقون، فآل أمر حكمها إلى الملك تينخ ميمون آخر ملوك الأثيوبيين على حد قول بعض المؤرخين.
الفصل العاشر
رجوع السلطة لملوك القبط الوطنيين
أما سكان مصر الأصليين - أعني الأقباط الوطنيين - فاعتراهم الملل والضجر من حكم ملوك الأجانب الشديد الوطأة، فعقد أمراؤهم وعظماؤهم النية على تخليص وطنهم من أيديهم، فتمكنوا أخيرا من طردهم من الجهات البحرية، ثم قسموا البلاد إلى 12 قسما ترأس على كل قسم واحد من هؤلاء الأمراء العظماء؛ فسميت هذه الحكومة بالمقاسمة الاثني عشرية؛ ومن ثم أخذ أحد هؤلاء الاثني عشر يجد ويجتهد في خلع السلطة من يد شركائه فتمكن أخيرا من ذلك بمساعدة بعض العساكر اليونانية، بطريقة لا سبيل لذكرها هنا لعدم الوثوق من صحتها .
ولما انفرد هذا الأخير المدعو بساميتيك بالحكم اهتم بتعمير ما دمره الآسيويون والآشوريون، ثم طفق يحض القبط على اقتناء المعارف واسترجاع ما كان لهم من المجد السالف، وقد حصن البلاد من كل جهة، ثم فتح بلاد النوبة واستولى على فلسطين، وفي أيامه دخلت إلى البلاد جماعة من اليونان؛ فوهبهم بعض الأراضي وسلمهم بعض شبان الأقباط ليعلموهم لغتهم اليونانية في المدارس التي أنشأها، وكذا فتح بلاد الشام، ثم توفي بعد أن حكم نحو 54 سنة، فأخلفه ابنه تيخاوس الذي عن له أن يكتشف حدود أفريقيا فأرسل إليها جيشا لأجل هذه الغاية فتمكن من ذلك على أنه لم يستفد شيئا من هذا الاكتشاف، وبعد وفاته حكم ابنه بساميتيك الثاني، الذي غزا بلاد النوبة ومات على أثر رجوعه منها، فحكم بعده ابنه إيرياس الذي شقت عليه جنوده عصا الطاعة؛ إذ أرسلهم إلى بلاد القيروان للاستيلاء عليها، ولم يتسن لهم ذلك، وسدت دونهم جميع المسالك، فانتخبوا أحد الرعايا المدعى أمازيس وجعلوه ملكا عليهم، ثم حاربوا ملكهم الأصلي فانتصروا عليه وخنقوه.
ولما صار أمازيس هذا ملكا احتقره الوطنيون بادئ بدء نظرا لدناءة حسبه ونسبه، ولكنهم بعد ذلك رمقوه بعين الاعتبار والوقار؛ لما أقنعهم بأن الرجل إنما يعتبر ويوقر بأعماله لا بماله، أو جماله أو حسبه أو نسبه كما يتوهمون.
وقد كان أمازيس متصفا بجودة القريحة وتوقد الذهن، ومن مآثره المشهورة استيلاؤه على جزيرة قبرص.
وقد تزوج بإحدى بنات الملك أبسامتيك الثاني؛ ليؤسس منها عائلة ملوكية جديدة، فولدت له ابنا سماه بسامتيك الثالث، الذي حكم على المملكة، وكان آخر ملوك هذه العائلة.
الفصل الحادي عشر
تملك العجم على بلاد القبط
وفي أيام أبسامتيك الثالث دخل مصر العجم على يد كمبيز ملكهم الذي لما استتب له الحكم أراد أن يغزو ثلاث غزوات؛ الأولى: غزوة قرطاجة، والثانية: بلاد النوبة، والثالثة: صحراء لبية، ولكن لم يحظ بوطره، ولم يفز بنوال أربه على الإطلاق.
وعند عودته إلى مصر ألفى كهنة الأقباط وأمراءهم محتفلين بعيد معبودهم العجل أبيس، فاستشاط غضبا واحتدم غيظا وقيظا؛ إذ ظن أنهم شامتون فيه وفرحون بخيبته وهزيمته، فضرب العجل المذكور بخنجر كان بيده وقتل عددا عديدا من كهنتهم وأمرائهم ثم مات غير مأسوف عليه.
ومن ذاك الحين تولدت العدواة والبغضة في قلوب الوطنيين نحو العجم، وخصوصا في أيام حكم الملك دارا الذي أخلف كمبيز في الحكم؛ فإنهم انتهزوا فرصة انهماكه بإخماد فتنة العراق ورفعوا عليه راية العصيان فلم يتمكن من قمعهم، ولكن لما تولى الملك شيرش خلفه عاقب أرباب هذه الفتنة وأخضعهم، ولكنهم لم يلبثوا أن قاموا ثانيا يطالبون باستقلالهم، وما زالوا مثابرين على هذه الخطة إلى أن تيسر لهم قتل الملك دارا الثاني النائب عن دولة العجم بمصر، وطردوا عساكر الفرس من بلادهم، وبهذه المثابة عاد لهم استقلالهم.
الفصل الثاني عشر
ملوك القبط الوطنيون بعد طرد العجم
وبعد أن تحصل القبط على استقلالهم وطردوا العجم من بلادهم؛ قامت بالملك منهم عائلة جديدة تدعى بالصاوية نسبة إلى صالحجر. على أن هذه العائلة لم تتعدد ملوكها بل كانت عبارة عن ملك واحد وهو الملك أمرطيس، الذي خاض عباب المصاعب، وتجشم الأهوال في تخليص البلاد من سلطة الأعجام، ومع أن مدة حكمه لم تكن إلا سبع سنوات لكنه مع ذلك أصلح البلاد إصلاحا لم يعهد له مثيل.
ثم ظهرت عائلة أخرى وطنية يقال لها الأشمونية نسبة إلى أشمون، ومن أشهر ملوكها الملك نفروطف الذي تحالف مع اليونان لمعاونته على الأعجام؛ لعلمه أنهم أعداء المصريين واليونانيين الألداء. وبعد موته أخلفه في الحكم الملك هورقور الذي اختط خطة سلفه ومكن العلائق والروابط الودية بين المصريين واليونانيين. فأرسلت له دولة اليونان جيشا جرارا تحت قيادة خابرياس الأثيني وقاية له وتحصينا لبلاده. وفي عهده جاء العجم إلى بلاد القبط بقصد الاستيلاء عليها دفعة ثانية، ولما شاهدوها محصنة بالعساكر والدساكر ارتدوا راجعين على أعقابهم بخفي حنين، وفي أيام حكم هذا الملك وفد أيضا إلى البلاد القبطية أفلاطون الحكيم وغيره من حكماء اليونان لتلقن الحكمة والفلسفة من حكماء عين شمس ومنف وطيوه، وبعد وفاة هذا الملك الجليل قام بالملك ثلاثة ملوك آخرين من عائلته، ولكن لم يأتوا عملا يذكر فيشكر أو ينشر فيفتخر به.
وبعد انقراض هذه العائلة وجدت عائلة أخرى وطنية ثالثة قامت بأعباء الملك، أول ملوكها الملك نقطانب الأول الذي في أيامه كانت العجم تتهدد البلاد القبطية من وقت إلى آخر، وتود أن تستولي عليها عند سنوح الفرصة، فلما توقع الملك نقطانب منهم ذلك جند الجنود وحشد العساكر؛ فقيض له الله النصر عليهم ثم قضى نحبه، فأخلفه الملك طاخوس الذي عند علمه بأن العجم تقصد الاستيلاء على البلاد القبطية جمع جيشا جرارا، واستنجد بدولة اليونان؛ فبعثت إليه بجيش عظيم أيضا تحت قيادة القائد أجزيلاس اليوناني الذي اقترح على الملك طاخوس أن لا يتوجه لمحاربة العجم إلا إذا أتوا هم أولا لمحاربته، فلم يذعن لمقترحاته ولم يرضخ لمشورته، بل بادر إليهم بذاته، فلما خرج عن حدود البلاد رفعت عليه العساكر راية العصيان؛ فولى الأدبار وركن إلى الفرار وانحاز إلى جيش الأعجام. فتولى بعده نقطانب الثاني الذي عقد معاهدة مع أهل صيدا وصور؛ للاتقاء من شر الأعجام، فلما هجم على صور أرسل إليها الملك نقطانب فرقة عسكرية يونانية لنجدتها ومعاونتها، فهزم جيش العجم. فلما رأى ملك الفرس ذلك اضطرمت في فؤاده نيران الغضب والغيظ، فقاد الجيش بنفسه وهجم على جيوش اليونانيين والمصريين دفعة واحدة؛ فانتصر عليهم نصرا مبينا، حتى تمكن من إبادتهم جميعا؛ فولوا من أمامه هاربين وقفلوا راجعين وهم مذعورين صاغرين، ثم اقتفى أثرهم حتى سلموا أنفسهم بأنفسهم وهم خاضعين خاشعين، أما الملك نقطانب الذي هو آخر ملوك الأقباط الوطنيين فلم يسعه إلا أن جمع خزائن أمواله وفر هاربا إلى بلاد النوبة حيث قضى نحبه بها.
الفصل الثالث عشر
حكم العجم على بلاد القبط دفعة ثانية
ومن ثم صارت بلاد القبط تحت حكم العجم بعد أن لبثت نحو ستة وستين سنة مستقلة استقلالا كاملا، وكان ملك العجم وقتئذ الملك داراخوش صاحب تلك النصرة المشهورة، ولكن أبى الله إلا أن يقصر مدة حكمهم عليها في هذه الدفعة؛ إذ لم تستمر إلا ثلاث سنوات ليس إلا، وبعدها انتهى حكمهم في سنة 232ق.م وهي السنة التي أتاها فيها البطل الهمام رب الشوكة والصولة، ألا وهو الملك إسكندر المقدوني الأكبر، الملقب بذي القرنين كما سيأتي. وفي خلال هذه المدة الوجيزة التي حكم فيها العجم على البلاد القبطية لم يقم بالملك منهم إلا ثلاث ملوك فقط؛ كان دأبهم وديدنهم هدم العمارات المدنية، والهياكل الدينية وتدمير الآثار الوطنية؛ ولذا ترى أنه في مدة حكمهم هذه القصيرة قد خربت أغلب الآثار القبطية، وطمست معالمها حتى أصبحت وأنت لا ترى فيها إلا أطلالا بالية لا منفعة لها ولا فائدة منها على وجه الإطلاق، ولم يبق من الآثار المصرية على حاله القديم إلا ما شيد في أيام البطالسة. وبالإجمال فإن تملك العجم على القبط في هذه الدفعة الثانية عاد على البلاد والعباد بالوبال الوبيل.
الفصل الرابع عشر
حكم اليونان على بلاد القبط
وبعد مضي ثماني سنوات من حكم العجم على مصر بلاد القبط، وافاها إسكندر الأكبر ذو القرنين فاستولى عليها كما قدمنا، وجعلها تابعة لمملكة اليونان التي حكمت عليها نحو 27 سنة. أما الملك إسكندر الأكبر المومأ إليه فكان شهما أبي النفس عادلا؛ إذ أتاح للمصريين أي الأقباط قاطبة التدين بدين آبائهم وأجدادهم ومتعهم بالحرية التامة التي حرموا منها منذ أمد مديد.
واختط مدينة الإسكندرية فصارت مخزنا عاما لتجارة الدنيا بأسرها، ولم تزل كذلك إلى الآن، ولقد لقبها باسمه أي الإسكندرية.
وبعد وفاته تقاسم قواده ممالكه؛ فكانت مصر بلاد القبط من نصيب القائد بطليموس لاغوص الأول الذي نهج منهج الإسكندر في جميع أعماله، ولما كان محبا للعلم والعلماء أنشأ مكتبة الإسكندرية الشهيرة، ووسع نطاق البلاد القبطية؛ إذ أضاف عليها بلاد العرب وقبرص. وبعد وفاته حكمها بطليموس الثاني الذي ترجم التوراة إلى اللغة اليونانية، ثم بطليموس الثالث، فبطليموس الرابع، فالخامس، فالسادس، فالسابع إلى الثالث عشر.
وكان هؤلاء البطالسة جميعا رجال حزم وعزم عارفين ما لهم من الحقوق عند رعيتهم وما عليم من الواجبات نحوهم ، وفي أيامهم ارتقت بلاد القبط ارتقاء لا نظير له؛ إذ بثوا فيها روح العلوم والمعارف، ونشطوها من عقال الإهمال، فبلغت أوج المجد وذروة الكمال.
وآخر ملوك هذه الدولة الملكة كيلوباطره ربة الجمال الرائع وصاحبة الصيت الشائع، وهي التي تزوجت بأخيها، وبعد أن قضت منه وطرها أسقته سما فمات شهيد خداعها وتداهنها. ولما علمت أن دولة الرومان قد عزمت على محاصرة بلادها، قتلت نفسها فانقرضت بموتها ملوك دولة اليونان.
