وربما كان لأحداث العصر وغوائله السبب المباشر إلى هذا الميل عند الخطابي ﵀.
يقول في كتاب العزلة ص ٨:
والعزلة عند الفتنة سنة الأنبياء، وعصمة الأولياء، وسيرة الحكماء والأولياء، فلا أعلم لمن عابها عذرًا، لا سيما في هذا الزمان، القليل خيره، البكيء دره، وبالله نستعيذ من شره وريبه.
وليس مفهوم العزلة عند الخطابي الهروب من الحياة كما يظنه بعض الناس، ولا الهجران والقطيعة، بل العزلة عنده لون من ألوان العبادة -إن صح هذا التعبير- الذي يجتنب فيه المرء الانغماس في الفتن، أو الخوض فيها، والاحتراق في سعيرها.
فلا غرابة إذن عندما نسمع الخطابي يشكو في نثره أو في شعره من أهل زمانه.
يروي ياقوت في سند له عن أبي سعد الخليل بن محمد الخطيب قال:
كنت مع الخطابي فرأى طائرًا على شجرة، فوقف ساعة يستمع ثم أنشأ يقول:
يا ليتني كنتُ ذاك الطائرَ الغرِدا ... من البَريَّةِ مُنْحازًَا وَمُنْفَرِدَا
في غُصْنِ بانٍ دهته الريحُ تَخْفِضُهُ ... طورًا وتَرفعُهُ أفْنانُهُ صُعُدَا
خِلْوَ الهُموم سِوَى حَبٍّ تلمّسُهُ ... في التُّرب أو نُفْيَةٍ يَروي بِهَا كَبدَا
ما إنْ يُؤَرِّقُهُ فكرٌ لرزق غدٍ ... ولا عَليه حِسابٌ في المعَاد غدا
طُوَباكَ مِنْ طائرٍ طوباك ويحكَ طبْ ... من كانَ مِثلُكَ في الدّنيا فقد سَعِدا
إن هذه الأبيات تلقي ضوءًا على ما كان الخطابي ﵀ يعانيه من الضيق بعصره، وهي ذات شفافية، تنمُّ عن حسٍّ مرهف وروح زاهدة بمتع الحياة، ونعيمها، وزخارفها.
المقدمة / 38