وقد اضطربت البلاد الجرمانية بالثورة على نابليون فكان هو في جانب القوة يسخر بهذه النخوة ويقول للأدباء الناشئين الذين تقلدوا السلاح: «لا تقعقعوا بسلاسلكم فإن الرجل كبير عليكم!» وتكلم أمامه أناس في القائد ولنجتون فجعل يرحض عنه ويثني عليه لأنه كيفما كان هو قاهر نابليون وغالب الهند، وقال: «كل من كانت معه القوة العليا فالحق معه ... وعلينا نحن أن نحني له الرؤوس!»
ولامه الناس على جموده في إبان النهضة الوطنية فكان يقول: «إنها لدنيا سخيفة لا تعرف ما تروم ولا حيلة معها إلا أن ندعها تلغو كما تشاء، فكيف كنت تراني أحمل السلاح بغير بغضاء؟ ومن أين لي بالبغضاء في غير شباب؟ لو حدثت هذه الأمور لي وأنا في العشرين لما كنت آخر من يهب ويهيب، ولكنها حدثت وأنا قد جاوزت الستين ... وفيما بيني وبينك أنا لا أبغض الفرنسيين وإن كنت حمدت الله حين خلصت منهم البلاد.»
وليس قول جيتي هذا إلا احتجاج محرج لا يدري ما يقول، وإلا فكيف عرف أن يحب الفتاة الحسناء ويخطبها للزواج في الرابعة والسبعين ولم يعرف أن يبغض أعداء بلاده في الستين؟ وهل كان شأنه في هموم الألم وآلام المظلومين يوم جاوز الستين إلا كشأنه فيها وهو دون الخمسين ودون الأربعين؟
على سرير الموت.
لقد قارن ماتسيني بطل إيطاليا الوطني وقديسها بين جيتي وبيرون في هذه الخصلة فقال: «وقفت يوما على قرية سويسرية أراقب العاصفة وهي تقترب وتؤذن بالهبوب، وفي السماء غيوم كثيفات سود تذهب حواشيها أشعة الأصيل ويطبقن سراعا على أصفى سماء في جو أوروبا ما خلا جو إيطاليا الجميل، وكان الرعد يقصف من بعيد وأمواج الرياح القارسة تقذف بالمطر الغزير على السهل الظمئ.
وأنظر فوقي فإذا بباز كبير من بزاة الألب يعلو تارة ويهبط أخرى وهو يقتحم العاصفة في كبة الرياح الهوج، كأنما كان يهجم عليها هجمة القريع على القريع، وكلما جلجل الرعد جد الطائر النبيل في العلو كأنما يجيبه ويتحداه، فظللت أتبعه بنظري برهة حتى غاب في ناحية الشرق عن العيان.
ثم نظرت إلى الأرض على نحو خمسين خطوة مني فإذا بالطائر أبي حديج قابع هناك على هينة واستقرار بين حرب العناصر الزبون، ورأيته مرتين أو ثلاثا يرفع رأسه قبل مهب الريح بهيئة لا توصف من الاستطلاع الضعيف وقلة الاكتراث! ثم أعرض عن هذا ورفع إحدى ساقيه النحيلتين وزوى رأسه تحت جناحه وتهيأ للنعاس في هينة واستقرار.
ذكرت بيرون وجيتي حينذاك وذكرت حياة أحدهما تموج بالزعازع وحياة الآخر تغمرها السكينة والسلام، وذكرت الينبوعين الزاخرين اللذين ختم عليهما واستنفدهما هذان الشاعران.»
ذلك أصدق تصوير لشاعرين كبيرين من طينتين جد مختلفتين، وأنصار جيتي الغيورون على شهرته يشعرون بهذه النقيضة فيه فيتعملون لسترها بالمعاذير، وقد يسخف بعضهم فينقلب من تلمس الأعذار لها إلى اعتبارها مزية تستوجب الثناء! لأنها علامة الرفعة عن هموم الحياة الصغرى وشواغل الجماهير والعلو بالفكر إلى أفق أكمل من ذلك وأكرم وهو أفق الجمال والمعاني الخالدة والعزلة الإلهية، ولو صح أن الترفع عن هموم الجماهير مزية تحمد لجاز أن يحمل برود جيتي على ذلك المحمل وأن يجزى عليه بالثناء والإعجاب، ولكنه غير صحيح ولا قريب من الصحة، فإن من فاته الشعور بآلام بني الإنسان وبشاعة الظلم فقد فاته شعور الصدق وفاته شعور الخير وكلاهما عنصران من عناصر الشعور الجميل وإذا كان تمثيل الشقاء في الصورة الفنية عملا جميلا فليس الشعور بالشقاء والعطف على الأشقياء بالعمل القبيح.
وهب ما يقولون صالحا لتفسير فتوره في علاقاته مع الأفراد وقعوده عن البر حتى حين يكون البر واجبا يفرضه الولاء للعبقرية والمروءة؟ لقد استغاث به بيتهوفن في محنته وكتب إليه يقول وهو يظن أنه يغض من عزة نفسه بين يدي إنسان يفقه معنى العزة والعبقرية: «الحق أنني كتبت كثيرا في الموسيقى ولكنني لم أجن شيئا، ولست الآن وحيدا لأنني أصبحت من سنوات ست أبا لابن أخي الفقيد ... كلمات قليلة منك تسعدني.» فماذا كان جواب جيتي لتوسل ذلك الشيخ المعذب المحروم؟ ولا كلمة! أيصدق القارئ؟ نعم ولا كلمة! وقد اعتذر بعضهم عن جيتي بمرضه يوم وصول الخطاب إليه، فإن كان هذا عذرا فماذا كان عذره بعد ذلك بأيام أو بأسابيع أو بأشهر؟ لا عذر هنا يجوز فيه الكلام.
Bog aan la aqoon