[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
أعلموا - أيها المعتنون بفهم معاني الكتاب هداكم الله طريق الصواب - أن هاهنا أبحاثا لفظية بعضها متعلقة بنقوش الحروف وهيئآتها الكتبية، وصور الألفاظ وصفاتها السمعية، قد نصب الله لها أقواما من الكتاب والقراء والحفاظ، وجعل غاية سعيهم معرفة تجويد قراءتها وتحسين كتابتها وبعضها متعلقة بمعرفة أحوال الأبنية والاشتقاقات، وأحوال الإعراب والبناء للكلمات، وبعضها متعلقة بمعرفة أوائل مفهومات اللغات المفردة والمركبة.
وهذه كلها دون ما هو المقصد الأقصى والمنزل الأسنى. وقد بلغت في كل منها طائفة حد المنتهى، وعرجت فيها غاية المدى، قد نصبهم الله لكسب هذه العلوم الجزئية المتوقف عليها فهم حقائق القرآن، لتكون درجتهم درجة الخوادم والآلات لما هو بالحقيقة الثمرة والتمام، وما به كمال نوع الإنسان.
فاعلموا أن الكلام مشتمل على عبارة وإشارة، كما أن الإنسان متألف الوجود من غيب وشهادة، فالعبارة لأهل الرعاية، والاشارة لأهل العناية، فالعبارة كالميت المستتر فى طي الأكفان، والاشارة كاللطيفة الذاكرة العارفة التي هي حقيقة الإنسان، والعبارة من عالم الشهادة، والاشارة من عالم الغيب، والشهادة ظل الغيب، كما أن تشخص الإنسان ظل حقيقته.
أما أهل العبارة والكتابة، فقد صرفوا أعمارهم في تحصيل الألفاظ والمباني، وغرقت عقولهم في إدراك البيان والمعاني. وأما اهل القرآن والكلام وأهل الله خاصة بالمحبة الإلهية والجذبة الربانية والقرابة النبوية، فقد يسر الله لهم السبيل، وقبل منهم قليل العمل للرحيل، وذلك لخلوص نيتهم، وصفاء سريرتهم، فهم لا يحتاجون في فهم حقائق القرآن وغرائب معانيه إلى أن يخوضوا في البحث عن ظواهر ألفاظ الكلام وغرائب القرآن، وضبط هيئاته ومبانيه، وبصرف العمر في معرفة الاشتقاق والإعراب ليصيروا فرسانا في علم الإعراب، مقدمين في جملة الكتاب، ويفرغوا غاية جهدهم في الأوقات والأزمان في تحصيل ما يسمونه علم المعاني والبيان، وما يجري هذا المجرى في الرتبة والشأن، بل كفاهم طرف يسير من كل فن منها، وجرعة قليلة من كل دن من دنها، أخذا للزاد، وتعجيلا لسفر المعاد.
فمن أراد أن يقف على أنه لم طولت الباء في " بسم الله " ومدت السين؟ أو لم حذفت الألف في الخط هنا، واثبتت في قوله " باسم ربك " أو لم أسقطت الألف بعد اللام في " الله " أو هل تفخم لام الجلالة أم لا، فليرجع إلى أهل الخط والقراءة.
ومن أراد أن يقف على أن البسملة ما شأنها في أوائل السور الكريمة. هل هي هناك جزء من كل واحدة، أو أنها جزء من الفاتحة وحدها لا غير، أو أنها ليست جزء من شيء منها، بل هي آية فذة من القرآن، أو انزلت للفصل بها بين السور، أو أنها لم تنزل إلا بعض آية في سورة النمل، وليست جزء من غيرها، وإنما يأتي بها التالي والكاتب في أوائلهن تبركا باسمه تعالى.
أو أنها آيات من القرآن أنزلت بعدد السور المصدرة بها من دون الجزئية لهن، فليرجع إلى أصحاب النقل وأهل الرواية.
ومن أراد أن يعرف بم تعلقت الباء، وبأي محذوف ارتبطت، ولم قدر المحذوف متأخرا من قال: إن المراد بسم الله أقرأ أو أتلوا، وقد قدمه تعالى في قوله إقرأ باسم ربك وما معنى تعلق اسم الله بالقراءة. أو كيف يقدر كذلك والقائل هو الله أو كيف بنيت الباء على الكسرة ومن حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه، ولام الابتداء، وواو العطف، وفائه، وغير ذلك، وأن كلمة الجلالة إسم هي أو صفة مشتقة، أم جامدة، فليرجع إلى مطالعة التفاسير المشهورة، سيما الكشاف، فإنه كامل في بابه فائق على أترابه، وإن لكل طائفة فيما يعدونه تقربا إلى الله وعبودية له رأيا ومذهبا، والكل باختلاف مشاربهم ومذاهبم إياه يطلبون، ونحوه يقصدون، وبما لديهم فرحون، وبما جاء به غيرهم - وإن كان على بينة من ربه - يستهزئون " وللناس فيما يعشقون مذاهب " إلا أن مذهب أهل الله شيء آخر، ودينهم دين خالص، بل لا مذهب لهم إلا الله ولا دين لهم سواه:
Bog aan la aqoon
ألا لله الدين الخالص
[الزمر:3].
مذاهب شتى للمحبين في الهوى
ولي مذهب فرد أعيش به وحدي
وهم عباد الرحمن بالحقيقة ، وغيرهم عبدة المذاهب والآراء، وطلاب النفس والهوى، لأن عبادة الرب وطاعته فرع معرفته، وطلب قربته، إذ طلب المجهول محال، فمن لم يكن عارفا بالله ولا عارفا بملكوته، فكيف يحبه ويطلبه ويقصد التقرب إليه ويتولاه. ولكن الحق لكمال رأفته ورحمته لعباده وشمول عاطفته وانبساط نور وجوده على الممكنات، وتجلي وجه ذاته لسائر الموجودات، جعل لكل منهم مثالا يحتذونه، ومثابة يقصدونها، ومنهاجا يسلكونه، ووجهة يتولونها، وقبلة يرضونها، وشريعة يعملون بها فقال:
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا
[البقرة:148]. وقال:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
[المائدة: 48]. الآية، وقال:
كل حزب بما لديهم فرحون
Bog aan la aqoon
[الروم:32]. وهكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن، وتفاوت مراتبهم في بطونه وظهوره، ولبابه وقشوره، لأن كلام الله لمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف والتفاوت في مذاهب الخلق واعتقاداتهم لله بين مجسم ومنزه ومتفلسف ومعطل ومشرك وموحد، فكذا وقع الاختلاف والتفاوت بينهم في الفهوم، فهذا مما دل على كمال القرآن، لأنه بحر عميق غرق في تياره الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون، سواء وقع الوقف على الله أم لا، إذ الراسخون إذا علموا تأويله لم يعلموا إلا بالله، ولم يحيطوا به علما إلا بعد فناء ذواتهم عن ذواتهم، واندكاك جبل هوياتهم، ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء.
والغرض من هذا الكلام أن علم القرآن مختلف. والأذواق فيه متفاوتة حسب اختلاف أهل الاسلام في المذاهب والأديان، وكل حزب بما لديهم فرحون، إلا ان سائر المشتغلين به منهم في واد وأهل القرآن - وهم أهل الله وحزبه - في واد لأنهم من أهل القول والعبارة، وهؤلاء من أهل الكشف والاشارة، ومن أراد أن يتقحم لجة هذا البحر العميق، ويخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، كان يجب عليه أولا أن يطلع على سائر التفاسير، ويتفحص عن عقيدة كل فرقة من الفرق الإثنتين والسبعين. ويستكشف أسرار مذاهب كل طائفة من طوائف المسلمين، ليميز بين محق ومبطل، ومتدين ومبتدع، ويكون كما حكى الشيخ أبو حامد عن نفسه: لا يغادر باطنيا إلا ويريد أن يطلع على بطانته، ولا ظاهريا الا ويقصد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فيلسوفا إلا ويتحرى الوقوف على كنه فلسفته ولا متكلما إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا ويحرص على العثور على سر صفوته، ولا زنديقا أو معطلا إلا ويتجسس للتنبه لأسباب جرأته في زندقته أو تعطيله، وكان لم يزل التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبه وديدنه وغريزيا له، فطرة من الله في جبلته لا باختياره وحيلته، حتى انحلت عن قلبه رابطة التقليد، وانكسرت عليه سفينة العقائد الموروثة على قرب الصبى من الآباء والأساتيذ. إذ قد رأى صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم على الإسلام، كما دل عليه الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "
فإذا بلغ إلى هذا المقام من التحير والانضجار والانكسار، والتهبت نار نفسه الكامنة فيه لغاية الاضطرار، واشتعل كبريت قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص والاحتقار، وكان زيت نور الايمان في قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فوقع عليه نور الأنوار، وانكشف له سر من عالم الأسرار، رأى بذلك النور الجلى أصل كل نظر دقيق، وشاهد بذلك السر الخفي غاية كل شك وتحقيق، ونهاية كل مبحث عميق، وبه يحصل له الاقتدار على معرفة أسرار القرآن العظيم واستيضاح لطائف كتاب الله العليم، ومعجزة رسوله الكريم عليه وآله الصلاة والتسليم.
