عصر شكسبير‏

الشعر والمسرح‏

أسرة شكسبير‏

الرجل‏

الفنان‏

المؤلف‏

الشاعر‏

الخصائص والمزايا‏

مصادر الروايات‏

نسبة الروايات‏

تراث عالمي‏

عصر شكسبير‏

الشعر والمسرح‏

أسرة شكسبير‏

الرجل‏

الفنان‏

المؤلف‏

الشاعر‏

الخصائص والمزايا‏

مصادر الروايات‏

نسبة الروايات‏

تراث عالمي‏

التعريف بشكسبير

التعريف بشكسبير

تأليف

عباس محمود العقاد

عصر شكسبير

عصر شكسبير هو عصر النهضة في إبان ازدهاره، وهو العصر الذي اصطلحوا على تحديده من منتصف القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، ويبدأ من فتح القسطنطينية وينتهي عند أوائل القرن الثامن عشر؛ لأن هذا القرن يبدأ باسم آخر في أطوار الثقافة الغربية، ويسمى بعصر الاستنارة الذي يعد امتدادا لعصر النهضة ولا يعد نهاية له في الحقيقة، وإنما تختلف الأسماء للتمييز بين أدوار الثقافة في مراحلها المتتابعة.

ويسمي الأوروبيون عصر النهضة باسم «المولد الجديد» كما يسمونه أحيانا بعصر إحياء العلوم، ولكن اسم الدعوة الإنسانية

Humanism

هو أصدق الأسماء في تمييز مقاصده ووجهة النهضة فيه؛ إذ كان ميسم النهضة كلها الاتجاه نحو الإنسان والاعتراف له بحق التفكير وحق الحياة.

لقد بدأت الدعوة الإنسانية قبل عصر النهضة الذي يؤرخونه في بداءته بفتح القسطنطينية، وكان لانتشار الحضارة الإسلامية أثره في الإيحاء بنصيب الإنسان من دنياه وتحبيب محاسن الحياة إليه، وكان رائد الإنسانيين بترارك (1304-1374) يتغنى بالحب على أسلوب الشعراء الجوالين الذين اقتبسوا أناشيدهم من الشعراء الأندلسيين، ويلحق به رهط من الأدباء والقصاصين ينسجون على منوال ألف ليلة وليلة فيما تخيلوه مثالا لمتعة العيش، ويتعمدون أن يظهروا في أقاصيصهم ما يبطنه أدعياء النسك والإعراض عن الدنيا من النفاق والولع بالمحرمات والمحظورات، وكان هذا هو جانب الدعوة الذي يشيع بين عامة الناس ويسهل فهمه والشعور به في جميع البيئات، ويسري معه في بيئات المثقفين حب الاطلاع والانطلاق من القيود التي كانت تحرم النظر في بعض الكتب العلمية والفلسفية، وأولها كتب «ابن رشد» التي سميت بالفلسفة الرشدية أو ب «الرشدية» على إطلاقها، وتعرضت للقسط الأوفر من حملات التشهير والتحريم.

بدأت الدعوة الإنسانية - مقابلة لدعوة التقشف والإعراض عن الحياة - بعد قيام الدولة الإسلامية في الأندلس بقرن واحد، ثم جاءت الكشوف المتوالية فعززت هذه الدعوة؛ لأنها صححت مكان الإنسان من العالم وعرفته بما كان يجهله من أرضه التي يعيش عليها، وقد كان يجهل أنه يعيش على كرة تدور في الفضاء، ويحسب أن حدود الأرض تنتهي عند بحر الظلمات.

وقد امتد عصر الكشوف السماوية والأرضية حتى جاء نيوتن فكشف عن قانون الجاذبية وعن قوانين الحركة في الأفلاك وفي الأجسام المادية حيثما تكون، وكشف العلم عن حقائق جسم الإنسان كما كشف عن حقائق الأجسام الصماء، فعرف حقيقة الدورة الدموية واجترأ على تشريح البنية الحيوانية للعلم بوظائف الأعضاء.

كان معنى عصر النهضة، أو عصر الرشد، اعترافا بحق الإنسان في التفكير وحقه في الحياة، وتمثل هذا الحق في كل شعبة من شعب الفكر وكل غرض من أغراض الحياة: تمثل في الحياة الروحية كما تمثل في الحياة الجسدية، فانتشرت الثورة على التقليد والتسليم، وانتشرت معها المذاهب الدينية التي تبيح للعقل أن يراجع السلطان فيما يمليه عليه من قواعد الإيمان، ولا توجب عليه أن يدين بما يملى عليه بغير سؤال ولا برهان.

