Sunduq Dunya
صندوق الدنيا
Noocyada
وبينما أنا واقف أغني لمحت شبحا مقبلا ولم أشك في أنه رجل، فما تجرؤ المرأة - إلا في الندرة القليلة - أن تسير بين القبور في الليل فكففت عن الغناء وساورتني الشكوك. وخطر لي أن القادم قد يكون لصا، وقد لا يكون ذلك، ولكن وحشة المكان وسكون الليل قد يغريانه بالتلصص. غير أني طمأنت نفسي، وقلت - وماذا أخشى وليس معي شيء يستحق السرقة؟ إن هي إلا بضعة قروش لا تغنيه إذا فاز بها، ولا تفقرني إذا خسرتها، وأنا بعد خفيف الوزن سريع العدو وعارف بالمداخل والمخارج، وما أحسبه يستطيع أن يدركني إذا أطلقت ساقي للريح، فلا خوف من القادم، وليكن من يشاء، وليس من الحكمة أن أدع الخوف يشيع في نفسي فتظهر دلائله في صوتي وحركاتي، فيطمعه ذلك في إن كان رجل سوء، على أن الحزامة مع ذلك أن أتوارى خلف قبر منزو، لأراه دون أن يراني، ولا أعرف ماذا هو، وليسر أمامي وأكون أنا وراءه فذلك أدعى إلى الاطمئنان.
ودنا القادم فإذا هو شيخ كهل، أبيض اللحية وفي يده سبحة، وهو يذكر الله أو يتلو من القرآن أو لا أدري ماذا كان يتمتم، وبأي كلام كان يحرك شفتيه، فغاظني أن هذا الشيخ الضعيف قد أفزعني، وكأنما تحركت نفسي للانتقام منه، فغافلته في بعض الطريق وظهرت له فجأة من وراء قبر، فريع المسكين وكاد يتهافت إلى الأرض، وأسرعت فتواريت وعدت أدراجي مسافة قبر أو قبرين - أي بضعة أمتار - وكان الرجل يتلفت حوله فلا يبصر شيئا ولا يسمع حسا فشد بعضه إلى بعض وتفل يمنة ويسرة ورفع صوته باستعاذة من كل شيطان رجيم، واستأنف التلاوة والسير، وأنا أتسلل بين القبور وراءه، وصارت خطاه أسرع، فأدركت أن الخوف لا يزال في قلبه، ووثبت إلى جانبه مرة أخرى، ومددت يدي بخفة فجذبت شعر لحيته فصرخ واختفيت، ودرت من وراء القبور فسبقته وأنا أكاد أجن من السرور والجذل، وصدري يكاد ينفجر بالضحك المكتوم، وصبرت حتى مر بي فدفعت يدي إلى خصره ودغدغته، فأقسم لقد وثب الرجل عن الأرض كأنما كنت قد غرزت في جنبه سيفا أو حديدا محميا ورأيت فرصتي سانحة؛ فقد بلغ الاضطراب بالرجل غايته، وصار يخلط في كلامه كالذي لا يعي ما يقول، فكان يصيح «أعوذ بالله من ...» من فرط ما أصابه من الفزع. وجئته من ورائه ورفعت صوتي بالزمزمة وبكل ما أستطيع إخراجه من الأصوات المنكرة فانطلق الرجل يعدو!
وهكذا أفلت مني ... وكنت قد تعبت فلم أحاول أن ألحق به، فمشيت متمهلا ونفضت التراب عن ثيابي وخرجت إلى الطريق العام المطروق وبعد قليل - ربع ساعة أو نحو ذلك - بلغت مسجد الإمام الشافعي، وكان المؤذن يمهد للأذان بغناء سخيف، والناس يخرجون إلى المسجد ليتهيئوا لصلاة الفجر، فرأيت جماعة يحيطون بصاحبي الشيخ وهو يقول لهم: «وكان كالقط الأسود، يثب على كتفي ويلحس لي خدي وينفذ من بين رجلي، ويدخل بين الجبة والقفطان، وكنت أستعيذ بالله فتنشق الأرض ويغيب في جوفها، ولكنه كان يعود فيظهر لي أحيانا في صورة الدبة راكضا على يديه ورجليه، وأحيانا أخرى في مثل كفن الميت خارجا من تحت أحجار القبر، وقد تمزق اللثام عن وجهه وبرزت عيناه تقدحان بالشرر فأتلو ما تيسر من القرآن فيلتف الوجه في خرقة ويهوي الجسم إلى جدثه. ولست أنسى ما حييت أسنانه! لقد كانت كالجمرات لامعة حمراء وكانت تضطرب في فمه وتخفق كالنجوم والحمد لله الذي أنجاني من عناقه ...»
فقال أحدهم: «أتراه هم أن يعانقك؟»
فقال الشيخ: «هم؟ هم يعني ماذا؟ أقول لك: إنه مد ذراعين كأنهما مئذنتين ودنا مني ليطوقني بهما، ولمع الشوك الذي في صدره كأسنان الحراب فلولا أن ألهمني الله أن أقرأ آية الكرسي لكنت أنا الذي مت.»
قال آخر: وهل مات؟ غريب!
فقال الشيخ: «لقد احترق، أحرقته آية الكرسي. ثم استأنفت السير حتى بلغت هذا الطريق عند ...»
ودار بوجهه ليشير إلى المكان الذي نفذ منه إلى الطريق العام فأبصرني وراءه فاضطرب وصاح وهو يشير إلي بيديه: «أهه. أهه ... أهو ...»
فلم يفهم أحد سواي معنى صيحته وإشارته، ورددت الضحك الذي ازدحم في حلقي والتفت ورائي، كأنما أريد أن أنظر إلى حيث يشير، وكان الرجل يتراجع ويلصق بالناس فسأله بعضهم: «أين؟ إنا لا نرى شيئا!»
فمسح الشيخ وجهه بكفه وفاء إلى الهدوء وقال: «غريب! غريب! إن هذا الأفندي يشبهه جدا.»
Bog aan la aqoon