فعند ذلك يخوض فيه ويغوص في بحار معانيه، ويستخرج دررا ويواقيت ينعكس لمعانها على أعين الناظرين في سواحله، وأسماع الواقفين على حواليه، وما ينكشف منها للآدميين فهو قدر يسير بالاضافة إلى ما لم ينكشف، لأنه مما استأثره الله بعلمه، فربما تجد أيها الناظر بعين المروة والاشفاق من هذا الجنس في هذه الأوراق إن كنت من أهله، وإلا فغض بصرك عن ملاحظة أسرار معرفة الله، ولا تنظر إليها ولا تنسرح في ميدان معرفة معاني الوحي والقرآن، واشتغل بأشعار شعراء العرب وغرائب النحو وعلوم الأدب والفروع، ونوادر الطلاق والعتاق، وحيل المجادلة في البحث والمراوغة في الكلام، وسائر الحكايات والمواعظ التي فيها مصيدة العوام، ومجلبة الجاه والحطام، والغلبة في الخصام، فذلك أليق بك، فإن قيمتك على مقدار همتك، وقصدك على سمت رتبتك، ولا ينفعكم نصحي ان اردت ان انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم.
فصل
[الاسم]
إسم الإسم موضوع في اللغة للفظ دال على معنى مستقل، لأنه مشتق من السمة وهي العلامة، فكأنه كان منقولا لغويا نقل من مطلق العلامة للشيء إلى علامة خاصة، وهو اللفظ الدال عليه بالاستقلال، ولما كان نظر العرفاء إلى أصل كل شيء وملاك أمره من غير احتجابهم بالخصوصيات ومواد الأوضاع، كان الاسم عندهم أعم وأشمل من أن يكون لفظا مسموعا، أو صورة معلومة، أو عينا موجودا.
ويشبه أن يكون عرفهم يطابق عرف القرآن والحديث، فإن الاسم في قوله تعالى:
سبح اسم ربك الأعلى
Bog aan la aqoon
[الأعلى:1]. وقوله:
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
[الرحمن:78]، مستبعد أن يكون المراد به الحرف والصوت وما يلتئم منهما، لانهما من عوارض الأجسام، وما هو كذلك يكون أخس الأشياء، فكيف يكون مسبحا مقدسا، والقول بكونه من قبيل مجاز الحذف، أو المجاز في التشبيه، بعيد من غير ضرورة داعية مع وجود معنى حقيقي، فاسم الله عندهم معنى مقدس عن وصمة الحدوث والتجدد، منزه عن نقيصة التكون والتغير، فلهذا وقعت الاستعانة والتبرك باسمه تعالى في مثل قولك: باسم الله اقرء وبسم الله اكتب، وجرت العادة بالتوسل إلى اسم الله لطلب الحوائج وكفاية المهمات، في مثل: بسم الله الشافي بسم الله الكافي، وفي الأدعية النبوية: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد ثبت عند محققي العلماء، أن المؤثر في جواهر الأكوان ليس إلا الباري جل اسمه، أو ملك مقرب من ملائكته بإذنه، فلا تأثير للعوارض الجسمانية في الأشياء الجوهرية ايجادا وإعداما، نعم الأذكار والأدعية إنما تؤثر من جهة معانيها واتصال النفس عند التذكر بمباديها الفعالة، فعالم الذكر الحكيم منبع إنجاح المهمات، ومبدأ استيجاب الدعوات، لا مقارعة الحروف والأصوات، وتحرك الشفتين بالالفاظ والعبارات، وقد مر في المفاتيح ما يكشف عن بعض الأسرار المتعلقة بأسماء الله.
فصل
[اسم الله تعالى]
فاسم الله عند أكابر العرفاء، عبارة عن مرتبة الالوهية الجامعة لجميع الشؤون والاعتبارات، والنعوت والكمالات، المندرجة فيها جميع الأسماء والصفات التي ليست إلا لمعات نوره وشؤون ذاته وهي أول كثرة وقعت في الوجود، برزخ بين الحضرة الأحدية وبين المظاهر الأمرية والخلقية، وهذا الاسم بعينه جامع بين كل صفتين متقابلتين أو اسمين متقابلين، لما علمت سابقا أن الذات مع كل صفة اسم، وهذه الأسماء الملفوظة أسماء الأسماء، والتكثر فيها بحسب تكثر النعوت والصفات، وذلك التكثر إنما يكون باعتبار مراتبه الغيبية وشؤونه الإلهية التي مفاتيح الغيب، وتقع عكوسها وأظلالها على الأشياء الكونية.
فكل ما في عالم الإمكان صورة اسم من أسماء الله، ومظهر شأن من شؤونه، فأسماء الله معان معقولة في غيب الوجود الحق، بمعنى ان الذات الأحدية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها، بحيث لو وجدت في العقل، أو أمكن له أن يلحظها، لكان ينتزع منها هذه المعاني ويصفها بها فالذات الأحدية مع أحديتها وبساطتها مصداق لحمل هذه المعاني عليها من غير وجود صفة زائدة كما مر.
وهذه المعاني - كسائر المفهومات الكلية - ليست من حيث هي هي موجودة ولا معدومة، ولا عامة ولا خاصة، ولا كلية ولا جزئية، وليست هي كالهويات الوجودية التي هي موجودات بذواتها، متشخصات بهويتها، لأنها بمنزلة الأشعة والروابط لوجود الحق، متى عقلت عقلت مرتبطة بذاته تعالى، موجودة بوجوده، واجبة بوجوبه، بخلاف المعاني الكلية، لأنها قد تصير كلية في الذهن جزئية في الخارج، وقد تكون موجودة في العقل معدومة في العين، ولها الحكم والأثر فيما له الوجود العيني، بل تنسحب عليها أحكام الوجود بالعرض، وتتنور بنوره، وتنصبغ بصبغه من الوجوب والوحدة والأزلية.
قال بعض أهل الله: الوجود الحق هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه، لا من حيث أسمائه، لأن الأسماء لها مدلولان: أحدهما: عينه، وهو عين المسمى. والآخر: ما يدل عليه مما ينفصل الإسم به عن اسم آخر ويتميز في العقل، فقد بان لك بما هو كل اسم عين الآخر وبما هو غيره، فبما هو عينه، هو الحق، وبما هو غيره، هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده، فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه، ولا يثبت كونه إلا بعينه - انتهى كلامه.
Bog aan la aqoon
نقول: مراده من الحق المتخيل، ما لوحناه إليك، من أن كلا من مفهومات الأسماء الإلهية وإن كان بحسب نفس معناه معرى عن صفة الوجود الحقيقي من الوجوب والقدم والأزلية، إلا أنه مما تجري عليه في نفس الأمر تلك الأحكام، وينصبغ بنور الوجود الأحدي بالعرض، لأن صفاته عين ذاته، وهذا النحو من العينية والاتحاد بالعرض غير ما ألفه الجمهور وجرى عليه اصطلاحهم في الكتب العقلية فيما حكموا عليه بالاتحاد بالعرض، لان ذلك عندهم جار في اتحاد العرضيات والمشتقات المحمولة على موضوعاتها، كاتحاد مثل الأبيض والأعمى مع زيد مما يشترط فيه قيام معنى المشتق منه ووجوده حقيقة أو إنتزاعا.
ومعنى هذا الاتحاد أن الوجود المنسوب أولا وبالذات إلى زيد مثلا، هو بعينه منسوب إلى العرضي المشتق ثانيا وبالعرض، أي على سبيل المجاز، مع تجويز أن يكون لهذا العرضي نحو آخر من الوجود يوجد به بالذات غير هذا الوجود الذي قد وجد به بالعرض، فإن مفهوم الأبيض وإن كان متحدا مع زيد، موجودا بوجوده، إلا ان له نحوا آخر من الوجود الخاص به في نفسه، فإنه جوهر موجود بالعرض، وعرض موجود بالذات لما قد حقق في مقامه من ان العرضي عين العرض الذي هو مبدء اشتقاقه بالذات، فيكون موجودا بوجوده الجوهري بالعرض.
وليس من هذا القبيل اتحاد المعاني والأعيان الكلية بحقيقة الوجود، إذ لا يمكن لها ضرب آخر من الوجود معرى عن الوجود، أو منحازا عنه، لا في نفس الأمر، ولا عند العقل.
فالمعية بين ذات الله وأسمائه الحسنى ليست كالمعية بين العرضي والذاتي، فضلا عما هو بين العرض والجوهر، ولا كمعية الذاتيات في الماهيات الامكانية، لأن الحق ليس ذا مهية كلية، بل حقيقته ليست إلا وجودا مقدسا بسيطا صرفا، لا اسم له ولا رسم، ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان، ولا حد له ولا برهان عليه إلا بنور العيان، وهو البرهان على كل شيء والشاهد في كل عين، فمعنى كون أسمائه وصفاته عين ذاته كما مر أن الذات الأحدية بحسب نفس هويته الغيبية، ومرتبة إنيته الوجودية، مع قطع النظر عن انضمام أي معنى أو اعتبار أي أمر كان، بحيث تصدق في حقه هذه الأوصاف الكمالية والنعوت الجمالية، وتظهر من نور ذاته في حد ذاته هذه المحامد القدسية، وتتراءى في شمس وجهه هذه الجلايا النورية، والأخلاق الكريمة العلية، وهي في حدود أنفسها مع قطع لنظر عن نور وجهه وشعاع ذاته، لا ثبوت لها ولا شيئية أصلا، فهي بمنزلة ظلال وعكوس تتمثل في الأوهام والحواس من شيء، وكذلك حكم الأعيان الثابتة وحكم المعاني الذاتية لكل موجود.
فجميع الأعيان المعقولة والطبائع الكلية، ما هي عند التحقيق إلا نقوش وعلامات دالة على أنحاء الوجودات الإمكانية، التي هي من رشحات بحر الحقيقة الواجبية وأشعة شمس الوجود المطلق، ومظاهر أسمائه وصفاته، ومجالي جماله وجلاله، وأما نفس تلك الأعيان والماهيات منحازة عن الوجودات الخاصة، فلا وجود لها أصلا لا عينا ولا عقلا. بل أسماء فقط كما في قوله:
إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان
[النجم:23]. ولعل الكلام انجر إلى ما لا تطيق سماعه أسماع الأنام، ويضيق عن فهمه نطاق الأفهام.
