ومن الناس من يكون التعلم أسهل عليه من التذكر لأنه يكون مطبوعا على ضروريات النقل، ومن الناس من يكون بالعكس، ومن الناس من يكون شديد الذكر ضعيف التذكر، وذلك لأنه يكون يابس المزاج فيحفظ ما يأخذه، ولا يكون حرك النفس مطاوع المادة لأفعال التخيل واستعراضاته، ومن الناس من يكون بالعكس، وأسرع الناس تذكرا أفطنهم للإشارات، فإن الإشارات تفعل نقلا عن المحسوسات إلى معان غيرها، فمن كان فطنا فى الإشارات كان سريع التذكر، ومن الناس من يكون قوى الفهم ولكن يكون ضعيف الذكر، ويكاد أن يكون الأمر فى الفهم والذكر بالتضاد، فإن الفهم يحتاج إلى عنصر للصور الباطنة شديد الانطباع وإنما تعين عليه الرطوبة، وأما الذكر فيحتاج إلى مادة يعسر انفساخ ما يتصور فيها ويتمثل، وذلك يحتاج إلى مادة يابسة، فلذلك يصعب اجتماع الأمرين، فأكثر من يكون حافظا هو الذى لا تكثر حركاته ولا تتفنن هممه، ومن كان كثير الهمم كثير الحركات لم يذكر جيدا، فيحتاج الذكر مع المادة المناسبة إلى أن تكون النفس مقبلة على الصورة وعلى المعنى المستثبتين إقبالا بالحرص غير مأخوذة عنهما بأشغال أخرى، ولذلك فإن الصبيان مع رطوبتهم يحفظون جيدا لأن نفوسهم غير مشغولة بما تشتغل به نفوس البالغين، فلا تذهل عما هى مقبلة عليه بغيره، وأما الشبان فلحرارتهم واضطراب حركاتهم مع يبس مزاجهم لا يكون ذكرهم كذكر الصبيان والمترعرعين، والمشائخ أيضا يعرض لهم من الرطوبة الغالبة أن لا يذكروا ما يشاهدون،
وقد يعرض مع التذكر من الغم والغضب والحزن وغير ذلك ما يشاكل حال وقوع الشىء، وذلك أنه لم يكن سبب الغم والغضب والحزن فيما مضى إلا انطباع هذه الصورة فى باطن الحواس، فإذا عادت فعلت ذلك أو قريبا منه، والأمانى والرجاء أيضا تفعل ذلك، والرجاء غير الأمنية، فإن الرجاء تخيل أمر ما مع حكم أو ظن بأنه فى الأكثر كائن، والأمنية تخيل أمر وشهوته والحكم بالتذاذ يكون إن كان، والخوف يقابل الرجاء على سبيل التضاد واليأس عدمه، وهذه كلها أحكام للوهم،
Bogga 187