الفصل الخامس عشر
حكم الرومان على بلاد القبط
وفي سنة 30 قبل الميلاد استولى قيصر الرومان على بلاد القبط وصيرها إيالة رومانية؛ ومن ثم صارت مملكة الرومان ترسل إلى مصر حكاما يحكمون على القبط بمثابة نواب عنها.
وفي عهد هذه الدولة أتى إلى بلاد القبط الرسول المغبوط مار مرقس البشير، متأدبا بكلمة الله ومبشرا بإنجيله الشريف وكتابه المنيف، فلم يسمع لقوله بادئ بدء إلا النذر اليسير، ولكن بعد ذلك تقوى الدين المسيحي، وانتشر بين الأقباط انتشارا كليا حتى عم القطر بأسره وملحقاته، ولا سيما في القرنين الثاني والثالث من التاريخ المسيحي.
وأول نائب روماني انتدب من دولة الرومان للحكم على بلاد القبط هو الملك قودريليوس غالوس، الذي أصلح حالة مصر الزراعية؛ لعلمه أنها مصدر ثروة هذه البلاد.
ومن أشهر ملوك هذه الدولة أيضا الملك أدريان الذي شهد له بحسن السياسة والحكمة، وهو الذي حسم الشقاق وأوجد الوفاق بين الذين اختلفوا في مسألة العجل من حيثية محل رضاعته الأصلي، وكانت مدة حكم هذا الملك كلها درر وغرر؛ إذ كانت البلاد راتعة في رياض الهناء والرخاء، ومتمرغة على بساط الراحة والرفاهية والأبهة. ومنهم الملك دقليديانوس الذي كان رجلا جهولا إذ لم يحسن التدبير، بل قضى مدة حكمه في التخريب والتدمير، وقد تجشم في عهد حكمه الأقباط من الأهوال ما تشيب من هوله الأطفال.
اضطهاد الأقباط
وبيان ذلك أنه ظهر جندي يسمى أخبلاوس، أغرى سكان البلاد على مجاهرة الإمبراطور الروماني بالعصيان، فانقادوا لرأيه السخيف انقياد العميان، غير عالمين ما وراء ذلك من الوبال والنكال؛ فكانوا الباحثين عن حتفهم بظلفهم.
لأن الإمبراطور ريثما بلغه ذلك حشد جيشا جرارا، وأتى مدينة الإسكندرية حتى فتحها عنوة، وقبض على أخبلاوس العاصي؛ وسلمه للوحوش الضارية فمزقته وافترسته، ثم أحرق المدينة وسبى النساء والرجال والأطفال، فانتهز حينذاك أعداء الديانة المسيحية أو بالحري الأمة القبطية هذه الفرصة المناسبة للإيقاع بهم والسعي في نكايتهم وإهلاكهم، وكان أشدهم عداوة لهم الملك مكسيمان شريك الإمبراطور دقيليديانوس، فطفق يوسوس له أن هذه الفتن والثورات إن هي إلا نتيجة تمسك الأقباط بالديانة المسيحية، واعتصامهم بعروتها الوثقى، وتركهم لديانة أجدادهم وأسلافهم؛ حتى لقد جعل الإمبراطور المذكور يعتقد أن راحة المملكة متوقفة على محو آثار هذه الديانة المسيحية، وقطع دابرها من على وجه البسيطة، أو على الأقل من البلاد المنتمية للمملكة الرومانية.
ولما كان الإمبراطور المنوه عنه ممن أصروا على رفض الإيمان المسيحي وآثروا البقاء على دين آبائهم وأجدادهم، استصوب هذا الرأي الذميم الوخيم، ثم أصدر الأوامر الصارمة للولاة والحكام؛ يحضهم فيها على طلب المؤمنين وإلزامهم بترك الديانة المسيحية، والعود إلى العبادة الوثنية الأصنامية، ومن يخالف يجازى بالقتل بلا شفقة، وأمر بهدم الكنائس فهدمت، وغصت السجون بالمسجونين وقتل من جراء ذلك خلق كثير لا يحصى ولا يستقصى، ودام هذا الاضطهاد مستمرا مدة من الزمن كادت فيها أرواح الأقباط جميعا أن تزهق، ووصل الفتك الذريع والجور الفظيع الشنيع إلى مدينة قفط التي كانت غاصة وقتئذ بالمهاجرين الذين هربوا إليها، والتجئوا بها تخلصا من هذا الاضطهاد المريع، فأمر الإمبراطور بقتل من فيها وأحرقها وأحرق مدينة ليست بأقل شهرة منها تدعى بوزيريس، وقصارى القول أن عدد من قتلوا من الأقباط في هذا الاضطهاد لا يدخل تحت عد أو حصر؛ ولذا ترى الأقباط يؤرخون له إلى يومنا هذا فيقولون سنة كذا للشهداء؛ أي المؤمنين الذين قتلوا شهادة للمسيح في عهد الإمبراطور دقليديانوس هذا الظلوم الغشوم.
ولكن لم يدم الحال على هذا المنوال، بل أبى الله إلا أن يفتقد هذه الأمة المنكودة الحظ وينقذها من غوائل وأهوال هذا الاضطهاد، فقيض لها ملوكا رومانيين عادلين رثوا لحالتها وأنقذوها من بلوتها؛ إذ كان هؤلاء الملوك مسيحيين مؤمنين فعمت في أيامهم الديانة المسيحية وامتدت امتدادا تاما.
ولكن لم يمض على ذلك طويل زمن حتى حاقت ببلاد القبط مصائب أخرى أشد وطأة من الأولى، وكان السبب في ذلك انقسام المسيحيين إلى جملة أقسام وأحزاب، فنجم عن ذلك شقاق عظيم أدى إلى تداخل الحكام وولاة الأمور، وكثر الفتك والبطش والقتل ونفي رؤساء الأديان.
وكان القبط ممن قاسوا شدائد كثيرة في هذه الظروف المدلهمة؛ لأنهم أبوا أن يوافقوا الحزب الذي كانت الملوك تنتصر له، فقتل منهم عدد عديد، وهاجر أكثرهم إلى بلاد النوبة والسودان، واستوطنوا فيها وعلموا سكانها الديانة المسيحية فقبلوها وتدينوا بها.
وما زالت نيران هذه الاضطهادات متأججة مستعرة مدة مديدة، إلى أن أتى العرب واستولوا على بلاد القبط وأخذوها من الروم على يد عمرو بن العاص قائد جيوش عمر بن الخطاب الثاني من الخلفاء الراشدين، فارتفعت حينئذ هذه الاضطهادات عن الأقباط قاطبة.
الفصل السادس عشر
حكم الدولة العربية الإسلامية على الأمة القبطية
إنه في سنة 18 هجرية خلا عمرو بن العاص بالخليفة عمر بن الخطاب، وطفق يحضه ويحرضه ويحسن له الاستيلاء على بلاد القبط، فصرح له الخليفة بذلك فحشد جيشا جرارا، وبعد أن حاصرها مدة طويلة على غير طائل فتحها أخيرا واستولى عليها، وساعدته الأقباط على نوال هذه البغية بناء على ما كان موجودا بينهم من الانشقاقات والانقسامات والاختلافات الدينية كما ألمعنا. ومن ثم صارت البلاد القبطية تابعة للخلافة العربية الإسلامية، فحكمت عليها أولا الدولة الأموية ثم الدولة العباسية فالطولونية فالإخشيدية فالفاطمية أو العلوية فالأيوبية إلى أن حكمتها أخيرا دولة المماليك البحرية التي طغت وبغت وعاثت في الأرض فسادا وأوردت الأمة موارد العناء والشقاء.
وفي سنة 1517 مسيحية افتتحها السلطان سليم العثماني، وقبض على طومان باي ملكها، وشنقه على إحدى بواباتها، وجعلها تابعة للدولة العثمانية بعد أن كانت تقاسي ألم الهوان والبلاء من ظلم واستبداد هؤلاء المماليك البغاة الطغاة.
ولما أخذ السلطان سليم بلاد القبط من يد هؤلاء المماليك العتاة المتمردين عين لها واليا يحكمها ويدبر أمورها، ويدير حركتها وشئونها بمؤازرة 24 من البكاوات. وكان هذا الوالي يتغير سنويا، واستمرت كذلك إلى أن أتاها نابوليون قائد الجيوش الفرنساوية واستولى عليها في سنة 1798 مسيحية.
ولم تكن بلاد القبط وقتئذ محتوية على عنصر واحد كما كانت أولا، بل صارت عنصرين وطنيين؛ وهما العنصر القبطي الأصلي الذي كان محكوما، والعنصر الإسلامي العربي الذي كان حاكما.
ولكن الدولة العلية استرجعتها ثانيا من يد نابوليون وأعادتها إلى سلطتها بمساعدة بعض جيوش الدولة البريطانية العظمى.
الفصل السابع عشر
حكم الدولة المحمدية العلوية الفخيمة
وبعد أن خرج الجيش الفرنساوي من البلاد القبطية أرسلت الدولة العلية ساكن الجنان المغفور له محمد علي باشا - جد العائلة الخديوية الفخيمة - بمثابة خديوي عليها، ولم تزل عائلته الفخيمة صاحبة التسلط والسيادة إلى الآن.
ولا ريب أن ما أتته هذه العائلة الكريمة الفخيمة من المآثر الغراء والمناقب الحسناء لأشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصر، كيف لا وفي أيامها ازدهت البلاد وارتاحت العباد، وعمت الخيرات، وتدفقت ينابيع البركات، وهطلت غيوث النعم والعطايا؛ فشملت كل الرعايا، بل أصابت جميع البرايا. ولقد كان للطائفة القبطية من هذه النعم العميمة والخيرات الجسيمة أوفر نصيب، نسأل الله أن يرمق سلالة هذه العائلة بعين عنايته، ويرعاها بكمال رعايته؛ إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
الباب الثاني
مقدمة
انحطاط الأقباط
لا ريب أن من جال بعين فطنته، ونظر ببصر بصيرته في تاريخ الأمة القبطية الذي أتينا على ذكره في الفصول السابقة، يعلم علم اليقين أن هذه الأمة كانت ولا محالة في مقدمة الأمم المتمدنة المتقدمة، كيف لا وقد بلغت من الترقي والتقدم درجة لم يتسن لغيرها من الأمم الوصول إليها، وتحصلت على جانب من الرقعة والسيادة لم يتمكن سواها من الحصول عليها؛ الأمر الذي يعترف بصحته كل من تنزه عن الغايات الشخصية، وتجرد عن المآرب الذاتية أو ألقى السمع وكان شهيدا.
ولكنها لم تلبث أن انحطت انحطاطا تاما وسقطت سقوطا كليا، ففقدت كل ما أحرزته من الامتيازات العديدة التي خصت بها وتحصلت عليها دون غيرها، فأصبحت وأنت لا ترى فيها إلا أمة صغيرة حقيرة لا ترمق إلا بعين الامتهان والاستهجان، بعد أن كانت ربة السيادة وصاحبة السلطان، ومحط رحال الحكمة والعرفان، تهرع إليها الفلاسفة والجهابذة من جميع الأصقاع والبقاع، وسائر الأنحاء والأرجاء؛ ليقتبسوا من علومهم ويستنيروا بنبراس معارفهم وسراج آدابهم أيام كان هذا السراج وهاجا.
فليت شعري ما هذا الانقلاب العجيب، والتغير الغريب الذي لم يكن ليخطر بالبال لولا أن دوام الحال من المحال، ألعل عقول أبنائها ضعفت؟ أو أن جدارتهم وكفاءتهم عدمت؟ أو أن نباهتهم القديمة انتزعت؟ أو لعلهم ليسوا من سلالة أولئك الأقباط القديمة، بل ادعوا تلك النسبة والقرابة زورا وبهتانا؟!
لا لعمري إن هذا إلا زعم عقيم وفهم سقيم؛ فإن هؤلاء القوم هم هم سلالة أولئك الفراعنة الذين سادوا وشادوا، ووصلوا إلى ما وصلوا، وتحصلوا على ما تحصلوا، ولم يعترهم ضعف عقل أو قلة نباهة أو عدم جدارة، ولكن هي الهمم فترت والعزائم، خارت؛ فجلبت على رأس الأمة هذا الوبال الوبيل والنكال الذي لم يعهد له مثيل.
