والواقع أن مسيرة خالد من العراق إلى الشام أدنى إلى القصص الروائي منها إلى الحقيقة الواقعة، ذلك أيسر ما يقال عن أشهر الروايات فيها وأكثرها قصدا، ولذلك يمر بعض المؤرخين بها لا يقفون عندها، ويكتفي بعضهم بالإشارة إليها، ويقدمها ابن خلدون لقارئه بكلمة «ويقال» ولم يفصلها أحد ما فصلها ابن قتيبة في بعض كتبه، ونقاد ابن قتيبة يذكرون عنه أنه مؤرخ أديب شديد الولع بالقصص، على أن الوقائع الأساسية في هذه الرواية مذكورة في تاريخ الطبري وفي ابن الأثير وفي أكثر الكتب، وقد يكون فيها ما يحير اللب ويذهل الذهن، لكن أعمال خالد، عبقري الحرب وأكبر قائد عرفه العالم في عصره، لا تخضع كلها للمقاييس المطردة في أمر غيره من القواد، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكرنا غير مرة من اضطراب الروايات عن عهد أبي بكر، قام هذا وذاك عذرا للمؤرخين جميعا، سواء منهم من يثبت هذه الرواية المشهورة ومن يتخطاها أو يبدي الريبة فيها.
وتذهب هذه الرواية إلى أن خالدا لم ير اجتياز الصحراء من عين التمر إلى شمال الشام، مع قصر هذا الطريق، مخافة القبائل الموالية للروم والجيوش الجاثمة في هذا الجانب من إمبراطورية قيصر، لذلك انحدر بجيشه إلى دومة الجندل في الطريق الذي سلكه حين ذهب من الحيرة مددا لعياض بن غنم،
5
ومن دومة، سلك خالد طريق وادي سرحان حتى إذا بلغ قراقر أغار على أهلها من بني كلب، ولو أنه تابع مسيرته في طريق الوادي لبلغ بصرى في أيام، ولاتصل بجيش أبي عبيدة وسائر جيوش المسلمين على اليرموك، لكنه قدر أنه ربما لقي من جيوش الروم قبل بصرى من يصده عن غايته أو يطيل مكثه دونها، لذلك قال لأصحابه: «كيف لي بطريق أخرج فيه وراء جموع الروم؛ فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين.» وأجابوه كلهم: «لا نعرف إلا طريقا لا يحمل الجيوش وإنما يأخذه الفذ الراكب فإياك أن تغرر بالمسلمين.» لكن خالدا كان قد عزم سلوك هذا الطريق، فقام إلى أصحابه فقال لهم: «لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء يقع فيه مع معونة الله له.» وتحمس أصحابه حين سمعوا قوله هذا، فكان ردهم عليه: «أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فشأنك.»
والتمس خالد دليلا يسلك به هذه الطريق، فجيء برافع بن عميرة الطائي، فقال له: «انطلق بالناس.» قال رافع: «إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأنفال، والله إن الراكب المفرد يخشى فيها على نفسه، إنها لخمس ليال لا يصاب فيها ماء.» وحدق إليه خالد وقال: «لا بد والله من ذلك، فمر بأمرك.» وكان رافع قد سمع حديث خالد لأصحابه ورأى إقرارهم إياه، وأيقن أن لا مفر من نفاذ أمره، فقال: «استكثروا إذن من الماء، من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل، فإنها المهالك إلا ما دفع الله.» وطلب إلى خالد أن يجيئوه بما استطاعوا من إبل سمان، فلما جاءوه بها عمد إليها فظمأها، حتى إذا أجهدها عطشا أوردها الماء عللا بعد نهل،
6
فلما امتلأت صر آذانها وشد شافرها لئلا تجتر، وانطلق خالد بن الوليد بالجيش يتقدمه رافع، وقضوا خمسة أيام يسيرون في وحشة الصحراء ووحدتها وكل اعتمادهم بعد الله على دليلهم؛ ينزلون في كل يوم فيأكل الرجال ويشربون مما معهم من الماء، ثم يشقون بطون عدد من هذه الإبل التي اتخذوها صهاريج، ويخرجون الماء منها ويسقونه الخيل، فلما كان اليوم الخامس نادى خالد دليله: «ويحك يا رافع! ما عندك؟» قال رافع: «خير ... أدركتم الري إن شاء الله، وأنتم على الماء.» وكان رافع أرمد فأدار رأسه يمنة ويسرة ثم قال: «أيها الناس، انظروا علمين كأنهما ثديان.» فلما آتوهما وقف عليهما وقال: «انظروا، هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل؟» قالوا: ما نراها قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، هلكتم إذن والله وهلكت لا أبا لكم! اضربوا يمنة ويسرة.» فنظروا فوجدوا الشجرة قد قطعت وبقيت منها بقية، فلما رآها المسلمون كبروا وكبر رافع، ثم قال: «احفروا في أصلها.» فحفروا فنبع الماء من عين، فشرب الناس حتى رووا، فلما اطمأنوا إلى السلامة قال رافع: «والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام.»