فصل
[اسم الجلالة]
فإن قلت: هل لمعنى اسم الجلالة حد أم لا؟ قلت: الحد عند الحكماء قول دال على تصور أجزاء الشيء ومقوماته، فما لا جزء له ولا مقوم لذاته فلا حد له، وما لا حد له لا برهان عليه، لأن الحد والبرهان متشاركان في الحدود كما بين في علم الميزان، وإذا تقرر هذا فلا شبهة في أن ذات الباري لتقدسه عن شوائب التركيب أصلا، سواء كان من الأجزاء الوجودية أو الحملية أو غير ذلك - على ما اقتضاه برهان التوحيد والأحدية -، فلا حد له كما لا برهان عليه.
Bog aan la aqoon
وأما ان مفهوم لفظ الله هل له حد أم لا؟ فالحق هو الأول، لأن معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكمالية، فكل معنى من معاني أسماء الله يكون جزءا لمعنى هذا الاسم عند التفصيل، وقد تقرر أن الفرق بين الحد والمحدود ليس إلا بالإجمال والتفصيل، وأن التفاوت بين المعنى الإجمالي والمعنى التفصيلي له ليس إلا بحسب الإدراك ومن جهة الملاحظة دون المدرك والملحوظ؛ فإن الألفاظ المذكورة في حد الشيء، تدل على ما دل عليه لفظ المحدود بعينه بدلالة تفصيلية.
وليس من شرط الحد أن يكون مؤلفا من جنس وفصل من أجزاء الشيء، سواء كان بعضها أعم من بعض مطلقا، أو من وجه، أو كانت متساوية، وسواء كانت أجزاء محمولة أو متباينة، إلا ان المشهور أن الحد لا يكون إلا من جنس وفصل لما رأو ان الطبائع النوعية الواقعة تحت إحدى المقولات العشر المشهور حدودها لا تكون إلا كذلك.
والحق أن كل اسم وضع لمعنى واحد جملي متألف من معان متعددة عند التفصيل بالفعل أو بحسب - التحليل، يدل عليها ألفاظ متعددة، يكون الأول محدودا والثاني حدا، وهكذا معنى اسم الله بالقياس إلى معاني جميع الأسماء الحسنى، فإن نسبتها إليه نسبة الحد إلى المحدود، إذ التفاوت ليس إلا بنحو الملاحظة مرة إجمالا ومرة تفصيلا، وهذا مما لا يخل ببساطة الذات المقدسة، وأحدية الوجود القيومي تعالى عن التصور والتمثل والتخيل والتعقل لغيره فإن كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية أو الإصطلاحية، فهي خارجة عن ساحة جناب العز والكبرياء، وانما يجد الذهن سبيلا إليها من ملاحظة مظاهرها ومجاليها، ومن مشاهدة مربوباتها ومحاكيها.
قال في الفص النحوي: إن للحق في كل خلق ظهورا خاصا. فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته. وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صورة العالم نسبة الروح المدبر للصورة، فيؤخذ في حد الإنسان - مثلا - باطنه وظاهره، وكذلك كل محدود، فالحق محدود بكل حد وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها، ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على حد ما حصل لكل عالم من صوره، فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم إلا من يعلم حد كل صورة، وهذا محال، فحد الحق محال.
ثم قال: فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز - انتهت ألفاظه.
ويتلخص من كلماته: أن مسمى لفظ الله هو المنعوت بميع الأوصاف الكمالية والنعوت الإلهية، لما تقرر عندهم، أنه ما من نعت إلا وله ظل ومظهر في العالم، وثبت أيضا أن الإشتراك بين معنى كل اسم ومظهره ليس بمجرد اللفظ فقط، حتى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر، وإلا لم تكن - هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحققها في الباري على وجه أعلى وأشرف، والمتحقق خلافه، فبطل كون الإشتراك لفظيا فقط، بل يكون معنويا، إلا ان هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص، وهناك في غاية العظمة والجلالة.
فتكون الأسماء الإلهية مع مظاهرها ومجاليها الكونية متحدة المعنى، سواء كانت المظاهر من الصور الحسية الموجودة في عالم الشهادة، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الإسم " الظاهر " كالسميع والبصير والمتكلم، ومظاهرها المختلفة المدركة بإدراك الحواس الظاهرة، أو كانت من الصور العقلية الموجودة في عالم الغيب العقلي، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الاسم " الباطن " كالسبوح والقدوس، ومظاهرها المتنوعة المندرجة في عالم الأمر، المدركة بالمدارك الباطنية العقلية.
وقد عرفت أن حد الشيء عبارة عن صور عقلية تفصيلية يدل عليها بألفاظ متعددة دالة على ما يدل عليه لفظ واحد، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان مثلا صورتان إدراكيتان، إحداهما موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى موجودة بوجودات متعددة تفصيلية، فيقال للمفصلة إنها حد، وللمجمل إنه محدود، فعلى هذا يلزم أن تكون مفهومات جميع الأسماء الإلهية ومظاهرها الكونية التي هي أجزاء العالم ظاهرا وباطنا على كثرتها حدا حقيقيا لمفهوم اسم الله، فيلزم أن يكون جميع معاني حقائق العالم حدا لاسم الله، كما ان جميع معاني الأسماء الإلهية حد له، إلا ان سائر الحدود للأشياء المحدودة يمكن إحاطة العقل البشري لأجزائها، بخلاف معاني أجزاء هذا الحد، لأنها غير محصورة، والمراد من لفظ الحق في قوله فالحق محدود بكل حد هو مفاد لفظ الله باعتبار معناه الكلي ومفهومه العقلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحدية وغيب الغيوب، إذ لا نعت له ولا حد ولا اسم ولا رسم ولا سبيل إليه للإدراك العقلي، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلا بعد فناء هويتهم واندكاك جبل إنيتهم.
ويؤيد هذا ما ذكره في الفص الاسماعيلي: اعلم أن مسمى لفظة الله أحدي بالذات، كل بالأسماء، وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة، يستحيل أن يكون له الكل.
وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم لا أنه ينال الواحد منها شيئا والآخر منها شيئا، لأنها لا تقبل التبعيض، فأحديته مجموع كله بالقوة.
Bog aan la aqoon
انتهى.
فصل
[الانسان الكامل هو العبد الحقيقي]
اعلم يا وليي - نور الله قلبك بالايمان - أن أكثر الناس لا يعبدون الله من حيث هو الله، وإنما يعبدون معتقداتهم في ما يتصورونه معبودا لهم، فآلهتهم في الحقيقة أصنام وهمية يتصورونها وينحتونها بقوة اعتقاداتهم العقلية أو الوهمية، وهذا هو الذي أشار إليه عالم من أهل البيت (عليهم السلام) وهو محمد بن علي الباقر (عليه السلام): كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم - الحديث.
اي فلا يعتقد معتقد من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صور معتقدهم فقط إلها، إلا بما جعل في نفسه وتصوره بوهمه، فإلهه بالحقيقة مجعول لنفسه، منحوت بيد قوته المتصرفة، فلا فرق بين الأصنام التي اتخذت إلها وبينه في أنه مصنوع لنفوس، سواء كانت في خارجها أو في داخلها ، بل الأصنام الخارجية أيضا إنما عبدت من جهة اعتقاد الألوهية من عابدها في حقها، فالصور الذهنية معبودة لهم حينئذ بالذات، والصورة الخارجية معبودة لهم بالعرض، فمعبود عبدة الأصنام كلهم ليست إلا صور معتقداتهم وأهواء أنفسهم، كما أشير إليه في قوله تعالى:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه
[الجاثية:23]. فكما أن أصحاب الأصنام الجسمية يعبدون ما عملته أيديهم، فكذلك أصحاب الإعتقادات الجزئية في حق الحق يعبدون ما كسبته أيدي عقولهم، فحق عليهم وعلى معبودهم قوله:
أف لكم ولما تعبدون من دون الله
[الأنبياء:67]. وكذا قوله: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم }.
وابن الزبعري لقصوره عن إدراك هذا المعنى، اعترض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه قد عبدت الملائكة والمسيح، ولم يعلم هو ومن في مرتبته إن معبود عبدة الملائكة والمسيح هو من عمل الشيطان، وأما الكمل من العرفاء، فهم الذين يعبدون الحق المطلق المسمى باسم الله من غير تقييد باسم خاص وصفة مخصوصة، فيتجلى لهم الحق المنعوت بجميع الأسماء، وهم لا ينكرونه في جميع التجليات الأسمائية والأفعالية والآثارية، بخلاف المحجوب المقيد الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه.
Bog aan la aqoon
وذلك لغلبة أحكام بعض المواطن واحتجاب بعض المجالي عن بعض في نظره، ومن هذا الاحتجاب ينشأ الإختلاف بين الناس في العقائد، فينكر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وكل أحد يثبت للحق ما ينفيه الآخر، ويظن ما يراه، ويعتقد غاية الإجلال والتعظيم له تعالى وينكر غير ذلك، وقد أخطأ وأساء الأدب في حق الحق وهو عند نفسه أنه قد بلغ الغاية في المعرفة والتأدب، وكذلك كثير من أهل التنزيه، لغلبة أحكام التجرد عليهم، فهم محتجبون كبعض الملائكة بنور التقديس، وهم في مقابلة المشبهة المحتجبة بظلم التجسيم كالحيوانات.