قوائم مجد تلك الأمة القديم - وهو قسم لو تعلمون عظيم - أن انحطاطنا هذا إن هو إلا نتيجة تهاوننا وتوانينا الذي أصبح تضرب به الأمثال، وتتحدث بذكره الأمم على ممر الأحقاب والأجيال؛ فهو الذي كان سبب تأخرنا وتقهقرنا وسر انحطاطنا وسقوطنا، حتى أصبحت طائفتنا تشكو ألم الهبوط والتأخير، ولا نصير هناك ولا مجير؛ فالعياذ بالله من أوحال هذا الحال، وليس ذلك فقط هو سبب انحطاط تلك الأمة، بل هنالك أسباب أخرى شتى لا يسعنا إلا أن نتحاشى سرد أغلبها، ونخص منها بالذكر ما أحدق وأحاق بهذه الأمة من المصائب والنوائب من كل جانب، وما تجشمه أبناؤها من الاضطهادات التي تجاوزت حد الاعتدال، وبلغت درجة الإفراط، كما يستنبط ذلك من مراجعة تاريخ تلك الأمة أيام حكم العجم والرومان والمماليك البحرية على بلادهم؛ فإن ما لاقوه من التضييق والاضطهاد، وما صادفوه من العوائق والبوائق والعراقيل عاقهم عن المثابرة في خطة التقدم والسير على وتيرة الترقي وملازمة جادة الصعود، حتى لقد قال بعض المؤرخين المحققين المدققين أنه لولا ما جبل عليه أبناء هذه الأمة من التجلد والتسليم لأحكام القضاء والقدر، وملاقاتهم لتلك الأهوال بقوة جأش وثبات جنان؛ لبادوا جميعا منذ عهد بعيد، ولم يكن لهم في الوجود وجود، وناهيك أن سوء تصرف بعض أئمتها وجهل أغلبهم واستبدادهم وطموحهم إلى الطمع والجشع، وجنوحهم إلى مقاومة الإصلاح وعدم توفر أسباب تعميم التعليم بينهم كان أيضا أكبر دواعي التأخر، وأعظم بواعث هذا الانحطاط والتقهقر، والله العليم بذات الصدور.
توفيق عزوز
الفصل الثامن عشر
النهضة القبطية الحديثة
لقد صدق من قال إن الفرع لا بد وأن يرجع إلى أصله مهما تقلبت الأحوال، وكيفما اختلفت وانعكست الشئون، وجرت صروف الظروف؛ فهذه هي الأمة القبطية التي ذاقت من أنواع الاضطهادات والاضطرابات صنوفا وألوانا حتى أفضى بها الأمر إلى الانحطاط والسقوط، لم تلبث أن شعرت بدائها الدفين، وتنبهت لمصابها الجلل، فنهضت تبحث عن الدواء الناجع النافع الذي يمكنها من معالجته ومداواته لتنتشل من ورطة السقوط ووهدة الهبوط. وبهذه المثابة تكون قد تلافت الخطر وتداركت الضرر، ومحت عنها آثار العار والشنار الذي لحقها من جراء هذا التأخير. وحتى لا يقال إن الدم الفرعوني القديم قد «برد وخمد» أو إن هؤلاء الأقباط المتأخرين ليسوا من سلالة أولئك الفراعنة المتقدمين.
هذا ولكي يكون القارئ اللبيب على بصيرة من حقيقة هذه النهضة وكيفية نشأتها وزمن وجودها، يجمل أن نستطرد البحث في هذا الموضوع مليا فنقول: إنه لدى أول وهلة من سماع لفظة «نهضة» يتبادر إلى الأذهان أن هذه النهضة إنما قامت لها قائمة بهمة قوم مخصوصين وأفراد معدودين، كانوا هم السبب في إضرام نارها وإبرازها من حيز التصور والتفكر إلى عالم العمل والفعل؛ فيقال لهم حينئذ منهضون أو بمعنى أوضح وأصح: مصلحون.
والنهضة القبطية التي نحن بصددها لم تتجاوز هذه القاعدة المطردة ولا هي شذت عنها، بل قد قامت أيضا بهمة رجال غيورين مخلصين جبلوا على محبة الإصلاح، ومالوا بكليتهم إلى نفع أبناء جلدتهم ، ورفع شأن أمتهم، ولم يبغوا تلقاء ذلك أدنى مكافأة أو جزاء عالميا، بل ابتغاء لمرضاة الله تعالى وحبا في الخير العام، وحسبهم مكافأة إقبال أبناء الأمة عليهم لا إدبارهم عنهم، والأخذ بناصرهم وشد أزرهم، عالمين أن هؤلاء المصلحين إنما هم شركاؤهم في نعمة الإيمان الأرثوذكسي القويم، وأن ما ينفعهم ينفعهم وما يضرهم يضرهم، وما يغمهم يغمهم وما يسرهم يسرهم، هذا إذا كان المشرب معتدلا والغاية شريفة؛ وإلا فالعكس بالعكس، ولكن لسوء الطالع لم تكن الأفكار كلها متجهة نحو هذه الوجهة، ولا كانت أميال أفراد الأمة جميعهم تصبو إلى هذا الإصلاح الخطير لغاية في النفس إن لم نصرح بها عاجلا فسنذكرها آجلا وكل آت قريب.
ولعل في مقالنا هذا نوع من الإدغام والإبهام فيجب علينا أن نميط عنه اللثام حتى يعلم الكل حقيقة الحال، ويقف على كنه هذه المسألة الخاص والعام.
نقول إنه في سنة 1590 قبطية - أي في عهد تولية الخديوي الأسبق إسماعيل باشا - ابتداء تاريخ هذه النهضة الإصلاحية، التي طالما تشوقت إليها الخواطر، وتشوفت إلى رؤياها النواظر. وبيان ذلك أن الجم الغفير والسواد الأعظم من أبناء هذه الأمة لما رأوا ما كانت عليه طائفتهم من التقدم والارتقاء، وما آلت إليه حالتها من الهبوط والسقوط؛ شق عليهم هذا الأمر، فدفعتهم عوامل النخوة الملية، واستفزتهم أريحية المحبة الجنسية للقيام بإصلاح طائفتهم، ولو كلفهم ذلك فوق ما لا يطيقون ولا يستطيعون. سيما وأنه قبل هذا العهد بزمن ليس ببعيد كان قد تولى رئاسة هذه الطائفة غبطة الأب الموقر الحميد الأثر والخالد الذكر «أنبا كيرلس الأكبر» العاشر بعد المائة، الذي لم شعث هذه الطائفة وأنشأ مدارسها وأصلح كنائسها، وحسن حالتها كما هو مبين ومدون بتاريخ حياته الشريف، ولكن أبى الله إلا أن يحرم الطائفة منه ويضن عليها به، فقبضه في شرخ شبابه وعنفوان صباه قبل أن يتمكن من إتمام إصلاحاته وتنظيماته التي آلى على نفسه وأخذ على عهدته إنجازها واحدة فواحدة، طبقا لظروف الأحوال ودواعي الاحتياج؛ شأن من كان حكيما غيورا على مصلحة طائفته وخير أبناء أمته، فبعد انتقاله من دار العناء والشقاء إلى ديار البقاء والهناء، لم تلبث الطائفة أن عادت إلى حالتها الأصلية حالة التأخر والتقهقر؛ إذ ارتبكت أعمالها وتوقفت حركة أشغالها، وتبددت أوقافها، وخربت مدارسها، وزال بهاء كنائسها، وعادت تندب سوء حظها، وتبكي فقد راعيها الصالح ورئيسها الغيور، فما طرقت عبارات رثائها وبكائها آذان ساداتنا المصلحين حتى شمروا عن ساعد الجد، وقالوا بقلب مفعم من الغيرة الجنسية وموعب من الشهامة الملية: «هنا هنا ميدان الجهاد والطراد، وهنا هنا تظهر همم الرجال وشتان بين قوال وفعال.»
هذه كانت حالة طائفتنا القبطية حينئذ، وتلك كانت حاسيات ساداتنا المصلحين التي كانت تتوقد بين ضلوعهم، وتخامر قلوبهم الطاهرة، وتخالج أفئدتهم السليمة، ولا غرو في ذلك ولا عجب؛ فإن الرعية لا بد وأن تكون على دين راعيها، وقد علمت وقتئذ ما جبل عليه البطريرك المحكي عنه رحمه الله من كمالات الصفات وصفات الكمالات التي أخذوها عنه، واقتبسوها منه منذ نعومة أظفارهم ونضارة شبابهم.
هذا، ولما كان تاريخ هذه النهضة المتعلق بتاريخ هؤلاء المصلحين الكرام متقطعا بالنسبة لمجريات مدته، ونظرا لوقوعه في أوقات متفاوتة وأزمنة متباينة، تختلف باختلاف وجود هؤلاء المصلحين في مدد متقطعة، فقد استصوبنا أن نقسمه إلى ثلاث أقسام سميناها لزيادة الإيضاح: الثلاث نهضات.
النهضة الأولى
ابتدأت هذه النهضة الأولى في سنة 1589 قبطية، وبيان ذلك أن الكثير من فضلاء هذه الطائفة ونبهائها ووجهائها، الذين ذاقوا لذة الإصلاح الذي قام به البطريرك الأسبق المنوه عنه، لما رأوا أنه بموت هذا الراعي الصالح قد ماتت كل هذه الإصلاحات والتنظيمات التي سهر على إجرائها ومباشرتها آناء الليل وأطراف النهار؛ لم يألوا جهدا في إعادتها واسترجاعها بعد اندثارها وضياعها، عالمين أن ذلك من أوجب الواجبات المفروضة عليهم وألزم اللزوميات المفتقرة والمضطرة إليها طائفتهم، فالتأموا وأسسوا جمعية خيرية إصلاحية سموها «جمعية الإصلاح» شكلت في مبدأ الأمر من أربعة مؤسسين؛ وهم حضرات الأفاضل الأماثل يعقوب أفندي نخلة، وبرسوم أفندي جريس، وجندي أفندي يوسف، وعزوز أفندي منقريوس، ثم انتظم بعدئذ في سلكها عدد عديد من نبهاء ونزهاء الطائفة، الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة الثمينة بفروغ صبر، ولما اجتمعوا والتأموا بعض دفعات متواليات وصفا لهم الجو حرروا رسالة ضافية الذيل إلى المرحوم الطيب الذكر أنبا مرقس مطران البحيرة ووكيل الإسكندرية؛ مذ كان في مسند توكيل البطريكخانة بمصر، بعد وفاة المرحوم المبرور الذكر أنبا ديمتريوس البطريرك سلف البطريرك الحالي والي النظار المتولين أمر الأوقاف وقتئذ، مؤداها:
حيث إن الغرض من وجود أوقاف للطائفة باسم الفقراء أنه يصرف منها عليهم كما يستدل على ذلك من تسمية اسم كل وقف على حدته، وحيث إن الفقراء المومأ إليهم مهملين ومطروحين في زوايا النسيان ليس لهم من يعولهم أو يفتقدهم، فضلا عن تصرف متولي تلك الأوقاف فيها تصرفا مطلقا، فالجمعية تعلن حضرة المطران الموقر ومتولي الأوقاف وعمد الطائفة أجمع أنها ستجمع أجر بيوت الأوقاف، التي هي تحت يد مشتركيها، وما يتحصل منها في آخر كل شهر يصرف على الفقراء بمعرفتها.
وكانت هذه الرسالة شديدة اللهجة قوية الحجة، تشف من الجهة الواحدة عن خلوص نية أولئك الأعضاء الأفاضل، وتشعر من الجهة الأخرى بالتهديد والترهيب والإنذار والتحذير، فوجفت منها القلوب وارتجفت الفرائص، واتجهت إلى هذه الجمعية أفكار الأمة بأسرها وشخصت إليها أنظارها، وتوسم منها الكل للطائفة نجاحا تاما وإصلاحا عاما.
فأرسل جناب المطران على أثر هذه الرسالة تذاكر دعوة رسمية لسائر عمد ووجهاء الطائفة يدعوهم فيها للحضور بالدار البطريركية لأخذ آرائهم في مسألة ذات بال، فلما انتظم عقد هذه الحفلة الحافلة كلف نيافة المطران المبرور الذكر حضرة الأب الفاضل الأغومانوس فيلثاوس رئيس الكنيسة المرقسية الكبرى أن يتلو على مسامعهم الكريمة صورة الخطاب الآتي، وهذا نصه:
معلوم لدى محبتكم أنه معتاد من قديم، اجتماع من يتوفق اجتماعهم أحيانا من أبناء الطائفة بدار البطريكخانة للنظر في خصوصيات الملة، والفصل فيها بالاتحاد مع الرئيس الحاضر - أعني البطرك - أو من ينوب عنه، غير أنه لمناسبة مشغولية غالب أشخاص الطائفة في شئون أنفسهم، وعدم انتظام جمعية رسمية مؤلفة من أشخاص معينين بأوقات معلومة، كان سبق إعلان بنوتكم من طرفنا منذ سنة تقريبا بطلب تعيين جمعية رسمية مركبة من اثني عشر شخصا تنظر في أهميات الطائفة، وخصوصيات الأيتام والفقراء وغير ذلك، ولما أنه لحد الآن لم تبدوا لنا ما استقرت عليه أفكاركم، دعا الحال لاجتماعكم بهذا اليوم المبارك؛ لتفيدونا بما ترونه موافقا إجراؤه. والله تعالى يوفق لكم بالخير.
