التعاون وإباحة المنافع. وتحديد سياسة الحكم، وتحديد طرائق التعزير. وأنواع العقوبات.. إلخ. مما يبحث عنه فى مظانه. وتمشيا مع الفكرة التى أوحت بهذا المتحف الفذ. وإنصافا لماضى هذه المحاكم. كان ينبغى أن يعرض الفقه الإسلامى كله ودعائمه الأولى من كتاب وسنة.. ثم يقال فى ذلك... إنه للذكرى والتاريخ!! إننا نتهيأ لعهد تشريعى جديد يوحد القضاء فى مصروفى غيرها من الأقطار العربية والإسلامية. فهل نستفيد من إقامة هذا المتحف ما يدفعنا إلى الوجهة الصائبة. وهل نتعرف منه قيمة القضاء الشرعى ومدى نجاحه فى معالجة الأمور؟ وهل يردنا ذلك إلى المحافظة على المحاكم الشرعية بدلا من سلب اختصاصها وتضييق محيطها؟ وأخيرا هل ندرك نفاسة مبادئنا القانونية وتمشيها مع أزهر العصور فنأخذ بها ما عداها من قوانين؟ ص _113 تمارين علي الذل فى فترات الضعف التى أصابت التاريخ الإسلامى انقلبت أشياء كثيرة عن طريق الخير المرسوم لها. فأصبحت قليلة الغناء. بل أصبحت مثار شر لا ينتقص من خطره أنه شر تولد عن خير مدخول وطيبة مغفلة!! ومن أمثلة هذه الأشياء المنقلبة على رأسها أن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة. فإذا رأوا أنفة فى مسلك أحدهم. أو دلائل عزة وترفع. جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة. والمحافظة عليها. حتى تنكسر نفسه. وينخفض رأسه وبذلك يكون مرشحا لعبادة الله كما يجب! ولم يدر المغفلون أنهم يرشحونه أيضا ليكون عبدا للناس جميعا. وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم. وقتل الشعور بالكرامة فى نفوس بنيها.. ثم هناك مكاتب تحفيظ القرآن التى طالما قمعت نشاط الغلمان. وحبست حركاتهم المرحة. وتركت فى مشاعرهم عقدا مبهمة. فإذا تخرجوا فيها كانوا من أحفظ الناس لألفاظ القرآن.. ومن أجهل الناس بروحه ومعناه وسعة آفاقه وعظمة توجيهاته. وكانوا لعصا الفقيه هيابين، ولعصا الحكام أهيب، ولعصا الأجانب أشد هيبة! ومن ثم تتحول الأشياء الملابسة لشعائر الإسلام إلى عوامل تعين عليه، وتنال منه، أى إلى تمارين على الذل الداخلى الذى يمهد الطريق تمهيدا تاما للذل الخارجى. فإذا ضممت إلى هذا كلمات شائكة يقع عليها المطالعون لمثل كتاب الإحياء أو لغيره من كتب التصوف مثل "اعلم أن المسلم لا يخلو من ذلة أو علة أو قلة"!! ومثل "إن جاءونا بعلم الورق جئناهم بعلم الخرق!! " عرفت إلى أى هوة ننساق. ص _114 وهكذا يتضافر على هذه الأمة من أسباب الضعف العقلى والخلقى ما يقتل روح الأمل والتوثب فيها! وقد يصل ذلك إلى كثير من الأحزاب والهيئات الدينية القائمة، فيزيد الطين بلة، والداء استفحالا! أعجبنى من وزير كبير رفضه أن يقبل يده أحد الموظفين. وكم أود أن يختفى تقبيل اليد وإحناء الهامة من مجتمعاتنا، وبخاصة فى البيئات المنسوبة للدين، لأن ذلك إن دل على الحب والتقدير فى حالة، فهو يدل على الذلة والزلفى فى ألف حالة!!. ص _115 الثعالب من البشر زعموا أن الثعلب أراد مرة أن يختطف عنقودا من العنب فأعياه أمره وأحس بالعجز عنه، فارتد وهو يقول: إنه حامض! وتحقير الشىء الذى لا يستطاع إدراكه شيمة الطبائع الخسيسة فى البشر. وهو الذى أوحى إلى المشركين قديما أن يطعنوا فى المؤمنين، وأن يستهينوا بقيمة الدين الذى اعتنقوه قائلين: (لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) أى أنه عنب حامض! هذه الثعلبية متفشية بيننا تفشيا واسعا، ما أن تبرز العمل العظيم حتي تجد نظرات البرود محيطة به، فإذا أثرت حديثا حوله وجدت هذا يهز كتفيه استخفافا. وهذا يكاد يقول لك: إن كثرة مشاغلى هى التى منعتنى عن أن أقوم بخير منه! وهذا يمسح جبهته الذكية ثم يتثاءب مؤثرا البعد عن هذه التوافه!. ولولا أن عظائم الأمور تندفع بقوتها الذاتية لماتت فى هذه الأجواء الخانقة. ليت شعرى ماذا يخسر الناس إذا أعطوا كل ذى فضل فضله؟ لا شىء!! ولكن اضطراب مقاييس الكفاية عندنا أدى إلى فوضى فى التقدير تركت طابعها فى أعمالنا وأخلاقنا. فالذين يحترمون الملبس الفخم لا يفتحون عيونهم على غيره، والذين يخشعون للألقاب الضخمة لا يفتحون مسامعهم إلا لاسم بين يديه لقب ومن ورائه لقب، والذين يركعون للمال لا يرمقون بالتجلة إلا رجلا يتكلم معه دخله أو مرتبه حين يتكلم، وهكذا تتوارى الحقائق فى أكفان المظاهر المادية الصغيرة! ونتيجة هذه الأخطاء المتعمدة أن كفايات كثيرة تميت فى هذه البيئات الحاقدة، كما تموت الأزهار الغضة فى التربة الجدبة، لا تجد خصبا يغذيها، ولا ريا ينميها. مع أننا فى الشرق الإسلامى بحاجة ماسة إلى مواهب كل ذى موهبة ونبوغ، ونتيجة أخرى ص _116 لا تقل شرا: هى أن القاصرين والمقصرين يفسح لهم المجال الذى خلا من أصحابه الجديرين به. والويل للأم التى يتقدم فيها أغبياؤها بالوسائط المفتعلة من مال أو جاه، ويتأخر فيها أذكياؤها المضيعون. *** أجل.. البلد الذى يحارب فيه الذكاء لا تقوم له قائمة، ولا تعلو له راية، فإن حق الذكاء أن يشجع ويدفع إلى الأمام، لا أن يخذل ويوارى بريقه. وما لاحظت آنفا فى كثير من المجتمعات والبيئات ظاهرة جديرة بالتنديد والازدراء، فما أسوأ الغض من ذوى المواهب، وقلة الاكتراث بهم! وشر من ذلك أن يقلد الرجل فى عمل ثم تجحد مكانته فيه، ويكون أول من جحدوه هم أول من تعلموا منه وقلدوه..! فى ميادين العلم والأدب والفن، بل فى ميادين التمثيل والغناء واللهو واللعب، وجدت رجالأ لهم فضل الرواد المكتشفين فى النواحى التى يعملون بها، ذللوا صعبها، وقربوا بعيدها، واستأنسوا غريبها، وقدموا للجمهور الخير العظيم منها، وشعرت الأفئدة بمدى جهدهم وإنتاجهم فيها، ثم ما هى إلا أيام حتى يتبعهم فى هذه الميادين الممهدة - بفضلهم- أقوام أقل دراية، فيزاحمونهم بالمناكب، ويريدون أن ينفردوا دونهم بالتقدير والتكريم. من قديم شعر المتنبى بأولئك المزاحمين المهازيل فقال معلنا سخطه عليهم: أفى كل يوم تحت ضبنى شويعر ضعيف يقاوينى قصيريطاول؟ لسانى منطقى صامت عنه عادل وقلبى بصمتى ضاحك منه هازل وما الكبر دأبى فيهم غير أننى بغيض إلى الجاهل المتعاقل ثم هو يرى أن يحرم هؤلاء المزاحمون مما يؤملون فيه من جوائز وأعطية، وأن يمنح هو الثمن على ما يقولون من مدائح! ولذلك يقول لسيف الدولة: أجزنى إذا أنشدت شعرا، فإنما بشعرى أتاك المادحون مرددا ودع كل صوت بعد صوتى فإننى أنا الطائر المحكى والآخر الصدى! ص _117 وإذا كان لغمط الحقوق مجال بين الطامعين فى الدنيا والمتكالبين عليها فينبغى أن يكون المتدينون أبعد الناس عن سوء التقدير وقلة الإنصاف، فإن أول معالم المجتمع المتدين أنه لا يجحد فضلا ولا ينقص حقا، ومن هنا يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من نطاق المؤمنين من مردوا على التنقص والنكران " ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعاملنا حقه والواقع أننا لو حللنا البواعث التى تدفع إلى الاستهانة بالفضلاء، والتطاول على الأكفاء لما وجدناها إلا المشاعر نفسها التى دفعت ابن آدم إلى قتل أخيه. والتى دفعت إبليس إلى احتقار آدم، التى لا تزال تدفع كل مغموص فى عقله أو دينه إلى أن يرفع خسيسته على حساب ذوى العقل والدين، أو ذوى المهارة والخطر. وهى مشاعر لا قرار معها لإيمان فى قلب، ولا قرار معها لتدين فى مجتمع. ص _118 رجولة... ؟ ثبات الأخلاق على تقلب الزمن، واختلاف البأساء والضراء على الإنسان دليل اكتمال نفسه ونضج شخصيته. ووفاء المرء لمن يعرف فى حالى الفقر والغنى، ونبل موقفه مع من خالطوه أيام الخشونة والنعومة، أمارة لا تنقضى على صفاء المعدن وكرم الطبيعة. وقد كان العرب يلاحظون السلوك الإنسانى فى شتى الأحوال، ثم يحكمون بعدئذ للشخص أو عليه. يقول الشاعر لأحد هؤلاء المتقلبين: فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر لقد كشف الإثراء عن مساويا من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر ويفاخر شاعر آخر بأن ألوان العيش مهما صفت أو كلحت لم تكسر همته، ولم تهزم إرادته، ولم تبرزه يوما صغير النفس أمام الناس: فإن تكن الأيام فينا تبدلت ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتى ليس تجمل ولكن رحلناها نفوسا كريمة تحمل مالا يستطاع فتحمل فكن رجلا رفيع الرأس كبير النفس، ولا تقع فى الأحابيل التى تنصبها الدنيا للضعاف والمهازيل. (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). ص _119 العصبيات الحزبية والإسلام لم يزل التطلع إلى الرئاسة والتنازع على الإمارة آفة الشرق قديما وحديثا بل لم تزل النكسة التى تقتل النهضات، والعقبة التى تعوق الامتداد، ومهما توافرت الدواعى على توحيد الصفوف وجمع الكلمة فإن أعراض الداء المتغلغل تتغلب على غيرها، وإذا أنت تمد بصرك فى أنحاء الشرق الذليل فترى فى كل بلد- أسفر فيه الاستعمار أو احتجب- عددا كبيرا من الأحزاب، وعددا أكبر من الهيئات والجماعات، يزعم أصحابها أنهم يعملون لغرض واحد! ومع ذلك اختلفوا!! وبين هذه القوى المشتتة يضيع كل جهد، ويذهب كل أمل، والعلة فى ذلك ترجع إلى شيوع الجهل والنفاق، فإن الأمة المتعلمة لا تسمح للأدعياء أن يتقدموا، وإذا حاولوا ذلك قتلتهم قبل أن يقتلوها. وعندما يخلو الميدان من هؤلاء يصفو الجو أمام الزعماء الحقيقيين فيستطيعون العمل آمنين. ثم إن نفاق الأمة فى دينها يساوى فى خطره جهلها بشئون دنياها، بل قد يزيد ، فإن إرشاد الدين فى وسائل الرئاسات وما إليها يقطع دابر الحزبية، وما يتبعها من ميل للغرور، وحب للظهور، ويقى الأعم عواقب هذا الخبال. يوجب الدين على الأمة أن تقدم للعمل أكفأ من عندها، وأن تلقى فى يده مقاليد الأمور. فإن حدث- لأمر ما- أن تقدم غير الكفء فيجب على الأخيار والأذكياء أن يعينوه بثاقب رأيهم وكفاءتهم لوجه الله، وألا يثيروا من خلفه الشغب. وتدبر مسلك خالد مع أبى عبيدة ، وكيف تحول من قائد إلى جندى فى هدوء ويقين. ثم يعتبر الإسلام مع فلك أن رياسة الرجل المكروه جريمة منه ومعصية يجب أن يقلع عنها. فإذا حدث أن استقر أمر الأمة على قيادة رشيدة، وواجهت مصالحها فى الداخل والخارج بوحدة شاملة، فليس يجوز ألبتة لأحد من الناس أن يصدع هذا التجمع، والإسلام يتوعد بالنكال من يقترف هذه الفتنة. ويهدد بالقتل من يبدأ محاولتها الأثيمة. ص _120 "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه بالسيف كائنا من كان ". ويوصى مع ذلك المرءوسين بأن يحتالوا على إصلاح الأمر، وتحمل العبء وترك