فمن ملكاته في النظم والنثر وفرة الشواهد التي تجري مجرى المثل السائر، وتورد على الألسنة والأقلام مورد جوامع الكلم ومواقع الفصل في الخطاب.
هذه بلاغة لسانية فيما يبدر إلى السامع لأول وهلة، ولكن البلاغة اللسانية لا تخلق مواضع الشاهد ولا دواعيه ومناسباته، وإنما يخلقها الشعور بالحالة النفسية التي تمليها، وتتعدد الشواهد كلما تعددت الحالات النفسية وطابقتها الكلمة عند قائلها وسامعها، وليس في وسع بليغ أن يضع الشواهد على الألسنة قبل أن يحرك في النفس شعورها الذي يدعوها إلى التمثل بكلماتها.
ومن ملكات الشاعر في تأليفه المسرحي نزاهته بين أبطاله وبطلاته، وهذه صفة أخرى من صفات الخلق الفني وصدق الوعي في تصوير النظائر والنقائض من أحوال الطبيعة البشرية، فهو لا يكتب الفواجع لأنه حزين متشائم، ولا يكتب الملهيات لأنه فرح متفائل، وهو لا يمثل الظلم في الموقف الواحد لأنه يقسو مع الظالم ويشكو مع المظلوم، وإنما يعطينا الصورة صادقة لهذا وذاك، ويدع لنا حين نلعن الظالم أن نلعنه حق لعنه لأنه ملأ صورته من البغي والشر، ويدع لنا حين نرثي للمظلوم أن نوليه حقه من الرثاء لأنه ملأ صورته من الضعف والبراءة، وبديه أن هذه الرسالة ليست برسالة الداعية الغيور الذي يجاهد في حومة واحدة ويتحرر لقبلة ميممة لا ينحرف عنها ولا يعقل للحياة معنى بغيرها، فلا شأن لشكسبير بهذه الرسالة ولا هو ممن طبعوا على غرارها واستعدوا بفطرتهم للاضطلاع بأعبائها، ولو تجرد لها لترك عملا يتقنه وتصدى لعمل لا يحسنه، ولا خير في ذلك للفن ولا للدعوة، بل خسارة يضيع فيها الشاعر الخلاق في عالم الفنون ولا يزيد فيها عدد المصلحين الغيورين.
والبصر الدقيق بعناصر الفجيعة والفكاهة تمام هذه المزايا التي تؤدي بها رسالة التأليف المسرحي في مآسي شكسبير وملاهيه، فكل رواية من رواياته تدور على عنصرها من الفجيعة أو الفكاهة، وتكاد تختص به ولا تشاركها فيه رواية أخرى على وتيرتها، وكل هذه العناصر يشف عن إدراك عميق لتطور الزمن في فهم عوامل الفجيعة وعوامل الفكاهة؛ إذ تحل الطبيعة الإنسانية في المكان الأول محل القدر والعرف من روايات الإغريق الأقدمين، فليس صراع القدر كل شيء تدور عليه المأساة، وليست سيطرة العرف كل شيء تدور عليه الملهاة عند شكسبير، وإنما تدور كلتاهما على باعث من بواعث الطبيعة الإنسانية في الأبطال أو في البيئة، ويهمنا من الرواية ما يهمنا من أجل هذا الباعث الإنساني في قوته أو ضعفه وفي سموه أو إسفافه، ولا يمتنع أن تتحكم الحوادث مرة كما تحكمت في مأساة روميو وجولييت، ولكننا نلتقي بالقدر هنا في صورة العصبيات الجائرة التي تخلفت من بقايا القرون الوسطى، فهي هنا قد لبست ثوب القدر وقامت بالدور الذي كان يتولاه في فجائع الأقدمين بمعزل عن إرادة الإنسان فردا وإرادة الناس مجتمعين.