فريثما تلي هذا الخطاب على مسامع الحضور، لهجت ألسن الجميع بالدعاء له، والثناء عليه؛ نظرا لحسن رعايته، وكمال عنايته التي شملت جميع أبناء طائفته، ثم طفقوا يتداولون مليا في هذا الصدد. وأخيرا قر رأيهم على انتخاب جمعية رسمية مركبة من اثني عشر شخصا للنظر في خصوصيات الأيتام، وإدارة الأوقاف، ونظر وفصل قضايا الطائفة المختص نظرها بالبطريكخانة، وأن يتعين من قبل هذه الجمعية ثلاث قومسيونات، كل قومسيون منها يكون من أربعة أعضاء: أحدها للأوقاف والثاني للمدارس والمطبعة والكنائس، والثالث للإخوة الفقراء. فوافقهم غبطة المطران على ذلك، ثم شرعوا في انتخاب هؤلاء الأعضاء والنواب، فانتخبوا اثني عشر عضوا ومثلهم نوابا، وعرضوا صورة نتيجة الانتخاب على غبطته فذيلها بالشرح المحرر بخط سيادته، والمختوم بختم نيافته تصديقا لها واعتمادا عليها.
ولما تم هذا الانتخاب على أفضل حال وأكمل منوال، استصوب حضرات المنتخبون أن يكون انتخابهم هذا بصفة رسمية، تضمن لهم مزاولة أعمالهم ومباشرة أشغالهم على غاية ما يرام من تمام الانتظام والإحكام، فتداولوا مع نيافة المطران بهذا الخصوص، وأخيرا أجمع رأيهم جميعا على عرض ذلك الانتخاب الذي تم بحضور هذه الجمعية العمومية على الأعتاب الكريمة الخديوية - أي الخديوي إسماعيل باشا - والتماس صدور الأمر السامي بالتصديق عليه، وقد حصل ذلك فعلا وورد الأمر الكريم لمحافظة مصر بتاريخ 18 الحجة سنة 1290 هجرية مؤيدا ذلك وهذا نصه:
وكيل بطريكخانة الأقباط قدم لدينا إنهاء رقيم 15 الحجة سنة 1290، وعلمنا منه أنه لمناسبة أن مصالح الطائفة القبطية المختصة بمدارسها وأوقافها ومطبعتها وكنائسها آخذة في التقدم والعمارية، قد تراءى له أنه إذا تشكل مجلس من أبناء الطائفة للاتحاد معه في نظر وإدارة خصوصياتها المعتاد نظرها في البطريكخانة؛ يكون ذلك داعيا لزيادة ترقية تلك الأمور ونجاحها، فلهذا صار انتخاب اثني عشر عضوا لذلك المجلس واثني عشر نائبا لهم بمعرفة من لزم من الطائفة، وتم الانتخاب بمحضر عمل بالبطريكخانة، ويلتمس صدور أمرنا للمحافظة بمعرفة المجلس المحكي عنه واختصاصه بروية الأمور المثني عنها، وحيث إن ما حصل من انتخاب أولئك الأعضاء والنواب لتشكيل ذلك المجلس بالكيفية التي توضحت، قد استحسن لدينا وفورنا بمساعدتنا إجابة التماس وكيل البطريكخانة - مقدم الطلب - المومأ إليه، فبذلك لزم إصدار أمرنا هذا إليكم للمعلومية بما ذكر، وهذا كما اقتضت إرادتنا.
فلما صدر هذا الأمر السامي الكريم تلقاه حضرات أعضاء المجلس بما يليق بمقامه الخطير من الاعتبار والوقار، وأحلوه من قلوبهم محلا رفيعا، ثم طفقوا يزاولون أشغالهم ويباشرون أعمالهم بما عهد فيهم من الغيرة والنشاط، ولا سيما لعلمهم بأن هذا المجلس قد صار وقتئذ معتبرا لدى الحكومة السنية الخديوية، ومطابقا لمشرب عموم الطائفة القبطية، وأنهم أصبحوا الآن مسئولين عن أداء هذه الخدمة الشريفة المنيفة أمام الله ومطالبين بها لدى أبناء الأمة التي انتخبتهم؛ ليكونوا نوابا عنها يذبون عن حقوقها ومصالحها؛ وبهذه المثابة كان هذا أول مجلس تشكل بطريقة منتظمة وكيفية محكمة للأمة القبطية.
وما زالت قرارات هذا المجلس مرعية الجانب، وإجراءاته الإصلاحية نافذة المفعول تحت رئاسة حضرة المطران الموقر، إلى أن انتخب سيدنا الحالي للبطريركية بناء على طلب حضرات أعضاء المجلس المومأ إليه بالاتحاد مع حضرات الآباء الرؤساء، الذين كانوا موجودين وقتئذ بالبطريكخانة بصفتهم نوابا عن عموم أفراد الأمة القبطية.
وعندما قدمت عريضتهم هذه إلى جانب المعية السنية؛ طلبوا - أعني أعضاء المجلس - «للمثول بين يدي الخديوي الأعظم إسماعيل باشا» بسراي عابدين العامرة، وبعد الاستفهامات اللازمة والاستعلامات الضرورية، صدر الأمر السامي والنطق الكريم بالتأمين على رسم غبطته بصفة بطريرك للشعب القبطي، ورئيسا للمجلس الملي.
ولما تولى غبطته تخلى المطران أنبا مرقص من مسند وكالة البطريكخانة، وأصبحت اختصاصاته قاصرة على مباشرة شئون وظيفته بالبحيرة والإسكندرية. فانتدب جنابه للترؤس على المجلس بدلا عنه؛ فقبل ذلك بملء الانشراح والارتياح، ومن ثم صار يحضر جلساته بذاته ويترأس عليها، ومن ضمن الأعمال الخليقة بالذكر الحقيقة بالشكر التي قام بها المجلس الموقر حينئذ: إنشاء المدرسة الإكليريكية الشهيرة في شهر يناير سنة 1875 مسيحية، الموافقة سنة 1591 قبطية، ولكنها - لسوء الحظ - لم تدم لأسباب سنوردها في حينها.
هذا، ولقد رأى رجال المجلس حفظهم الله أن الوظيفة الروحية الشريفة المنيفة أرفع شأنا وأسمى مقاما من أن يتفرغ صاحبها للنظر في الشئون العالمية والمصالح الدنيوية؛ بناء على أن الدين والعقل والنقل والاختبار يقضي بذلك، فقرروا في إحدى جلساتهم أن يناط بتلك الأعمال وهاتيك الأشغال بعض أفراد الطائفة القبطية، الذين يجري انتدابهم للنظر في أمر الأموال والأوقاف، وخلافها من الأمور التي هي من هذا القبيل، ورفعوا صورة هذا الاقتراح إلى غبطة البطريرك لأخذ رأيه، فصدق عليها بخطه وختمه، ووافقهم على تنفيذها وأجراها، وهكذا ما زال المجلس المذكور ناهجا منهج الاعتدال وسائرا على محور السداد والكمال، ينشر القرارات ويباشر الإصلاحات وينظم المدارس ويصلح الكنائس ويفتقد الفقراء، إلى غير ما ذكر من المآثر الحسناء والمناقب الغراء، وهو مع ذلك يوالي اجتماعاته، ويعقد جلساته بدون توان ولا انقطاع، ولم يكن هناك اختلاف ولا نزاع؛ إذ كانت الآراء تقدم والملحوظات تبدى، والحكم فيها يكون طبقا لسنة الأغلبية والإجماع.
ولكن لما كان شأن القلوب التقلب، وعادة الأفكار التغير والتضارب، طرأت بعض اختلافات جزئية بين غبطة البطريرك، وبعض حضرات أرباب المجلس، وذلك بعد تولي غبطته مسند الرئاسة ببضعة أشهر؛ يعني في أواخر سنة 1591. أما هذه الاختلافات فكانت دائرة وقاصرة على بعض مناقشات شخصية محضة ليس إلا، لا دخل لها في أشغال المجلس، وتلك أمور لا يخلو الحال من وجودها، ولا يبعد على الظروف أن تأتي بمثلها، فنشأ عن ذلك عدم انعقاد جلسات المجلس، وانحلال المدرسة الإكليريكية التي ألمعنا عنها.
أما أرباب المجلس فاقتضت حكمتهم وأبت شهامتهم ونخوتهم إلا أن ينحسم هذا الخلاف وتعود المياه إلى مجاريها، فبعدما تداولوا مليا في الطرق الموصلة إلى ذلك، عقدوا أخيرا المجلس في يوم 10 أبيب سنة 1591، وباتحاد آراء الجميع وإجماعهم أصدروا قرارا مؤداه عدم التصريح لأحد من أعضاء المجلس أو رئيسه «البطريرك» أن يجري بانفراده عملا متعلقا بالمجلس، ووجوب إعادة المدرسة الإكليريكية، وتسليم النقدية للخواجا عوض سعد الله. وقد صادق على ذلك غبطته بخطه، وبهذه المثابة تمكنوا من نزع أسباب النزاع، وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه، فعم العموم حينئذ الفرح والمرح، وانقشعت غياهب الكدر والترح؛ إذ أعطي القوس باريها، وأسكن الدار بانيها، ولما صفت سماء القلوب من سحائب الهموم، وتنقت من شوائب النفور وغيوم الغموم، وضربت الطمأنينة والسكينة أطنابها في جميع الأفئدة المتباعدة المتنافرة؛ فصيرتها متقاربة ومتحابة متضافرة، عاد حينئذ الإصلاح يوالي السير الهوينى، وأمل الكل تمام الخير والنجاح ودوام الصلح والفلاح، ثم كتب غبطة البطريرك إلى جناب الأب الفاضل والأغومانوس الكامل فيلثاوس يستنهض همته، ويستفز غيرته لإعادة المدرسة الإكليريكية وبث روح التعليم فيها كما كانت في المدة الماضية.
كل ذلك يجري والقوم وقوف ينظرون إلى ذلك بعين الإعجاب والبشر؛ مبتهلين إلى الله جل جلاله أن يعيد الألفة والوفاق، ويمنع أسباب النفرة والشقاق، على أنه لم يكن يخطر على بال أحد أن وراء السويداء شياطين وأفاعي يمقتون هذا الإصلاح الخيري - لغاية في النفس - ويبذلون قصارى جهدهم في تقويض أركانه وهدم بنيانه الوطيد، لا ذمة عندهم فتبكتهم، ولا ضمير لهم فيوبخهم، ولا هم من تلقاء أنفسهم يرعون ويرتدعون، أولئك قوم طمس الله أبصارهم وأعمى بصائرهم، فأصبحوا ولا هم لهم إلا هدم ما بناه غيرهم، فلا هم ينفعون ولا هم يكفون، كأنهم المقصودون بالذات من قول الكتاب، لا يدخلون ولا يدعون الداخلين يدخلون، فهؤلاء القوم الأغبياء الذين دبت فيهم روح البغضاء والشحناء من جهة أرباب المجلس، طفقوا يحضون غبطة البطريرك ويحرضونه على عدم موالاة انعقاد المجلس، فرضخ لمشورتهم وأذعن لمقترحاتهم عن طيب خاطر وبساطة ضمير، ولا تعجب أيها الحبيب من فوز هؤلاء الأغبياء؛ فإن لهم اليد الطولى في التداهن والدهاء، والتلون الذي يفوق تلون الحرباء، ومن كانت هذه صفاتهم وأوصافهم فليس ذلك الأمر ببعيد، بل هو أقرب إليهم من حبل الوريد؛ ومن ثم عاد الانقلاب السريع والتغير الحثيث؛ فوقفت حركة أعمال المجلس، وانحلت المدرسة الإكليريكية الكلية ثانيا، وأمر البطريرك وجزم وصمم على عدم وجود المجلس مطلقا، وذلك كله إنما نشأ من تأثير آراء مشيريه المتلونة، واقتراحات مدبريه الخبيثة التي أخذت من قلبه كل مأخذ، وقانا الله من نفاق المنافقين ومكر الماكرين.
أما جمعية الإصلاح التي نوهنا عنها آنفا فانتهزت هذه الفرصة وطفقت تحرر النشرات وترسل الخطابات إلى الفريقين تارة سرا وطورا جهرا، تحثهم فيها على نزع أسباب الخصومات، ورفع دواعي المشاحنات والعداوات، والعود إلى الوفاق والاتفاق، وكذا بعث أيضا المرحوم إسماعيل باشا المفتش تذكرة غير رسمية يحض فيها غبطة البطريرك على الالتئام والوئام مع المجلس، فأذعن غبطته أخيرا مرضاة لخاطر سعادته، ولكن كان هذا الإذعان وقتيا ثم عاد إلى ما كان عليه؛ فذهبت جميع هذه المساعي أدراج الرياح، وهكذا أخذ الخطب يتفاقم والخصام يتزايد ويتعاظم، فأهملت الشئون وتوقفت حركة الإصلاحات الطائفية وانحل المجلس انحلالا كاملا.
