وكتب إليه «فويت» صديقه وزميله في الديوان وهو على فراش الموت يقول له: «... أردت أن أكتب إليك هذه الكلمة الأخيرة وفي رمق ... آه يا عزيزي جيتي ... ولكننا سنعيش معا في عالم الروح ...» فماذا صنع العزيز جيتي بهذه الدعوة المتوجهة إليه من صديق يسلم الروح وينتظر الموت ساعة بعد ساعة؟ لبث يوما لا يجيب، ثم أرسل إليه ورقة مع خادم! وما كانت دار صديقه المحتضر إلا على قاب خطوات من بيته، فماذا كان يضيره لو لبى أمنيته الأخيرة وذهب إليه؟ لا ضير، وما نظن مثل هذه الخلة مما يرضى به ذوق جميل.
وقس على ذلك علاقاته بهردر وشيلر وكلاهما ذو يد عليه في تنبيهه واستنهاضه، فما كانت علاقاته بهما تخلو من ملامة وتقصير، بل قس على ذلك علاقاته بكل إنسان حتى أمه وأبيه وأولياء نعمته وأقرب الناس إليه.
فهو رجل واضح الأثرة لم يزعج نفسه قط لخطب فرد ولا لخطب أمة، ولم يخفق قلبه خفوق الإيثار برحم ولا محبة، وغرامه بالنساء الكثيرات لا ينفي ذلك بل يؤيده ويضيف إليه، فإنه كان غرام فن ورياضة ولم يكن غرام مودة وحياة، وأي فضل للإنسان في أن ينشد المتعة والسلوى والسرور؟ وأي غرابة في حب الرجل للمرأة وهي إلف مخلوق لإلفه، وإنسان آخر بينها وبين الرجل عطف وليس بينها وبينه منافسة ولا سباق؟ هنا يستفيد الرجل ويضم إليه إنسانا يتممه، ولا يخشى على أثرته من ذلك الإنسان.
حجرات منزل جيتي من الداخل.
ومع هذا كان جيتي يهرب من الحب كلما كلفه بعض العناء، وكانت بغيته في الحب «الحضور» كما قال وأعاد. فمن غاب عن عينه فليس بحاضر في قلبه ولا يلبث أن يحجبه النسيان، ومثل هذا الحب الذي أحبه جيتي ولم يعرف سواه لا ينفي الأثرة وانقطاع أواصر المودة والرحم بينه وبين بني آدم.
بل لعلنا لا نخطئ إذا قلنا أنه كان فرديا حتى فيما أحب من الحيوان، فما آثر القطط على الكلاب إلا لأن القطط فردية جافية والكلاب فيها عطف وألفة!
وأكبر الظن أن جيتي ورث هذه الخلة وراثة عن أبيه ثم نمت مع الزمن فيه، فقد روت لنا «بتينا برنتانو» نقلا عن أمه أنه لما كان صبيا صغيرا مات أخوه ورفيقه في اللعب «جاك» فلم يذرف عليه دمعة وامتعض من بكاء أهله، ولما سألته أمه: أما كان يحب أخاه؟ جرى إلى حجرته وجاءها بأوراق فيها رسوم ونوادر كان قد أعدها لتعليم أخيه حين يكبر ! فكأنه لم يحب من أخيه في تلك السن الصغيرة إلا موضوع فن وتربية!
فهذه الخواتيم من تلك البوادر ويزيدها أن جيتي قد عوفي من شدائد العيش وحرقات الخيبة وأهوال التجارب ففتر ما بينه وبين الناس من حرارة العطف والولاء وقرابة الألم والعزاء، ولنرجع هنا إلى ما كتبناه في صدر هذه الرسالة عن النفس الألمانية وحقيقة شعورها بالوطنية والجامعة القومية، ففي ذلك تفسير لفتور الوطنية في قلب جيتي وعذر له من تلك النقيصة التي لا مراء فيها؛ إذ كان في الدعوة الجرمانية شيء ينافي الوطنية في بعض الأحيان؛ لأنها توشك أن تقضي على استقلال الدويلات والإمارات الصغار، وإذ كان لجيتي مندوحة من شواغله الأدبية عن مصادمة الوقائع ومعاناة المظالم، وكان منصبه ينأى به عن ذلك ولو لم تكن له شواغل أخرى تصرفه وتلهيه.
ولا ننس بعد هيبة الألمان للمناصب الكبار في القرن الثامن عشر ووراثة جيتي هذه الهيبة عن أبيه، ثم ها هو ذا قد تسنم تلك المناصب وارتفع إلى مراتب النبلاء، فهل يسير عليه أن يستخف بها ويفقه دعوة الحرية كما يفقهها رجل لا تغشى بصره غاشية هذه الهيبة ولا تجري في عروقه دماء تلك الوراثة؟ ثم حب الراحة الذي فطر صاحبنا عليه ماذا يصنع به وكيف ينفضه عنه؟! وكيف يسارع إلى عقيدة تحفزه إلى الكدح والجهد وليس له طاقة بهما ولا عهد له باختبارهما من قديم؟!
وإذا صح «توصيف» الباحثين لمرض جيتي في شبابه واستدلالهم عليه بأعراضه التي وردت في رسائله وكتبه وبما كان بعد ذلك من موت أولاده فمن شأن هذا المرض في أغلب الأحيان أن يضعف العطف ويدخل الجفوة على الطباع.
Bog aan la aqoon