ولقد توقع أبو بكر أن تدور مثل هذه الخواطر بنفس خالد فيكون لها أثر في تصرفه، ولذلك قال له: «إياك أن تعود لمثل ما فعلت.» يشير إلى حجه بغير استئذان، وينبهه إلى أن واجبه الأول أن ينفذ أمر الخليفة إليه، وألا يقوم بعمل لا يرضاه، وأكبر الظن أن ما توقعه الخليفة من برم خالد بترك العراق هو الذي جعله يفرغ كتابه في هذه الصيغة وفيها ما فيها من تمليق خالد وكبريائه، وفيها ما فيها من تخويفه الخسارة والخذلان إن دخله العجب أو دل بعمل؛ «فإن الله (عز وجل) له المن وهو ولي الجزاء».
بل لقد أراد أبو بكر أن يزيل من نفس خالد كل مظنة، فأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس وأن يأخذ معه النصف، ثم أضاف في ختام كتابه: «فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك.»
4
لا خوف إذن من أن يجيء إلى العراق عمر أو غير عمر؛ فالمثنى هو الذي سيخلفه، فإذا فتح الله الشام على خالد عاد إلى العراق.
ولم يك خالد في ريب من أن الله سيفتحه عليه ولئن بلغه من أنباء المسلمين هناك ما بلغه، لقد كان مطمئنا إلى أنه سيف الله وأنه لن يغلب، فليمتثل أمر أبي بكر وليذهب للقاء الروم و
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ، ذلك قوله تعالى في المؤمنين، وليس كإيمان خالد إيمان، وليس كسيف الله سيف مؤمن.
ويوم يهزم خالد الروم فذلك يوم الفصل الأكبر، ويومئذ لا يقول ابن الخطاب ولا غير ابن الخطاب مثل الذي قالوا في أعقاب مقتل مالك بن نويرة، وفي أعقاب غزوة اليمامة، ويومئذ لا يكون لطامع في العراق مطمع، بل يرجع هو إلى الحيرة فيتأهب لفتح المدائن وفض إيوان كسرى على من فيه، ثم يسير غازيا أرض العجم ما شاء الله أن يسير.
على أن خالدا قدر ما سيواجهه بأرض الروم، فأحضر أصحاب رسول الله الذين كانوا معه بالعراق واستأثر بهم لنفسه، وترك للمثنى مثل عددهم ممن لم يكن له مع الرسول صحبة، ونظر بعد ذلك فيمن بقي، فاختار من كان قدم على النبي وافدا أو غير وافد وترك للمثنى مثل عددهم من أهل القناعة، ثم قسم سائر الجند قسمين، فلما رأى المثنى صنيعه غضب وقال: «والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة أو بعض النصف وكيف تعريني منهم ! ووالله ما أرجو النصر إلا بهم!» فلما رأى خالد ذلك منه تلكأ عليه بعض الشيء، ثم عذره وأرضاه وأعاضه من الصحابة أبطالا مجربين.
مع هذا خشي خالد أن يصيب المسلمين بالعراق شر بعد مغادرته إياهم، فرد الضعفاء والنساء منهم إلى المدينة، حتى لا يشغل المثنى بهم إذا أراد الفرس مناجزته، ولما اطمأن إلى مسيرتهم تجهز فيمن معه من الجند للسفر إلى الشام وخرج المثنى في كتيبة من الجند فشيعه إلى تخوم الصحراء.
أي طريق يسلك لينسي الروم وساوس الشيطان؟ إن بينه وبين الشام صحراء جرداء لا تطرقها قافلة ويضل في مفاوزها الدليل الخريت! أيتخطى البادية من الشمال بين عين التمر وما حاذاها من بلاد الشام؟ ذلك أقصر الطرق خلال البادية لكن قبائل العرب النازلة منه على تخوم الشام موالية كلها للروم ولقيصر، ثم جند مقيمون قد يلقونه فيقطعون عليه طريقه. أفينحدر إلى بلاد العرب ثم يأخذ الطريق التي سلكها عكرمة وأبو عبيدة وسائر الأمراء قبله؟ إنه إن يفعل فلن يبلغ جيوش المسلمين إلا بعد أمد طويل. ماذا يصنع إذن حتى يتقي مقاومة العدو ويقهر طول الأمد؟! إلى هذا انصرف تفكير القائد العبقري. وتفكير العباقرة لا يوجهه المنطق وإنما يهديه الإلهام؛ فليس لنا معشر هذا الناس إلا أن نسير وراء القائد الملهم لا نراجع منطقه ولا نسأله عما يفعل. وما لنا نسأله أو نراجعه! ألم يسر بنا من ظفر إلى ظفر! لقد سحر ألبابنا وملك أفئدتنا من قبل حين وقفنا معه مواقف أرتنا الموت رأي العين، ثم خرجنا وإياه من المعمعة متوجين بأكاليل النصر، فلنلق إليه قيادنا مطمئنين؛ فهو سيف الله، والله ناصره لا محاله.
Bog aan la aqoon