فنظر إليه أحمد متسائلا كأنما يستزيده تفسيرا لقوله، فقال الرجل: إني أسأل عن الناحية السياسية باعتبارها أوضح من غيرها .. - الأغلبية الساحقة من التلاميذ وفديون .. - ولكن ثمة كلام عن حركات جديدة؟ - مصر الفتاة؟ .. لا وزن لها، فرقة تعد على الأصابع، الأحزاب الأخرى لا أنصار لها إلا أقارب زعمائها، وهناك قلة لا تهتم بشئون الأحزاب كافة، وآخرون - وأنا منهم - نفضل الوفد على غيره ولكننا نطمع فيما هو أكمل ..
فقال الرجل بارتياح: هذا ما أسأل عنه، الوفد حزب الشعب، وهو خطوة تطورية خطيرة وطبيعية في آن واحد، كان الحزب الوطني حزبا تركيا دينيا رجعيا، أما الوفد فهو مبلور القومية المصرية ومطهرها من الشوائب والخبائث، إلى أنه مدرسة الوطنية والديمقراطية، ولكن المسألة أن الوطن لا يقنع، وما ينبغي له أن يقنع، بهذه المدرسة، نريد مرحلة جديدة من التطور، نريد مدرسة اجتماعية، لأن الاستقلال ليس بالغاية الأخيرة، ولكنه الوسيلة لنيل حقوق الشعب الدستورية والاقتصادية والإنسانية.
فهتف أحمد بحماس : ما أجمل هذا الكلام! - ولكن ينبغي أن يكون الوفد نقطة البدء، أما مصر الفتاة فحركة فاشستية رجعية مجرمة، ليست دون الرجعية الدينية خطرا، وهي ليست إلا صدى للعسكرية الألمانية والإيطالية التي تعبد قوة، وتقوم على الاستبداد وتزري بالقيم الإنسانية والكرامة البشرية، إن الرجعية داء مستوطن في الشرق كالكوليرا والتيفويد فينبغي استئصاله ..
فعاد أحمد يقول متحمسا: إن جماعة «الإنسان الجديد» تؤمن بهذا كل الإيمان ..
فهز الرجل رأسه الكبير في أسف وهو يقول؛ ولذلك فالمجلة هدف للرجعيين من كافة النحل، إنهم يرمونني بإفساد الشباب! - كما اتهموا سقراط من قبل ..
فابتسم الأستاذ عدلي كريم في ارتياح وقال: وما وجهتك؟ أعني أي كلية تقصد؟ - الآداب ..
فاعتدل الأستاذ في جلسته، وقال: الأدب وسيلة من وسائل التحرير الكبرى، ولكنه قد يكون وسيلة للرجعية، فاعرف سبيلك، فمن الأزهر ودار العلوم خرجت آداب مرضية عملت أجيالا على تجميد العقل وقتل الروح. ومهما يكن من أمر - ولا تدهش أن يصارحك بهذا الرأي رجل معدود في الأدباء - فالعلم أساس الحياة الحديثة، ينبغي أن ندرس العلوم وأن نشبع بالعقلية العلمية. الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن العشرين ولو كان عبقريا، وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه. لم يعد العلم وقفا على العلماء. أجل لهؤلاء التضلع والتعمق والبحث والكشف، ولكن على كل مثقف أن يضيء نفسه بنوره وأن يعتنق مبادئه ومناهجه ويتحلى بإسلوبه، ينبغي أن يحل العلم محل الكهانة والدين في العالم القديم ..
فقال أحمد مؤمنا على قول أستاذه؛ ولذلك كانت رسالة «الإنسان الجديد» هي تطوير المجتمع على أساس علمي ..
فقال عدلي كريم باهتمام: أجل، على كل منا أن يقوم بواجبه، ولو وجد نفسه وحيدا في الميدان ..
فهز أحمد رأسه موافقا فعاد الآخر يقول: ادرس الآداب كما تشاء، واعن بعقلك أكثر ما تعنى بالمحفوظات، ولا تنس العلم الحديث، ولا يجب أن تخلو مكتبتك - إلى جانب شكسبير وشوبنهور - من كونت ودارون وفرويد وماركس وإنجلز، لتكون لك حماسة أهل الدين، ولكن ينبغي أن تذكر أن لكل عصر أنبياءه، وأن أنبياء هذا العصر هم العلماء .
Bog aan la aqoon