إن الروعة العقلية والفنية لليونانيين يمكن أن تبهرنا إلى حد يصعب علينا معه أن نتبين أن تأثير معرفتهم وذكائهم كان مرتبطا بالمظاهر أكثر مما كان مرتبطا بالحقائق العملية والمادية للحياة، فجمال المدن والمعابد والتماثيل والأواني اليوناني، ودقة منطق اليونانيين ورياضتهم وفلسفتهم، تخفي عنا حقيقة أن أسلوب الحياة في معظم شعوب البلاد المتحضرة كان - عند سقوط الإمبراطورية الرومانية - مماثلا إلى حد بعيد لما كان عليه قبل ذلك بألفي عام، عندما انهارت الحضارة البرونزية القديمة (عند المصريين القدماء والبابليين ... إلخ). ولو استثنيا بعض التحسينات الطفيفة في الري وشق الطرق وبعض الأساليب الجديدة في العمارة الضخمة وتخطيط المدن؛ فإن العلم اليوناني لم يطبق إلا على نطاق ضيق، وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة؛ إذ إن العلم - أولا - لم يكن يلقى اهتماما من المواطنين ميسوري الحال لأي هدف من هذا النوع، بل كان هؤلاء يحتقرون مثل هذه الأهداف - وثانيا - لأن العلم الذي توصلوا إليه كان محدودا ذا طابع كيفي إلى حد يستحيل معه استخدامه على نطاق عملي واسع، حتى لو استقر عزم العلماء على ذلك.
2
وهكذا تركت الحضارة اليونانية والرومانية العالم دون أن يتغير كثيرا عما كان عليه في الحضارات السابقة، من حيث الإنجازات العملية والتطبيقية، وإن كان اليونانيون قد هزوا عقل الإنسان هزا عنيفا، وأيقظوا فيه التطلع إلى معرفة القوانين المجردة والأسس النظرية التي بنيت عليها الخبرات المتراكمة منذ القدم، ولم ينجح اليونانيون - برغم امتياز عقولهم - في الجمع بين النظرية والتطبيق، فكان لهم بذلك علم قادر على تغيير عقل الإنسان، دون أن يكون قادرا على تغيير العالم.
وفي وسع القارئ أن يلمح - خلال الحديث السابق عن مبالغة اليونانيين في تأكيد الجانب النظري للعلم - نتيجتين سلبيتين كان من الضروري أن يؤدي إليها هذا الفصل القاطع بين عالم النظرية، الذي هو وحده الجدير باهتمام المفكر اليوناني، وعالم الواقع أو العالم المادي الذي وضعه الفكر اليوناني في مرتبة دنيا من حيث جدارته بأن يكون موضوعا للبحث العلمي. النتيجة الأولى هي التفرقة بين مراتب العلوم، والثانية هي العجز عن تطبيق النظريات الرياضية على البحث في عالم الطبيعة. فلنتحدث عن كل من هاتين النتيجتين على حدة.
ففي كتابات الفلاسفة اليونانيين نجد تفرقة واضحة بين علوم عليا وعلوم دنيا أو علوم شريفة وعلوم وضيعة، ويكون العلم شريفا كلما كان الموضوع الذي يبحثه أرفع، وكلما كان منهج بحثه أقرب إلى المنهج العقلي الصرف؛ فالفلك مثلا علم رفيع؛ لأنه يبحث في كائنات علوية هي الأفلاك، التي كانت في نظر الحضارات القديمة كلها كائنات سماوية رفيعة لها طبيعة تسمو على الطبيعة الأرضية. والرياضيات علم رفيع؛ لأننا لا نحتاج في ممارستها وتعلمها إلا إلى العقل وحده. ومثل هذه التفرقة بين مراتب العلوم كان من الضروري أن تأتي بنتائج سيئة على تطور التفكير العلمي؛ إذ إنها أدت إلى استبعاد موضوعات عظيمة الأهمية من مجال العلوم الجديرة بالاهتمام؛ فالكيمياء - مثلا - بوصفها علما يبحث في المواد وتفاعلاتها لم يكن من الممكن أن تظهر بين اليونانيين؛ لأن موضوعها غير جدير - في نظرهم - باهتمام العالم، ولأن طريقة بحثها ليست عقلية بحتة، بل تحتاج إلى تعامل مع المادة. ولو تصورنا أن أحدا قد اقترح على اليونانيين البحث في علم كالجيولوجيا؛ لقوبل منهم بسخرية مريرة، إذ إنه يبحث فيما يوجد في باطن الأرض وفي العالم الأدنى، على حين أن العالم لا يليق به إلا البحث في الأمور العليا، ولو تخيلنا أن عالما بالحشرات قد زار اليونان القديمة لما وجد منهم إلا الازدراء؛ لأن الحشرات التي يبحثها كائنات منحطة. وهكذا ألحق الفكر اليوناني ضررا بالغا بمفهوم العلم حين أصر على أن يضع العلوم في مراتب متسلسلة، منها الرفيع ومنها الوضيع، وكان لا بد من جهد كبير لكي يحقق الفكر البشري المساواة بين جميع علومه، ولا يرى أيا منها جديرا بالازدراء. بل إن العلمين «المحتقرين» السابقين يحتلان في عالم اليوم مكانة رفيعة؛ الأول حين يتوصل مثلا إلى كشف بترولي هام. والثاني حين يهتدي إلى وسيلة تخلص البشرية من آفة مثل دودة القطن أو ديدان البلهارسيا. وإذا كان هناك تسلسل في المراتب بين علوم اليوم، فإن المرء يكاد يشعر بأن الترتيب قد انعكس؛ لأن العلوم التي تبحث في الأشياء المادية - كالطبيعة والكيمياء وعلم الأحياء - هي التي أصبح لها مكان الصدارة، على حين أن العلوم العقلية تجاهد لكي تجد لنفسها مكانا إلى جانب العلوم الطبيعية.