وأما الإنسان الكامل، فهو الذي يعرف الحق بجميع المشاهد والمشاعر، ويعبده في جميع المواطن والمظاهر، فهو عبد الله يعبده بجميع أسمائه وصفاته، ولهذا سمي بهذا الاسم أكمل أفراد الإنسان محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن الاسم الإلهي، كما هو جامع لجميع الأسماء، وهي تتحد بأحديته الجمعية، كذلك طريقه جامع طرق الأسماء كلها وإن كان كل واحد من تلك الطرق مختصا باسم يرب مظهره ويعبد ذلك المظهر من ذلك الوجه، ويسلك سبيله المستقيم الخاص به، وليس الطريق الجامع لطرق سائر المظاهر إلا ما سلكه المظهر الجامع النبوي الختمي - على الشارع فيه وآله أفضل صلوات الله وتسليماته - وسلكه خواص أمته الذين هم خير الأمم، وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم أجمعين.
ويؤيد ذلك ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه لما أراد أن يبين ذلك للناس، خط خطا مستقيما، ثم خط من جانبيه خطوطا خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع، وجعل الخطوط الخارجة منها سبل الشيطان، كما قال تعالى:
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
[الأنعام:153]. يعني السبيل التي لكم فيها السعادة والنجاة، وإلا فالسبل كلها إليه لأن الله منتهى كل قصد وغاية كل مقصود، ولكن ما كل من رجع إليه وآب سعد ونجى عن التفرقة والعذاب فسبيل السعادة واحدة،
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108]
وأما سائر السبل، فغايتها كلها إلى الله أولا ثم يتولاه الرحمن آخرا ويبقى حكم الرحمن فيها إلى الأبد الذي لا نهاية لبقائه وهذه مسألة عجيبة لم أجد على وجه الأرض من عرفها حق المعرفة.
فصل
الله و " هو "
Bog aan la aqoon
اعلم إن نسبة اسم " هو " إلى اسم " الله " كنسبة الوجود إلى المهية في الممكن إلا ان الواجب تعالى لا مهية له سوى الإنية وقد مر ان مفهوم اسم الله مما له حد حقيقي إلا ان العقول قاصرة عن الإحاطة بجميع المعاني الداخلة في حده لأنه إنما عرفت صورة حده إذا عرفت صور حدود جميع الموجودات، وإذ ليس فليس وأما إسم " هو " فلا حد له ولا إشارة إليه، فيكون أجل مقاما وأعلى مرتبة، ولهذا يختص بمداومة هذا الذكر الشريف الكمل الواصلون.
والنكتة فيه؛ أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته، لم يكن مستغرقا في معرفة الله، لأنه إذا قال " يا رحمن " فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها، فيكون طالبا لحظه، وكذا إذا قال: يا كريم يا محسن يا غفار يا وهاب يا منتقم. وإذا قال: يا مالك، فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم ولطائف القسم، فيميل طبعه إليها ويطلب شيئا منها، وقس عليه سائر الأسماء.
وأما إذا قال " يا هو " وانه يعرف انه تعالى هوية صرفة لا يشوبه عموم ولا خصوص، ولا تكثر وتعدد، ولا تناه وحد، فهذا الذكر لا يدل على شيء ألبتة، إلا محض الإنية التامة التي لا يشوبه معنى يغايره، فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله، وهنالك النور التام والكشف الكامل.
نكتة اخرى
[الاسم " هو " ]
ان جميع صفات الله المعلومة عند الخلق، إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام. أما الأولى: فكقولنا: إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا في مكان، وهذا فيه وقيعة، كمن خاطب السلطان بأنك لست أعمى ولا أصم ولا كذا وكذا وصار يعد أنواع المعائب والنقائص، فإنه ينسب إلى إساءة الأدب، ويستوجب الزجر والتأديب.
وأما صفات الإكرام: فككونه خالقا للخلائق، رازقا للعباد، وهذا ايضا فيه وقيعة من وجهين.
الأول: إن كمال الصانع أجل وأعلى من أن يوصف بصنعه، وخصوصا الفياض الذي ليس فعله إلا على سبيل الرشح والفيض.
والثاني: إن الرجل إذا أخذ يمدح سلطانا قاهرا يملك وجه الأرض برا وبحرا بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز وقطرة ماء، فإنه يستوجب المقت والزجر والحجر، ومعلوم ان نسبة جميع المخلوقات - من الفرش إلى العرش - إلى ما في خزائن الله - لكونها نسبة متناه إلى غير متناه - أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب، فهذا بالطريق الأولى، إلا ان هنا سببا يرخص في ذكر هذه المدائح، وهو ان النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال، وإذا اريد جذبها إلى عتبة عالم القدس، احتيج إلى أن يتنبه على كمال الحضرة المقدسة، ولا سبيل إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام.
ثم إذا واظب الإنسان على هذين النوعين من الأذكار حتى يعرض عن عالم الحس، ويستأنس الوقوف على عتبة القدس، فبعد ذلك تنبه لما في هذين النوعين من الاعتراضات المذكورة والحجب الظلمانية، فعند ذلك يترك الأذكار ويقول: يا هو، يا من لا هو إلا هو.
Bog aan la aqoon
كأنه يقول: حضرتك أجل من أن أمدحك بشيء غيرك، فلا اثني عليك إلا بهويتك من حيث هي، ولا اخاطبك بلفظ أنت، لأنه يفيد الفخر والكبر، حيث تقول الروح: إني قد بلغت مبلغا صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكني لا ازيد على قولي: هو، ليكون إقرارا بأنه هو الممدوح لذاته في ذاته، وإقرارا بأن حضرته أعلى وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات، ولو فرض عند حضرته حضور عبد أو ملك مقرب أو نبي مرسل، فحيث يمتنع له الإحاطة والإكتناه به تعالى إذ بقدر قوة وجوده يشاهد ذاته تعالى، وذاته في شدة النورية فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، فما غاب عنه من ذاته أكثر بما لا يتناهى مما هو مشهود له، فهو سبحانه غائب بحقيقته التامة البسيطة عن الكل، مع فرض شهودها إياه، فلهذا يكون هذا الذكر أشرف الأذكار، لاحتوائه على هذه الأسرار لكن بشرط التنبه لها.
نكتة اخرى
يا من هو الا هو
إن المواظبة على هذا الذكر، يفيد العبد شوقا إلى الله تعالى، والشوق إليه تعالى أجل الأحوال لذة وأعظمها سببا للبهجة والسعادة، فإن الشوق إكسير الانجذاب والوصول، فالأشد شوقا أشد انجذابا، وذلك لأن كلمة " هو " ضمير الغائبين، فالعقل اذا ذكر هذه الكلمة، علم أنه غائب عن الحق سبحانه، ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست من قبل الله تعالى بسبب المكان والزمان، وإنما كانت بسبب انه موصوف بصفات النقصان ومثالب الحدثان، فإذا تنبه لهذه الدقيقة، علم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات على حسب تضاعف امكاناتها، وترادف نقائصها وأعدامها الحاصلة لها بحسب مراتب بعدها عن عالم الوحدة الخالصة، ونزولها عن ساحة الحق المحض، وعلم أن ما هو أقرب إلى الحضرة الواجبة كان النقائص والأعدام فيه أقل، فأخذ في طلب القرب إليه تعالى.
وكلما وصل العبد إلى مقام أعلى، كان شوقه إلى الترقى عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، كما تحكم به كل فطرة سليمة، وإذ لا نهاية لتلك المراتب والدرجات - كما سبق - فكذا لا نهاية لمراتب هذا الشوق، فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة " هو " تورث شوقا إلى الله، وأن الشوق إليه تعالى أجل الأحوال والمقامات بهجة وسعادة، لأنه ملزوم الوصول إليه تعالى.
ومما يدل على أن الشوق يستلزم الوصول، أن الشوق عبارة عن الحركة إلى تتميم الكمال، وما من موجود إلا وله ضرب من الخيرية والكمال، إذ له حظ من الوجود، والوجود قد ثبت أنه خير ومؤثر، ففي كل موجود عشق إلى ذاته، وما من موجود في عالم الإمكان إلا ولوجوده غاية كمالية، وشوق إلى تحصيل تلك الغاية، كما بين في مباحث الغايات في العلم الإلهي.
وقد ثبت أيضا هناك أن الله لا يودع في غريزة موجود من الموجودات وجبلته شيئا فيكون عبثا معطلا، فكل موجود وجد له شوق إلى كمال بالقياس إليه، فلا بد من أن يكون ممكن الحصول له، وكل ممكن الحصول لشيء بالإمكان العام، يجب حصوله له ووصوله إليه عند عدم الموانع ورفع العوائق والقواسر.
وثبت أيضا في مقامه، ان وجود الموانع والقواسر للأشياء الجبلية غير دائم ولا أكثري في هذا العالم الذي يوجد فيه بعض الشرور، وأما في العالم الأعلى وما فوق الكون، فالأشياء كلها على مقتضى دواعيها وأشواقها الأصلية، فكل مشتاق إلى شيء شوقا غريزيا سواء كان في فطرته الأولى أو في فطرته الثانية التي قد صار متجوهرا بها متصورا بصورتها الجوهرية، كالنبات إذا صار حيوانا، أو الحيوان إذا صار إنسانا، فهو واصل أو سيصل إليه وقتاما.
فثبت أن من أحب الله واشتاق إليه، فهو مما يصل إلى حضرته يوما، كما دل عليه قوله (عليه السلام): من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
نكتة أخرى
Bog aan la aqoon
[في أن الذكر أشرف المقامات للسالك]
قال (صلى الله عليه وآله) [حكاية عن الله تعالى]:
" إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه "
فإذا ثبت هذا، فأفضل الأذكار ذكر الله الخالي عن ملاحظة الأغيار.
