Sheikh Abdul Hay Yusuf's Lessons
دروس الشيخ عبد الحي يوسف
Noocyada
عبر من الأحداث
إن الناظر إلى واقع المسلمين اليوم يجد أن الوهن واليأس قد دب إلى قلوب كثير من المسلمين؛ وذلك بسبب الأحداث والمنعطفات التي تمر بها الأمة، فالواجب على دعاة الأمة أن يوجهوا خطابهم الدعوي ليبثوا من خلاله روح العزيمة في قلوب الناس، وتبشيرهم بوعد الله بالنصر لهذه الأمة، وبيان أن الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى يوم القيامة، وأن الغلبة للحق بإذن الله.
1 / 1
الاستدلال بالماضي على الحاضر من خلال القصص القرآني
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علمًا نافعًا، وارزقنا عملًا صالحًا، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد: أيها الفضلاء! أحمد الله الذي هيأ لنا هذا اللقاء، وجمعنا هذا المساء في هذا المسجد المبارك، وأسأل الله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يجعلنا ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر:٤٧].
وفي بداية هذه الكلمة أقول: إن في القرآن الكريم قصصًا وعبرًا، وعندما قص الله ﷻ علينا شيئًا من أخبار الأولين قال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ [يوسف:١١١]، وهذه العبر لا تقتصر على ما مضى، بل لو نظر المسلم المتدبر للقرآن الكريم في تلك القصص وقاسها بواقعه الذي يعيشه فإنه يستطيع أن يستدل بماضيه على حاضره، ولو أن مسلمًا شك في أن فئة قليلة مستضعفة يمكن أن تنتصر على فئة كثيرة مستعلية، فليقرأ قول ربنا ﷻ: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ [آل عمران:١٣]، ولو أن مسلمًا نظر إلى بعض المتألهين المتجبرين، وإلى بعض الطغاة المستكبرين، فليقرأ في القرآن الكريم قول الله ﷻ عن فرعون اللئيم: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات:٢١ - ٢٦]، ولو أن مسلمًا نظر إلى دولة كافرة متكبرة عاتية تريد أن تفرض على الدنيا ثقافتها ورؤاها وحضارتها، فليقرأ في القرآن الكريم: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:٤٥ - ٤٦]، وليقرأ قول الله ﷿: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود:١٠٢ - ١٠٣].
1 / 2
تذكير الناس بمعاني العزة والكرامة
ولذا: فما أحرانا إلى أن نذكر الناس بمثل هذه المعاني، وإلى أن ندلهم على أن يرجعوا إلى القرآن؛ لكي يلتمسوا منه العبر والدروس وخاصة في زماننا هذا الذي اشتدت فيه الأزمات، وتوالت القوارع والنكبات على المسلمين، فاحتُلّت كثير من ديارهم، وعُطلت شريعتهم، وطُمست معالم دينهم، وأراد أعداؤهم أن يفرضوا عليهم ما يريدون من ثقافة وحضارة ورؤى واستشراف للمستقبل، وأرادوا أن يزرعوا في قلوبهم اليأس، وأنه لا أمل لهم في أن يرجعوا إلى دينهم، أو أن يستعيدوا أمجادهم، وصار حال الناس كما قال القائل: أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصًا جناحاه إن هذا الواقع الذي يعيشه الناس أدى إلى أن يدب اليأس والقنوط إلى قلوب كثير منهم، بل لقد دبَّ إلى ألسنتهم، فتجد عبارات تنضح باليأس، وربما يتفوه بها بعض الخاصة لا العامة! بل وخاصتهم من علمائهم ومفكريهم ومثقفيهم وأهل الحل والعقد فيهم! وتجد كثيرًا من هؤلاء يتكلمون وكأنه لا أمل ولا نجاة لنا بل لا بد أن نستسلم!! فمثل هؤلاء الناس لم ينظروا في عبر التاريخ، ولم ينظروا في تاريخ هذه الأمة الذي كان ولا زال في مد وجزر، وتقدم وتقهقر، ونصر وهزيمة، وأمل وألم، هؤلاء يحتاجون إلى أن يذكروا بقول الله ﷿: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر:٥١ - ٥٢]، ويحتاجون إلى من يذكرهم بقول الله ﷻ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات:١٧١ - ١٧٣]، ويحتاجون إلى من يذكرهم بأن رسول الله ﷺ وهو في أشد حالاته حين كان محاصرًا في مكة وكان أصحابه مضطهدين معذبين جاءه خباب بن الأرت ﵁ -والنبي ﷺ متوسد بردة له في ظل الكعبة- فقال له خباب -وقد عانى من المشركين ما عانى هو وإخوانه المؤمنون-: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟)، فيقول هذا الكلام وهو ﵁ يشعر بالضيق والكرب حين كان المشركون يأتون بالمسلم فيجيعونه ويعطشونه ويلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة، ويقولون له: واللات والعزى لا ندعك حتى تكفر بمحمد وإله محمد.
