فقلت متأففا: الحق أنه عقاب لا أستحقه ... - لا تعترض على قضاء الله ...
فقلت مستدركا: أحمده على أي حال. - ليكن ذلك من قلبك. - كيف لنا بإدراك حكمته! - عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
تتابعت الشعارات الدينية من قوم لا يحفلون من الدين إلا بقشوره. أنا مثلهم أيضا. طالما نددت بإلحاد أعدائنا وأنا سكران. ما أعجب أن يتبادل أناس الأكاذيب وهم يعلمون أنهم يكذبون. الأدهى من ذلك أن بعضهم لا يفطن إلى كذبه. ولم تخدعني حرارة مودتهم. زميلنا إبراهيم جندية المشلول منذ عام من ذا يذكره اليوم؟ وقتنا - نحن رجال الأعمال - لا يتسع للوفاء. ولن أطالب الدنيا بما ليس في دستورها. إننا نقدس الوقت والنظام. وندرك تماما أبعاد حياة العمل ومقتضيات العصر. سوف يطول الرقاد. غالبا حتى النهاية. إنها الوحدة بلا صديق!
3
من جنون الحركة إلى جنون السكون، هذه هي الرحلة. اليوم بسنة كما تقول الأغنية. الآن أسمع الأغاني لأول مرة. لا استيعاب لها بعد فما زال الشعور مكتظا بالاحتجاج والضجر. لكنه سماع لا يخلو من اكتشاف على أي حال. في الماضي كنت أعطي الأغنية من انتباهي ما أعطيه الشحاذ وهو يردد شعاراته. رغم اهتمامي بالغناء في صدر الشباب. ثمة عادات جديدة مقبلة. وتدخل زكية بجسمها القصير البدين المتحدي لتنظيف الحجرة. أقول لها: افتحي النوافذ ليدخل الهواء والشمس.
نحن في أواخر الربيع، سيقبل الصيف ولكن لا مصيف ولا انتفاع بجهاز التبريد. تقول زكية: ليتني بدلك يا سيدي.
كذبة حلوة وما أكثر الأكاذيب. أشرئب بعنقي ناظرا من النافذة فأرى النيل وشاطئه الآخر. النيل يجري بسمرته الشاحبة والشمس تغطي مساحة منه ببراءتها الفضية. أراه أيضا لأول مرة . الباص النهري يتحرك حاملا القادرين على الحركة. أناس يسيرون على الشاطئ والحمام يطير أسرابا. السيارات تتتابع في حركة متصلة. كل شيء يسير إلا الشجر. طابور الجازورينا ثابت رغم شموخه ولكن دون مبالاة ولا ملل. لما أقبلت أفكار في روبها الفضي قلت لها: انقلي الساعة إلى خارج الحجرة.
رفعت من فوق حاملها الرخامي بصندوقها المذهب وبندولها المتحرك. وضع تلفزيون ناشيونال مكانها، كما جيء براديو فوق التابل دي نوي. حملت إلي الجرائد والمجلات، عربية وإنجليزية وفرنسية. إني أقرأ أيضا لأول مرة. كنت قبل ذلك متصفحا للعناوين لا تجذبني إلا أنباء السوق والأسعار والأوراق المالية. بالمقارنة النسبية فإني أسمع وأرى وأقرأ والبقية تأتي. وأحاول أن أتذكر أحيانا. رؤى قديمة لم يبق منها إلا ذكريات شاحبة. لعل أفكار نسيتها تماما. متى أقترن حقا بالحياة الجديدة؟!
العادة تحتوي «المصيبة» فتمتص حرارتها. أجل أبت الأسرة أن تصطاف هذا العام وأصمت آذانها عن سماع إلحاحي. عدا ذلك قد شغل وفيق بالمكتب ولكنه يلقاني يوميا أكثر من مرة. أفكار ونبيلة تترددان على النادي من آن لآن وتستقبلان الصديقات ولكنهما تمضيان جانبي وقتا لا يستهان به. زيارات الأصدقاء تقل يوما عن يوم. التليفون يحل محل الزيارة كثيرا. اختفى أناس تماما كأنما لم ألقهم إلا في إحدى محطات السفر. وحدي أكثر ساعات النهار والليل. أسمع، أشاهد، أقرأ، أتصبر. متى تشملني العادة بسحرها العطوف؟! متى يخلصني أنس التلفزيون والراديو والفكر من الوحشة؟ متى تعوضني عن السوق والرحلات والسهرات؟ متى أنسى عالم السحرة الحائزين لخاتم سليمان؟ متى أنسى إلهام المال المفعم بالسيادة؟ ألا يكفي أن يحظى وفيق بالحيوية والانتشار؟ ألا يكفي أن تضيء أفكار ونبيلة غشاء المجتمع الحريري وتقتنيان كل ثمين وجميل؟
عجيبة الحياة، مخيفة الحياة، محيرة الحياة ...
Bog aan la aqoon