الثورة. (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). *** والإسلام يمرن المسلمين على فهم هذا الأمر فى المسجد فى كل صلاة، فإذا تقدم للإمامة من لا يريده الناس لها بين الإسلام حكمه فجعل من بين من لا تقبل صلاتهم: " من أم قوما وهم له كارهون ". ثم حث المصلين على ألا يعددوا الجماعات، ويثيروا العداوات، وأن يتحملوا الأمر الواقع على علاته: "صلوا خلف كل بر وفاجر". فهل يتأخر الأغبياء ابتغاء وجه الله ليفسحوا الطريق، وهل يعين الأذكياء ابتغاء وجه الله ليقطعوا دابر الفرقة؟؟ إن الإسلام جعل تفرق الأمة أحزابا من خصائص المجتمعات المشركة التى تجعل أهواءها آلهة.. ثم تحيا لها وتتنارع عليها.. وقد كره لنا هذا المثل السوء: (ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). ص _121 علم عقيم...! فى أحيان كثيرة تكون مشكلات العلماء النفسية أعقد من مشكلات الجهال العقلية، وتكون استجابة الرجل الساذج لدواعى الخير أدنى إلى التحقق من استجابة العامل الحترف لأى فن من فنون الدين أو الدنيا، وليس فى ذلك من تهوين لقيمة الإدراك العقلى والمعرفة النظرية، ولكن يجب أن نعلم أن استقامة الفكر لا غناء لها إن لم تصحبها استقامة الضمير، وأن سلامة العقل لا خير فيها إن لم تصحبها سلامة القلب، والإنسان الكامل هو الذى يأخذ قسطه من طهارة النفس، كما يأخذ قسطه من شتى المعارف والعلوم. وقد عاب القرآن الكريم هذا العلم العقيم، ونعى على أصحابه ما أصاب الإنسانية على أيديهم من أضرار وأخطار، جعلت الناس يتنازعون على المآرب الصغيرة، ويذهلون عن المثل العليا. (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب). بل إن القرآن يعتبر أن أول ما أصاب العالم من خصام وفرقة إنما هو بعض آثار هذا العلم المريب، العلم الذى لا ضمير معه ولا شرف. (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم). فهل تعجب بعدئذ إذا رأيت الإسلام يسوى فى دعوته إلى الحق بين معشر العلماء الحائرين، وبين الجماهير الجاهلة من الأميين؟: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ). ص _122 إن العلم النظرى البحت سلاح يؤذى الناس. وما أجمل أن يستنير فؤاد الإنسان بما استنارت به ناصيته، واتضحت به فكرته. وما أقبح أن تجد الرجل الذكى جامح الغرائز كأنه حيوان. أو الرجل المتعلم مستطير الشرور كأنه شيطان. * * * * منطق الحقد... الوسيلة الصحيحة لكسب أى سباق أن تقوى نفسك لا أن تعوق غيرك، فإن استكمال أسباب النجاح فى كيانك الخاص هو الدعامة الأولى والأخيرة للغلب الحقيقى. إن بعض الناس يظن أنه بجهده فى هدم الآخرين يبنى نفسه، وهذا خطأ، فإن الضعيف لا يزول ضعفه بمحاولات فاشلة فى تجريح الأقوياء، ستبقى علته، وتلصق به معرته، وتذهب جهوده هباء. عندما أقرأ فى الكتاب الكريم قصة ابنى آدم اللذين قتل أحدهما أخاه ألمح فى مسلك الأخ المجرم صورة دقيقة للحقد الأعمى، وبيانا لاتجاهاته المتناقضة فى فهم الحقائق، ثم ألمح كيف أن جوانب الشر فى النفوس الصغيرة تظهر فيها بسرعة- كاملة ناضجة- على حين تبقى جوانب الفهم والتدبر ناقصة غامضة تكاد لا تبين عن نفسها إلا بإشارات خرساء، وحركات بكماء، فإذا ظهرت بعد طول التجارب، وتقدم العمر جاءت- مع الأسف- بعد فوات الوقت. . هذان الأخوان تنافسا فى عمل، فأخفق أحدهما ونجح الآخر، فأصر المخفق على أن يتخلص من آثار هزيمته، لا بمعاودة الكرة، واستئناف العمل فى نشاط وأمل، وانتظار القبول عند الله مرة أخرى، بل بالتخلص من منافسه واختصار الطريق والقضاء على حياة أخيه، فعلام الكد والجد فى ميدان المنافسة المشروعة؟ فلما أحس أخوه منه بهذه النية الخبيئة حذره مغبتها: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين). ص _123 ولكن الرجل الحاقد لا يفهم من الأمور إلا ما يمس أنانيته، ويهيج كراهيته فحسب، ثم تضطرم أفكاره فى دائرة ضيقة من ذهن أتعبه الحقد، لا الفكر، وأضلته الرغبة الملحة عن معالم الخير والروية، فإذا الجريمة النكراء تقع: (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين). حتى إذا ما استكانت ثورة الشر، ووجد المجرم نفسه وجها لوجه أمام ضحيته، عصفت رياح الفزع والندم بلبه وقلبه، وهيهات، لابد من حمل التبعة! لكن المجرم الذى كان سريعا فى فهم معانى الهزيمة، وأسباب الغيرة، ينقلب أغبى الأغبياء بعد ارتكاب جريمته، فهو لا يدرى ما يفعل، ذلك لأن ارتكاب جريمة لا تجعل من الرجل المخفق رجلا ناجحا، ولا من الرجل الخاسر رجلا رابحا، فأنت ترى الابن القاتل يمضى بفكره المغلق حائرا ماذا يصنع: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي). بلى إنه ندم الحاقد الذى أضرت غباوته بنفسه وبالناس. والعجب لامرئ يعرف كيف يحسد ويقتل، قبل أن يحسن التصرف والفهم فى أتفه الأمور!! ص _124 حرب العصابات وحرب الحزازات يظهر أن الروح الاجتماعى فى الغرب أقوى وأشد منه فيما بيننا، وأن شعور الفرد بكرامته الخاصة هناك جزء من شعوره بالكرامة العامة لوطنه، وبالقيمة المعنوية للأمة التى ينتسب إليها. أما نحن فللنزعات الفردية ولاتجاهاتها الجامحة سلطان علينا مطاع. وأقرب دليل على هذا المعنى السىء أنك تنظر إلى آلاف القرى فتجد النزاع الحاد على "العمدية" لا تكاد تخلو منه قرية، ولو أحصيت الحوادث الدامية التى يثيرها النزاع على تولى هذه المناصب وأمثالها مما تخلقه الانتخابات المختلفة، لرأيت فى الأمر ما يدعو إلى الدهشة. فإن التطلع إلى مظاهر الرياسة والأبهة يكلف الكثير ويستهلك الكثير. دلالة التفكك أو السقوط فى هذه الحال أن الذين يتبرمون بسيادة غيرهم عليهم لا يبالون ولا يأنفون من الخضوع الحقير للأجنبى النازح إليهم. فربما ترى الرجل يثور على ابن عمه أو على مواطنه فى الحين الذى يتزلف فيه لأحد الخواجات المرابين. وربما ترى الرجل يستسهل تقديم أبنائه فى معركة بين أسرة وأسرة، على حين يضطرب ويتردد لو طلب إليه تقديمهم فى معركة من أجل مستقبل أمته. وهل ظل الاستعمار الإنجليزى جاثما على صدر الوادى قرابة سبعين سنة إلا لسقوط الأنفة الاجتماعية وكراهية الرجل أن يسوده رجل مثله فى الوقت الذى يخضع فيه للعدو الدخيل؟ ولعل من آثار هذا التنافر، أو هذه الأنانية، أن لدينا كفايات كثيرة لتولى شتى الأعمال، ولكن فقدان التعاون بينها يعطلها جميعا، ويجعلها هباء منثورا. فما السبب فى ذلك؟ إن الأعم الأوروبية المقهورة لا تفقد فى حرب العصابات- ضد غزاتها- ما نفقده نحن فى حرب الحزازات، ومن العار أن تنهدم هيئة من الهيئات لأن فريقا من الأعضاء يضنون بكرامتهم عن الخضوع لرياسة فلان، ولا يضنون بكرامتهم أن يعيش فى بلدهم الشيطان. ص _125 مشاهدات هناك بعض الملاحظات على الطريقة التى يألفها فريق من التجار عندنا، وتجرى عليها معاملاتهم، فنحن لا نميل إلى نظام الكلمة الواحدة فى البيع والشراء، ونعتبره أجنبيا مع أنه أقرب ما يكون إلى روح الإسلام، بل أستطيع أن أقول إن هذا النظام يتحتم الأخذ به للخروج من