انطبع الامتعاض في صفحة وجهه، فقال صاحب البيت: لم أرك مرة واحدة في صلاة الجمعة! - وما دخل ذلك في موضوعنا؟ - المؤمن لا يهتم بهذه الألاعيب، هذا ما أعنيه.
ضحك الشاب ضحكة قصيرة، وقال: ولكن الاهتمام بذلك يعني الإيمان بالأرواح. - كلا. يعني الشك أولا وأخيرا.
فغير الحديث قائلا: أذكرك بجدار دورة المياه. - لا تتهرب، الحق أن هذه الجلسات تحدث بين السكان اضطرابا غير مستحب! - أنا لا أرتكب فعلا مخالفا للقانون، وأرجو أن الجدار ... - من الأفضل أن نبقى على وفاق.
ثم قال وهو يدفع بماء الخرطوم إلى بعيد: أما عن أي إصلاح فعليك أن تقوم به بنفسك.
ما أبغض أن يصبح على وجهه يوم العطلة! والطريق شبه خال كشأنه في بواكير العطلات، وثمة سقيفة من السحاب الثابت تمتد فوق الضاحية، واشتد عليه ثقل رأسه عقب ليلة لم ينم فيها أكثر من ساعتين، فبعد انفضاض حلبة التحضير قال لزميله مدرس التاريخ: يطيب الآن الحديث في المصير ...
وتقضى الليل دون أن يجنوا من النقاش ثمرة. وقال له صديق، ضاحكا وهو يغادر الشقة قبيل الفجر: خير حل أن تتزوج.
وأوى إلى فراشه قلقا، ووجه محبوب يتراءى لعينيه، لا ينبغي أن تبقى النخلة وحيدة إلى الأبد. ولم كانت أمه تؤكد له دائما قبيل وفاتها بأيام بأن كل شيء يدعو للحمد؟ وجد الكازينو خاليا في تلك الساعة المبكرة، واتخذ مجلسه عند مدخل الحديقة الفاصلة بين الكازينو ومحطة الديزل. حياه الجرسون وجاءه بالجرائد، أعد له مع القهوة سندويتش فول، فبعد أن شبع ثقل رأسه أكثر وأكثر حتى عجب أين كان النوم وهو يستجديه في فراشه! وتذكر درس المفعول المطلق الذي سيلقيه غدا صباحا على تلاميذه، فتذكر بالتالي زميله مدرس التاريخ، قرينه في المناقشات الجنونية. - ولكن ما معنى ذلك؟ - أنت مدرس عربي، حسن! هل عرفت فعلا بلا فاعل؟ - اللغة بحر بلا حدود. - مات محمد. محمد فاعل، ولكن أي فاعل هذا؟ ولذلك فإني أبحث عما أريد خارج نطاق اللغة.
وجاء الجرسون لينظف الرخامة، فسأله: كيف تبرر مطالبتك الزبائن بأثمان الطلبات؟
ابتسم الرجل ابتسامة المعتاد لهذه الأسئلة الغريبة، ثم تناول قروشه ومضى، وقال هو لنفسه: «إنه يبتسم ابتسامة العقلاء، ومع ذلك فما لم نعرف كل شيء فستظل معرفتنا الأشياء الصغيرة القريبة ناقصة وغير مبررة.» ورنا إلى السحب حتى ابيض كل شيء في عينيه. ولكن البياض لم يثبت على حال، لعبت به يد ساحرة، تميع وتموج، واستحال لونا معتما بلا شخصية ولا شكل، واختفى قطار الديزل الواقف في المحطة أو ذاب في السحاب. وبدافع من رغبته في الهدوء المطلق مثل بين يدي بوذا في الحديقة اليابانية، وسمع صديقه مدرس التاريخ يقول وهو يشير إلى بوذا: «الهدوء والحقيقة والانتصار.» ثم أكد قوله مكررا: «الهدوء والحقيقة والهزيمة.» وجمع عزيمته على المناقشة، ولكن أوراق الشجر اهتزت بصرخة حادة؛ صرخة طفل أو لعلها صرخة امرأة، وخفق قلبه وانتعش بروح الغزل، وأراد أن يستشهد ببيت من عمر الخيام ولكن هيهات. وناداه صوت؛ التفت نحو مصدره، فرأى صديقه الآخر وقد بادره قائلا: «خير حل أن تتزوج.» وأطبق عليه وقع أقدام راكضة، وركض ليلحق بالديزل، فزلت قدمه وتهاوى من فوق الطوار. رباه كيف اكتظ المكان بهؤلاء! عشرات وعشرات وعشرات يقفون خارج سور الحديقة الصغيرة، وقوة من الشرطة تعسكر فوق طوار المحطة. حدث تحت السحاب الراكد! وها هو الجرسون راجعا من الزحام إلى الكازينو. وقد مال الرجل نحوه قائلا:حضرتك رأيت كل شيء طبعا!
فقطب متسائلا ومنكرا في آن، فواصل الرجل: سوف تدعى فورا إلى المحقق. - أي محقق يا هذا؟ - ارتكبت الجريمة في المحطة على بعد أمتار من مجلسك.
Bog aan la aqoon