340

{ ذلك } المذكور من الأحكام المتقدمة، من أول السورة إلى هنا { ممآ أوحى إليك ربك } يا أكمل الرسل تربيتة لك، وتأييدا لأمرك { من الحكمة } المتقنة التي يجب الامتثال والانصاف بها على من أراد سلوك سبيل التوحيد، المبني على عدالة الأخلاق والأطوار والشئون { و } معظم المنهيات والمحظورات: الشرك بالله. العياذ بالله منه. لذلك كرره تأكيدا ومبالغة، وبالغ في الاحتراز عنه حبيبه، حيث قال: { لا تجعل مع الله } المتوحد المتفرد في ذاته، المعبود بالحق والاستحقاق { إلها آخر } يعبد له كعبادته، وإن اتخذت إليها سواه { فتلقى في جهنم } البعد والخذلان، حال كونك { ملوما } تلوم نفسك بأنواع الملومات بما ضاع عنك من التوحيد المنجي عن جميع المضائق والمهالك { مدحورا } [الإسراء: 39] مبعد عن رحمة الله، وسعة فضله وإحسانه.

{ أ } تزعمون أيها المشركون المستكبرون أن الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء فضلكم على نفسه { فأصفاكم } أي: خصصكم واجتباكم { ربكم بالبنين } الذين هم أكرم الأولاد وأشرفها { واتخذ } لنفسه أولادا { من الملائكة إناثا } نواقص عقلا ودينا { إنكم } أيها المسرفون بإقدامكم واجترائكم على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة { لتقولون } في حق الله { قولا عظيما } [الإسراء: 40] بهتانا وزورا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

إذ نسبة الأولاد إلى الصمد المنزه عن الأنداد في نهاية الشناعة والفساد، وأشنع منه نسبة الإناث إليه، ثم نسبة الملائكة الذين هم من أفضل عباد الله وأشرفهم إلى الأنوثة المستحقرة المذمومة شرعا وعقلا، هذا مع غاية الإفراط في حق الله، والتفريط في خلص عباده؛ لذلك وصف سبحانه هذا القول الشنيع بالعظمة.

ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتقريعا، وإشارة إلى تناهيهم في الضلال والطغيان: { ولقد صرفنا } وكررنا مرارا شناعة هذا القول؛ أي: نسبة الولد إلى الله الصمد المنزه في ذاته عن الأهل والولد { في هذا القرآن } المنزل لهداية أهل الغي والضلال { ليذكروا } أي: ليتذكروا ويتعظوا، ويتفطنوا إلى وخامة عواقبه ومآله، ومع ذلك لم يتذكروا ولم يتفطنوا، بل { وما يزيدهم } التكرار والمبالغة { إلا نفورا } [الإسراء: 41] إعراضا عن الحق، وإصرارا على ما عليه من الباطل.

{ قل } لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا: { لو كان معه آلهة } أمثاله { كما يقولون } وتدعون أيها المشركون، هم معبودون بالحق، مستحقون للعبادة كما زعمتم { إذا لابتغوا } ولطلبوا { إلى } معاداة { ذي العرش سبيلا } [الإسراء: 42] ليغلبوا عليه، ويستولوا على ملكه، كما يفعل الولاة بعضهم مع بعض؛ إذ لو عجزوا عن مماراته ومقابلته، لم يكونوا مثله، فلم يستحقوةا للعبادة المطلقة مثله.

{ سبحانه } أي: نزه سبحانه ذاته تنزيها بليغا، وقدس تقديسا متناهيا في القدس والنزاهة { وتعالى } أي: ترفع وتعاظم { عما يقولون } هؤلاء الظالمون، المسرفون المفرطون في شأنه من إثبات الشريك المماثل له، والكفء المتكافىء معه { علوا كبيرا } [الإسراء: 43] أي: تعاليا وتباعدا في غاية البعد والاستحالة؛ إذ لا موجود سواه، ولا إله غيره.

كيف تغفلون وتذهلون عن دلائل توحيده الحق وشواهده أيها الضالون المضلون، مع أنكم مجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد، ومع ذلك { تسبح له } وتقدس ذاته عن الشريك والولد، والكفء والنظير { السموت السبع } المطبقة المعلقة المنضودة، المنظومة على أبلغ النظام وأعجبه، مع ما فيها من الكواكب المختلفة الألوان والأشكال، والمنازل والحركات والآثار المترتبة عليها، ومع ما فيها من عجائب المخلوقات، وغرائب المبدعات والمخترعات التي لا علم لنا إلا بأنياتها دون لمياتها، كل ذلك يدل على وحدة مظهرها وبارئها { والأرض } وما عليها من أنواع النباتات والمعادن والحيوانات التي عجزت عن إحصائها ألسنة أولي البصائر والنهى، المعتبرين المتأملين في مصنوعات الحق، وعجائب مخترعاته { ومن فيهن } من الملائكة والثقلين المجبولين على عبادة الحق وعرفانه.

{ و } بالجملة: { إن من شيء } أي: ما من شيء مما يطلق عليه اسم الشيء، ويمتد عليه ظل الوجود { إلا يسبح بحمده } أي: ينزهه ويقدسه عن شوب الحدوث والإمكان، بعضها بالحال، وبعضها بالمقال، سيما عن أقوى أمارات الإمكان التي هي الإيلاد والاستيلاد.

{ ولكن لا تفقهون } تفهمون أيها المنهمكون في الغي والضلال { تسبيحهم } لعدم اشتغالكم بالتدبر والتأمل في مصنوعات الحق، والتفكر في آياته، بل تنكرونها وتصرون على القدح فيها عنادا ومكابرة، وتشركون بالله. العياذ بالله منه. أندادا وبذلك استوجبتم أشد العذاب والنكال، فأمهلكم الله { إنه كان حليما } لا يعاجل بالانتقام والعقوبة رجاء أن تتعظوا وترجعوا نحوه بالتوبة والندم على وجه الإخلاص، فيغفر زلتكم كلها، إنه كان { غفورا } [الإسراء: 44] للأوابين التوابين، الرجاعين إليه بكمال الندم والإخلاص، وإن عظمت زلتهم، وثرت معصيتهم.

{ و } من كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل، وغاية حفظنا وحراستنا إياك { إذا قرأت القرآن } واستغرقت في لجج رموزه وإشاراته، وخضت ي تيار بحاره لطلب فرائد فوائده، وصرت من غاية استغراقك وتلذذك بها إلى أن غبت عن محافظة نفسك، ومراقبة حالك { جعلنا } وصيرنا { بينك وبين } القوم { الذين لا يؤمنون بالآخرة } ولا يوقنون بالأمور المترتبة عليها فيها { حجابا } غليظا، وغشاء كثيفا { مستورا } [الإسراء: 45] بسترك عن أعين أعدائك، القاصدين لك سوءا، مع أنهم لا يرون الحجب أيضا.

Bog aan la aqoon