النهضة الثانية
من يرضى بالذل والخذلان أو من يتحمل الهوان والامتهان إلا الخسيس الجبان الذي منعت عنه قوة الإدراك والتمييز، ونزعت منه حاسة الشعور والإحساس؟! أو من العقلاء يرى أن غيره من الخلائق في صعود وسعود ويرضى لنفسه بالتأخر والتقهقر؟! لعمري إن نفوس الأحرار الأبية تأبى ذلك كل الإباء، وتصبوا إلى مجاراة الفضلاء والنبلاء، ومباراة الرجال الكرام العظام، سنة الشهامة من قديم الأزل، وهيهات أن تجد لسنة الشهامة الغريزية تغييرا أو تبديلا. تلك كانت مبادئ بعض فضلاء الطائفة بعد انحلال المجلس الملي وسقوطه في هذه الدفعة الثانية، تلك السقطة التي هلعت لها قلوب أحباء الخير ونصراء الإصلاح، وجزعت من هولها أفئدة زعماء الحق ودعاة الصدق، الذين آلوا على أنفسهم وأخذوا على عهدتهم أن لا يألوا جهدا ولا يعلوا مهدا، ما لم يروا طائفتهم تضارع غيرها من الطوائف المتمدنة المتقدمة شأن الغيورين الأحرار الذين يفضلون «النار على العار».
ففي سنة 1883 - أي عقب إطفاء وانقضاء الثورة العرابية الشهيرة - نهض هؤلاء الفضلاء نهضة ثانية يطالبون بحقهم المسلوب منهم ظلما وعدوانا.
فلما توقع منهم غبطة البطريرك ذلك، عقد العزيمة على عدم تلبية دعوتهم وإجابة طلبهم «مهما أفضى الحال» وكان ذلك بناء على ما أشار به عليه مشيروه أرباب الخداع والدهاء، فلما علموا ما انطوى عليه ضمير غبطته، ومن كان على شاكلته وعلموا أن مطالبتهم هذه لا تجديهم نفعا عمدوا إلى الاجتماعات والمداولات؛ عساهم يتمكنوا من تنفيذ مآربهم وتتميم رغائبهم، فاجتمعوا في غاية طوبة سنة 1599 قبطية الموافق 6 فبراير سنة 1883 مسيحية، اجتماعا عموميا حضره عدد يتجاوز المئة وعشرين شخصا من وجهاء ونزهاء ونبهاء الطائفة، المهذبين العارفين طريق الإصلاح الحقيقي، وفي مقدمتهم سعادة بطرس باشا غالي، وحضرات البكاوات الموقرين، ولما استقر بهم الجلوس خاطبهم سعادة الباشا بما مؤداه أن الغرض من هذا الاجتماع هو المداولة والمفاوضة في طريقة ناجعة ووسيلة نافعة، تمكنهم من إعادة المجلس، فأجمع الجميع على وجوب المبادرة إلى ذلك، ثم اتفقوا على إحاطة غبطته بما ارتأوه من الآراء السديدة والاقتراحات المفيدة؛ فأبى كل الإباء، وأخيرا اجتمع أكابر الشعب القبطي وعرضوا المسألة على دولة رئيس النظار المرحوم شريف باشا الذي عرضها على سمو الخديوي الأعظم المغفور له محمد توفيق باشا، فاقتضت إرادته الكريمة صدور أمره العالي للمرحوم الباشا رئيس النظار في 4 جماد أول سنة 1300 / 13 مارس سنة 1883 نمرة 1 الناطق بوجوب تشكيل المجلس، ولما صار تبليغ هذا الأمر الكريم لغبطة البطريرك لم يسلم في مبدأ الأمر، فانتدب البعض من أبناء الطائفة لتفهيمه بما ينبغي عن لزوم الإذعان لأوامر الجناب العالي، فلم يعرهم إلا أذنا صماء؛ فكانوا كمن يضرب في حديد بارد، ثم حرر خطابا لدولة الباشا رئيس النظار جوابا على ما صدر منه، مؤداه أن العادة المعتادة منذ القدم بأن لا يكون لهذه الطائفة مجلس لأنه لا لزوم له، وأن ذلك يخالف القواعد الدينية والعقائد الكنائسية ... إلخ.
ولكن فضلا عن كل ذلك لم تعر الحكومة أقواله جانب الالتفات، بل صدر أمر آخر يقضي بتكرار التنبيه عليه بإطاعة الأوامر العلية وتشكيل المجلس، فأذعن أخيرا رغما عنه، ثم بعث برقاع الدعوة الرسمية لأبناء الطائفة للحضور بالدار البطريركية، وكان ذلك في أيام الصوم المقدس 14 برمهات سنة 1599، وقد حضر هذه الحفلة غبطته بذاته مصحوبا بأحد الأساقفة، وبعد تقديم الدعاء للعزة الإلهية، خاطب الجمهور بما مؤداه أنه من حيث إن أعيان الطائفة رغبوا تشكيل المجلس كالسابق، وطلبوا ذلك من الحكومة السنية كنا افتكرنا تأخير ذلك، حيث إننا الآن في أيام الصوم لكن اقتضى الحال لصدور أمر أفندينا؛ فطاعة للأمر - حيث كل منا يلزمه إطاعة الأوامر الخديوية - لزم اجتماعكم لانتخاب أعضاء ونواب المجلس. ثم نهض سعادة الباشا وأظهر للحضور الغرض الأصلي من هذا الاحتفال، وأردف كلامه بالدعاء لسمو الخديوي المعظم ووزرائه الفخام، وتلا خطاب دولة رئيس النظار السابق صدوره لتبليغ الأمر العالي؛ ومن ثم أخذ كل من الحاضرين ينتخب من يرى فيه الجدارة واللياقة، ثم عرضت صورة الانتخاب على الجناب العالي فصدق عليها.
وعلى هذا النسق وذاك النمط تم انتخاب المجلس في الدفعة الثانية بهمة هؤلاء القوم الأفاضل المحترمين، وأولئك السادة المصلحين الموقرين، الذين لم يتمكنوا من نوال بغيتهم والحصول على أمنيتهم إلا بعد العناء الشديد والجهد الجهيد؛ ومن ثم سارت الأعمال ثانيا على محور الاستقامة وكمال الاعتدال، ولكن أبى الدهر إلا أنه يعاكس هذه الطائفة المنكودة الحظ فقيض لها شياطين آخرين لا ذمة عندهم ولا دين، طفقوا يوغرون صدر غبطة البطريرك ويثيرون خاطره ضد المجلس؛ حتى تمكنوا من نوال غرضهم الخبيث، فانقطع غبطته عن حضوره، ثم أخذ التواني والتراخي يزداد رويدا رويدا حتى تأخرت الجلسات وتوقف سير القرارات، وبالإجمال عومل هذا المجلس اللاحق بما عومل به المجلس السابق؛ حتى كاد يبطل وينحل رأسا، فكانت العوامل المحرضة لغبطة البطريرك على مقته وإيقاف حركته هي نفس العوامل التي أدت إلى انحلال المجلس الأول - أي دسائس ذوي المآرب الشخصية والرغائب الذاتية - حمانا الله من خداع كل مكابر ومهاتر، ووقانا من شر الخادعين المنافقين الذين باعوا دينهم بدنياهم.
النهضة الثالثة
من تعود على عادة خصوصية صارت ولا شك له عادة ثابتة، وملكة راسخة لا تمنع عنه ولا تنزع منه، ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء، ومن تطبع على شيء وشب عليه صار هذا التطبع فيه طبعا ملازما له، ووضعا خاصا به، فهكذا كان الحال مع نبلاء الطائفة القبطية وأغبياء الطغمة الإكليريكية؛ فإن كلا الطرفين كانا مصرين على السير في خطتهما وعدم العدول عن منهجهما.
أما الفريق أو إن شئت قل الحزب الأول يعني أحباء الإصلاح؛ فكانوا لا يرون بدا من إعادة المجلس نظرا لما ظهر لهم منه من النفحات الجلية المفيدة، والثمرات العديدة الحميدة. فبعد أن استمر تعطل المجلس الأول، وانحل أو كاد ينحل، وأهملت الإصلاحات والتنظيمات، وألم بالطائفة ما ألم بها من الآفات، واعتراها عندئذ ما اعتراها من العاهات؛ شق هذا الأمر على سادتنا المصلحين، فلعبت بهم عوامل الغيرة، واستفزتهم بواعث النخوة، فعقدوا النية على انتشال أمتهم من هذه الوهدة العميقة، ولكنهم كانوا يخفون آراءهم ومبادئهم تحت طي الانتظار ظنا منهم بأن الحالة ربما انصلحت من ذاتها، بدون تكبد تعب أو تجشم نصب، ولكن عيل أخيرا صبرهم، ولم يجدوا للكظم والتجلد سبيلا، فنهضوا نهضة ثالثة هي النهضة الأخيرة الشهيرة، التي كانت لها طنة ورنة دوى صداها في الآذان، ولم يسمع بمثلها في كل زمان ومكان، وقد كثر في شأنها القال والقيل، وكتبت بخصوصها المقالات الضافية، ونشرت النشرات المفحمة الشافية، ودونك أيها القارئ اللبيب تفصيل تلك النهضة الثالثة تفصيلا كاملا شاملا.
إنه بعد مضي ثماني سنوات على انتخاب المجلس في الدفعة الثانية كما مر، لم يأت بالنتيجة المقصودة بالذات من وجوده؛ نظرا لعدم رضا غبطة البطريرك عنه، وسعيه في إبطاله وانحلاله، وناهيك أن مدة أربابه كانت قد انتهت وقتئذ قانونيا، فلم يرق هذا التواني الزائد والتراخي الذي تجاوز الحد في أعين الكثير من نبلاء الأمة ونبهائها الغيورين على مصلحتها وإصلاح شئونها، فنهضوا نهضة ثالثة يطالبون بحقهم المقدس ويطلبون تجديد الانتخاب لما اتضح لهم، وظهر أمام أعينهم من الإصلاحات الخطيرة التي قام بها في الماضي خير قيام.
وفي يوم 23 بئونة سنة 1607 قبطية تجمهر منهم جمهور معتبر، مؤلف من نخبة أعيان ووجوه الملة ونبهائها، وحضروا إلى البطريكخانة لمخابرة غبطته بهذا الصدد، ولكن لما كان «سيدنا» قد أصبح يشمئز ويستنكف من اسم المجلس، دار الكلام بينهم وبين غبطته مدة من الزمن على غير جدوى.
ولم يكتف غبطته برفض طلبهم وعدم إجابة دعوتهم، بل حرر أيضا للمعية السنية ولرئاسة مجلس النظار - بناء على ما حسنه لديه الماقتون للمجلس الناقمون عليه - بما شاء من التنديد بالمجلس والطعن فيه وعدم لزومه بالأصالة. أما حضرات أرباب المجلس - أو بالحري متطلبو المجلس - ومن وافقهم على ذلك من نوابغ الأمة ونخبتها، فبالنسبة لتغيب سعادة الباشا الوكيل في أوروبا وتأكدهم من حقد البطريرك على المجلس ولعلمهم بأن البند «32» من لائحة المجلس المشرفة بالأمر العالي مصرح به «أنه عند غياب الرئيس أو وكيله في وقت لزوم الاجتماع يتولى رئاسة المجلس مؤقتا من ينتخبه الأعضاء» فقد رأوا ضرورة الاجتماع طبقا لهذه المادة وانتخاب من يلزم، وبعد أن أجري الانتخاب آل أمر الرئاسة المؤقتة إلى المرحوم الطيب الذكر سعد بك ميخائيل.
ولما أصبح المجلس في حالة منتظمة عقدوا النية على أن يجمعوا جمعية عمومية مؤلفة من نخبة الطائفة بالدار البطريركية، تكون بمثابة لجنة عمومية يرأسها غبطة البطريرك لتجديد الانتخاب بطريقة منتظمة محكمة لا تقبل نقضا ولا إبراما، وكانوا يظنون أن البطريرك يتعطف ويتنازل لإجابة دعوتهم في هذه الدفعة، ولكن خاب ظنهم وساء فألهم؛ إذ إن غبطته حفظه الله ريثما علم أنهم عزموا على ذلك وشرعوا في توزيع رقاع الدعوة، بادر بتحرير رسالة لسعادة محافظ مصر الأكرم، يقول له فيها بأن هذا الاجتماع سيتأتى منه ما يخل بالنظام العام، ويطلب من سعادته إرسال بعض أنفار البوليس حفظا ووقاية له من غدر أبنائه «تأمل! تأمل!» وبما أن واجبات المحافظ تقضي عليه بإجابة مثل هذه الطلبات؛ فقد أرسل رأسا إلى غبطته عددا من أنفار البوليس. أما حضرات أرباب المجلس المحترمون الموقرون فحفظا للكمال وحسما للقيل والقال، امتنعوا هم وإخوانهم المصلحون عن الاجتماع بالأصالة، فلم يقتنع غبطة الأب البطريرك الصالح والراعي الغيور بكل ذلك، بل زاد الطين بلة ووسع الخرق على الراتق؛ إذ لم يكتف برفض طلبهم وتوغير الصدور عليهم، والاستنجاد برجال البوليس على منعهم، بل حرر أيضا إلى جميع المطارنة والأساقفة ورؤساء الأديرة يطلب إليهم الحضور إلى الدار البطريركية. ولم يكن جل قصده من هذا الاجتماع تعديل بعض مواد اللائحة - كما ادعى أولا - بل لكي يستعين بهم على محو آثار المجلس وإطفاء أنواره، فلما اجتمع بهم جميعا طلب إليهم أن يؤازروه ويشاطروه في تنفيذ أغراضه السيئة، فلم يسعهم إلا الرضوخ والإذعان، فحرروا القرار الحكمي المشهور ضد إيجاد المجلس، وسموه بالقرار الإكليريكي، وليس في هذا القرار ما يهم ذكره؛ إذ كله يفيد أن العادة لم تكن جارية في انتخاب مجالس، وأن المجلس مخالف للدين إلى غير ذلك من الخرافات والخزعبلات الصبيانية، ويسرنا هنا أن نقول بملء السرور والانشراح إن البعض من المخلصين الصادقين الذين يقولون الحق وينادون بالصدق على رءوس الأشهاد، غير خاشين في تقرير الحقيقة على علاتها لومة لائم من نفس الإكليروس الذين استحضرهم جنابه، رفضوا موافقته على تحرير هذا القرار مثل جناب القمص الموقر الأغومانوس فيلثاوس وحضرة الفاضل القمص بطرس رئيس كنيسة الملاك بالدير البحري. أما الباقي فأمضوا على هذا القرار - وربما كان أغلبهم يجهل ما فيه - وذلك مرضاة لخاطر رئيسهم وأبيهم؛ مفضلين بيع الذمة والدين والشرف - إن كان عندهم دين أو شرف - على رفض طلبه، غير عالمين أنهم سيقفون يوما ما أمام عرش الديان ويسألون عما جنت أيديهم يوم لا تنفعهم شفاعة غبطته ولا هم يعافون، ولسوف يعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون.
