224

وأما الأشاعرة فتارة بأنه يحتمل أن يخلق الله له سماعا لكلامه، ثم أقدرة على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام، وتارة بأنه يجوز أن يخلق الله في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص، فقرأ جبرائيل (عليه السلام) فحفظه، وتارة بتجويز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فتلقفه جبرائيل، ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم، هذا خلاصة ما ذكروه في هذا المقام.

وطائفة استدلوا على كون الملائكة أجساما متحيزة؛ بأن وصف القرآن بالنزول الذي لا يتصف به إلا المتحيز بالذات دون الأعراض، وسيما غير القار منها كالأصوات، إنما هو بتبعية محله، سواء اخذ حروفا ملفوظة، أو معاني محفوظة، وهو الملك الذي يتلقف الكلام من جانب الملك العلام تلقفا سماعيا، أو يتلقى القرآن تلقيا قلبيا، أو يتحفظه من اللوح المحفوظ ثم ينزل به على الرسول، ولا يتمشى ذلك إلا بالقول بتجسم الملائكة، وهذا هو مسلك أرباب الجدل والتخييل، دون أصحاب البصيرة والتحصيل.

وأما على مسلك هؤلاء وممشاهم من القول بما هو صريح الحق وما عليه كافة الحكماء الإلهيين، والربانيون من الإسلاميين، وهو ان الملائكة - كما مر - تطلق على قبائل علويات وسفليات، سماويات وأرضيات، قدسيات وجسمانيات، وفي القبائل شعوب بطبقات كالقوى المنطبعة والطبائع الجوهرية، والنفوس المفارقة، وأرباب الأنواع والصور المفارقة، والعقول القادسة بطبقات أنواعها. ومنها روح القدس النازل بالوحي النافث في أرواع اولي القوة القدسية بإذن الله وغير ذلك مما لا يعلم أعدادها ولا أنواعها إلا الله كما قال:

وما يعلم جنود ربك إلا هو

[المدثر:31].

وقال (صلى الله عليه وآله):

" اطت السماء وحق لها أن تئط. ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع ".

فالأمر غير مشتبه على الناهج منهجهم، والماشي ممشاهم، وقد مر منا القول بأن كلام الله ليس مقصورا على ما هو من قبيل الأصوات أو الحروف، ولا على ما هو من قبيل الأعراض مطلقا ألفاظا كانت أو معاني، بل كلامه ومتكلميته، يرجع الى ضرب من قدرته وقادريته، وله في كل عالم من العوالم العلوية والسفلية صورة مخصوصة.

وطائفة أخرى اقتصروا على القول بالتلاقي الروحاني والظهور العقلاني بين النبي (صلى الله عليه وآله) والملك الحامل للوحي، فسموا ظهوره العقلاني لنفوس الأنبياء (عليهم السلام) نزولا، تشبيها للهبوط العقلي بالنزول الحسي، وللاعتلاق الروحاني بالاتصال المكاني، فيكون قولنا: نزل الملك، استعارة تبعية، وقولنا: نزل الفرقان، مجازا بتبعية تلك الاستعارة التبعية. وهذا مما فيه إسراف في فحوله التنزيه، كما في القول الأول في انوثة التشبيه، وإن في كلا القولين زيغا عن طريق الصواب، وحيدا عما فيه هدى لأولي البصائر والألباب، وشقا لعصا الأمة لفرقها المتفرقة وأحاديثها النبوية المتواترة، وخرقا للقوانين العقلية المنضبطة، فالأمة مطبقة على أن النبي (صلى الله عليه وآله)، كان يرى جبرائيل وملائكة الله المقربين (عليهم السلام)، ببصره الجسماني، ويسمع كلام الله الكريم على لسانهم القدسي، بسمعه الجسداني الشخصي.

والبرهان العقلي قائم بالقسط، على أن مناط الرؤية والسماع الحسيين في الإنسان، وجود الصورة البصرية، كالألوان والأشكال وغيرهما، والصورة المسموعة كالأصوات والحروف والكلمات عند النفس بقوتها الباطنة المدركة للجزئيات الصورية، ومثولها بين يدي الحس الباطن لها، الذي هو مجمع الحواس الظاهرة، وإنما المبصر بالحقيقة والمسموع بالحقيقة من الشيء الماثل بين يدي الحس الظاهر؛ هو صورته الحاضرة في ساحة النفس النطاقة وصقع ملكوتها.

Bog aan la aqoon