وكانت حركة السفينة وهي تمخر في وسط المياه تمثل له حياته السابقة الكثيرة التنقل والتقلب مع أنه لم يكد يبلغ سن الكهولة، فكان يقضي الساعات وهو متوكئ على إطار السفينة يفكر في ما طرأ عليه من كوارث الزمن وصروف الدهر، ويقابل بين عيشته الهنيئة الخالية من الهموم في الوقت الحاضر وحالته أمس بين الهواجس والشواغل السياسية، فيشكر لأفضال المسيو «ب» إذ قرب إليه نوال الفرصة لترويح البال، فلا يعود يسمع ثرثرة اليونان يطنبون تارة في مديح أجدادهم فيرفعونهم فوق السهى، ويدعون أخرى بالفخر على من سواهم من الشعوب، وربما طمحوا بالبصر إلى التملك على بلاد مجاوريهم. فنجا - والحمد لله - من إبداء آرائه في حزب «تريكوبيس» أو الانتصار ل «دالياني»، ولا يحتاج أن يثني على توقد فهم السيدة ... «بولو» وحسن زي ابنة السيد ... «يدس»، وبموجز الكلام ها قد صار حرا.
وبينما كان «شرل» خائضا في بحر هذه الأفكار كانت السفينة اجتازت أمام رأس سونيوم مواصلة سيرها إلى جهة إزمير مارة بين عديد جزائر الأرخبيل كديلوس ونكسوس التي كانت تظهر في أول ساعات الليل كأجرام عظيمة لا صورة لها، تلوح على ساحلها من وقت إلى آخر ضياء منائرها؛ لتأخذ السفن حذرها من الصخور، فما كان يسمع في هدوء الليل غير صوت السفينة وهي تشق المياه وتخطر في سيرها السريع، وكان نزل أغلب الركاب يأوون إلى مراقدهم، أما السماء فكانت رائقة تتلألأ بكواكب كالدراري، والبحر يعكس أنوارها فيسحر منظرهما العقول ويحمل القلوب إلى خالقها.
إلا أن هذه المناظر وإن كانت تدفع النفس إلى الهذيذ والتأمل لم تك لتشغل عقل البارون عن أفكار مختلفة كانت تتجاذبه منذ زمن قليل. أجل، إن رؤية لبنان الذي هو قاصده لشهية بديعة، والاجتماع بالأصحاب لمورد أفراح عذبة صافية، ولكن ترى ماذا يحل به بعد ذلك؟ وإلى أي طية يوجه أفكاره ليستقر بها قراره ويرتع في ظل الأمن والراحة؟ أفيكون سعادة القنصل «ب» سبق وتفهم نيته فاستدعاه ليعرض عليه - كما فعل غيره كثيرون - الاقتران بإحدى ابنتيه وينزعه حريته بوضع ربقة الزواج في عنقه؟
وما كاد هذا الفكر يخطر ببال البارون حتى وجم ساكتا وأطرق كاسفا، ثم قام بعد هنيهة فنزل وهو لا يعي إلى المنام، وبات ليلته قلقا يتململ من الهم على فراشه، ولما كان الصباح رقي سطح السفينة فإذا بوجه البحر تجعد قليلا، وبانت على قرب سواحل كرمانية وجبالها الشاهقة كستها أشعة الشمس الطالعة بجلباب نور وبهاء، إلا أن هذه المشاهد الشائقة والمناظر الرائقة لم تعمل في قلبه وعادت أفكار المساء المنصرم فعكرت صباحه، وبقي في صلب يومه منزعجا مشوشا، فجعل يخطو مسرعا ذهابا وإيابا فوق سطح السفينة يهجس كما في اليوم السابق مفكرا في أمر مستقبله وهو يردد هذا القول: ماذا أصنع بعد؟
ما الجدوى من هذه التربية المتقنة التي نالها في صباه ومن هذه الدروس التي زين بها عقله؟ وفي صالح من يحسن به أن يصرف قواه؟ أو ماذا يفعل بهذه التركة الواسعة التي أورثه إياها والداه؟
أفيصير كاهنا أو مرسلا؟ نعما الدعوة لولا أنها من الله لا يسوغ للإنسان أن يسبق فيها إرادته تعالى.
أفيقترن بسنة الزواج؟ تلك طريقة الناس عموما، ولكن يا بؤسه إذا خدع بالمال أو الجمال فوقع بيد امرأة ليس لها من الصفات غير ظاهرها، ويكون خبرها دون خبرها، تقضي عامة أيامها في الأباطيل فتضحى لزوجها أثقل من العبء الثقيل.
أو يبقى وحده معتزلا عن الانشغال عاكفا على العلوم متفرغا لصنيع الخير إلى ذوي جنسه؟ فكانت هذه الأفكار وأمثالها كثيرة تهجس في ضمائره معكرة كأس هنائه في بقية سفره حتى بلغت السفينة بالركاب إلى ميناء بيروت فأفاقه منظرها البهي من سكرته.
2
لله بيروت! ما أجمل موقعها، وأبهج مرآها لما ترسو السفينة بالغريب إزاءها لأول مرة! فلا جرم أن محاسنها تخلب قلبه وتسبي مشاهدها لبه.
Bog aan la aqoon