وفي اليوم التالي لإنهاء هذا القرار الملفق توجه حضرة البطريرك يصحبه بعض الآباء الرؤساء إلى الإسكندرية؛ ليعرض على المسامع الكريمة والأعتاب الخديوية الفخيمة مرغوباته المعلومة «لأن الخديوي المرحوم توفيق باشا كان مشرق الثغر وقتئذ»، ولكن لما كان سمو الأمير رحمه الله أسمى معرفة من أن يجهل كنه هذه المسألة التي صدرت عنها أوامر خديوية سابقة؛ لم يعر هذه الطلبات جانب الالتفات، ولم يكترث بتلك الترجيات العديمة الثمرة، بل كان مضمون نطقه الشريف وجوب العمل بمقتضى الأوامر الخديوية الماضية .
وفي هذه الأثناء تشرف جملة من أرباب المجلس بالمثول بين يدي سموه، وسمعوا بآذانهم النطق الكريم بما يفيد تأييد استمرار المجلس؛ طبقا للأوامر العلية واستحسان مصالحة جناب البطريرك على هذه الصفة، فقدموا جميعا واجبات الشكر، وفرائض الإخلاص والعبودية للحضرة الفخيمة الخديوية، وانصرفوا وكلهم ألسنة تلهج بالثناء وتكرر عبارات المديح والدعاء.
ولما عاد سعادة الباشا من أوروبا ورأى ما رأى وعلم ما علم، اقتضت حكمته وسياسته أن يوفق بين الطرفين المتنازعين؛ لعلمه بأن هذه أنجع وسيلة وأنفع طريقة تؤدي إلى رفع شأن الملة، وإتمام الإصلاح المقصود بالذات، فتمكن بما جبل عليه من الحزم والعزم والهمة والحكمة إلى إزالة الخلاف والشقاق، وإعادة الائتلاف والوفاق. وفي يوم 22 بابة سنة 1608 اجتمع أرباب المجلس يتقدمهم سعادة الباشا المومأ إليه بالدار البطريركية، وعقدوا جلسة حضرها غبطة البطريرك وترأس عليها، وبهذه الجلسة نفسها أعلن الصلح والصفاء بين غبطته وأبناء أمته، ولكن لما كان هذا الإخماد وقتيا ظاهريا فقط، لم يلبث أن تبدل ثانيا؛ إذ عاد جناب البطريرك إلى نفرته وبغضته للمجلس وعدم ميله إليه بالمرة، وقد بذل حينئذ وجهاء الطائفة ونبهاؤها وفي مقدمتهم «جمعية التوفيق» الموقرة الغيورة التي كانت برزت وقتئذ تختال في حلل العدالة، وترفل في ثياب الحرية، وتجر مطارف الغيرة والمروءة، فحلت محل جمعية الإصلاح التي مر ذكرها في تاريخ النهضة الأولى وقامت مقامها، ولكن لم يجد ذلك كله نفعا، بل ذهبت تلك المساعي جميعها هباء منثورا؛ لأن غبطته ومن كان على شاكلته من زعماء الفساد ونصراء الخراب والدمار قد اجتمعوا وصمموا على رفض قبول المجلس رفضا قطعيا. وناهيك ما نشرته جمعية التوفيق المذكورة في تلك الأثناء من النشرات المفحمة والمقالات المردعة المقنعة، التي كان الغرض من نشرها على أبناء الأمة رفع القناع ونزع النقاب عن محيا الحقيقة؛ تنويرا للأذهان وتقريرا للحقائق، ولكنها لم تكن إلا لتزيد هؤلاء الأغبياء تكبرا وتجبرا؛ فقد أبوا إلا تكدير صفو راحة أمتهم وعدم الانقياد لصوت الحق الصادح.
ولما تفاقم الخطب وتعاظم الكرب عرضت هذه المسألة أخيرا على الحكومة السنية عقب وفاة الخديوي المرحوم توفيق باشا، فلما وقف سمو الأمير الخطير، والمولى الحازم البصير خديوينا العباس - حفظه الله - على كنه هذه المسألة وماهيتها من بدايتها إلى نهايتها؛ تفضل بصدور أمره الكريم، القاضي بإعادة تجديد انتخاب المجلس بحضور مندوب من قبل الحكومة، وقد تم ذلك الانتخاب فعلا بالدار البطريركية بطريقة علنية رسمية، بحضور الجم الغفير والسواد الأعظم من أبناء الأمة بالعاصمة، وعدد عديد أيضا من جهات الأرياف الذين وفدوا إليها لهذه الغاية نفسها.
ولما انتظم عقد هذا الاحتفال الحافل قام سعادة المحافظ، وأفصح للحضور عن الغرض من الاجتماع فقال ما مؤداه:
إن رغبة أمير البلاد في راحة وتقدم رعيته اقتضت أن يكون لهذه الطائفة القبطية مجلسا ينظر في شئونها، ويدير مصالحها؛ أسوة بغيرها من الطوائف، بناء على طلب وجوه وأعيان تلك الأمة؛ ولذا أصدر أمره الكريم بانتخاب اثني عشر عضوا ومثلهم نوابا لإدارة حركة هذا المجلس، وقد أرسل سعادة إلياس بك إدوار مشيرا إلى مندوب الحكومة لحضور هذا الاحتفال بمثابة مندوب من قبل حكومة الجناب العالي، فما عليكم أيها السادة الحضور إلا أن تنتخبوا من تجدوا فيه الجدارة والأهلية بكل سكينة وحرية. فريثما تلا سعادة المحافظ هذه العبارة الموجزة المعجزة ضج الحضور بالدعاء لسمو الخديوي المعظم والثناء على همة حكومته السنية الساهرة على راحة رعاياها المخلصين لها، والمحافظين على ولائها سرا وجهرا، ثم شرعوا في الانتخاب وأمارات الانشراح والارتياح تلوح على محياهم إلى أن تم هذا الانتخاب على أعظم نسق وأحكم أسلوب، ثم تليت أسماء المنتخبين على مسامع الحاضرين فقابلوها بالتصفيق والتهليل.
وعند الختام هتف الكل صارخين مبتهلين من صميم أفئدتهم: «ليعش أفندينا ليدم خديوينا.» ثم قفلوا راجعين وقد أخذ البشر والحبور من قلوبهم كل مأخذ مؤملين أن يكون ذلك الانتخاب خاتمة تلك الأتعاب، ونتيجة هاتيك الأنصاب. ولما عرضت صورة هذا الانتخاب على الأعتاب الخديوية صدر الأمر الكريم بتأييدها وتثبيتها، وبعدئذ دعي غبطة البطريرك للترؤس على المجلس فأبى وحرر من الإسكندرية لحضرات الأعضاء يقول لهم إنه لا يرغب وجود المجلس، ولا يروم الترؤس عليه على الإطلاق، فقضت حينئذ الضرورة - والضرورات تبيح المحظورات - أن اجتمع المجلس وقرر نزعه من الرئاسة ومن إدارة شئون الطائفة أيضا، وانتخاب وكيل يقوم مقامه، فصدرت الإرادة السنية بالتصديق على ذلك، وكذا اجتمع أيضا المجلس الملي مع الروحي الذي تشكل مؤقتا وقرر أنه: «بناء على إصرار البطريرك وعناده وعدم انقياده لأوامر الحكومة، وحيث ثبت أن المغري له على إتيان هذا العصيان هو مطران الإسكندرية، فمراعاة لاستتباب الراحة العمومية وعدم تكدير النظام العام، وخدش الآداب القومية، ومنع الشقاقات الداخلية؛ تقرر إبعاد أنبا كيرلس البطريرك إلى دير البرموس ببرية شهاة، وهو الدير الذي كان راهبا فيه لإقامته به وعدم مبارحته إياه إلا بأمر الحكومة السنية، وكذا إبعاد مطران الإسكندرية إلى دير أنبا بولا بالجبل الشرقي.» وقد صدر الأمر السامي مؤيدا ذلك بتاريخ أول سبتمبر سنة 1892، وقد تم ذلك كله فصفا الجو بعد أن كان معكرا مكفهرا، وعاد الصفو والسكون بعد أن كان نائيا ومغادرا، فطفق المجلس يدير الأعمال ويدير الأشغال بكل همة ونشاط، حتى إنه في خلال ستة أشهر أصدر تقريرا بين فيه ما آتاه في خلال هذه المدة القصيرة من الإصلاحات الخطيرة، وكان رئيسه وقتئذ الأب الفاضل والحبر الموقر الكامل نيافة الأنبا إثناسيوس أسقف كرسي صنبو المترشح لهذا المنصب السامي والمركز الرفيع، بناء على طلب أعضاء المجلس الموقر بعد تصديق الحكومة السنية.
ولكن لم تلبث المسألة أن انقلبت انقلابا غير منتظر؛ وبيان ذلك أن الوزارة المصرية تغيرت وقامت بعدها وزارة جديدة هي الوزارة الرياضية، فانتهز أعداء الإصلاح هذه الفرصة المناسبة وطفقوا يعرضون العرائض ويقدمون الطلبات، ملتمسين العفو عن غبطة البطريرك وإعادته إلى رتبته، فبعد أن تفاوض دولة الوزير الخطير مع أغلب نخب هذه الطائفة وفي جملتهم أرباب المجلس أجاب أخيرا طلبهم، فصدر الأمر الكريم بإرجاعه إلى منصبه، وكذا إرجاع المطران الإسكندري إلى مركزه بشرط أن لا يعودا إلى مثل هذا العصيان والطغيان.
ولما عاد البطريرك الموقر مصحوبا بالصحة والسلامة إلى مركز وظيفته تنبهت عندئذ الأفكار، وتوجهت الأنظار، وشخصت الأبصار إلى ما عساه يحصل بعد هذا التقلب العجيب والتغير الغريب؛ فكان بعضهم يظن أن غبطته لا بد وأن يذعن لمقترحات أبناء طائفته ويرضخ لأوامر حكومته. وكان يتوهم البعض الآخر أنه لا يحيد عن جادته ولا يقلع عن خطته، بناء على ما ظهر من التشبث والاستبداد الذي كان سببا في احتدام هذا الخصام وإضرام نار ذاك الخلاف، وهكذا كنت ترى القوم ما بين مصدق ومكذب ومحقق ومرتاب، تاركين القول الفصل والحكم القطعي في هذه المسألة لمجريات الأحوال وصروف الظروف؛ لعلمهم أن المستقبل أبو العجائب والغرائب، فلربما يأتي بما لم يكن في الحسبان؛ إذ ليس على الدهر شيء بعيد الاحتمال والإمكان.
وأول حركة أمل الجميع منها كل بركة، وأيدت قول القائلين بأن غبطة البطريرك سينقاد انقيادا مرضيا، هو ما رآه رجال المجلس ورئيسهم الموقر أنبا إثناسيوس ورجال جمعية التوفيق الموقرة من إكرام غبطته لهم وإحسان وفادتهم، فضلا عن مصالحتهم ومصافحتهم علانية على مرأى ومسمع من الجميع؛ الأمر الذي أحيا ميت آمالهم وانتشلهم من وهدة يأسهم وقنوطهم، فخرجوا من عنده فرحين مسرورين مستبشرين مبتهلين إلى بارئ النسم ورب الجود والكرم أن يديم الحال على هذا المنوال، ولا يصرم حبل تلك الأماني والآمال على ممر الأحقاب والأجيال.
