ولأن نقل المتواتر لا يثبت إلا بقوم لا يجوز تواطؤهم على الكذب في العادات لكثرتهم، والإجماع من علماء الأمة حجة وإن كانوا ثلاثة أو خمسة أو عشرة، وجاز تواطؤهم على الكذب عادة.
فإن قيل: إن جعلهم الله تعالى وسطًا ليكونوا حجة لا يدل على امتناع إجماعهم على الضلالة كما قال الله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ أخبر أنه خلقهم ليعبدوه ثم لم يمتنع إجماعهم على ترك العبادة.
قلنا: لأن معنى قوله تعالى: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ بجعل الله تعالى وإكرامه إياهم بأن جعلهم وسطًا، واصطفاهم حتى كانوا وسطًا فصاروا شهداء عن علم بإصابتهم الحق بهذه الصفة، كما خلقهم الله أحرارًا ليكونوا من أهل ملك ما سواهم، فكانت اللام لبيان حكم صفة الوساطة التي من الله تعالى بها عليهم فحقيقتها تقتضي ثبوت الحكم إذا ثبتت العلة كما تثبت أهلية الملك إذا ثبتت الحرية، على هذا موجب اللغة.
وكما خلق الله الأنبياء ﵈ معصومين عن الكذب والباطل، وكذلك الملائكة حتى كان قولهم موجبًا علم اليقين إلا أن الحقيقة تركت في قوله: ﴿ليعبدون﴾ إذ لو عمل بها لاقتضت وقوع العبادة على سبيل الجبر حكًا للتخليق.
والمطلوب منا عبادة يوصف العبد بالاختيار في فعلها فبهذه الدلالة علمنا ان المراد بها: وما خلقت الجن والإنس إلا وعليهم عبادتي، وما منا أحد غلا وعليه أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان على ما يأتيك سلاحه على التفصيل.
ونظير قوله: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ قوله: ﴿ويكون الرسول عليكم شهيدًا﴾ فإن قيل: خبر الواحد حجة في حق الله تعالى وكذا القياس ولا يوجبان العلم قطعًا!.
قلنا: أصل الحجة خبر الرسول، وخبره يوجب العلم قطعًا، والشبهة وقعت في النقل وتحمل ذلك لضرورة.
وأما القياس فليس بحجة لنصب الحكم ولكن لتعديه حكم ثبت بنص أصله موجب للعلم إلى محل لم يتناوله النص.
والكلام في الأصل والإجماع من قبلهم حجة لحكم لا نص فيه كرامة لهم على ما قال: ﴿كنتم خير امة اخرجت للناس﴾، وقال: ﴿لتكونوا شهداء﴾ أثبت تلك الصفة لهم من قبله لا من قبلهم على ما مر.
على أنا لم نجعلهما حجة في حق العلم بما عند الله تعالى بل في حق العمل الذي يلزمنا بهما.
1 / 25