ثم إن العبد فقير كثير الحاجة، والمحتاج إذا نادى مخدومه المنعم بنداء يناسب الطلب والسؤال، كان ذلك محمولا على الطلب مشعرا بالسؤال، فإذا قال: " يا كريم " كان معناه: أكرم وإذا قال " يا رجيم " كان معناه: " إرحم ". وإذا قال " يا غفور، يا عفو " كان معناه: اغفر واعف. فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، فيجول في خاطره غير الله، وتتمثل له صور حاجاته فيكون مشغول السر بغير الله ولم يكن في خلاء، بل في ملأ، إذ الشاغل له عن ذكر الله عند المعاشرة مع الخلق أيضا الصور الحاضرة في نفسه، وهي الحاضرة بالذات، دون الصور الخارجية إلا بالعرض.
فمن حضرت عنده صور الأشياء والتفت إليها، فهو في صحبة الأغيار، سواء كان في بيته الخالي، أو في محتشد من الخلق. وقد بين ان الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليا من السؤال، ومن تصور الصور والأمثال، وذلك يتحقق عندما قال " هو ".
ومن نوادر الأذكار الشريفة الممدوحة في كتب أصحاب القلوب: يا هو يا من لا هو إلا هو. يا من لا إله إلا هو. يا أزل يا أبد. يا دهر يا ديهار. يا ديهور. يا من هو الحي الذي لا يموت.
قال النيسابوري في تفسيره: ولقد لقنني بعض المشائخ من الذكر: يا هو، يا من هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا هو بلا هو إلا هو. وقال:
فالأول فناء عما سوى الله.
والثاني فناء في الله.
Bog aan la aqoon
والثالث فناء عما سوى الذات.
والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات.
وقال صاحب التفسير الكبير: ومن لطائف هذا ان الشيخ الغزالي رحمه الله كان يقول: " لا إله إلا الله " توحيد العوام، و " لا إله إلا هو " توحيد الخواص، و " لا هو إلا هو " توحيد أخص الخواص ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان.
أما القرآن فإنه تعالى قال:
ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو
[القصص:88]. ثم قال بعد ذلك
كل شيء هالك
[القصص:88] معناه " لا هو " ، وقوله
إلا وجهه
[القصص:88] " الا هو " فقد ذكر " لا هو إلا هو " بعد قوله: لا إله إلا هو، يدل على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة.
Bog aan la aqoon
وأما البرهان: فهو أن من الناس من قال: تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها. فقلت: فالوجود أيضا ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعا بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفية الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوما مغايرا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلىالفاعل. وإن كان مفهوما مغايرا فذلك المفهوم لا بد وأن يكون له ماهية، وحينئذ يعود الكلام، فثبت ان المؤثر مؤثر في الماهية وكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات وصارت الحقائق حقائق. وقيل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجو ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: لا هو إلا هو. أي لا تقرر لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتحقيقه، فثبت أنه لا هو إلا هو.
أقول وبالله التوفيق:
اعلم أن مقام التوحيد الخاص الذي عليه الأولياء الكاملون والعرفاء المحققون، أعلى درجة وأشمخ شهوقا من أن يناله أرباب الأنظار الجزئية بقوة أنظارهم، وأصحاب المباحث الكلامية بدقة أفكارهم، ومن زعم أنه بقوة مهارته في تحرير المقالات، وتقرير الاشكالات والأجوبة عن بعض الايرادات، وبيان بعض المسائل والشبهات، يمكنه الوصول إلى فهم مسائل هذا التوحيد، ومكاشفات إخوان التجريد، فقد استسمن ذاورم، ومثله كالزمن إذا أراد أن يطير في الجو، ومثل من أراد أن يثبت هذا المقصد الغالي، ويصل إلى هذا المصعد العالي بمثل هذا القياس المرتب في زاوية قلبه من هذه المقدمات الواهية الواهنة الأساس، كمثل العنكبوت إذا أراد أن يصيد العنقاء بشبكة ينسجها في زوايا البيوت.
ولولا مخافة التطويل والاطناب، لاستقصينا الكلام في هذا الباب، فأخذنا أولا في إقامة البراهين القطعية على أن شيئا من الماهيات لا يمكن أن يكون أثرا للجاعل ومجعولة له، ثم على إثبات أن أثر الجاعل وما يترتب عليه في الخارج، هو نحو من أنحاء الوجودات الخاصة. ثم على أن ما ذكره هذا القائل، يناقض ويخالف عقلا ولفظا لما هو بصدده من إثبات هذا التوحيد، وأن كلمة " لا هو إلا هو " تدل عليه. ثم بعد ذلك نشير إلى لمعة من لوامع مسألة التوحيد الخاصي، وإلى كيفية استنباطها من هذه الكلمة ولكن جاء في المثل: " ما لا يدرك كله لا يترك كله " فلنذكر هذه المقاصد ها هنا على طريقة الاختصار، وطي بعض مباديها ومقدماتها البعيدة، ليكون الناظر في هذا المقام على بصيرة في طلب ما ادعيناه من غير تعب وكلال.
ويكون الاستقصاء البالغ مرجوعا الى مواضع اخرى من مسفوراتنا المطولة.
وهي مشتملة على فصول خمسة.
فصل
في أن الوجود هو المجعول بالذات
اعلم إن للوجود صورة في الخارج، وليس مجرد معنى مصدري انتزاعي - كما يقول الظالمون - إذ لا شك في أن للأشياء حقائق. وحقيقة كل شيء هي خصوص وجوده الذي تترتب عليه أحكامه المخصوصة وآثاره المطلوبة منه.
وكون الشيء ذا حقيقة، معناه انه ذا وجود، فحينئذ لا بد أن يكون في الأعيان ما يصدق عليه هذا المعنى، أي معنى الحقيقة، وليس مصداقه نفس الماهية من حيث هي، سواء كان بعد الصدور أو قبل الصدور، بل مصداقها إما نفس الوجود للشيء، أو الماهية الموجودة بما هي موجودة لا بما هي ماهية، فالوجود أولى بأن يكون حقيقة أو ذا حقيقة من غيره، إذ غيره به يكون ذا حقيقة. لست أريد من هذا أن مفهوم الحقيقة يجب أن يصدق عليه هذا العنوان، بل إن هنا شيئا يصدق عليه بحسب الخارج مفهوم الحقيقة وليس هو نفس الماهية الموجودة، بل وجودها.
Bog aan la aqoon
فالوجود يجب أن يكون بنفسه موجودا في الواقع، لأنه يصدق عليه هذا المفهوم، فله لا محالة صورة عينية مع قطع النظر عن اعتبار العقل، وهو المعني بكون الوجود موجودا، لا أن له وجودا زائدا كما توهمه العبارة، حتى تلزم منه المحذورات المشهورة، فإذا كان الوجود موجودا، فهو إما واجب - إن كان غير متعلق بغيره - أو ممكن إن كان متعلقا بغيره، وهو المعني بكون الوجود مجعولا أو صادرا. هذا هو المطلوب.
حجة اخرى
لو لم يكن الوجود للاشياء موجودا أي واقعا في الأعيان، لم يوجد شيء من الأشياء، والتالي باطل فكذا المقدم.
بيان الشرطية: أن الماهية قبل انضمام الوجود إليها، أو اعتباره معها، أو ما شئت فسمه، غير موجود، وهو ظاهر، وكذلك أيضا إذا اعتبرت الماهية من حيث هي لا مع اعتبار الوجود، فهي غير موجودة ولا معدومة، فإذن لو لم يكن الوجود موجودا، لم يمكن ثبوت مفهوم أحدهما للآخر، فإن ثبوت شيء لشيء، أو إنضمامه إليه، أو اعتباره معه، أو انتزاعه منه، فرع لثبوت المثبت له، أو مستلزم له لا أقل، للمغايرة بينهما في الثبوت، وليس للماهية من حيث هي هي - مع قطع النظر عن الوجود - وجود وثبوت أصلا، فكيف يتحقق هناك اتصاف بالوجود وليست الماهية في نفسها موجودة، ولا الوجود في نفسه موجودا، فلا تكون الماهية معروضة للوجود - كما اشتهر وذهب إليه جمهور الحكماء - ولا عارضة له - كما ذهب إليه طائفة من العرفاء - إذ كل من راجع وجدانه وأنصف من نفسه، أدرك ان انضمام معدوم لمعدوم في الخارج، أو انضمام مفهوم لمفهوم من غير وجود أحدهما للآخر، أو قيامه به، أو قيامهما بموجود آخر، غير صحيح، ولا مما يجوزه العقل، بل يقضي بامتناعه، ولهذا قال بعض العلماء: إن الفطرة شاهدة بأن الماهية إذا كانت موجودة بنفس وجودها لا قبله، كان الموجود بالذات ها هنا هو نفس الوجود لا الماهية.
كما ان المضاف بالحقيقة نفس الإضافة لا ما هو المضاف المشهوري، فعلم ان المجعول الصادر من الفاعل هو الوجود، وما قيل من ان الماهية موجوديتها باعتبار انتسابها الى الجاعل التام، فهو هوس محض، فإن غير المنتسب الى شيء إذا انتسب فهو لا محالة بشيء يلحقه انتسب، فلا محالة يتغير عما كان ويستحيل إلى حالة وصفة لم تكن حاصلة له من قبل، فهو بذلك الشيء صار منتسبا، فيكون المنتسب بالحقيقة ذلك الشيء دونه، فعلى هذا يلزم أن يكون المنتسب إلى الجاعل التام هو وجود الماهية دونها.