شر الخداع والتلاعب اللذين ينطوى عليهما نظام المساومة الحرة، ويستسيغه من أجلها التجار الجشعون.. ثم هناك الوقت: الوقت الغالى الذى يضيع هدرا فى ساعات طويلة من الأخذ والرد يبدأ فيها السعر من مائة ويظل يهبط حتى يصل إلى الخمسين والأربعين. كان من الممكن ان ينتفع التاجر والمشترى بوقتهما هذا فيما هو أجدى عليهما فى الدين والدنيا ، وخصوصا نحن أبناء الدين الذى يحرم اللغو! ثم بالله ما موضع الزج بالأدعية المأثورة والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا المجال المادى الجاف ؟ إن هذا ابتذال لما يجب أن يصان ، وليس فيه إثارة من خشوع أو قربة إلى الله . وأى أجر للصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم إذا كانت إنشاء لبيع أو رفضا لثمن ؟ ومتى يهجر المسلمون هذه الثرثرة ؟ الحق إننا لم نحسن التصرف فى نواحى دنيانا كما احسن غيرنا ، فخسرنا نحن حين ربحوا ، ثم زدنا على ذلك أن مسخنا من ديننا ما يجب أن نغالى به ، وأن نحرص على صيانته من عقائد وإيمان. * * * * * تكاليف الرجولة : لا شك أن وسائل التربية العقيمة التى خضع لها الشرق الإسلامى فى العصور الأخيرة جعلت أبناءه لا يعرفون تكاليف الرجولة الحق ، وإذا عرفوها لا يطيقونها ، ولا يصبرون على لأوائها ، ولا يقومون كما ينبغى بأعبائها . مع أن البيئات الغربية جماهير من الناس تعرف كيف تؤمل الأمل البعيد ، وكيف تسير إلى تحقيقه بعزم من حديد ، وكيف لا تنثنى وإن وقفت دونها الصعاب. ص _126 وعلة الرخاوة التى أفسدت المسلمين الآن أنهم يسيئون فهم دينهم ويكثرون من التمنى على ربهم بالباطل. فالذى يصلى عدة ركعات يحسب نفسه من الواصلين . ثم على الزمان أن يتطامن عند أقدامه، وعلى الأمور أن تسعى إليه لا أن يسعى إليها. وهكذا تنتظر الأمة النصر على الأيام. لا ببركة التضحية والإقدام. ولكن ببركة الصلاة والصيام. وهيهات. هيهات. حتى نعرف حقيقة الدين. وطبيعة الدنيا. * * * * بين النقص النفسى والعقلى؟ هناك أنصاف متدينين كما أن هناك أنصاف متعلمين. والنقص الخطير الذى ينسب إلى هؤلاء لا تخفى نسبته إلى أولئك، ومن الواجب أن نعالج هذه الجوانب الناقصة بما نستطيع من تربية وتعليم، رعاية لمصلحة المجتمع العامة وأخذا بيده إلى الكمال المنشود! وأظهر ما يؤخذ على نصف المتعلم اعتداده بالقليل الذى يعرفه، واستهانته بالكثير الذى يجهله، وضيق نظره إلى الثقافة الإنسانية، فهو لا يسعى إلى الاستزادة من سعتها، بعد إذ ظن نفسه قد أحاط بجملتها. وكثيرا ما يرتكب هؤلاء سلوك الجهال غير مكترثين بما يوجه إليهم من نقد، لأنهم فى زعمهم متعلمون لا يجوز القدح فى عملهم ومسلكهم. وأنصاف المتدينين كذلك يحطبون فى هذا الحبل الملتوى العجيب! ويرتكبون من التصرفات ما يوقع المرء فى حيرة بالغة من أمرهم، فهم يجيدون نصف دينهم ولا يتقون الله فى النصف الآخر! أما ثقتهم بروعة ما يؤدون من أعمال، فحسبك أن الواحد منهم يصلى الركعات ثم ينتظر أن يطير فى الجو وتطوى له الأرض أو تضطرب له قوانين الكون. وإذا مشت أصابعه على حبات المسبحة وهو فى ديوانه أو فى دكانه فلا عليه أن تضطرب الأعمال الأخرى، ولا أن تسير كيف شاءت مع نوازع الهوى والفوضى والتفريط. وإذا قرأ وردا انتظر أن تصل البركة منه إلى أولاده المضيعين بدلا من أن تصل إليهم من دروس التربية ومتاعب الحراسة والعناية. ص _127
ولا عليه أن ينام هادئ البال منتظرا فى منامه الرؤيا الصالحة بعد ذلك.
Bogga 126