وهذا مثل الوضع الذي فيه المسلمون الآن، فبعضهم أسرى، وبعضهم مسجون، وبعضهم معذب، وبعضهم مطارَد، وبعضهم مضطهَد، وهكذا كان الصحابة، (فاعتدل النبي ﷺ في جلسته وقال له: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على رأسه حتى يفرق بين رجليه، ويمشطونه بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يرده ذلك عن دينه، ثم يقول ﵊: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، فالنبي ﵊ يقول هذا الكلام والصحابة لا يرون بادرة أمل في الأفق، لكنه ﵊ يزرع في قلوبهم الأمل، ويستدل على ذلك بأخبار الأولين، ولذلك لو قال قائل من الدعاة اليوم وهو يخاطب جماهير المسلمين: إن مع الصبر نصرًا، وإن مع الكرب فرجًا، وإن مع العسر يسرًا، وإن مع الشدة والسقم عافية ورحمة، ثم استدل على ذلك بأخبار الأولين وبعبر التاريخ وقصص الماضين، فلا ينبغي أن يقول قائل: إن هذا إنسان يعيش مع التاريخ، أو يعيش مع القصص والحكايات، فالله ﷻ حين يريد أن يزرع في قلوب الناس الأمل فإنه يذكرهم بالماضي، فها هو يقول لأصحاب رسوله ﷺ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال:٢٦]، فالله ﷿ هنا يستدل بالماضي من أجل أن يبشرهم بالمستقبل، ومن أجل أن يدلهم على الحاضر، فينبغي أن نقول للمسلمين: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:١٣٩]، ونقول لهم: لا ينبغي أن يصيبكم وهن ولا حزن، ولا ضيق مهما توالت النكبات، ومهما اشتدت الأزمات، ومهما تتابعت القوارع، ومهما قتل من المسلمين العدد الكثير، نعم إننا نحزن لذلك كما كان يحزن رسول الله ﷺ، فعندما استشهد في مؤتة جعفر، وزيد، وعبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم صعد النبي ﷺ على المنبر ودموعه على خديه، فنعى للصحابة جعفرًا وزيدًا وعبد الله بن رواحة، ولما وقف على جثمان عمه حمزة ﵁ وقد بُقرت بطنه، وجُدعت أنفه، وقطعت أذناه، دمعت عيناه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: (والله ما وقفت موقفًا أغيظ من هذا)، وكان ﵊ يحزن عندما يصيبه الكرب، لكنه ﵊ لم يكن يقطع أمله في الله قط، بل كان يبشر المسلمين في أشد اللحظات ضيقًا وحرجًا، ففي وقعة الأحزاب كان المسلمون محاصَرون، وقد اجتمع عليهم ثلاثة أنواع من الكروب: برد شديد، وجوع شديد، وخوف شديد، قال تعالى عنهم: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب:١٠]، فالمسلمون وهم في تلك الحال ترامت الأنباء بأن اليهود قد نقضوا العهد، وأنهم مالئوا المشركين على المسلمين، فأرسل النبي ﵊ السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضوان الله عليهما، وقال لهما ﵊ -وهو القائد الخبير المحنك-: (إن وجدتم اليهود على العهد باقين فأعلنوا ذلك للناس، وإن وجدتموهم قد نقضوا العهد فالحنوا لي لحنًا أعرفه)، أي: لئلا تفتوا في عضد الناس.
