وازداد إيمانا بأوجه الشبه التي تجمعه بهذه البنت، وسلم بأنها ضرورة لا غنى عنها في وحدته، وبخاصة عندما فظعت الملمات، فقد هوت المعاول على الزعماء، وانقضت المحاكمات، فانقبض قلبه خوفا كموزع المخدرات إذا دهمته أنباء القبض على المعلمين الكبار، وأنكر الدنيا فلم يعد يعرفها، ولم يعد يدهش لأيام الشتاء العاصفة حين يغلق البوغاز، وتتطاير أمواج الغضب من البحر الصارخ فتجتاح الكورنيش، وتكفهر السحب كقطع الليل، ويشتد البرق كالصواريخ، وتنهل الأمطار ككائنات هاربة من غضب السماء، وبدت الغربة حمقاء عمياء، ففاض حنينه إلى القاهرة، وإلى ركن البوديجا الدافئ، وقالت له: ترى أين أنت الآن؟ إنك لست معي، ولا أنت في الدنيا كلها!
فعاد الحضور إلى نظرته المتعبة من التسكع في الغيب، وابتسم في فتور دون أن ينبس، فقالت: وهكذا أنت منذ أيام!
فقال في ضجر: نعم، أما أنت فلا تسمعين في الراديو إلا الأغاني!
فتساءلت في نبرة تطفل مستحيية: أنت من الأعيان؟
فضحك ضحكة جافة، وقال: أو عاطل من العاطلين! - أنت؟! كلا، ولكنك سر من الأسرار! - إنهم يفشون الأسرار. - خبرني حتى متى تبقى كما أنت؟ - دعيني أسألك نفس السؤال ... - أنا حياتي ليست بيدي. - ولا أنا ...
ثم وهو يبتسم: وعندما يأتي الربيع سيذهب كلانا إلى سبيله.
فقالت بحرارة غير متوقعة: أنا لن أذهب حتى تأمر بطردي.
لعنة الله على العواطف الكاذبة والصادقة على السواء، وأحدث توددها في نفسه أثرا عكسيا أوشك أن ينقلب غضبا، فركز انتباهه في أغنية تذاع، ثم أعلن المذيع عن برنامج اقتصادي تناقشه مجموعة من رجال الاقتصاد، سمع عند تعدد أسمائهم اسم الأستاذ «حسن الدباغ»، فسرعان ما وثب إلى الراديو فأغلقه، وسألته عن سر ضيقه فقال لها بحدة: قلت إنك لا تسمعين إلا الأغاني!
وفي الأيام الصافية من الشتاء كان يجوب الأماكن المحبوبة في شتى الأنحاء بالإسكندرية، ولم يصحبها معه ولا مرة واحدة، ولكنه لم يمنعها من ممارستها حريتها الكاملة في الحركة، وقرأ في عينيها رغبة في مصاحبته ولو خطوات على الكورنيش، ولكنه كره مجرد التفكير في تحقيقها، وسألته: ألا ترى أنك تعاملني كما لو كنت ...
فقاطعها بحزم: لا تفتشي عن أسباب للنكد!
Bog aan la aqoon