ولكن لما كانت سنة الدهر الغدر وطبيعة الزمن الاعتساف والجور، أبى إلا حرمان أحباء الإصلاح من نوال هذه الأمنية والحصول على تلك البغية؛ إذ قام بعدئذ غبطة البطريرك وحزبه ثانيا ينادون بالويل والثبور، طالبين محو آثار المجلس الملي الغيور الذي لم يجترم جرما ولم يقترف إثما، بل لا ذنب له إلا غيرته على المصالح الملية والصوالح الطائفية، ولا عيب فيه سوى اهتمامه برفع منار الطائفة وإعلاء شأنها عمل تقتضيه المروءة وتستلزمه الذمة، ولكن أين من يتدبر ويتبصر وقد عميت الأبصار وطمست البصائر، ويا ليت إفساد هؤلاء المفسدين كان قاصرا على السعي في إحباط أعمال المجلس وإثباط عزائم رجال التوفيق والإصلاح، بل قد تطاولوا تطاولا زائدا، وحادوا عن جادة الصواب والاعتدال جدا؛ إذ قاموا ينادون بعدم لزوم الوعظ في الكنائس ، كما أنبأت الجرائد المحلية وكما جاء ذلك مفصلا في رسالة «البراهين القوية» التي أصدرتها جمعية التوفيق الأسيوطية؛ إذ لما رأى إخواننا الأقباط الأسيوطيون - وما أدراك من هم - هذا الأمر المعيب المشين، قاموا جميعا ينادون برفض هذا الاقتراح الذميم المشئوم، ويشددون النكير على من ارتأى هذا الرأي الوخيم النتائج، فتليت الخطابات الطنانة الرنانة، ونشرت النشرات العديدة المفيدة التي أدهشت بحسن رقتها ودقتها العقول، ونخص بالذكر منها رسالة الجمعية الأسيوطية التي ألمعنا عنها؛ فإنها أكدت القول وأيدت الموضوع بالبراهين العقلية والنقلية التي أسكتت الخصم، ووضعت في فم المعارض حجرا ضخما حتى جعلته أبكم أصم غارقا في بحر الوهم الخضم.
فانظر وتأمل أيها القارئ النبيل إلى هاتيك الأعمال، ثم احكم بما يتراءى لك؛ فإن الله تعالى لا يحب الإفك ولا يرضى بالضلال. ومما يدل على خبث نية هؤلاء المفسدين أيضا تحرير القرار الإكليريكي الشهير، الذي أتت جمعية التوفيق المركزية الموقرة على دحض ونقض ما انطوى واحتوى عليه من الأراجيف والتمويهات والترهات والتلفيقات في رسالتها «دفع الوهم عن بسيط الفهم»، ومن الغريب أن هذا القرار قد عمل عقب إرجاع غبطة البطريرك من الإبعاد، فكان باكورة إصلاحاته ونفحاته التي عمت وشملت أبناء طائفته صغيرهم وكبيرهم خطيرهم وحقيرهم. فانظر وتأمل!
وبعد مضي أمد ليس بمديد، صدر الأمر العالي الناطق بإعادة السلطة الإدارية إليه، التي كانت قد نزعت من غبطته عدلا وإنصافا، ولا تسل عما أظهره حزبه يومئذ من التظاهرات الصبيانية والإجراءات التغفلية، على أن نص الأمر الكريم يدل دلالة صريحة واضحة على إرجاع تلك السلطة إليه بشرط تعيين أربعة من أبناء الطائفة لمشاركته في تلك الأشغال الإدارية مؤقتا لحين تجديد الانتخاب، وهذه - كما لا يخفى على كل من لم يكن مصابا بمرض الغرض أو ألقى السمع وكان شهيدا - هي بعينها غاية وبغية رجال التوفيق والإصلاح قاطبة، وهو وجود المجلس الملي على كل حال إن عاجلا أو آجلا، وها هي لم تزل عاملة على إنجاز هذا التجديد المنتظر الذي ترجو وتؤمل أن يكون قريبا إن شاء الله تعالى.
الفصل التاسع عشر
رغائب الحزب التوفيقي ومآرب الحزب الإكليريكي
لقد ألمعنا - في الفصل السابق عند سياق الكلام على تاريخ نشأة النهضة الثالثة - أن الذين قاموا بها وكانوا سببا في إضرام نارها التي تأججت وعلا سعيرها، هم بعض نوابغ الأمة ونخبة الطائفة الذين دفعتهم عوامل الغيرة، واستفزتهم بواعث المروءة، فالتأموا معا واتحدوا جميعا لإتمام هذا العمل الجليل والمشروع الرفيع الخطير، وقد استصوبوا - حبا في نشر مبادئهم وتوجيه أفكار الجمهور إليهم - أن يطلقوا على أنفسهم اسم «جمعية التوفيق» الاسم الذي انتقوه دون غيره تفاؤلا وتيمنا باسم الحضرة الخديوية التوفيقية «لأن الجمعية قد تأسست في عهد سمو الخديوي الأفخم توفيق باشا» الذي رأت الجمعية من سموه - رحمه الله - من تمام الرضا عن مشروعها ما حدا بأعضائها إلى إطلاق هذا الاسم الكريم واللقب الشريف عليها.
أما الباعث الحقيقي والغرض الأصلي من تأسيس هذه الجمعية الإصلاحية الخيرية التي ظهرت بين ظهرانينا، وانتشرت في سائر أنحاء وأرجاء قطرنا، واشتهرت في جميع أصقاع وبقاع بلادنا، فهو إصلاح شئون الطائفة القبطية والسعي فيما يعود عليها بالنفع العميم والخير الجسيم. هذا ولقد رأت الجمعية بعد طول الاستقراء والاستقصاء، وزيادة التنقيب والتنقير أن أهم اللوازم المفتقرة إليها الطائفة، والمضطرة إلى إصلاحها كل الاضطرار منحصرة في ستة أمور لا سابع لها على الصحيح وهي: (1) تنظيم المدارس. (2) إصلاح الكنائس. (3) تنوير الإكليروس. (4) إحياء اللغة. (5) افتقاد الفقراء. (6) محو بعض العوائد القبطية السمجة القبيحة التي تمجها الأسماع السليمة وتأباها النفوس الأبية.
ولقد ظهرت نفحات أتعاب الجمعية وثمرات مساعيها في إصلاح أوجه الخلل الموجودة في جل هذه الستة أمور إن لم أقل كلها، كيف لا وهي هي أول من وجه الأنظار ونبه الأفكار إلى مدارسنا القبطية والنظر في أمر إصلاحها وتنظيمها، وقد حصل ذلك فعلا فأتي لها بأساتذة جهابذة ذوي إلمام تام، فظهرت نجابة الطلبة واكتسبت المدرسة سمعة كريمة وشهرة عظيمة وفخرا كبيرا. وهي هي أول من رفع صوته في الملأ صارخة ومنادية بتأخر إكليروسنا، وطالبة وجوب تنويرهم وتهذيبهم، فلم يسمع لندائها بادئ بدء، ولكن لم تلبث الطائفة أن شعرت بلزوم ذلك، وها قد سمعنا بإنشاء المدرسة الإكليريكية التي نرجو لها ومنها نجاحا تاما وإصلاحا مهما، وهي هي أول من قامت تنوب وتناضل عن حقوق إخواننا الفقراء الذين أناخ عليهم الدهر، فجعلهم هدفا لنباله الشديدة الوطيئة، وهي هي التي قالت بلزوم الوعظ في الكنائس ولو أسبوعيا على الأقل، وهي هي التي نهضت أخيرا وطلبت تشكيل المجلس وقد تم ذلك كله فعلا، إلى غير ذلك من الإصلاحات والنفحات الحميدة والثمرات العديدة المفيدة التي يحول دون سردها وتعدادها برمتها ضيق نطاق هذا الكتاب الصغير.
هذه هي رغائب جماعة التوفيق التي شرعوا في إنجازها، وسيقومون بأداء وإجراء أعظم منها في المستقبل إن شاء الله تعالى، أما الآن وقد علمنا تلك الرغائب ووعيناها فيجمل بنا إذن أن نميط النقاب عن مآرب الحزب الإكليريكي الواقف لها بالمرصاد كحجر عثرة في طريق تقدمها؛ حتى يتضح للقارئ ما انطوت عليه ضمائر أصحاب هذا الحزب من النوايا الخبيثة والمآرب السيئة فنقول: لا ريب أنه من كان حر الفكر منزها عن الغرض، يحكم لدى أول وهلة بأن هؤلاء القوم الذين تصدوا لمعارضة نصراء الإصلاح وإحياء الخير، لا بد وأن يكونوا من طبقة الجهلاء الذين لم يتثقفوا ويتنوروا، فكانت معارضتهم ومقاومتهم ناشئة عن جهلهم بمزايا وفوائد هذا الإصلاح، أو أنهم ربما كانوا يعرفون تلك المزايا والفوائد ولكنهم يتجاهلون معرفتها لغاية في النفس يرومون قضاها. وهذا القول ينطبق كل الانطباق على حضرات إخواننا المعارضين. أما القسم الأول يعني الذين يجهلون مزايا هذا الإصلاح وفوائده فهم كثيرون، ولكنهم من الطبقة السفلى الذين لا يعتد بهم ولا يعول عليهم، ولا يركن في أي أمر إليهم. وأما القسم الثاني - يعني الذين يعرفون ما سينجم عن هذا الإصلاح من الفوائد الجمة والمزايا المهمة، ولكنهم يتجاهلونها لغرض في النفس - فمآربهم مختلفة ونواياهم متنوعة باختلاف أحوالهم ومراكزهم؛ فمنهم من هم من أقارب غبطة البطريرك فتدعوهم دواعي القرابة لموافقته ومصادقته على كل عمل يبدو منه ظاهريا، ولو كانوا لا يستصوبونه باطنيا ، ومنهم من هم تحت إدارته وسلطته كبعض مستخدمي المدارس القبطية الذين تلجئهم حالتهم المعاشية أن يذعنوا لأوامره ونواهيه، ومنهم من كانوا من الإكليروس، وهؤلاء فضلا عن جهلهم وتغفلهم فإن شئون مراكزهم الكهنوتية تضطرهم للإذعان والرضوخ والطاعة العمياء، ومنهم من كانوا ينتفعون من بقاء الحالة على ما هي عليه لئلا يفتضح أمرهم وينكشف سر مكرهم وخداعهم، فيقعون في شر أعمالهم، ومنهم من أعمت الرشوة أبصارهم وبصائرهم، وأخذ رونق الدرهم الوضاح والذهب الرنان بمجامع ألبابهم وقلوبهم؛ فأصبحوا أسراء إحسان وكرم غبطة البطريرك الحاتمي، وصاروا ينادون بلسانه ويدافعون عن مصالحه.
على أننا لو سألنا ضمائرهم لقالت بعكس ما يقولون، ويندرج تحت هذا النوع الأخير بعض أصحاب الجرائد المحلية، ونخص منهم بالذكر حضرة التقي المتدين صاحب جريدة الوطن الذي أسدلت الرشوة على بصر بصيرته برقع التعصب فقام يجاهر بالعدوان ضد حضرات المصلحين الأفاضل، وإني أذكر هنا على سبيل الفكاهة نادرة جرت بيني وبينه جاءت شاهد عدل على صحة ما نقول، ألا وهي أني كنت كتبت بجريدة المقطم الأغر سؤالا بسيطا تحت عنوان «سؤال ذو بال» طلبت فيه من الذين يعنيهم أمر الإصلاح أن يجاوبوني عن: «ما هي المطبعة المقصودة بالذات من المادة 8 من لائحة المجلس الملي؟» فجاء جواب سؤالي في العدد التالي ومؤداه أن المطبعة المذكورة هي المطبعة التي هي تحت يد صاحب الوطن يطبع بها جريدته مجانا ... وقد وهبها له غبطة البطريرك - حفظه الله - على سبيل المكافأة لقيامه بخدمته خير قيام، فهال هذا الأمر أو بالحري كشف هذا السر المستقر صاحبنا صاحب جريدة الوطن، فانقلب علي بالهجو والقدح الذي كان برهانا آخر على صحة هذا الأمر، فألجأتني الضرورة - وللضرورة أحكام - أن أرسلت إلى جريدة المقطم رسالة أعربت فيها عن زيادة ارتياحي من الوقوف على هذه المسألة، وشكرت همة من أطلعني على حقيقتها، واستطردت القول إلى الرد على كلام صاحب الوطن - هداه الله - ولكن لسوء حظي لم تدرج رسالتي بالمقطم لأسباب لست والله أعلمها، وها أنا ألخصها لحضرات القراء النبلاء وهي بنصها:
حضرات أصحاب جريدة المقطم الأفاضل
أبعث إليكم برسالتي هذه وأنا أعلم علم اليقين بأن جريدتكم أرفع شأنا وأسمى مقاما من أن تكون محطا لرحال الطعن والتنديد، شأن جريدة عربية ساقطة الاعتبار تدعى جريدة الوطن التي امتهنها كبار القوم واستهجنها صغارهم؛ إذ أضحت ولا ديدن لها إلا السب والشتم والقدح والهجو، ولا هم لمحررها إلا اختلاق الأراجيف والتمويهات. وكأني بها قد آلت على نفسها أن لا ترتدع عن غيها وتعدل عن منهجها الذميم الوخيم، ولكن لا غرور ولا عجب فهي هي الرشوة تعمي الأبصار والبصائر، وقانا الله من شر كل منافق ومكابر مهاتر.