فذهب السعدان ﵄ فوجدا اليهود على شر حال: يسبون رسول الله ﷺ، ويذكرونه بالسوء، فقال السعدان لليهود: هل أنتم على العهد؟ قالوا: وأي عهد؟ قالا لهم: عهدكم مع رسول الله، قالوا: ومن رسول الله! وسبوه سبًا قبيحًا، فرجع السعدان رضوان الله عليهما وقالا: يا رسول الله! عضل والقارة -فهذا هو اللحن- ففهم النبي ﵊ أن اليهود قد غدروا بالمسلمين غدرًا كغدر قبيلتَي عضل والقارة بـ خبيب وأصحابه، فقال ﵊: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين!)، فسبحان الله! فأي بشرى هذه؟! وهؤلاء المشركون من قريش وغطفان والأحابيش قد حاصروا المدينة من كل ناحية، وهؤلاء اليهود قد نقضوا العهد، وهؤلاء المنافقون يتسللون لواذًا يفتون في عضد الناس، ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ [الأحزاب:١٣]، ومع ذلك يقول النبي ﷺ: (أبشروا يا معشر المسلمين!) ولم يقل ذلك ﵊ إلا لأنه يعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، والآن تمالئ على المسلمين أمم الأرض من كل حدب وصوب، فما إن يسمع أعداء الله ﷿ بجماعة من المسلمين في بلد من البلاد قد نشروا الأمن، وحكموا شريعة الله، ووجد المسلمون معهم حلاوة الحياة إلا سعوا في وأدهم، وتدميرهم، وتقتيلهم، ومطاردتهم، وأن يلصقوا بهم أبشع التهم، وأشنع الأوصاف، وشردوا بهم من خلفهم، ونجد أن المنافقين يتسللون بكتاباتهم وأحاديثهم وإشاعاتهم ليفتوا في عضد الناس، وليدخلوا اليأس في القلوب، فنذكر هؤلاء بقول ربنا: «وَلا تَهِنُوا»، فالوهن ممنوع، ونذكرهم بقول رسول الله ﷺ: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
فيا أيها المسلم! اقرأ قول الله ﷿: «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ»، ويا من تقارع أعداء الله وتجاهد في سبيل الله! ويا من تتوق إلى نصر الإسلام! اقرأ هذه الآية: ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ [النساء:١٠٤]، وتأمل في هذه الآية، واعلم بأن الله ﷿ بشرك أولًا: بأن الألم الذي يصيبك فإنه يصيب الكفار مثله: «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ»، وإن كان في المسلمين قتيل وجريح ومعوق ومتألم فكذلك في الكفار، وما دام في المسلمين من يرفع هذه الراية: لا إله إلا الله، ويعتقد أن معقد العز وذروة سنام الإسلام هو الجهاد فليعلم أنه من أهل هذه الآية: «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ».
ثانيًا: قال الله ﷿: «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ»، فالكافر أمله في هذه الدنيا، وأما أنت أيها المسلم! فتعتقد أن بعد هذه الحياة حياة، وأن بعد هذه الدنيا جنة عرضها السموات والأرض، ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:٥٥]، فتعتقد أن هناك جنة تنتظرك، وهذه الجنة بناؤها لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها الزعفران، من دخلها ينعم فلا يبأس، ويسعد فلا يشقى، ويشب فلا يهرم، ويخلد فلا يموت: «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ»، وهذا المعنى هو الذي فه
1 / 3
دروس وحقائق من الأحداث
إن الأحداث التي تعصف بالأمة في أيامنا هذه لهي من نعم الله على العباد؛ حتى يدركوا جملة من الحقائق، أولها:
1 / 4
عداوة الكفار عداوة عقدية أصيلة
إن عداوة الكفار للمسلمين عداوة أصلية راسخة، وليست عداوة طارئة ولا عداوة تابعة للمصالح، فلابد أن يذكّر الناس بقول ربنا ﷻ: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء:٨٩]، وقوله: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ [البقرة:١٢٠].
وقوله: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ﴾ [البقرة:١٠٩]، فليست الحرب حربًا على شخص حاكم، ولا حربًا على نظام بعينه بدعوى أنه نظام دكتاتوري، أو أنه لا يعطي للناس حرياتهم، بل إن العداوة هي للدين نفسه، والعداوة لكل مسلم مهما تسمى ومهما انتمى إلى أي طائفة أو جماعة، فهذه حقيقة لابد أن يدركها الناس الآن.
1 / 5
الكفر ملة واحدة
ثاني هذه الحقائق التي لابد أن يدركها الناس: أن الكفر ملة واحدة، وأن المنظمات الدولية وغيرها سراب يستعملها الكفار متى ما أرادوا، ثم بعد ذلك يدوسون عليها بالنعال ويهمشونها، ويغضون الطرف عنها متى ما كان الإجرام مسلطًا على المسلمين، أو على بلدة مسلمة، أو على جماعة من المسلمين، وحينئذ فهذه المنظمات لا قيمة لها، ولذلك لا ينبغي لعقلاء المسلمين أن يعولوا عليها، وليكن تعويلهم على رب العالمين ﷻ، وليكن تعويلهم على استمساكهم بدينهم، وليكن تعويلهم على وحدتهم التي هي سر قوتهم.
