ويترتب على هذه التفرقة بين المظهر والحقيقة إرجاع الأشياء المحسوسة إلى معان مجردة؛ لأن من طبيعة العلم أن يجرد الظواهر من مظهرها العادي الملموس، ويعبر عنها في صيغ مجردة من معادلات أو نسب أو علاقات رياضية. ذلك هو المثل الأعلى الذي يحاول العلم تحقيقه في جميع المجالات، فأقصى ما يحلم به العالم هو أن يتمكن من التعبير عن كل ما يحدث في الطبيعة بقوانين ذات صبغة رياضية.
وربما كنا قد أطلنا قليلا في التعقيب على هذه العبارة التي قالها «فيثاغورس»، ولكننا قد اتخذنا منها أنموذجا يكشف لنا عن طبيعة الإنجاز الذي تحقق على أيدي اليونانيين، ويضع أمامنا المثل الأعلى الذي كان الفكر اليوناني يتطلع إليه. ولا شك أن القارئ قد أدرك - من خلال ما قلناه عن هذا الإنجاز - أن اليونانيين القدماء قد تركوا في التراث العلمي البشري آثارا لا تمحى، وأنهم خطوا أولى الخطوات في ذلك الطريق الذي لم تستكشف البشرية بقية معالمه إلا بعد وقت طويل من انتهاء عهد الحضارة اليونانية القديمة بأسرها.
على أنه إذا كان اليونانيون قد خلفوا للبشرية عناصر أساسية ظلت ملازمة لمفهوم العلم في عصور تقدمه اللاحقة، وإذا كان التفكير العلمي مدينا لهم بأول تحديد دقيق لطبيعة ووظيفة هذا النوع من المعرفة الذي نسميه علما، فإن تصورهم للعلم كان في الوقت ذاته مشوبا بعيوب أساسية ظلت هي الأخرى تكون عائقا هاما في وجه نمو العلم، وربما كانت بعض آثارها الضارة لا تزال ملازمة للعلم - في بعض جوانبه - حتى يومنا هذا.
وبطبيعة الحال، لم يكن اليونانيون أنفسهم على وعي بوجود عناصر صحيحة وعناصر باطلة في تصورهم للعلم، فقد كان هذا التصور في نظرهم متكاملا، يؤلف وحدة واحدة اقتنع بها أصحابها اقتناعا تاما، ولكن التطور اللاحق للعلم قد عمل على تثبيت بعض جوانب هذا التصور، فأصبحت في نظرنا هي الجوانب الإيجابية، على حين أنه سعى إلى التخلص من جوانب أخرى هي التي نعدها سلبية، والحكم ما هو إيجابي أو سلبي يتم في هذه الحالة من خلال وجهة نظر العصور اللاحقة، بعد أن أتيح للإنسان أن يتبين ماذا فعل مضي الزمن في فكرة اليونانين عن العلم، وأي عناصرها استطاع أن يصمد خلال التاريخ، وأيها أثبت أنه عائق ينبغي التغلب عليه.
والواقع أن نفس العناصر التي اكتسب بفضلها العلم اليوناني سماته المميزة، هي التي انقلبت إلى عيوب بسبب تطرف اليونانيين في تأكيدها. فاليونانيون قد أسدوا إلى البشرية خدمة كبرى حين أكدوا أن المعرفة لكي تكون صحيحة يجب أن تنصب على الحقائق النظرية والعامة، ويجب أن ترتكز على براهين مقنعة، ولكنهم بالغوا في تأكيد هذه الصفات إلى حد ألحق الضرر بتصورهم للعلم، ولم تتمكن الإنسانية من إزالة هذا الضرر إلا بعد مضي وقت طويل جدا كان فيه العلم شبه متوقف، وكان من الممكن استثماره على نحو أفضل بكثير لو لم يكن الجانب السيئ من التصور اليوناني للعلم هو الذي ساد طوال هذه الفترة.