برهان آخر
إن موجودية الأشياء، إما بانضمام الوجود الى الماهية، أو بصيرورتها موجودة، أو باتصافها به أو ما يجرى هذا المجرى كما هو المشهور من الحكماء المشائين، وإما بمجعولية نفس الماهيات جعلا بسيطا كما عليه أتباع الرواقيين، وتبعهم هذا القائل، والشيخ المقتول وجماعة من المتأخرين، وإما بنفس الوجودات الخاصة الفائضة عن الباري الحي القيوم كما ذهب هذه الفقراء، والأول مقدوح مردود بوجوه مذكورة في موضعها، والثاني أيضا؛ والإلزام أن لا يتحقق موجود ما في الخارج، والا لزم ظاهر البطلان، فكذا الملزوم، فبقي المذهب الثالث حقا.
وأما بيان الملازمة في هذه الشرطية، فبأن الوجود على هذا الرأي، إن كان نفس الماهية من غير اعتبار قيد زائد وشرط، فيكون كل من تصور الإنسان مثلا تصور أنه موجود، ولم يكن فرق بين كون الإنسان إنسانا وبين كونه موجودا، ولكان قولنا: الإنسان معدوم تناقضا، والتالي باطل فالمقدم مثله، وإن كان الوجود عبارة عن انتساب الماهية الى الجاعل، والنسبة لا تتحقق إلا بعد تحقق الطرفين فننقل الكلام في وجود معروضه، فيعود المحذور جذعا.
فإن قيل: موجودية الماهية ليست بانتسابها الى الجاعل، بل بكونها بحيث تنتسب اليه وترتبط به.
قلنا: فيكون المجعول وما هو أثر الجاعل هو كونها على هذه الحيثية لانفس الماهية بما هي هي، وهو خلاف المفروض، على أن المجعول ها هنا هو الكون المذكور. ونحن لا نعني بالوجود الا هذا الكون، فثبت المطلوب بالخلف والاستقامة معا .
Bog aan la aqoon
الفصل الثاني
في أن الماهية يستحيل أن تكون أثرا للجاعل ومجعولة له، وعليه براهين:
الأول: أن أثر الفاعل لو كان ماهية شيء كماهية الإنسان من حيث هي دون وجودها، لما أمكن لأحد أن يتصور تلك الماهية قبل صدورها عن الفاعل، لما تقرر أن العلم بذي السبب لا يحصل إلا من جهة العلم بسببه، والمقدر خلافه إذ كثيرا ما نتصور الماهيات ولا يخطر ببالنا جاعلها أصلا، بل للعقل أن يتصور ماهية كل شيء من حيث هي هي، أو مجردة عن ما عداها، حتى عن هذه الملاحظة، فليست هي من هذه الحيثية - أي بما هي هي - موجودة ولا مجعولة، ولا لا موجودة ولا لا مجعولة.
وأيضا، فلو كانت هي بما هي هي مجعولة، لكان مفهوم المجعولية ذاتيا لها، ولكانت الماهيات كلها من مقولة المضاف، والتوالي بأسرها ظاهرة البطلان، فالمقدم مثله، والملازمة تظهر بالتأمل الصادق.
فإن قلت: هذا يلزمك على القول بمجعولية الوجود.
قلت: إن وجود كل شيء نفس هويته العينية وحقيقته الخارجية، فلا يمكن العلم بها إلا بالمشاهدة الحضورية والانكشاف النوري، إذ كل ما حصلت صورته في الذهن فهو أمر كلي، وإن تخصصت بمخصصات كثيرة. والوجود هوية عينية متشخصة بذاتها صادرة عن هوية جاعله إياها جعلا بسيطا، فلا يمكن انكشافه وحضوره إلا من جهة حضور هوية جاعله، وهذا المفهوم العام المشترك الانتزاعي الاثباتي، وجه من وجوهه، وهو بمعزل عن الهوية الخارجية، وهذه الهويات الوجودية مجعولات بأنفسها ومنتسبات بذواتها الى مفيضها التام، ومع ذلك، ليست واقعة تحت مقولة المضاف، لأن مقولة المضاف قسم من أقسام الماهيات التي هي زائدة على الوجود، أولا ترى أن الهوية الإلهية مع كونها مبدأ جميع الأشياء، ليست واقعة تحت مقولة المضاف؟ فكذا ساير الهويات الوجودية.
برهان آخر
لو كانت الجاعلية والمجعولية متحققتين بين الماهيات لا بين الوجودات، يلزم التشكيك بالأقدمية وعدمها بين أفراد مقولة الجوهر عند سببية جوهر لجوهر آخر، وهذا باطل عند محصلي الحكماء، حيث بينوا أن لا أولوية ولا تقدم لماهية جوهر على ماهية جوهر آخر ، لا في تجوهره، ولا في جوهريته، أي في كونه محمولا عليه معنى الجوهر الجنسي، فلا يتقدم الإنسان الذي هو الأب على الإنسان الابن في حده ومعناه، ولا في صدق الإنسانية عليه، بل تقدمه عليه إما بالوجود أو بالزمان.
برهان آخر عرشي
إن الصادر الأول مثلا له ماهية نوعية محتملة الصدق على كثيرين، وليس الصادر من الباري عندهم إلا شخصا واحدا من أعداد نوعه المشتركة فيه، فكون الصادر هذا الشخص الواحد دون غيره، لو كان بمجرد صدور ماهيته النوعية، يوجب الترجيح من غير مرجح؛ إذ الجاعل واحد والماهية واحدة، والنسبة بينها وبين اشخاصها متماثلة، فكونها هذا الفرد دون غيره، مما يتساوى نسبته، غير صحيحة، وكذا موجودية هذا الشخص دون سائر الأسخاص، بمجرد ابداع الباري نفس الماهية النوعية المتواطئة مع اشتراكها بين الجميع، غير صحيح.
Bog aan la aqoon
فالحق الحري بالتحقيق والتصديق أن أول الصوادر هو هوية الصادر الأول المتشخصة بذاته، المتميزة بنفسه عن ما عداها، دون ماهيته، فهذه الهوية الوجودية هي المجعولة بالذات، والماهية تابعة لها اتباع الظل للشخص.
وهنا استبصارات كثيرة ذكرناها في كتبنا وجمعناها في رسالة مفردة:
منها: كون الوجود هو الخير بالذات، والعدم هو الشر، والصادر عن الخير الأول هو الخيرات، وهي وجودات الأشياء دون ماهياتها الكلية، إذ لا خيرية ولا كمال في مفهوم العلم والقدرة والصحة والجمال واللذائذ والشهوات الدنيوية والأخروية، بل في حقائقها الوجودية، وليس كل من تصور ماهية السعادة سعيدا، ولا كل من تصور ماهية البهجة مبتهجا، بل من نال وجود السعادة ووجود البهجة.
ومنها: أن الجاعلية والمجعولية لو كانتا بين المهيات، لكانت جميع الموجودات - ما سوى المعلول الأول - من لوازم الماهيات، وهي أمور اعتبارية كما حقق في مقامه؛ والتالي باطل بديهة واتفاقا، فإن أحدا لم يقل بأن السماء والأرض وما بينهما أمور اعتبارية، ونسبة هذا الأمر الشنيع الى العرفاء، افتراء محض تتحاشى عنه أسرارهم.
ومنها: أنه قد تقرر في علم الميزان، ان مطلب " ما " الشارحة، غير مطلب " ما " الحقيقية، وليست المغايرة بينهما في مفهوم الجواب، لأنه الحد التام عند المحققين، بل باعتبار الوجود في أحدهما وعدمه في الآخر، فلو لم يكن للوجود صورة في الخارج، لم يكن بين المطلبين والجوابين فرق يعتد به كما لا يخفى.
أوهام وتنبيهات
ثم إن للقائلين باعتبارية الوجود ومجعولية الماهيات شبها قوية فككنا عقدتها بحمد الله، وطردنا ظلمات هذه الأوهام بنور الهداية والإلهام، فلنشر الى أجوبة بعض منها، وهي هذه.
الأول: إن الوجود لو كان موجودا لكان له وجود، ولوجوده وجود. وهكذا الى غير نهاية.
والجواب: إن الماهية لما لم تكن في نفسها موجودة، فموجوديتها لا بد وأن تكون بأمر زائد عليها، وأما الوجود، فهو بنفسه موجود لا بأمر زائد عليه إلا بحسب الاعتبار العقلي، رعاية لمفهوم الاشتقاق، والتسلسل في الاعتباريات منقطع بانقطاع الاعتبار منها، ولهذا المعنى نظائر كثيرة، كالإضافة، فإنها بنفسها مضافة وغيرها بها مضاف، وكالنور، فإنه منير بذاته، وكاجزاء الزمان فإنها بذواتها متقدمة ومتأخرة.
والثاني: إن الوجود لو كان موجودا بذاته، لكان واجب الوجود بذاته، إذ لا معنى للواجب بالذات إلا ما يكون وجوده ضروريا لذاته، وأي ضرورة أشد من كون الشيء عين نفسه؟
Bog aan la aqoon
والجواب: إن الوجود الإمكاني بحسب هويته متقوم بغيره، واجب به، وإذا قطع النظر عن موجده يكون باطلا محضا، ومعنى كونه ضروري الوجود، انه بعدما صدر ذاته عن العلة، لا يفتقر الى وجود زائد عليه في كونه موجودا، بخلاف الماهية، فإنها في حد ذاتها غير موجودة ولو في وقت صدورها عن الفاعل، ومعنى الإمكان في الوجودات، انها بأنفسها متعلقة الذوات بغيرها، وليست الماهيات متعلقة الذوات بغيرها، فإمكانها عبارة عن تساوي نسبتها الى الوجود والعدم، وبالجملة، هذه الشبهة إنما نشأت من الخلط بين معنى الضرورة الأزلية والضرورة الذاتية.
