تفسير قول أبقراط «الصناعة طويلة»: قال أبقراط «الصناعة طويلة» يعني بالصناعة عمل الطب فبحق قال إن «العمر يسير وقصير». وأما قوله «الزمان حديد (84)» فإنما عنى بذلك انتقال الأشياء وتغيرها وأن الطبيعة جارية على كل حال. وعنى بها أيضا سرعة انتقال حال المريض في الأمراض الحادة. فربما دخل الطبيب على المريض فلم [P21] يتهيأ له ما ينبغي له من الدواء في ساعته تلك فألا (85) أن يعالجه به قد (86) ربما تغيرت طبيعة المريض وضعفت قوته فلا يقوى على شرب الدواء. فلذلك وأشباهه مما يحدث سرعة تغير الطبيعة في الأمراض الحادة قال «الزمان حديد (87)». وأما «التجربة خطأ» فقد ينبغي لنا أن نطلب معرفة ذلك فنقول إن الذي دعاه إلى ذلك معرفته بفضل (88) عمل الطب على سائر الأعمال فإنها (89) لا تستقيم التجربة في صنعة الطب كما تستقيم في سائر الصناعات لأن في كل صناعة يبدأ بالتجربة في كل شيء ثم تعمل بالإحكام (90) في شيء آخر مثل ما يعمل النجار قبل أن يحكم فيخبر في أعواد رديئة حتى يستمر على العمل ويحكمه فيخبر رديء العيدان وجيدها. فأما الطبيب فليس له جسد يجرب العلاج فيه سوى الجسد الذي يعالجه فلذلك لا تستقيم التجربة في الطب. فإن تعرض لذلك الطبيب قبل أن يحكم أخطأ. والتجربة أيضا على وجه آخر خطأ. وذلك أن من الأدوية ما يوافق بعض الناس ولا يوافق غيرهم وليست توافق الناس كلهم الأدوية كلها لأن الأمراض ليست تتولد كلها من كيموس واحد ولا مزاج B الناس كلهم [P22] واحد فمن ألزم التجربة من غير علم أخطأ. وأما قوله «القضاء عسر» فإنه معناه في هذا الفصل على وجهين: أحدهما أنا نجد للمريض الواحد أدوية كثيرة كلها موافقة فيعسر علينا معرفة أنفعها له، والقضاء لذلك الدواء بذلك القضاء عسير؛ والوجه الآخر أن الأمراض الحادة سريعة الانتقال لحدتها فربما احتد المرض فتحق فناء هلاك صاحبه ثم لم يلبث المرض أن تتغير حدته فتنكسر فيرجى صاحبه ثم لا يلبث أن يحتد المرض، فلسرعة تغير حال المريض في الأمراض الحادة يعسر على الطبيب (91) القضاء فالفرج قبل أن يبلغ المريض الحدود التي سماها أبقراط. وينبغي لنا أن نعلم (92) ما بال أبقراط ابتدأ في كتابه هذا مثل هذا الابتداء، فقال «العمر قصير الصناعة طويلة»، فنقول إنه قد أراد بذلك وجوها غير واحد ليكون قوله داعيا لكل حريص أو كسل إلى أن يعلم الطب: أما الحريص فيزداد حرصا، وأما الكسل فيستقل من الكسل إلى الحرص إذا سمع أن الصناعة طويلة؛ وليبلو (93) بذلك حالات (94) أنفس طلاب هذا العلم: فمن كان منهم نزيه النفس ذكي العقل حريصا على العلم لزم الطب ولم يغتم بقول أبقراط إن «العمر قصير الصناعة طويلة»، ومن كان على غير ذلك اغتم بقوله ورجع عن [P23] قرب (95) ولم يتناول علم أبقراط من ليس بأهله. ولأنه كان أول من وضع في الطب كتبا من الحكماء فأراد إعلام من بعده أن الذي دعاه إلى وضع العلم في الكتب معرفته بأن العمر يسير وأن المعلمين لا يبقون حتى A يحكم المتعلمون صنعة الطب لكثرة ما يحتاجون إليه من العلم قبل ذلك، ووضع العلم في كتب لتكون تلك الكتب تعليما للمتعلمين بعد موت المعلمين. ومن ردد كلام أبقراط في هذا الفصل الأول وجد له (96) معنى آخر أيضا. وذلك أنه لما علم أن القضاء عسير لما ذكرنا آنفا دله (97) عسر القضاء على خطأ التجربة، وعرف أن خطأها (98) لم يأت إلا لحدة الزمان التي هي سرعة تغيير الأشياء كلها وانتقال الحالات، فعرف بحدة الزمان ما يحتاج إليه من كثرة العلم، فقال «الصناعة طويلة» ودله طول الصنعة على أن العمر بقياس ذلك قصير، فنكس الكلام فابتدأ من آخره حتى انتهى إلى أوله لسعة عقله وعموق فطنته، فقال «العمر يسير والصناعة طويلة والزمان حاد والتجربة خطأ والقضاء عسير ».
i.1b وهذا ابتداء الفصول وهو أول باب من الفصول بعدما تقدم في أدب الصناعة
[aphorism]
قال أبقراط: ينبغي للطبيب ألا يقتصر على فعل ما ينبغي له أن يفعل [P24] دون أن يستعين بالمريض على نفسه وبمن يحضره وبالذين من خارج.
قال أبقراط: هذا الفصل.
[commentary]
Bogga 10