الجرح إذا صدر من أهل المعرفة مقدم على التعديل الصادر منهم فيقدم الجرح، ولدى غير الطائفتين المجرحين والمعدلين، أي: لدى من يعتمد على أقوال أئمة هذا العلم، وهذه القاعدة مسلَّمة معمول بها.
ولم يزل أئمة العلماء مثل: مالك وأصحابه والبخاري ومسلم يتحرون في أخذ الحديث أن يكون من أهل العدالة والضبط والبصر بالرجال، وقد ترجم مسلم في مقدمة صحيحه باب النهي عن الرواية عن الضعفاء ومن يرغب عن حديثهم، وأن الإسناد عن رسول الله ﷺ هو من أُسُس الدين فلا يقبل فيه إلا الثقات الأثبات، وروي عن ابن سيرين أنه قال: «إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم»، وروى ابن وهب عن مالك ﵀ أنه قال: أدركت بالمدينة أقوامًا لو استسقى بهم القطر لسقوا قد سمعوا الحديث كثيرًا ما حدثت عن أحد منهم شيئًا؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد وهذا الشأن (يعني: الحديث) يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وإتقان وفهم وعلم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غدًا.
وروى مسلم عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث (يريد أنهم يكذبون عن توهم وغلط وحسن ظن بمن يروي لهم شيئًا إلا عن عمد؛ إذ لو كان عن عمد لم يكونوا أهل الخير).
وقد قرر أئمة الحديث أن أسباب الوضع كثيرة، منها: الافتراء والنسيان والغلط، ومنها: التعمد عن حسن نية باعتقاد أن فيما يرويه حمل الناس على فعل الخير كما قال بعض الوضاعين لما قيل له: إن رسول الله ﷺ قال «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، فقال: إنما كذبت له لا عليه، ويكون لتأييد المذاهب والآراء، وأن ستور التمويه والتلبيس في أحوال الرواة وأسمائهم الخلابة أصناف منها الخصيب ومنها الشفاف.
واتفق علماء السنة على عدم قبول الحديث الضعيف فيما عدا فضائل الأعمال، واختلفوا في قبوله في خصوص فضائل الأعمال بناء على أن فضائل الأعمال داخلة تحت كليات شرعية هي الشاهدة لقبولها بوجه كلي فلا يفيدها الحديث الضعيف إلا تعيين وقت أو عدد.
الرأي فيها من جهة النظر:
لعل فيما مهدته أول هذا المقال مقنعًا للفظه لا تفوته معه الدواعي الوافرة التي
1 / 59