1 / 6
الجهاد هو المخرج لهذه الأمة من الذلة
ثالث هذه الحقائق التي ينبغي أن يذكر الناس بها: أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، فإذا تركه الناس ضرب عليهم الذل، وضربت عليهم المسكنة، وأحاط بهم الأعداء من كل جانب، وغزوهم في عقر دارهم.
1 / 7
ضرورة ووجوب الوحدة بين المسلمين
رابع هذه الحقائق: أنه لا طاقة للمسلمين بمواجهة عدوهم إلا إذا اعتصموا بالله ربهم، وأما إذا رفعوا شعارات القومية، أو شعارات الوطنية، أو غيرها من الشعارات مما كنا نسمعه إلى عهد قريب من اشتراكية وبعثية فهذه كلها لن تغني عنهم من الله شيئًا، ولا يستطيع أن يواجه أهل الكفر إلا قوم رضوا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا ورسولًا، وبالقرآن إمامًا، وحالهم كحال خبيب ﵁، أو كحال زيد بن الدثنة، أو كحال عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأمثالهم رضوان الله عليهم، فعندما كان الواحد منهم يقاد إلى القتل فيسأل فيقال له: يا فلان! أتحب أنك بين أهلك وولدك ومحمد مكانك ﷺ؟ فكان يعلنها مدوية: والله ما أحب أني بين أهلي ومالي ورسول الله ﷺ يشاك بشوكة، فهكذا كان حبهم لنبيهم ﵊، حتى أنطق الله بعض الكفار فقال: لقد أتيت كسرى وقيصر فما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا.
1 / 8
الأيام دول
ثم خامس هذه الحقائق والعبر التي ينبغي أن يذكر الناس بها في هذه الأحداث: أن الأيام دول، وأن الدهر يتغير، وأن صراع الحق مع الباطل جولات وليست جولة واحدة، فيأتي أهل الباطل فيقذفون أهل الحق بطائراتهم، ويسلطون عليهم حممهم ونيرانهم، ثم لا ينتهي الأمر عند ذلك، والقرآن الكريم يذكرنا بذلك القانون الإلهي، يقول الله ﷿: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران:١٤٠] أي: بين نصر وهزيمة، تقدم وتقهقر، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم:٩]، وهذا السلاح -أعني: سلاح التذكير بعاقبة الأمم المتغطرسة المتجبرة- هو السلاح الذي كان رسول الله ﷺ يخيف به أعداء الله، فعندما جاءه عتبة بن ربيعة وقال له: (يا محمد! ما رأيت رجلًا أشأم على قومه منك؛ لقد سفهت أحلامنا، وفرقت جماعتنا، وعبت آلهتنا، فانظر ما تريد؟ إن كنت تريد مالًا جمعنا لك حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رأي من الجن التمسنا لك الطب، وإن كنت تريد نساء فانظر أجمل نساء قريش نزوجك عشرًا، فقال له النبي ﷺ: أو قد فرغت يا عم؟! قال: نعم، فاردد عليَّ قولي إن استطعت، قال له فاسمع: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ [فصلت:١ - ٤] إلى أن بلغ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت:١٣]، فألقى الله الرعب في قلب الكافر، فجاء فوضع كفه على فم النبي ﵊ وقال: يا محمد! ناشدتك الله والرحم أن تكف عنا).
فمطلوب منا أن نذكر المسلمين اليائسين بأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، ونذكرهم بأن أممًا قد ملكت وسادت ثم بادت، وعلت واستكبرت في الأرض ثم بدل الله ﷿ الحال غير الحال، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص:٥ - ٦].
1 / 9
بث روح الحماس والعزة في نفوس الناس
ولا بد أن نطرح أسئلة على هؤلاء المسلمين اليائسين فنقول لهم: هل شباب الإسلام الآن أكثر التزامًا، أم أنهم كانوا أكثر التزامًا في السنوات الماضية؟ إن كبار السن الذين قد بلغوا من العمر الخمسين أو الستين سنة ليشهدون بأن الشباب اليوم هم خير وأفضل وأكثر استقامة وسدادًا من الشباب الذين كانوا قبل ثلاثين أو أربعين سنة، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الأمة إلى خير بإذن الله تعالى.
ونطرح أيضًا هذا السؤال؟ كلمة الجهاد التي ترهب أعداء الله وتخيفهم! هل كانوا يسمعونها قبل خمسين أو ستين سنة؟ فقد طمست معالمها حتى في معاهد العلم الشرعي، فقد كانوا يطوونها طيًا، بل إن بعض الكتب التي ألفت في تفسير القرآن نجد أن آيات الجهاد كانت تطوى طيًا، ثم إذا مروا على غيرها من الآيات فيقولون: ولنا هنا وقفات، ويبدءون في التفصيل والتفريع والتقسيم، وأما آيات الجهاد بل وسور الجهاد فإنها تطوى طيًا، والآن نجد الناس يسألون عن الجهاد، ولهم رغبة في معرفة فقه الجهاد وآداب الجهاد، ونفوسهم تتوق إلى هذه الكلمة التي عدها رسول الله ﷺ ذروة سنام الإسلام.