الثالث: إنه إن كان الوجود في الأعيان صفة للماهية وهي قابلة، فهي إما أن تكون موجودة بعد الوجود، فحصل الوجود مستقلا دونها، فلا قابلية ولا صفتية، أو قبله؛ فهي قبل الوجود موجودة؛ أو معه، فالماهية موجودة مع الوجود لا بالوجود، ولها وجود آخر، وأقسام التالي باطلة كلها، فالمقدم كذلك.
والجواب : إنا نختار أن الماهية موجودة معه في الأعيان، وما به المعية نفس الوجود الذي هي به موجودة، فلا يلزم الإحتياج الى وجود آخر، كما ان المعية الزمانية حاصلة بين الحركة والزمان الذي حصلت فيه بنفس ذلك الزمان بلا زمان آخر، حتى يكون للزمان زمان آخر على أن الحق ان اتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي، كاتصاف الموضوع بما يقوم به فلا قابلية في الحقيقة ولا اتصاف، بل ما في الواقع أمر واحد بلا تقدم بينها ولا معية بالمعنى المذكور، وتفصيل هذا الكلام مما يطلب في مقامه.
الرابع: إن الوجود لو كان في الأعيان، لكان قائما بالماهية، فقيامه إما بالماهية الموجودة، فيلزم وجودها قبل وجودها، أو بالمعدومة، فيلزم اجتماع النقيضين، أو بالماهية المجردة عن الوجود والعدم، فيلزم ارتفاع النقيضين.
والجواب: إنه إن أريد بالماهية الموجودة ما هي موجودة بحسب نفس الأمر، وبالمعدومة ما يقابلها، فنختار ان الوجود قائم بالماهية الموجودة بهذا الوجود، لا بوجود سابق عليه، كما ان البياض قائم بالجسم الأبيض بهذا البياض القائم به لا ببياض آخر، وإن أريد بالموجودة ما يكون الوجود مأخوذا في مرتبة الماهية من حيث هي، فنختار انه قائم بالماهية من حيث هي هي، بلا اعتبار شيء من الوجود والعدم، وهذا ليس بارتفاع النقيضين عن الواقع، بل عن تلك المرتبة. إذ الواقع أوسع من تلك المرتبة.
ولهذا الكلام زيادة تحقيق مذكور في حواشي التجريد، إذ الإشكال مشترك الورود، سواء كان الوجود حقيقيا أو انتزاعيا، ولهذا حكموا بأن لا اتصاف للماهية بالوجود، ولا قيام له بها في الخارج ولا في العقل، إذ لا بد في اتصاف شيء بشيء من المغايرة بينهما في ظرف الاتصاف، وإن لم يكن ثبوت الثابت فرع ثبوت المثبت له، وليس بين الماهية والوجود مغايرة، إلا ان للعقل أن يأخذ الماهية ويعتبرها وحدها مجردة عن جميع أنحاء الوجود، حتى عن هذا التجريد الذي هو أيضا نحو من أنحاء الوجود، فيصفها بالوجود، ففي هذا الظرف العقلي هي موصوفة بالوجود ومخلوطة به أيضا، رعاية لجانبي الخلط والتعرية على أنا نحن في متسع من هذا البحث إذ الموجود عندنا في الأعيان هو الوجود دون الماهية إلا بالعرض، وهي أمر انتزاعي متحدة بالوجود وليست متصفة به.
والخامس: إن الوجود لو كان حاصلا في الأعيان وليس بجوهر، فيكون هيئة قائمة بجوهر، فيكون كيفا لأنه هيئة قارة لا يوجب قسمة ولا نسبة الى امر خارج، وقد حكموا ان المحل متقدم على العرض، فيتقدم الموجود على الوجود، فيلزم تقدم الوجود. وأيضا يلزم أن لا يكون الوجود أعم الأشياء مطلقا، بل الكيفية والعرضية أعم منه من وجه. وأيضا إذا كان عرضا فهو قائم بالمحل، ومعنى أنه قائم بالمحل، أنه موجود فيه، مفتقر في تحققه إليه، ولا شك ان المحل موجود بالوجود، فدار القيام وهو محال.
والجواب: انهم حيث أخذوا في عنوانات المقولات كونها ماهيات كلية حق وجودها العيني كذا وكذا، فسقط كون الوجود في ذاته جوهرا أو كيفا أو غيرها، لعدم كونه كليا، بل الوجودات - كما سبق - هويات عينية متشخصة بأنفسها غير مندرجة تحت مفهوم ذاتي، فليس الوجود جوهرا في ذاته، ولا عرضا بمعنى كونه قائما بالماهية، وعلى تقدير كونه عرضا، لا يلزم كونه كيفية، لعدم كليته وعمومه، وما هو من الأعراض العامة والمفهومات الشاملة للموجودات، إنما هو الوجود الانتزاعي العقلي، ولمخالفته أيضا سائر الأعراض بأن وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها، ووجود الوجود عين وجود الماهية الموضوعة لها، لا وجود غيرها، ظهر عدم افتقاره في تحققه الى الموضوع، فلا يلزم الدور المذكور.
على أن المختار عندنا ان وجود الجوهر جوهر بجوهرية ذلك الجوهر، لا بجوهرية أخرى، وكذا وجود العرض، عرض بعرضية ذلك العرض لا بعرضية أخرى.
الفصل الثالث
Bog aan la aqoon
في أن ما ذكره هذا القائل ينافي مذهب العارفين القائلين بهذا التوحيد عقلا ولفظا
أما الأول: فلأن من ذهب الى أن الماهيات مجعولة وحاصلة بالجعل، ولا شبهة في أن الماهيات أمور متخالفة المعاني، فتكون الموجودات عنده أمورا متكثرة متخالفة بالحقائق متمايزة بالذوات، إذ موجودية الماهية - على هذا المذهب - عبارة عن صدورها عن الفاعل أو انتسابها إليه، فيكون الوجود معنى مصدريا، والموجود أمرا حقيقيا متعددا حسب تعدد أفراد الماهيات الصادرة عن الفاعل، فأين هذا المذهب من مذهب التوحيد الذي عليه العرفاء.
وقريب من هذا ما ذهب اليه بعض المغترين بلامع السراب الوهمي عن مشرب التوحيد الأتمي، ان الوجود الحقيقي شخص واحد وهو ذات الباري، والموجود كلي له أفراد متعددة هي الموجودات، ونسب هذا المذهب الى أذواق المتألهين وزعم أن هذا هو مقصودهم في وحدة الوجود، وهو فاسد من وجوه:
الأول: إن أفراد الموجودات قد تكون متكثرة متقدمة بعضها على بعض في الوجود مع اتحادها في الماهية النوعية، فإذا كانت الماهية واحدة والوجود واحدا شخصيا، فكيف يتعدد الموجود ويتقدم بعضه على بعض؟!
والثاني: إنه يلزم على هذا القول أن يكون قولنا: وجود زيد ووجود عمرو، بمنزلة قولنا: إله زيد واله عمرو، وهذا لا يتفوه به عاقل.
والثالث: إن نسبة الماهيات الى الباري جل ذكره، إن كانت اتحادية، يلزم كون الواجب تعالى ذا ماهية غير الوجود، بل ذا ماهيات متعددة، وقد ثبت أنه صرف الإنية، وإن كانت نسبتها إليه تعالى تعلقية ارتباطية وتعلق الشيء بالشيء فرع على وجودهما وتحققهما، فيلزم أن يكون لكل من الماهيات وجود خاص متقدم على انتسابها إليه تعالى وتعلقها به، إذ لا شبهة في أن معانيها غير معنى التعلق بغيرها، فإنا كثيرا ما نتصور الماهيات ونغفل عن ارتباطها الى الحق، وهذا الكلام لا يجرى في الوجودات، إذ يمكن لأحد أن يدعى ان هوياتها تعلقية، كما سنكشف على من هو أهله.
الرابع: قوله: الوجود واحد والموجود كثير، هوس محض لأنه إذا كان معنى الوجود أمرا نسبيا عنده، فلا فرق بين مذهبه ومذهب من يرى ان الوجود أمر عام مصدري انتزاعي، إلا بأنه سمى المعنى الانتزاعي بالإنتساب الى الجاعل، فالقول بأن الوجود على هذه الطريقة واحد شخصي، والموجود كلي متعدد دون الطريقة الأخرى، تحكم محض.
وأما ان كلمة " لا هو إلا هو " لا يدل على ما قرره في مسألة التوحيد، فذلك بوجهين.
أحدهما: إن غاية ما ذكره، أن شيئا من الماهيات لم يكن ماهية قبل الجعل والتأثير، فبقدرته تعالى صارت الماهيات ماهيات، ولا تقرر لشيء منها إلا بتقريره كما ذكره وأين هذا المعنى من معنى " لا هو إلا هو " إلا أن يرتكب حذف وإضمار وقيل: معناه لا هو بلا جعل وتأثير إلا هو، وهذا أمر لا يحتاج الى مزيد تقرير، إذ لا شبهة لأحد من العقلاء المعتبرين فيه إلا المعتزلة القائلة بثبوت الماهيات بلا جعل، فإن الحكماء سواء ذهبوا الى أن أثر الفاعل هو الماهية، أو ذهبوا الى أنه الموجودية، متفقون على أن الماهية قبل الجعل غير حاصلة، إلا ان إحدى الطائفتين قالت: إن الماهية مجعولة أولا، والوجود تابع لها في الجعل، والأخرى قالت: إن صيرورة الماهية موجودة أثر الجاعل، والماهية تابعة له كما هو المشهور من توابع المشائين.
وما أورده هذا القائل عليهم من أن الوجود أيضا ماهية، فيجب أن لا يكون مجعولا واقعا بتأثير الفاعل، مما علمت حاله من تضاعيف أحوال الوجود وكذا قوله فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفية الماهية بالوجود، فهي إن لم تكن مفهوما مغايرا لهما امتنع استنادها الى الفاعل، وإن كان مغايرا فلا بد أن يكون له ماهية، فيعود الكلام انتهى.
