ومثال ذلك ولادة أختين شقيقتين توأمتين، تجمع الطبيعة بينهما في مولج الحياة، فتربط منهما الجنان بعلائق شديدة وثيقة، وتزرع في قلوبهما منذ نعومة الأظفار عواطف متبادلة تنمو وتتمكن مع تقدمهما بالسن، فتراهما لبعضهما سندا وفي كل أطوار الحياة عضدا، تتقاسمان الأفراح في السراء والأتراح في الضراء، لا يفتر بينهما الوداد إلى ساعة المنون، وربما جمع بينهما ضريح واحد إلى قيام الساعة.
1
لو أتيح لك أيها القارئ اللبيب أن ترقى منذ بضعة أعوام إحدى قمم لبنان ليس بعيدا عن السابلة المؤدية من بيروت إلى دمشق الشام لكنت رأيت على منعطف أكمة في مكان يعد من أنزه مواقع الجبل بيتا أنيق الهيئة لطيف البناء، شيده المسيو «ب» وهو إذ ذاك قنصل عام لإحدى الدول الكبرى في سورية، فجعله مصيفا يأوي إليه مع عائلته فرارا من لظى قيظ بيروت.
وكان جانب من المنزل تحجبه أشجار الأزدرخت (الزنزلخت) والصنوبر، يتلاعب في أغصانها نسيم الصبا، وتغرد فوق أفنانها طيور الربى.
أما هندام المسكن فلم يك يشبه بشيء ما جاوره من المعاهد الصيفية، وإنما أراد صاحبه أن يجمع فيه بين هيئة المصايف السويسرية وخواص الدور السورية المحدثة، فكان يعلوه القرميد الأحمر على شكل مخروط، وفي وسط البناء شرف ناتئة مستطيلة «بلكون» لترويح النفس في طرفي النهار.
وكان أمام البيت سطح واسع الفناء، يشرف منه على منظر بهي، فكنت ترى على بعد ثبج البحر الزاخر إذ ترمي عليه الشمس أشعتها الذهبية أو يجيش بأمواجه فينتظم له على الساحل سلك من درر الزبد.
فهناك مضجعة بيروت، وهي أشبه بملكة حسناء ترتفق إلى سفح الجبل وتبسط رجليها في غمر البحار، بينما تمنطق أعطافها مناطق زبرجد صيغت لها من خضرة بساتينها وغابات صنوبرها، ولو كنت سرحت النظر في الربى القريبة لآنست من لبنان مشهدا يروق البصر ويأخذ بمجامع القلب.
ففي اليوم الذي به تستهل روايتنا كنت ترى أهل الدار الموصوفة آنفا يسعون في تهيئة حجرة لاستقبال ضيف شريف على وشك القدوم من بلاد اليونان اسمه البارون «شرل دي لينس»، وهو كهل في قوة الشباب عمره خمس وثلاثون سنة من أرباب السياسة يتعاطى في عاصمة اليونان أمور دولته بهمة علياء، وكان «شرل» ذا أخلاق راضية وعواطف لينة، بيد أنه شديد التحمس في الدين، يسير على مقتضى مبادئه علانية دون حياء.
وكان المذكور تيتم في حداثة سنه فتربى في حجر أحد أعمامه، وقد ورث من والديه اسما شريفا وثروة طائلة، وكان مع ريعة شبابه ونشاط سنه تائقا إلى الراحة والتخلي من اشتغال مهنته المضنكة مستنكفا من حياة العزلة والتفرد، ومن ثم ما كادت تبلغه ألوكة القنصل المسيو «ب» - وهو صديق حميم لوالده المرحوم - يدعوه بها إلى مصيفه في لبنان، حتى أسرع فطلب عطلة شهرين، وسلم موقتا أشغاله في السفارة بأثينة إلى بعض زملائه، وركب في البيرة سفينة المساجري مبحرا إلى بيروت.
وكان البارون «دي لينس» كلفا بالأسفار البحرية، إلا أن سفرته هذه في غرة آب كانت أحلى لديه وأوقع في قلبه؛ لصفاء الجو، ولين النسيم، ووفرة المناظر البهجة.
Bog aan la aqoon