ونطرح سؤالًا آخر فنقول: أليس جمهور المسلمين يتوقون إلى أن تحكيم شريعة الله؟ وإلى أن يحل الحلال ويحرم الحرام؟ أليس جمهور المسلمين الآن نافرين من تلك الأنظمة المستوردة مما فرض على بلاد المسلمين شرقًا وغربًا؟ فالناس الآن زاهدون في هذا كله، ويتوقون إلى العودة إلى شريعة ربهم التي جاءت صفوًا، ويتوقون إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا يلمس في كل مكان.
لذلك: نقول للناس: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:٢١٤]، فهذا وعد ربنا في القرآن والله لا يخلف الميعاد: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:٢١٤].
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ﴾ [آل عمران:١٤٦] أو قُتِلَ ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ﴾ [آل عمران:١٤٦ - ١٤٨] أي: جنتًا ونعيمًا.
ونقول لهم: (جاء بعض الصحابة إلى رسول الله ﷺ وقالوا له: يا رسول الله! نصبح ونمسي في السلاح، أي: أنهم يشتكون رضوان الله عليهم، فهم في المدينة دائمًا في حالة طوارئ وخوف من اليهود ومن المنافقين ومن قبائل الأعراب التي تحيط بالمدينة ولم تدن بعد لله، فسكت رسول الله ﷺ، وأنزل الله ﷿ هذه الآية: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥]).
وقد صدق موعود ربنا فيها في هذه الآية، فقد توفي رسول الله ﷺ والإسلام محصور في جزيرة العرب ونجد والحجاز وتهامة واليمن، ولم يمض سوى عقدين من الزمان (عشرين سنة) حتى كان الإسلام قد بلغ الشام والعراق وفارس ومصر والشمال الإفريقي، بل وبلغ الإسلام إلى حدود الصين شرقًا، ودق أبواب فرنسا غربًا، والآن يقول العارفون بحقائق الأمور: إن الإسلام هو أكثر الأديان انتشارًا، وليس ذلك في أدغال إفريقيا، ولا في أحواش آسيا، ولا في أطراف الدنيا، بل في أوروبا وأمريكا، وليس يدخل فيه أقوام يبحثون عن كسوة أو غذاء أو جرعة دواء، بل يدخل فيه عِلية القوم من علمائهم ومفكريهم ومثقفيهم ممن يستطيعون أن يميزوا الخبيث من الطيب، فهؤلاء هم الذين يدخلون في دين محمد ﷺ.
ولذلك؛ (لما جاء عدي بن حاتم وبدأ النبي ﷺ يجادله ليدخله في الإسلام قال له: ما حملك على الفرار أغاظك أن يقال: الله أكبر، فهل أحد أكبر من الله؟ أغاظك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل إله غير الله؟ يقول عدي ﵁: رأيت أصحابه يحفون به إن تكلم سكتوا، وإن أمر ابتدروا، فقلت: إن هذا ملك، فهذه أخلاق الملوك، يقول عدي: فلما قام إلى بيته تبعته ﵊ من المسجد إلى بيته، فاستوقفته امرأة عجوز فوقف يناجيها طويلًا، فقلت: والله ما هذه أخلاق ملك! قال: فلما دخلت معه بيته ألقى إلي وسادة وقال: اجلس عليها، قلت: بل اجلس أنت، قال: لا، بل اجلس أنت، فأجلسني على الوسادة وجلس على الأرض، ثم قال له: يا عدي! لعله يمنعك من الإسلام ما ترى من ضعف أصحابي؟ قال: بلى، قال: ولعله يمنعك من الإسلام ما ترى من فقرهم؟ قال: بلى، قال له: أسلم فإنه يوشك إن طالت بك حياة أن ترى الظعينة تخرج من الحيرة، أتعرف الحيرة؟ قلت: لا، لكنني سمعت بها، قال: يوشك إن طالت بك حياة أن ترى الظعينة -المرأة المسافرة- تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت ليست في جوار أحد إلا الله، ويوشك إن طالت بك حياة أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز، ويوشك إن طالت بك حياة أن ترى المال يعطى صحاحًا فلا يقبله أحد، قال عدي ﵁: فوالله لقد عشت حتى رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت ليست في جوار أحد إلا الله، وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والله لتقعن الثالثة كما أخبر رسول الله ﷺ.
