Shaytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Noocyada
المحادثة الثالثة عشرة
قال الهدهد: لما كان الغد، خرجت إلى الموعد، ألاقي النسر في مصر، بين الجزيرة والجسر، وأنا مسرور بلقائه في وطني، والاجتماع به بين قومي؛ لعله ينفعني بالتنبيه والإرشاد، ويفيدني الملاحظة والانتقاد، فيما خفي علي من خلائق الرجال، وما غاب عني من حقائق الأحوال؛ لأن الغريب حريص على الصغيرة والكبيرة، يرى من كل بلد يحله، ما لا يراه أهله، كالتمساح لا يبصر في الماء وهو موطنه الذي يعيش فيه، فإذا خرج منه كان أحد الحيوان لحاظا، فكيف به مثل الأستاذ واسع العلم والدراية، متقادم العهد على صحبة الزمان وأهله.
فبلغت النهر وكان الأصيل على سمائه ذهبا، والريح على مائه لعبا، والمنظر على فضائه عجبا؛ وكان الناس يخرجون إليه موكبا موكبا، تجري بهم المركبات من كل طراز وشكل؛ فمن «بسكليت» كبساط الريح لا تراها، وتنظر من أجراها؛ تمرق كالسهم مروقا، وتخفق كالريح خفوقا، وتنساب فوق طريق الناس، فتصوت كالأفاعي ذات الأجراس، ومن «أتوموبيل» كجني عنيف، ذي هبوب وعزيف، صوتها أنكر الأصوات، وفيها جمعت المزعجات، وراكبها لا في الأحياء ولا الأموات؛ ومن «ترامواي» تنقل الأقوام من شاطئ النهر إلى الأهرام، وهي تمضي بصاحبها ثم تمضي عليه، بخلاف الأيام فيما ذهب الشاعر إليه:
ما أسرع الأيام في طينا
تمضي علينا ثم تمضي بنا
ومن مركبات تنقاد بأعنة الجياد، منها ما لا تسمع لها حسا ولا جرسا، كأنما يهمس في أذن الأرض همسا؛ وبعضها كالدار طبقات، تتبوأ مقاعدها فيه الجماعات، وبعضها قليل الحجم يجره فرد ويركب فيه فرد؛ وبالجملة وجدت منازه الجزيرة والجيزة حافلة بصنوف المحدثات، جامعة لأنواع المخترعات، كأنها غاب «بولونيا» الشهير في باريس، لولا أن القوم عليها كشكول ملل ونحل وأجناس وأزياء وألوان، وقد ذهبت أيام الحمير، وتصرمت دولة البغال، فنسي الشيخ في مركبته ذكر بغلته، وكانت مجلى زينته، في ذهابه وجيئته؛ وهجر السيد الحمار إلى «الدوكار»، وبرز الكبراء للناس في «الأتوموبيل»، وكانوا ينكمشون وقارا في «الكوبيل»، وألهت «البسكليت» الخصي عن جواده العربي، وسرجه الفضي، وكانا زينته بالغداة والعشي، وركبت السيدات في مكشوف المركبات، تجري بهن بين أعين الجماعات، وكن في مثل هذه الأحوال لا يملن حيث يميل الرجال. عادات بدلت، وأحوال تحولت، وآية للغرب في الشرق علت، وألقاب حضارة ومدنية، لا شرقية ولا غربية.
قال: فلما صرت على الجزيرة تقصيت النظر أنشد النسر عليها، فرأيت من بعد درويشا قد خلا بنفسه في ناحية، وهو يستقبل النيل ويديم النظر إليه؛ فوجدت ريح النسر لأول وهلة، وتقدمت إليه فقلت: سعد النيل بشاعره في الزمان الأول يا مولاي.
قال: وسعدنا به يا بني؛ إنه سموأل الأنهار، الوافي على الأدهار، الجاري بالليل والنهار؛ عبد قديما وأله، وقدس وجه الدهر ونزه، وآوى النبيين في المهد صبيين؛ فجرى التابوت فيه بموسى، وبلغ الفطام لديه عيسى؛ ولا يعلم إلا مجريه كيف انفجر، ثم جرى وانحدر، ثم كفلته الشمس والمطر، وكم قرية عمر، وأخرى دمر، وهيكل نثر، وديانة قبر، وكم أفنى من زمر، ممن نهى وأمر، وتكهن وسحر، وفتح وانتصر؛ ألا وإنه المنهل العذب، اقتتل عليه القاهرون فوق البشر، فانتهى إليه قمبيز بغاراته، فالإسكندر بفتوحاته، فقيصر بانتصاراته، فابن الخطاب بغزواته، فسليم بحملته، فنابليون بتجريدته؛ هذا يا بني حظه من التاريخ، لا ينافسه فيه نهر، ولا يزاحمه عليه بحر؛ على أن حظه من الطبيعة أوفر، وقسطه من نعمائها أكبر؛ شمس تزهر، وأفق أنضر، وواد أخضر، وجو لا يستعر ولا يخصر، ونسيم يخطر، ومطر يندر، ورزق بأيسر السعي يحضر، وسهل صعب على العدو، ولجة تستعصي عليه على ما بها من هدو، لو وجد من يمنعه من الدنو؛ وفوق هذا وذاك هو القائم على هؤلاء الناس بالأقوات؛ إذا فاض أحيا وإذا غاض أمات، ولا يزال يأخذ من البر للبحر، فتتسع مصر بفضله من سهل وواد، وقرى وبلاد.
قال الهدهد: فشفتني هذه الكلمة في النيل، وودت لو لم يختصر النسر من هذا البحث الجليل، وإن يك أتى بالكثير في القليل. وكان قد التفت فرأى المراكب تموج على تلك المروج، فسألني: لعل هذه مصر القديمة ونحن على نقراطيس.
قلت: وما نقراطيس يا مولاي؟
Bog aan la aqoon