فلنرجع الى تحقيق القول في هذه المسألة، وتوهين ما قرروه، والجواب عما ذكروه وكشف الفضيحة عما تصوروه، في فصلين نذكر فيهما فساد القولين وبطلان المذهبين: الجبر والاختيار.
فصل
[رد احتجاجات المجبرة]
أما قول المجبرة بجواز تكليف المحال، والجبر للعبد في الأفعال من جهة علم الله بحقيقة الأحوال، أو إخباره عن كفر طائفة ونكالهم في الآخرة والمآل، ففي غاية السخافة والوهن ، فإن العلم والجبر لا يسلبان عن العباد القوى والقدرة، بل القدرة ثابتة للعبد، والتمكن من أفعاله وأقواله مبذول له، والتصرف في قواه الإدراكية - كالمسع والبصر - وأعضائه التحريكية - مثل اليد والرجل - متى شاء وكيف شاء مفوض إليه ميسر له، والعلم بوجوه النفع والضر، والخير والشر ممنون عليه من قبل الله، لأن هذه المبادي والقوى القريبة خلقت موجبة لأفاعيله وحركاته، مقتضية لآثاره وتبعاته، جعلها الله خادمة للقلب، مسخرة له، وهو المتصرف فيها بقوته المدبرة، وهي مجبولة على طاعة القلب، لا يستطيع له خلافا ولا عليه تمردا.
وفائدة التكليف له والإنذار كالابتلاء وغيره، عائدة إليه ولو قليلا، وإلى غيره كثيرا، ولا يلزم أن تكون فائدة التكليف لأحد بشيء، نفس ذلك الشي؛ إذ ربما يترتب على التكليف فائدة اخرى، غير ما كلف به، فلي لهم أن يقولوا بنفي الأعراض وبطلان الدواعي واثبات التعطيل، والعبث في فعل العبد، ذلك ظن الذين كفروا من المجوس والثنوية، النافين لاختيار العبد، المثبتين لإجباره، ولهذا المعنى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" القدرية مجوس هذه الأمة ".
ومن الحكايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك، ما رواه جماعة من علماء الإسلام أنه قال (صلى الله عليه وآله):
" لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا، قيل: ومن القدرية يا رسول الله؟ قال: قوم يزعمون ان الله سبحانه قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها ".
ومنها أيضا ما رواه صاحب الفائق محمود الخوارزمي وغيره من العلماء، عن محمد بن علي المكي باسناده قال:
" إن رجلا قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أخبرني بأعجب شيء رأيته، قال: رأيت قوما ينحكون أمهاتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم: لم تفعلون؟ قال: قضى الله تعالى وقدره. فقال: سيكون في أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أولئك مجوس أمتي ".
Bog aan la aqoon