إن المسلمين الآن بحاجة إلى يقين كيقين عدي، فلا بد أن يعتقدوا أن الله لا يخلف الميعاد، وأن محمدًا رسول الله ﷺ لا ينطق عن الهوى، وأن كل ما أخبر الله به في القرآن، وكل ما أخبر به النبي ﵊ فيما صح من سنته لابد كائن ولابد واقع، فهذا الأمر نحتاج إليه ونحتاج أن نذكر الناس به.
أسأل الله ﷿ أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين.
اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر دينك، واخذل من خذل دينك.
اللهم من أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بخير فأجري الخير على يديه، ومن أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، وأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره، وأهلكه كما أهلكت عادًا وثمود.
اللهم إنا نسألك يا أكرم الأكرمين! ويا أرحم الراحمين! لإخواننا المجاهدين في كل مكان نصرًا عزيزًا، وفتح قريبًا، اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم، وقوي شوكتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على من عاداك وعاداهم يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله.
1 / 10
حمالة الحطب
تحدث القرآن الكريم عن الأبرار والفجار، وذكر صفات كل منهما، ومن صفات الفجار: السعي بين الناس بالنميمة، وقد ذكر القرآن امرأة أبي لهب وأنها في النار؛ لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة.
والنميمة داء وبيل وشرٌ عظيم يفسد العلاقات الأخوية بين الناس، وينشئ المنازعات والقتال بينهم.
والنميمة من كبائر الذنوب، ومن أسباب عذاب القبر، ومن موانع دخول الجنة، فيجب الحذر منها وتجنب الاستماع إلى أصحابها.
2 / 1
أنصار الخير وأنصار الشر
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، أحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار.
وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار.
وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أما بعد: أيها الفضلاء! أحمد الله الذي هيأ لنا هذا اللقاء في هذه الليلة المباركة، ليلة الجمعة التي يستحب فيها الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وقد ثبت عنه في الحديث أنه قال: (إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ -يعنون: بليت- فقال ﵊: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
أسأل الله سبحانه كما جمعنا في هذا المسجد المبارك، أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يجعلنا إخوانًا على سرر متقابلين.
إخوتي الكرام! عنوان هذه الكلمة: حمّالة الحطب، أقول في مقدمتها: ما أكثر الشخصيات التي تحدث عنها القرآن، وهي على نوعين: النوع الأول: شخصيات مؤمنة برة تقية، ملأت الأرض نورًا وعدلًا وهدىً ورحمة، كأنبياء الله ورسله وأوليائه وصالحي عباده، جزاهم الله عن الإسلام وأهله خيرًا.
النوع الثاني: شخصيات ملأت الأرض ظلمًا وجورًا وبطشًا، وتحدث عنها القرآن بما فيها، ومن هؤلاء: حمّالة الحطب زوجة أبي لهب العوراء، أم جميل بنت حرب، التي توعدها ربنا ﷻ هي وزوجها بنار ذات لهب، ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:١] قال أهل التفسير: التباب هو الخسار، كما في قوله ﷻ: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ [غافر:٣٧] أي: في خسار.
قالوا: (تبت) الأولى: دعاء، (وتب) خبر.
2 / 2
المال لا يغني عن المرء شيئًا
يقول الله ﷿ بعدما دعا عليه وقد حصل هذا التباب والخسار: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد:٢] ما أغنى عنه ماله الذي جمعه وحرص على تنميته وتثميره؟ وما أغنى عنه كسبه؟ قالوا: المقصود بالكسب هاهنا الذرية والأولاد.
قال أهل التفسير: اختصم بنو أبي لهب، فجاءو إلى عبد الله بن عباس ﵄ ليصلح بينهم، فاقتتلوا عنده، فقام ليحجز بينهم، فدفعوه حتى سقط، فقال ﵁: أخرجوا عني الكسب الخبيث! وقال النبي ﷺ: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه).
كان رسول الله ﷺ يقول للناس في الموسم أو في سوق عكاظ: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم، إني رسول الله إليكم جميعًا، وكان عمه أبو لهب -وهو رجل أحول جسيم ذو غديرتين- يسير خلفه ويقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، لا تصدقوه فإنه ساحر، فيعجب الناس ويقولون: من هذا؟ فيقول أهل مكة: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، والرجل الذي خلفه عمه أبو لهب، فكان الناس يقولون: عمّه أعلم به) أي: إذا قال عمّه: إنه كذاب فهو كذلك، وإذا قال: إنه ساحر فهو كذلك، فكان صادًا عن سبيل الله، قال الله ﷿: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد:٣].