Bog aan la aqoon
وذلك لأن مذهب هؤلاء، هو إن مفاد الجعل وأثر الجاعل هو صيرورة الماهية موجودة، أي هذه الهيئة التركيبية، لا أن شيئا من الماهيات ولا الوجود أثره، ولا ماهية هذه الصيرورة أيضا اثره، لأنها مستغنية عن الجعل، وهذا مثل أن يقال: إن التصديق عبارة عن نحو إذعان أن زيدا قائم مثلا، فكما إن التصديق ليس بتصور المحكوم عليه، ولا تصور المحكوم به ولا تصور النسبة بل الهيئة الإذعانية على الوجه الذي يكون الموضوع متلبسا بالمحمول، فمفاد التصديق اعتقاد أن زيدا قائم، لا تصور هذا الإذعان، ولا تصور قيام زيد، لأنهما من باب التصور ولا تصور زيد قائم، لما ذكرنا، بل إدراك النسبة على أنها نسبة وعلى أنها معنى حرفي، لا على أنها معنى اسمي منسوب أو منسوب اليه.
فهكذا قولهم في كون أثر الجاعل اتصاف الماهية بالوجود، فمفاد الجعل في الخارج عندهم كمفاد التصديق في الذهن، فاندفع النقض الذي أورده عليهم عنهم، سواء كان مذهبهم صحيحا أو فاسدا.
الوجه الثاني: إن ضمير " هو " وسائر الضمائر كأنا وأنت وغيرها، ليس معانيها إلا أنحاء الوجودات، والدليل عليه أن كلمة " هو " - الذي كلامنا فيه - لو كانت موضوعة لغير الوجود الخاص فهي إما موضوعة لماهية مخصوصة، فيجب أن لا يطلق على غيرها وتتبادر هي الى الفهم عند الاطلاق بعد العلم بوضعها إياها، والواقع بخلافه؛ وإما موضوعة لجميع الماهيات بوضع واحد، فهو ظاهر البطلان، وإلا فينبغي أن يتبادر الى الذهن عند الإطلاق، وليس كذلك، وإما موضوعة لماهيات متعددة غير متناهية بأوضاع متعددة غير متناهية، وهو ظاهر البطلان أيضا، ولا انها موضوعة لماهية ما من حيث هي، وإلا لم يفهم منها ماهية مخصوصة، إذ العام لا دلالة له على الخاص، والواقع خلافه، ولا أيضا يصح أن يقال إنها موضوعة لماهية ما بشرط كونها غائبة، وإلا لزم أن لا يفهم من كلمة " هو " إلا هذا المفهوم، بل الحق ان الضمائر كلها: كهو وأنت وغيرهما، وكذا أسماء الإشارات كلها: كهذا وذلك وغيرهما، موضوعة لأنحاء الهويات الوجودية، إذ الوجود حقيقة واحدة، وله أفراد وأعداد متمايزة الأشخاص؛ يصح أن يتصورها الواضع من جهة وحدة حقيقتها المشتركة، ويضع الإسم لأفرادها الخاصة بحسب أوصافها الوجودية التي حكمها حكم أصل الوجود في وحدتها وتعددها.
وهذا معنى قولهم في أسماء الإشارة: إن الوضع فيها عام والموضوع له هو الخصوصيات؛ فعلى هذا " لا هو " لا يدل على نفي الماهية، بل على نفي الهوية.
لا يقال: الماهية مشتقة من الهوية، لأنها مأخوذة من " ما هو " وهو السؤال عما به الشيء هو هو، فيكون كلاهما مشيرا الى شيء واحد، فلا فرق بينهما بحسب جوهر اللفظ ومادته اللغوية.
قلنا: الفرق بأن " هو " عبارة عن الوجود الشخصي و " ما هو " سؤال عن طلب ذاتياته، وهي المعاني الكلية المتحدة به في مرتبة وجوده الذاتي، الصادقة عليه بحسب تلك المرتبة فيما له ماهية غير الهوية، فمدلول " هو " غير ما وقع في جواب " ما هو " ، لأنه من المطالب الكلية، فهما متغايران معنى، ولهذا افترقت الهوية عن الماهية في الواجب تعالى، وكذا في الهويات الوجودية بما هي هويات في العلم الحضوري الشهودي فافهم واغتنم.
الفصل الرابع
في الاشارة الى لمعة من لوامع علم التوحيد الخاصي
إن لنا بإعلام الله وإلهامه برهانا شريفا على هذا المطلب الشريف، الذي هو الوجهة الكبرى لأهل السلوك العلمي محكما في سماء وثاقته التي ملئت حرسا شديدا وشهبا، لا يصل إليه لمس شياطين الأوهام، ولا يمسه القاعدون منه مقاعد للسمع، إلا المطهرون من أرجاس الجاهلية المكتسبة من ظلمات الأجسام.
بيانه: أن الواجب تعالى، لما كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلقات، فليس وجوده متعلقا بشيء متوقفا على شيء، فيكون بسيط الحقيقة لا ينقسم في وجود ولا في عقل ولا في فهم، فذاته واجب الوجود من جميع الجهات، كما أنه واجب الوجود بحسب الذات، فليس فيه جهة إمكانية ولا امتناعية، وإلا لزم التركيب بوجه من الوجوه، المستدعي للإمكان. فإذا تقررت هذه المقدمة التي مفادها أن كل وجود وكل كمال وجود يجب أن يكون حاصلا لذاته، فايضا عنه، مترشحا على غيره، كما قال
Bog aan la aqoon
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما
[غافر:7] وهما عين ذاته، فلو كان في الوجود إله غيره فيكون لا محالة منفصل الذات عنه، لاستحالة أن يكون بين الواجبين علاقة وجودية، وإلا لزم معلولية أحدهما، وهو خرق الفرض، فلكل منهما على الفرض المذكور مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر، ولا منبعثا منه، فايضا من لدنه، فيكون كل منهما عادما لكمال وجودي، فذاته حينئذ لا تكون محض حيثية الفعلية والوجوب، بل يكون ذاته بذاته مصداقا لحصول شيء وفقد شيء آخر، فلا يكون بسيط الحقيقة خالصا بل مزدوجا، والازدواج ينافي الوجوب الذاتي كما مر.
ومن هنا ظهر أن كل بسيط الحقيقة يجب أن يكون كل الوجود وكله الوجود، كما يعلمه الراسخون في العرفان.
وبالجملة، فواجب الوجود يجب أن يكون من فرط التحصيل وكمال الفعلية جامعا لجميع النشئآت الوجودية، فلا مكافئ له في الوجود، ولا ثاني له في الكون، ولا شبيه له ولا ندبل ذاته من تمام الفضيلة يجب أن يكون مستند جميع الكمالات، ومنبع كل الخيرات، فيكون بهذا المعنى تاما وفوق التمام، فهذا هو بيان التوحيد الخاصي، أي نفي المشارك في الوجوب، وقد انجر الى التوحيد الأخصي، وهو نفي المشارك في الوجود.
الفصل الخامس
في أن الباري هو الحق وكل ما سواه باطل دون وجهه الكريم
بيانه: أن العلية والمعلولية - كما ثبت وتقرر - لا يكونان إلا في نفس الوجود لما علمت ان الماهيات لا تأصل لها في الكون ولا في الجعل، وعلمت أيضا أن هوية الشيء وذاته هي عين نحو وجوده الخاص به، فالجاعل جاعل بنفس وجوده، والمجعول مجعول بنفس وجوده جعلا بسيطا، لا بصفة زائدة على نفس هويته الوجودية.
فإذا تقرر هذا فنقول: لما كان كل موجود معلول فهو في حد ذاته متعلق بغيره ومرتبط به، فيجب أن تكون ذاته الوجودية ذاتا تعلقية ووجوده وجودا تعلقيا.
لا بمعنى انه شيء وذلك الشيء موصوف بالتعلق، بل هو بما هو هو عين معنى التعلق بشيء والانتساب إليه، وإلا فلو كانت له هوية غير التعلق والافتقار الى الجاعل، ويكون التعلق والافتقار زائدين على ذاته، فلم يكن ذاته بذاته متعلقا بفاعله مجعولا له، فيكون المجعول بالذات شيئا آخر، وهو خلاف المقدر، ويكون هذا المفروض مجعولا مستقل الحقيقة غير متعلق الهوية بفاعله. فإذا ثبت أن كل علة علة بذاتها، وكل معلول معلول بذاته، وثبت ان ذات الشيء هي وجوده، وان الماهيات امور كلية اعتبارية منتزعة من أنحاء الوجودات بحسب هوياتها، فينكشف ان المسمى بالمعلول، ليست هويته أمرا مباينا لهوية علته المفيضة، ولا يمكن للعقل أن يشير في المعلول إلى هوية منفصلة عن هوية موجده، حتى يكون هناك هويتان مستقلتان في الإشارة العقلية إحداهما مفيضة والأخرى مفاضة، وإلا لم تكن ذاته بذاته مفاضة.
نعم للعقل أن يشير إلى المهيات والأعيان الثابتة، لعدم تعلقها بذواتها إلى علة فاعلة، فإذن المجعول بالجعل البسيط، لا ذات له مباينة لذات مبدعه، فإذا ثبت تناهي سلسلة الموجودات إلى حقيقة واحدة بسيطة، ظهر ان لجميع الموجودات حقيقة واحدة، ذاته بذاته وجود وموجد وهو بحقيقته محقق الحقائق، وبسطوع نوره منور ماهيات السموات والأرض، فهو الحقيقة والباقي شؤونه، وهو الذات وغيره أسماؤه، وهو الأصل وما سواه أطواره وفروعه وحيثياته.
Bog aan la aqoon