سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب)
الآية التاسعة والخمسون بعد المائة: قول الله ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ [البقرة:١٧٤]، نزلت هذه الآية -كما قال ابن عباس - حين سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفرًا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم؛ فأنزل الله ﷿ هذه الآية.
والنبي ﷺ قال: (من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار).
فكتمان العلم حرام، لكن -أيها الإخوان- أحيانًا يكون كتمان العلم لمصلحة السائل نفسه، ولذلك ذكروا أن عبد الله بن عباس جاء إليه رجل يسأله: هل للقاتل توبة؟ قال له: لا.
القاتل ليس توبة، فخرج الرجل، فأصحاب ابن عباس سألوه وقالوا له: قد سمعناك تقول بأن للقاتل توبة، فقال لهم: إن هذا الرجل أراد أن يقتل، ونحن لا نريد ذلك، فجاء يأخذ فتوى على أنه ممكن أن يتوب، كأن ابن عباس تفرس في الرجل توترًا وضيقًا، وفعلًا تتبع أصحاب ابن عباس ذلك الرجل فوجدوه كما قال.
فمثل هذا قد يُكتم عنه العلم؛ لأن المتلقي لن يفهم، وفي الحديث: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
ولذلك علي بن أبي طالب ﵁ قال: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله؟ وقد يُكتم العلم لأن صاحب العلم يخاف على نفسه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة ﵁ قال: حفظت من رسول الله ﷺ وعاءين، أما أحدهما فبثثته -أي: نشرته- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم، فهو يقول: الرسول ﷺ أعطاني علمًا كثيرًا، فبعضه نشرته بين الناس ورويته، والآخر لو نشرته لحدثت مشكلة.
قال أهل الحديث: ما كتمه أبو هريرة هو أسماء أمراء الجور من بني أمية، فإن رسول الله ﷺ قال له: سيلي فلان وهو جائر، وفلان فاسق، وفلان ظالم، يذكرهم بأسمائهم، فـ أبو هريرة قام في الناس وأخبر أنه لا مصلحة من نشر هذا سوى تهييج الناس؛ لأن الناس لو سمعوا أن رسول الله ﷺ قال ذلك فسيثورون عليهم، وإذا ثاروا على أمراء الجور فسيواجهون الثورة وتسيل الدماء، وتزهق الأرواح، وتخرب الممتلكات، ولا يعود الناس بفائدة، ولا ينالون خيرًا، فلذلك أبو هريرة ﵁ رأى أن من المصلحة ألا يخبر بذلك.
13 / 11