2 / 3
جزاء إيذاء الصالحين
قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ [المسد:٤] أي: زوجته، وهي العوراء أم جميل بنت حرب، ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد:٤] أو (حمالةُ الحطب) قراءتان، قال أهل التفسير: كانت هذه المرأة الظالمة الباغية تطرح الأقذار والأشواك والحطب في طريق رسول الله ﷺ وعلى بابه، فما كان ﷺ يزيد على أن يرفع يده ويقول: (ما هذا الجوار يا بني عبد المطلب؟!).
وقيل: بل قوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) إخبار عن المآل وأنها في النار والعياذ بالله، فهي ستأخذ الحطب وتطرحه على زوجها؛ لتزيده عذابًا فوق العذاب؛ لأنها في الدنيا حرَّضته على الكفر وزينت له الشرك.
وقيل: بل قوله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) لأنها كانت بخيلة رغم غناها وكثرة مالها، وكانت تنقل الحطب على رأسها وتبيعه.
وقيل: بل قوله تعالى: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) كناية عن سعيها بالنميمة بين الناس، كانت تنقل كلام الناس بعضهم إلى بعض؛ لتفسد بينهم، وتقطع الأواصر، وتزرع العداوة والبغضاء، فهي بمثابة من يحمل الحطب ليزيد النار اشتعالًا، قال تعالى: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد:٥].
أيها الفضلاء! ما أكثر آباء لهب وأمهات لهب في زماننا، ما أكثر هؤلاء الصَّادين عن سبيل الله، المشائين بالنميمة بين الناس، الملتمسين للبرآءِ العيب، الذين يعملون على زرع العداوة والبغضاء بين المؤمنين والمؤمنات، هؤلاء جميعًا ينبغي أن يُذكّروا بهذه الآية؛ لأن الله ﷿ وصف تلك المرأة الباغية الظالمة بهذا الوصف القبيح، ليحذرنا من أن نسلك سلوكها، وأن نسير سيرها، فالنميمة من القبائح والمنكرات التي نهانا عنها ربنا ﷻ.
2 / 4
النميمة
النميمة هي: نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، قال رسول الله ﷺ: (لا يدخل الجنة قتَّات).
قيل: القتَّات هو النمَّام، وقيل: بل القتات هو الذي ينقل كلامًا ما سمعه وإنما نُقل إليه، كأن يُقال له: إن فلانًا قال في فلان كذا، فيبادر إلى نقل الكلام دون أن يكون قد سمعه منه، أما النمام فهو الذي سمع الكلام بنفسه فنقله.
وقد أجمع المسلمون على أن النميمة حرام، وما قال بجوازها أحد.
2 / 5
الفرق بين النميمة والغيبة
قال أهل العلم: الفرق بين النميمة وبين الغيبة أن الغيبة قد تجوز أحيانًا، كما قال القائل: القدح ليس بغيبة في ستةٍ متظلمٍ ومعرفٍ ومحذر ولمظهرٍ فسقًا ومستفتٍ ومن طلب الإعانةَ في إزالةِ منكرِ فالغيبة قد تجوز أحيانًا، أما النميمة فلا تجوز بحال.
ومن الفروق بينهما أن الغيبة قد تكون باللسان، وقد تكون بالقلب، كأن تظن بفلان ظن السوء، أما النميمة فلا تكون إلا باللسان.
ومن الفروق بينهما كذلك: أن الغيبة تختص بالمغتاب وحده الذي يتكلم بها، أما النميمة فإنه يشترك فيها أطراف متعددة.
2 / 6
خطر النميمة
النميمة من كبائر الذنوب؛ لأنها مؤدية إلى فساد ذات البين، وقد قال رسول الله ﷺ: (ألا أدلكم على ما هو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين).
فالنميمة سبب في حلق الدين؛ لأنها تفسد ذات بين المسلمين، وقد قال الله ﷿: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:١] وقال: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:١١٤].
فالنمّام مرتكب كبيرة، وقد قال الله ﷿: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [القلم:١٠ - ١٢]، قال بعض أهل التفسير: قلَّ أن تجد نمامًا إلا وهو -والعياذ بالله- ولد زنا، واستدل بهذه الآية، فإن الله تعالى قال بعد هذه الأوصاف: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم:١٣]، والزنيم: هو الذي لا نسب له يعرف، وهو ابن السفاح والعياذ بالله! ولا يلزم ما قالوه على كل نمام، لكن الشاهد أن النمام نادى على نفسه بأنه شخص غير سوي.