أدرك خالد وجيشه الري حين بلغوا هذا المكان، وأدركوا عنده مفاتح الشام ودخل خالد سوى قبيل الصبح فأغار على أهلها من بهراء، وفزع الناس حين رأوا المسلمين ولم يطيقوا مقاومتهم، فأذعنوا طوعا أو كرها وسلم أهل تدمر بعد مقاومة يسيرة، ولم ير خالد أن يهاجم دمشق وهو إنما جاء مددا لجيوش المسلمين المقيمة على اليرموك، فسلك غير بعيد طريق حوارين، حتى إذا أتى قصم صالح أهلها قضاعة، ومنها انحدر إلى أذرعات، وأغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، وتقدمهم خالد فاقتحموا بصرى وفتحها الله عليهم، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص بالعربات عند الغور، وعسكر خالد بجنوده إلى جوار زملائه، وبذلك اكتمل جمع المسلمين على اليرموك.
هذه هي الرواية المشهورة عن سير خالد من العراق إلى الشام، وأنت ترى أنها أقرب إلى القصص الروائي وإن تضافرت روايات المؤرخين عليها، واجتياز المفازة بدلالة رافع بن عميرة أعجب ما فيها، على أن هذا العجب لم يمنع من تصديقها، أن كان لخالد ما هو أعجب منها؛ فانحداره من عين التمر لغياث غياض بن غنم أمام دومة بعض هذا العجب، وحجة خالد في سر من الناس عجب أيضا، وحروب خالد باليمامة وفتحه العراق عجب كل العجب، وهو إنما كان يختار أقرب الطرق إلى الظفر وأدناها إلى بلوغ النصر، وهذه المفازة التي اجتازها قد بعدت به عن مخاطر أراد اتقاءها، وأدنته من لقاء جيش المسلمين، فلا عجب أن تصدق الرواية عنها، ولا عجب أن يتخذ خالد هذا الطريق طريقه، وإن حير ذلك ألبابنا وأذهل أذهاننا.
أراد بعض المؤلفين الذين أقروا هذه الرواية أن ينفوا عنها كل ما يبعد بها عن مقتضى العقل. اختلف في عدد الجيش الذي سار به خالد من العراق، فقيل: كان تسعة آلاف وقيل: ستة آلاف، وذهب بعضهم إلى أنه ثمانمائة، أو ستمائة، أو خمسمائة، وأصحاب الرواية الأولى يذكرون أن خالدا سار بنصف الجيش الذي كان بالعراق تنفيذا لأمر أبي بكر، وكان هذا الجيش ثمانية عشر ألفا أو نحوها، أما الذين يذكرون أن هذا الجيش كان دون الألف فيؤيدون رأيهم بأن القصد من مسيرة خالد إلى الشام إنما كان لعبقريته في القيادة؛ أما الجيوش التي كانت تواجه الروم فلم تكن قليلة العدد، وكان المدد يجيء لها من المدينة متصلا؛ فمسيرة خالد في عدد قليل مقصودة حتى لا تحول ضخامة العدد بينه وبين السرعة في نجدة من رآهم الخليفة في حاجة إلى نجدته.
Bog aan la aqoon