فعندما أكد المفكرون اليونانيون أن هدف العلم هو «النظرية» التي تسير الظواهر وفقا لها، وليس القدرة على استغلال هذه الظواهر والانتفاع بها في المجال التطبيقي، كانوا في الواقع يؤكدون سمة أساسية من سمات العلم، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل تمسكوا بالتأكيد المضاد؛ وهو أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق، ولا صلة له بالعالم المادي بأكمله، وإنما الواجب أن يكون العلم «عقليا» فحسب. فالمثل الأعلى للعالم - في نظرهم - هو المفكر النظري الذي يستخلص الحقائق كلها بالتأمل النظري، أما محاولة تدعيم هذه الحقائق بمشاهدات أو ملاحظات أو تجارب نجريها على العالم المحيط بنا، فكانت في نظرهم خارجة عن العلم، بل إنها تحط من قدر العلم وتجعله مجرد «ظن» أو تخمين، بل إن أفلاطون - فيلسوف اليونان الأكبر الذي كان في الوقت نفسه ذا إلمام واسع بالرياضيات - قد عاب على أحد علماء الهندسة التجاءه إلى «رسم» أشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم، ورأى أن إعطاء علم رفيع كالهندسة صورة محسوسة يمكن رؤيتها بحاسة كالعين، هو إنزال لهذا العلم من مكانته العالية، فيصبح جزءا من عالم الأشياء المرئية والمحسوسة، بينما ينبغي - لكي يظل محتفظا بمكانته - ألا نستخدم فيه التفكير العقلي وحده، فتظل حقائق الهندسة «عقلية» على الدوام.
ويطول بنا الحديث لو حاولنا أن نتتبع مظاهر هذه النظرة العقلية الخالصة إلى العلم، ومدى تطرف اليونانيين في تأكيدها، كما أن المجال لا يتسع للتحدث طويلا عن الأسباب المحتملة لإصرار اليونانيين عليها، وحسبنا أن نقول: إن هذا التأكيد المتطرف للعلم النظري على حساب التطبيق العلمي ربما كان راجعا إلى أحد عاملين:
فمن الممكن أن يكون مرتبطا بنظرة إلى العالم المادي على أنه عالم ناقص، وإلى العالم الروحي والعقلي على أنه عالم الكمال، وهي نظرة ربما كانت قد تسربت إلى الفكر اليوناني عن طريق معتقدات شرقية قديمة كان لها تأثيرها في كثير من اليونانيين. ومن المعروف أن فيثاغورس نفسه كانت له «طريقة» - أشبه بالطريقة الصوفية - تأثرت طقوسها وشعائرها وتعاليمها بالعقائد الشرقية تأثرا بالغا، كما أن أفلاطون سار في اتجاه مماثل. هذا الازدواج بين عالم رفيع غير مادي وعالم وضيع هو العالم المادي يمكن أن يكون قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلم، وأدى إلى الاعتقاد بأن العلم الجدير بهذا الاسم هو العلم العقلي، وأن مجرد اقتراب العلم من العالم الطبيعي، ومحاولته حل مشاكله، يقضي على كل ما هو رفيع في هذا العلم.
ومن الممكن أن يكون هذا التطرف في تأكيد العلم العقلي راجعا إلى التقسيم الذي كان سائدا في المجتمع اليوناني - الذي كان مجتمعا يسوده نظام الرق - بين المواطنين الأحرار وبين العبيد؛ ذلك لأن العبيد كانوا هم الذين يقومون بالأعمال الجسمية واليدوية الشاقة؛ أي إنهم هم الذين كانوا يتصلون - في عملهم اليومي - بالعلم المادي، وبذلك كانوا يوفرون لأسيادهم الأحرار الوقت والجهد الذي يسمح لهم بممارسة التفكير والجدل والحوار في المسائل النظرية الخالصة. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن تنعكس مكانة الإنسان على نوع العمل الذي يمارسه، بحيث يرتبط العالم المادي في أذهانهم بالوضع الاجتماعي المنحط، ويرتبط العالم العقلي بالوضع الاجتماعي الرفيع، وبحيث يؤكدون في النهاية أن الجهد اللائق بالإنسان الكريم والمثل الأعلى الذي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقه هو التأمل النظري الذي لا تشوبه من المادة شائبة، وأن الاقتراب من العالم المادي فيه حط من كرامة الإنسان.
وعلى أية حال فقد أدى ذلك إلى تجاهل اليونانيين لمبدأ تطبيق العلم في حل المشكلات الفعلية للعالم، وبالرغم من أن تفوقهم الهائل في التفكير النظري - في ميادين الفلسفة والرياضيات وما يتصل بها - يشهد بأن قدراتهم العقلية كانت ممتازة، فإنهم لم يكونوا ميالين أصلا إلى استخدام هذه القدرات لأغراض تطبيقية، فكانت نتيجة ذلك أنهم تركوا للعالم فكرا نظريا رائعا، ولكنهم لم يتقدموا خطوة تستحق الذكر في الميدان التطبيقي. ولقد عبر عن هذه الحقيقة العالم الإنجليزي الكبير «برنال» حين قال:
Bog aan la aqoon