قال أهل العلم: وقلَّ أن تجد إنسانًا إلا وهو يمقت النمام حتى وإن نقل إليه ما يقول الناس فيه، فسامعه في قرارة نفسه يبغض هذا الناقل ويكرهه، لأنه نقل إليه ما يؤذيه.
2 / 7
النميمة من أسباب عذاب القبر
جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ مرّ على قبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ذكر بعض أهل العلم مناسبة الذنبين للعقوبتين في ذلك الموضع، فالذنب الأول: عدم الاستتار والتنزه من البول، والذنب الثاني: المشي بالنميمة بين الناس، قال: مناسبة ذلك أن (القبر هو أول منازل الآخرة) كما قال نبينا ﷺ، وأول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة من عمله الصلاة، والصلاة مفتاحها الطهارة من الحدث، وهذا لم يتطهر من الحدث، وأول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، والدماء سببها في الغالب النميمة، ولذلك كان عامة عذاب القبر من هذين الذنبين: عدم الاستتار من البول، والمشي بالنميمة بين الناس: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) أي: بزعمهما، وقال بعضهم: (وما يعذبان في كبير) أي: ليس كبيرًا عليهما تركه، فقد كان يمكنهما تركه لو أرادا، (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه لكبير)، ثم أخذ ﵊ جريدة رطبة فشقها نصفين، وغرس في كل قبر واحدة وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
2 / 8
الأسباب الحاملة على النميمة
الأسباب الحاملة على النميمة ثلاثة: أولها: إرادة السوء بالمنقول عنه، حين تنقل بأن فلانًا قال كذا وكذا.
السبب الثاني: حب المحكي له، فقد تكون محبًا لفلان وسمعت فلانًا آخرًا يقول فيه كلامًا قبيحًا، فتنقل إليه ما قيل فيه محبة له.
السبب الثالث: الاشتغال بالفضول، بعض الناس يشتغل بفضول القول، ما عنده ما يشغله، وما عوّد لسانه ذكر الله ولا تلاوة القرآن، ولا الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، ولا عوّد نفسه على نوافل الصلاة وغيرها من الأعمال الصالحة، ولا يشتغل بعمل نافع من أعمال الدنيا، لكنه يشتغل بالفضول وأن فلانًا قال، وأن فلانًا حكى إلى غير ذلك مما لا نفع فيه.
2 / 9
موقف المسلم من النمام
قال الإمام الذهبي ومن قبله النووي وغيرهما من أهل العلم: الواجب على من نُقلت إليه قالة السوء التي قيلت فيه أمور ستة: أولها: ألا يصدّق هذا النمام؛ لأنه فاسق، والله ﷿ يقول: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:٦]، فلا تصدقه فيما نقل إليك.
ثانيًا: أن تزجره وتقبّح له فعله، وتنهاه عن تعاطي مثله في مستقبل أيامه، وأن تبين له أن رسول الله ﷺ قال: (لا يدخل الجنة نمام)، وأنه ﵊ قال: (لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)، وأنه ﵊ نهى عن النميمة، وأن الله ﷿ نهى عن طاعة المشّاء بالنميمة بين الناس.
ثالثًا: أن تبغضه في الله؛ لأنه قد تعاطى سببًا يستحق به البغض، فالذي يسعى بالنميمة ينبغي أن يكون بغيضًا إليك، لأنه بغيض إلى الله ﷿.
رابعًا: ألا تظن بأخيك الذي نُقلت عنه تلك الكلمة أو تلك الحكاية إلا خيرًا؛ لأن الله ﷿ قال: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات:١٢].
ونبينا ﷺ كان يطوف حول الكعبة، وقال لها: (ما أطيبكِ وأطيب ريحكِ، ما أعظمكِ وأعظم حرمتكِ، والذي نفسي بيده! لحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتكِ، دمه وماله وعرضه وألا يُظنّ به إلا خيرًا).
خامسًا: لا تبحث عما قيل، ولا تتجسس، ولا يحملنك الفضول على أن تفتشّ وراء المنقول عنه، هل قال أو لم يقل، وإلا فقد وقعت في المنهي عنه، قال ربنا ﷻ: ﴿وَلا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات:١٢].
سادسًا: لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله، طالما أنك نهيت ذلك النمام فلا تحك ما قال، ولا تنقل ما نقله إليك، وإلا كنت أنت وإياه بمنزلة سواء.
2 / 10