317

وكيف تشركون أيها المشركون ما لا يقدر على خلق أحقر الأشياء وأضعفها للقادر الحكيم الذي { خلق السموت } مع كمال عظمتها وفعتها { والأرض } بكمال بسطتها، وإنماخلق ما خلق، وأظهر ما أظهر ملتبسا { بالحق } أي: بانبساط نور الوجود الكائن الثابت في نفسه، وامتداد أظلال أوصافه وأسمائه عليهما، مع أنه على صرافة وحدته، وهما على عدميتهما الأصلية { تعالى } وتقدس { عما يشركون } [النحل: 3] له شيئا لا وجود له، ولا تحقق سوى الظلية والعكسية.

ولا سيما كيف يشركون أولئك الحمقى الضالون للقادر الذي { خلق الإنسان } وأوجده على أحسن صورة، وأعدل تقويم { من نطفة } دينة مهينة، لا تمييز لها أصلا ولا شعور، ورباها إلى أن صار ذا رشد وتمييز وكمال، وإدراك ودارية { فإذا هو خصيم } مجادل مبالغ في امتياز الحق من الباطل، والهداية من الضلال { مبين } [النحل: 4] ظاهر البيان بإقامة الدلائل البراهين القاطعة، وما هي إلا من تربية مبدعها وخالقها القادر المقتدر بالإرادة والاختيار؟!.

{ والأنعام } أيضا { خلقها } وأوجدها طفيلا للإنسان؛ ليكون { لكم } أيها المجبولون على الكرامة الفطرية { فيها دفء } تستدفئون به من الألبسة والأغطية المتخذة من أصوافها وأشعارها وأوبارها لدفع الحر والبرد { ومنافع } غير ذلك من الخباء والقباء وغيرهما { ومنها تأكلون } [النحل: 5] لتقويم مزاجكم وتعديلها من لحومها وشحومها وألبانها.

{ و } أيضا { لكم فيها جمال } وزينة وجاء بين أظهركم { حين تريحون } وتجمعونها إلى المراح من المرعى وقت الرواح مملوءة الضروع والبطون { وحين تسرحون } [النحل: 6] وترسلونها إلى المرعى وقت الصباح.

{ و } من أعظم فوائدها أنها { تحمل أثقالكم } أي: أحمالكم التي تستثقلونها { إلى بلد } بعيد { لم تكونوا بالغيه } أي: لم يحصل لكم بلوغها إليها لولاها { إلا بشق الأنفس } أي: بالمشقة التامة، والعسر المفرط، فخلقها سبحانه تيسيرا لكم وتسهيلا، تتميما لتكرمكم { إن ربكم } الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم { لرؤوف } عطوف مشفق لكم، يسهل عليكم كل عسير { رحيم } [النحل: 7] لكم، يوفقكم ويهيئ أسبابكم؛ لتواظبوا على أداء ما أفترض عليكم من كسب المعارف والحقائق الرافعة لكم إلى أرفع المنازل، وأعلى المراتب.

ثم أشار سبحانه أيضا إلى ما يضركم، ويدفع أذاكم، ويرفع جاهكم تتميما لتعظيمكم وتربيتكم، فقال: { والخيل والبغال والحمير } إنما خلقها وأظهرها سبحانه { لتركبوها و } تجعلوها { زينة } لأنفسكم بين بني نوعكم { و } بالجملة: { يخلق } لكم ربكم على مقتضى عمله بحوائجكم ومزيناتكم { ما لا تعلمون } [النحل: 8] وتأملون أنتم لأنفسهم مما يعنيكم ويعينكم في النشأة والأخرى.

[16.9-15]

{ و } كما يدبر سبحانه أمور معاش عباده على الوجه الأليق الأحسن بحالهم، كذلك له أن يدبر أمور معادكم، بل هي أولى للتبدير؛ لذلك { على الله } المصلح لأحوال عباده { قصد السبيل } أي: إرشادهم وهدياتهم إلى طريق مستقيم موصل إلى توحيده؛ ليصلوا إليه، ويفوزوا بما وعدوا عنده { و } كيف لا يرشدهم سبحانه إلى سواء السبيل { منها } أي: من السبيل { جآئر } مائل منصرف عن الحق وتوحيده على مقتضى أوصافه الجلالية المذلة المضلة تتميما للقدرة الكاملة، والسلطنة العامة الشاملة لكلا طرفي اللطف والقهر، والجمال والجلال { ولو شآء } وأراد سبحانه هدايتكم { لهداكم أجمعين } [النحل: 9] على مقضى تجليات الأوصاف اللطيفة الجمالية، المثمرة للذة الدائمة، والسرور المستمر الغير المنقطعة، لكن اقتضى حكمته البالغة أن يكون جنابه رفيعا متعاليا عن أن يطلع عله واحد بعد واحد؛ لذلك تجلى على بعض المظاهر بالأوصاف القهرية الجلالية المورثة للحزن الدائم، والألم المخلد.

وكيف لا يدبر سبحانه أمور عباده { هو الذي أنزل } وأفاض { من السماء مآء } محييا لموات الأرض، مثل إحياء الروح الأراضي الأجساد؛ ليحصل { لكم منه شراب } تشربون منه، أو تعصرونه من القصب والفواكه { و } يحل { منه شجر } أي: أنواع النباتات المستخرجة من الأرض لرعي مواشيكم؛ { فيه تسيمون } [النحل: 10] وتسرحون دوابكم للرعي إلى أن يسمن فيؤكل.

وأيضا { ينبت لكم } أي: لقوتكم المقوم لقوتكم المقوم لمزاجكم { به الزرع } بأنواعها؛ لتتخذوا منها أخبارا { والزيتون } للإدام { والنخيل والأعناب } للتفكه والتقوت أيضا { و } بالجملة: يخرج لكم به { من كل الثمرات } تتميما لأمور معاشكم، وتقويما لمزاجكم؛ لتفكروا في آلائه ونعمائه، وتتذكروا ذاته؛ كي تفوزوا بمعرفته وتوحيده { إن في ذلك } أي: إنعام هه النعم العظام المذكورة { لآية } عظيمة، وبينة واضحة لائحة { لقوم يتفكرون } [النحل: 11] أي: يستعملون عقولهم في تفكر آلاء الله ونعمائه؛ ليواظبوا على أداء شكرها.

Bog aan la aqoon