أما النتيجة الثانية فهي أن الحرص على أن تظل العلوم العقلية محتفظة بنقائها، بعيدا عن أدران العالم المادي، قد أدى إلى انفصال العلوم الرياضية عن العلم الرياضي، فنمت الرياضيات على أيدي اليونانيين نموا ملحوظا، ولكنهم لم يحاولوا تطبيقها على مشكلات الطبيعة، واستخدامها أداة للتعبير عن قوانين العالم المادي. وهكذا كان العلم الطبيعي يعاني من الإهمال أولا، ومن الانصراف عن تطبيق الرياضيات في صياغة قوانينه ثانيا. وكانت نتيجة ذلك أن اتسمت نظرة اليونانيين إلى العالم الطبيعي بالتخلف الشديد، وأدى عدم تطبيق الرياضيات (الكمية) عليه إلى سيادة النظرة «الكيفية» إلى الأشياء؛ فحين يتحدثون عن خصائص العناصر الطبيعية يصفونها من خلال «كيفيات» فيقولون: إنها حارة أو باردة، خفيفة أو ثقيلة. أما التعبير «بالأرقام» عن درجة الحرارة أو الوزن فلم يخطر ببالهم؛ لأن الرياضة في نظرهم لها عالمها الرفيع الذي لا ينبغي أن يقترب من عالم الأشياء الأرضية. ولا شك أن هذه النظرة «الكيفية» إلى العلم الطبيعي كانت تعني تخلفا تاما في هذا العلم، فلا غرابة في ألا يبدأ بحث الطبيعة بحثا علميا دقيقا إلا بعد انقضاء عصر الحضارة اليونانية بقرون متعددة.
ولقد سبق أن ذكرنا ضمن المزايا التي اتسم بها العلم اليوناني بحثه عما هو «عام» في الظواهر، وقلنا: إن هذه سمة أساسية في كل علم؛ لأن العلم لا يهتم بالأفراد إلا بقدر ما يمثلون القاعدة أو القانون «العام»، ولكن اليونانيين كانوا مغالين في هذه الصفة بدورها؛ فقد بالغوا في التعميم إلى حد أنهم كانوا يطلقون كثيرا من الأحكام المتسرعة، وتجاهلوا السمات الفردية المميزة للظواهر إلى حد الاكتفاء بأوسع وأعم صفاتها، أعني تلك الصفات التي لا تفيد كثيرا في تقدم العلم.
وكان من نتيجة ذلك أن الحد الفاصل بين العلم والفلسفة لم يكن موجودا عند اليونانيين، وإنما كان هناك نوع واحد من «المعرفة» قد تختلف وسائله أحيانا، ولكنه يمثل في كل الحالات نشاطا عقليا واحدا . وإذا كانت الفلسفة تجد في هذا التوحيد بينها وبين العلوم أيام اليونانيين مصدرا للفخر والاعتزاز، فتتباهى بأنها «أم العلوم» التي خرج كل علم من حضنها عندما شب عن الطوق، فإن العلم يجد في هذا التوحيد ذاته سببا من أهم أسباب تخلفه؛ إذ إن البحث العلمي شيء والتفكير الفلسفي شيء آخر. وصحيح أن بين الاثنين عناصر مشتركة كالتفكير المنظم والاحتكام إلى المنطق السليم، ولكن الطريقين يفترقان في المنهج وفي الهدف. وكل محاولة للبحث في الموضوعات العلمية بالطريقة الفلسفية لا بد أن تؤدي إلى تأخر العلم، وهكذا فإن العلم يرد على تباهي الفلسفة فيقول: إنه يعترف بأمومتها، ولكنه لا ينسى أن هذه الأم كانت متسلطة على بنيها أكثر مما ينبغي، ولم تعترف باستقلالهم إلا رغما عنها، وفي وقت تأخر حلوله أكثر مما يجب.
وأخيرا فإني أود - قبل أن أختم هذا العرض لسمات التفكير العلمي في العصور القديمة - أن أشير إلى أمرين لهما أهمية خاصة:
أول هذين الأمرين هو أن الصورة التي قدمتها للتفكير القديم - وخاصة عند اليونانيين - لا تتناول سوى الإطار العام وحده، ولو كان المجال يتسع للمعالجة التفصيلية لأمكننا أن نشير إلى وجود حالات للتفكير العلمي اليوناني تخرج عن هذا الإطار الذي أشرنا إليه كما هي الحال في البحوث الطبيعية والبيولوجية ذات الطابع التجريبي عند أبقراط وجالينوس، أو في كشوف أرشميدس في ميدان الفيزياء، أو في ذلك المنهج العلمي الدقيق الذي يقترب كثيرا من المنهج الحديث، الذي كان يتبع في مدرسة الإسكندرية، وهي مدرسة يونانية متأخرة كانت أساليب البحث فيها مغايرة لمعظم ما قلناه عن اليونانيين، ولكننا حرصنا على أن نقدم الصورة المجملة دون خوض في التفاصيل، وعلى أن نعرض للقارئ القاعدة العامة دون تقديم للاستثناءات، رغم اعترافنا بأن بعضها كان عظيم الأهمية.
Bog aan la aqoon