هذا ولقد كنت أنتظر بفروغ صبر عندما كتبت سؤالي الأخير بجريدتكم أن يقال لي إن صاحب جريدة الوطن يدفع أجرة مقررة على طبع جريدته بالمطبعة الأهلية للبطريكخانة القبطية، أو غير ذلك من الأعذار التي ربما كنا قابلناها بالقبول. ولكن يأبى الله إلا أن يحق الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا؛ فقد أنبأني في اليوم الثاني أحد أفاضل الأمة الذين يغارون على نصرة الحق، ويقررون الوقائع على علاتها، غير خاشين في تقريرها ونشرها لومة لائم «أو قدح منافق سفيه» أن غبطة البطريرك قد سلمها - أو بالحري - أهداها لحضرة إبراهيم أفندي الذي وهبها لصاحب الوطن، ولا يبعد أن نسمع يوما ما أن صاحب الوطن يجاهر على رءوس الملأ بأن هذه المطبعة من ضمن ممتلكاته الخصوصية، وما ذلك - وايم الحق - على مثله ببعيد.
وإني - وشرف الإنسانية - أعجب غاية العجب من ذلك؛ إذ كيف يسوغ لغبطة البطريرك أن يسلم أموالنا وأوقافنا لرجل ليس هو من طائفتنا ولا هو على شاكلتنا؛ فضلا عن كفره بنعمتنا وجحوده لجميلنا، فهل يوجد بعد ذلك دليل أقوى من هذا على تصرف أولئك القوم في أوقافنا تصرفا مطلقا يبددون فيها كيفما شاءوا ولا حساب هناك ولا عتاب، فحتام حتام لا نسعى في لم شعث أوقافنا التي تبدد أغلبها أيدي سبا. ألا قاتل الله الجهل والطمع فإنهما ولا شك سبب هذا الوبال الوبيل، وهل بعد ذلك يجوز لنا أن نقول أن ليس للمجلس الملي فائدة أو أن وجوده إن هو إلا بدعة من البدع أو ندعي «بغير تبصر وتدبر» أنه مخالف للدين والقوانين الكنائسية، ألا نخشى من الله! ألا نخجل من الحق! ألا نستحي من الناس! ألا تبكتنا ضمائرنا! مع أن المجلس لو كان موجودا أو منتبها لأعماله لما حصل مثل هذا النهب والسلب الذي ليس له في عالم الوجود مثيل. فالمجلس المجلس يا أبناء الطائفة القبطية! لا تقدم لنا إلا بالمجلس، ولا ترقي لملتنا إلا بالمجلس، ولا إصلاح لحالتنا إلا بالمجلس، ولا حفظ لأموالنا وأوقافنا إلا بالمجلس، ولا تنظيم لكنائسنا ومدارسنا إلا بالمجلس، ولا تنوير لإكليروسنا إلا بالمجلس، ومن أنكر علينا ذلك فليأتنا ببرهانه إن كان من الصادقين، وإلا فليصمت ويكف عن الادعاء بالباطل؛ فقد ظهر الحق لذي عينين، وهيهات أن تجد لإخفاء نور الحق الساطع سبيلا.
هذا ولا يسعني هنا إلا أن أختم عجالتي هذه بإبداء مزيد التعجب من تصرف جريدة الوطن، وملازمتها لجادة القباحة والوقاحة التي لم يعهد لها نظير؛ ولا غرو «فكل إناء بالذي فيه ينضح» وكل شجرة لا تثمر إلا ما عندها، فلا نجني من الحسك عنبا ولا من الشوك تينا، ولكن ليعلم صاحب الوطن، ومن كان على شاكلته من الذين باعوا ذمتهم بدراهم معدودة أننا لا نكف عن مطالبتنا بحقوقنا ما دام دمنا يجري في عروقنا، وها نحن واقفون له بالمرصاد نشهر ونفند تمويهاته واختلاقاته، وننادي بها على رءوس الأشهاد في كل صقع وناد، وإلا فليصمت ويلازم جادة الحيادة؛ فإن نخوتنا تأبى إلا إظهار نفاق المنافقين، والأمر الذي هو من الغرابة بمكان أن المشهور عن إخواننا الأمريكان أنهم قوم اتصفوا بكريم الشيم وجميل الشمائل، فكيف يرضون أن يقبلوا بين أعضاء كنيستهم رجلا هذه صفاته وتصرفاته؟! ألعلهم هم أيضا غير راضين عن أعماله؟! وإذا كان ذلك كذلك ولا نخاله إلا كذلك؛ فأناشدكم الله ماذا ينتظر من رجل كرهته الأقارب، ولم ترض عنه الأباعد ومقته القريب والغريب؟ ليحكم العادلون ولينصف المنصفون.
فهذه هي مآرب الحزب الإكليريكي الخبيثة، ورغائب الحزب التوفيقي الحميدة، لخصتها لحضرات السادة القراء، ولست أخالهم يجهلونها، ولكن عسى أن يكون في الإعادة إفادة، وها قد علم الكل البون الشاسع بين هذه الرغائب وتلك المآرب؛ إذ شتان بين المخلص المحب لخير طائفته، والمغرض الذي لا يهمه إلا قضاء بغيته ومصلحته، فهيهات هيهات أن يبلغ الضالع شأو الظليع أو تحاكي الثرى الثريا.
الفصل العشرون
حالة الأقباط الحالية الراهنة
إن الأقباط المنتشرين في سائر أنحاء المعمورة وأرجاء المسكونة ينقسمون إلى قسمين عظيمين، وهما: الأقباط الأرثذكسيون الأصليون والأقباط الباباويون ويقال لهم أيضا التبع نسبة إلى اتباعهم للكنيسة الغربية وانتمائهم إليها. هذا ولما كان الأقباط الأرثذكسيون هم المقصودون بالذات في هذا الكتاب فقد جعلنا موضوع الكلام قاصرا عليهم فنقول: إن الأقباط الأرثذكسيون ينقسمون أيضا على حدتهم إلى قسمين عظيمين، وهما: الشعب والإكليروس، والمقصود بلفظة إكليروس جماعة الكهنة المترشحين لخدمة الدين ليس إلا. ولقد أنبأ التاريخ بأن هذا الإكليروس كان فيما سلف على جانب عظيم من التنور والتثقف، ولا سيما من كانوا من قاطني الأديرة منهم، حتى لقد قيل إن تلك الأديرة كانت محط رحال الفلسفة وقطب دائرة الحكمة، ولعمري إن ما نراه بين ظهرانينا من مؤلفات هؤلاء الرهبان المفيدة، ومصنفاتهم العديدة، لأدل دليل على صحة ذلك، ولكن أبى العلم إلا أن ينأى عن ديارهم ويهاجر ربوعهم ثانيا، فأصبحوا وأنت لا ترى فيهم إلا أجلافا وأوغادا لا يعرفون للعلم اسما ولا رسما، وبالإجمال فإنه لو علم آباؤنا الرهبان السابقون ما ستئول إليه حالة إخوانهم اللاحقين لتبرءوا منهم سلفا.
أما الشعب فهو في درجة من التقدم والتعلم تضارع غيرها من درجات الأمم المتقدمين المتمدنين، وقد ابتدأ تاريخ نهضتهم العلمية مع إخوانهم المسلمين في عهد ساكن الجنان المغفور له محمد علي باشا جد العائلة الخديوية الفخيمة؛ حتى لقد حاز الكثير منهم الشهادات العليا، الناطقة بتمام تقدمهم وسمو مداركهم؛ ولذا انتدبتهم الحكومة السنية في أعظم المناصب العالية والمراكز الخطيرة، فمنهم رب السياسة والكياسة ورجل الحزم والعزم سعادة بطرس باشا غالي ناظر المالية المصرية ، وأحد وزراء مصر الكرام ورجالها العظام، وفيهم من رجال القضاء المتشرعين المتضلعين سعادة أمين بك غالي، وميخائيل بك شاروبيم، وبطرس بك يوسف، وحنا بك نصر الله، وتادرس بك إبراهيم، ويوسف بك سليمان، وعبد المسيح بك سميكه، ورزق الله أفندي سميكه، وعبد الله أفندي سميكه وغيرهم.
وفيهم من جهابذة المؤلفين والمصنفين ورجال الكتابة والخطابة والشبان النجباء الأدباء: حضرة تادرس بك وهبي، وجندي أفندي إبراهيم، وجرجس أفندي ذكي، وقوسه أفندي جرجس، ويسي أفندي إبراهيم، وجندي أفندي عوض، وإسحاق أفندي عطيه، ومرقس أفندي جرجس، وعطية أفندي جرجس، وإسكندر أفندي قزمان، ودانيال أفندي باشا، وبطرس أفندي حنا الأسيوطي وغيرهم.
وفيهم من المحامين البارعين المشهورين: عزتلو خليل بك إبراهيم، وإسكندر أفندي إبراهيم، وأخنوخ أفندي فانوس الأسيوطي، ونخله أفندي خليل المنياوي وغيرهم.
وفيهم من الأطباء الماهرين: حضرة إبراهيم أفندي منصور، وإبراهيم أفندي فهمي، ومراد أفندي أيوب، ونجيب أفندي مفتاح وغيرهم.
وفيهم من الرياضيين البارعين: حضرة فوزي أفندي حنا، وجرجس أفندي فيلثاوس، ويوسف أفندي صبري، وميخائيل أفندي عفت، وميخائيل أفندي وغيرهم.
وفيهم من الوجهاء والأعيان الذين تعقد عليهم الخناصر ويشار إليهم بأطراف البنان مما لم يسعنا ذكرهم هنا، ولم تظهر نفحات الأقباط فقط في هذا الزمن الذي بزغت فيه شموس العدالة والحرية، بل قد ظهرت براعتهم وجدارتهم حتى في زمن الاستبداد كأيام المماليك المتمردين وغيرهم، ولو أتينا على ذكر أسماء هؤلاء الذين اشتهروا وحازوا أعظم المناصب لضاق بنا المجال، وهذا دليل كبير على ما للطائفة القبطية من الاستعداد الطبيعي لإدراك العلى.
أعياد الأقباط وأصوامهم
أعياد الأقباط المشهور منها عيد الميلاد، وهو تذكار ولادة السيد المخلص له المجد. وعيد الفصح أو العيد الكبير ويقال له «شم النسيم» يحتفلون فيه بقيامة السيد له المجد من القبر وانتصاره على سلطان الموت. وعيد الصعود يحتفلون فيه بصعود السيد له المجد إلى أعالي العلى محفوفا بالعظمة والأبهة بعد مضي أربعين يوما من قيامته المجيدة. وعيد النيروز يحتفلون فيه برأس السنة القبطية. وجملة أعياد أخرى كثيرة لكنها ليست كلها بشهيرة. أما أصوامهم فأشهرها الصوم الكبير والصوم الصغير وصوم العذراء وصوم يونان وغيرها.
مدارسهم وكنائسهم
وللأقباط كنائس كثيرة، أشهرها كنيسة المرقسية الكبرى، وكنيسة الفجالة، وكنيسة حارة زويلة، وكنيسة حارة السقايين، وكنيسة المعلقة، وكنيسة حارة الروم، وكنيسة الأمير تادرس، وكنيسة الدير البحري، وكنيسة الدير القبلي، وكنيسة أبي سيفين وغيرها، وكذا كنائس أخرى بجهات الأرياف.
ولهم من المدارس المدرسة القبطية الكبرى، ومدرسة الاقتصاد، ومدرسة الآداب، ومدرسة المنافع العلمية، والمدرسة الوطنية، ومدرسة الآداب العلمية، ومدرسة حارة السقايين، ومدرسة إسكندرية القبطية، ومدرسة المنيا وطنطا وميت غمر، ومدارس أخرى كثيرة منتشرة في أغلب جهات الوجه القبلي والبحري.
جمعياتهم وجرائدهم
وللأقباط أيضا جملة جمعيات شهيرة، أهمها جمعية التوفيق وفروعها، وجمعية الاقتصاد القبطية مؤسسة مدرسة الاقتصاد، وجمعية المساعي الخيرية، وجمعية حفظ التاريخ القبطي الأسيوطية، وجمعية الاتحاد الخيري وغيرها.
ولهم من الجرائد جريدة مرقى النجاح والفرائد والراوي والعلم المصري ورياض التوفيق وجريدة التوفيق التي ستظهر قريبا إن شاء الله تعالى.
تنبيه
قد وقع فى هذا الكتاب من الغلطات السهوية والطبعة مالا يخفي علي ذوي الألباب ولذا أكتفينا بالتلميح عنها دون التصريح بها وعلى كل حال فالكمال لله وحده:
من قال لا اغلط في امر جري
فهذه اول غلطة تري
Bog aan la aqoon