وتنقسم مسرحيات شكسبير بأقسام تقابلها في النفس البشرية كما قال صاحب كتاب شكسبير وعلم النفس: «فحيثما نظر إلى نفس الإنسان في عليائها فلدينا الدرامة التي تجنح جادة إلى عاقبة أليمة أو عاقبة راضية، وحيثما يتفاقم هم النفس؛ فيستحيل ولعا بالأثرة والطمع والأبهة فهنالك الفاجعة على أسوئها، وحيثما يستحيل غرام الإنسان بنفسه فينحدر إلى صغار الأنانية والتيه وخديعة الطبع، وتتضاءل فيه الهموم، أو تتباعد الشقة بين توافه الأغراض وجلائل العواقب - فهنالك الملهاة، وذلك أسلوب يضرب فيه شكسبير ضرباته على سواء وإنصاف - وإن مازجه بالضحك والرفق والهوادة - كلما عرض لصغائر النفس وغلطاتها ومواطن ضعفها.»
5
تطور في إدراك عناصر المأساة والملهاة لم يأت عفوا واتفاقا، ولم يختلف فيه فن الإغريق وفن النهضة لاختلاف الأساليب والأقلام، ولكنه هو الاختلاف المنظوم في ثمرات الفن الذي تمخضت عنه عصور النهضة وعكفت فيه على رسالة جديدة: هي رسالة الإنسان.
مصادر الروايات
أحصى مؤرخو المسرح عدد الروايات التي كتبت بالإنجليزية للتمثيل في السنوات العشرين بين سنتي 1586-1606 فبلغ نحو مائة وخمسين رواية مستمدة من التاريخ المعروف بين أدباء الإنجليز عند نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن الذي تلاه، وقد حدث هذا في تلك الفترة خاصة لأنها كانت فترة تاريخية تهم التاريخ وتهتم بالتاريخ؛ إذ هي فترة اليقظة الوطنية في الجزر البريطانية، بلغت حماسة القوم فيها لتاريخهم ومعالم حياتهم الغابرة والحاضرة غايتها على أثر الشعور بالخطر من جانب الدول الكبرى في القارة، وأعظمها يومئذ إسبانيا وفرنسا، وزادهم النصر حماسة على حماسة فنشطوا لإحياء تراثهم الغابر على علاته، وأقبلوا على كتابة التاريخ وجمع أسانيده وتمثيل مشاهده إقبالا لم يكن معهودا بينهم قبل ذلك، ولعلهم لم يعهدوا له نظيرا بعد القرن السابع عشر إلى القرن العشرين.
ويعنينا هذا الإقبال على إحياء التاريخ في عصر شكسبير من جانب الفن المسرحي ومن جانب الدلالة على معنى التأليف المسرحي في تلك الفترة، فلا يخفى أن اقتباس المسرحية التاريخية من مصدر معلوم أمر مفروغ منه بين مؤلفي الرواية وقرائها والناظرين إلى حوادثها ومشاهدها وشخوص أبطالها على مسرح التمثيل، فلا ينتظر أحد من الشعراء والنظارة أن يأتيه المؤلف بتاريخ من عنده ولا يحمد منه ذلك إذا أتاه بالتاريخ مخترعا ملفقا منقطع السند في جملته وتفصيله، وإنما هم ينتظرون منه أن يعرض لهم شيئا يعرفونه ولا يطالبونه بغير إتقان عرضه وترتيبه وتهيئة المناظر فيه والأقوال لإشباع ما عندهم من الشوق والشعور بالحادث المكتوب في صفحاته الصامتة، فإذا تسنى للمؤلف أن يشبع هذه الرغبة فذلك حسبه من الوفاء بحق التأليف وحق التأثير من طريق التمثيل، وقد أجازوا له - بل أوجبوا عليه أحيانا - أن يعيد تأليف الرواية التي كتبها المؤلفون قبله ولم يدركوا بها تلك الغاية، ولعله كان مسؤولا عندهم عن استدراك هذا النقص مشكورا عليه ولم يكن في عمله ما يعاب أو يحسب عليه من قبيل العجز أو من قبيل العدوان على عمل الآخرين، وينبغي أن نستحضر في أخلادنا هذا الخاطر لنفهم منه معنى التأليف المسرحي ومعنى التجويد فيه، فإن التجويد فيه قد كان يستدعي إعادة النظر فيما كتب للمسرح ولم يظفر بالرضا والاستحسان من النظارة والنقاد، ومن صنع ذلك فقد لبى الطلبة المحسوسة ولم يخالف العرف المتفق عليه.
Bog aan la aqoon