وانتشرت الثورة على التقليد في شؤون العلم والحكمة كما انتشرت الثورة على التقليد في شؤون العقيدة وشعائر الدين، وكان الناس قد نسوا أن المعلم الأول - أرسطو - هو القائل: إنني أجل أفلاطون، ولكن الحقيقة أعظم من أفلاطون، فوقفوا بالحقيقة كلها عند مقولات أرسطو التي تناقلوها جيلا بعد جيل، ثم جمدوا على ما فهموه خطأ من أقواله ولم يقصده ولا خطر بباله، فلما ثبت لهم حق الفكر قام منهم من يقول إن الحقيقة أكبر من أرسطو وإن ميدان المعرفة يحيط بأمور لم يحط بها المعلم الأول في زمانه. •••

ومما ساعد على انتشار دعوة الإنسانيين أن كثيرا من اللاهوتيين المتقشفين المخلصين في زهدهم وإعراضهم عن الدنيا، كانوا يقبلون على دراسة الفلسفة والحكمة ويختبرون دراسات العلوم الطبيعية، وربما كان منهم من ينكر دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة واجتناب معيشة النسك والشظف، ولكنهم كانوا في ثورتهم الفكرية على قيود الدراسة أشد وطأة على «السلطة الدينية» من دعاة الإنسانيين.

على أن هؤلاء النساك المشتغلين بالفلسفة كانوا يؤيدون دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة من طريق آخر؛ لأنهم كانوا يشنون الغارة على أصحاب الرئاسات من رجال الدين المنعمين الذين كانوا يذكرون الزهد بألسنتهم ولا يتكلفون في معيشتهم، فكانوا بمسلكهم هذا في الخفاء والعلانية حجة «فعلية» على قوة الدعوة إلى الحياة ومغالبتها لمن يصطنعون إنكارها والزراية عليها أمام أعين الناس.

وكانت البلاد الأوروبية تموج بالوعاظ من زمرة النساك الدارسين، فلا تخلو أمة في القارة ولا في الجزر البريطانية من واعظ جهير الصوت عنيف الحملة على البذخ والنفاق بين ذوي الرئاسات من رجال الدين، وكان أعنفهم حملة في أوائل القرن الرابع عشر أتباع الواعظ الفيلسوف وايكليف

Wycliffe

المعروفون بالمترنمين

Lollards

لأنهم كانوا يترنمون بالصلوات وأناشيد الضراعة والابتهال، فقد كان هذا الواعظ الفيلسوف يخوض معركة الجدل بين أنصار مذهب الواقعية

Realism

وأنصار مذهب الاسمية

Nominalism

ويسترعي إليه أسماع العامة بزهده وغيرته وأسماع الخاصة ببلاغته ومضاء حجته، وما زالت دعوته تشتد وتشيع حتى أقلقت رؤساء الدولة والدين فحاربوها وكادوا يسكتونها، ولكن بعد أن هيأت العقول في البلاد لقبول ثورة أشد وأبقى منها، وهي الثورة البروتستانتية، وفي أعقابها ثورة المتطهرين التي قبضت على زمام الحكم في عهد الملك شارل الأول وجمعت إليها طبقات الأمة من النبلاء ومن تابعوهم من حواشيهم متابعة الطاعة العمياء.

ومن الواضح أن عصرا كعصر النهضة خليق بأسبابه العامة أن يعم الأمم الأوروبية ولا ينحصر في ناحية منها دون سائر نواحيها؛ لأنه كان ينبعث من حركة العلماء والرهبان الذين هاجروا من بلاد الدولة البيزنطية إلى أقطار أوروبة الشرقية والوسطى بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، وسبقهم من الطرف الآخر تلاميذ العرب في غرب القارة بفرنسا وفي جنوبها بالأندلس وصقلية، وراحوا يتنقلون جميعا في بقاع الشرق والغرب والجنوب التي ارتفع فيها السخط من داخلها على فساد السلطة الدينية والدنيوية، فلم تسمع بين أمم القارة صيحة إصلاح واحتجاج إلا قابلتها صيحة مثلها من سائر الأمم تلبيها أو توافقها في الزمن لأسباب مثل أسبابها وإلى وجهة قريبة من وجهتها.

غير أن الجزر البريطانية قد اجتمعت لها في عزلتها أسباب خاصة - مع هذه الأسباب الأوروبية العامة - جعلتها في ثورة مطبقة تشترك فيها بجملتها فضلا عن الثورة التي كانت تعتلج في نفوس المحكومين منها على حكامها وسادتها.

فهي في عزلتها كانت بعيدة من سيطرة رومة، قريبة من معاهد العلم في أوروبة الغربية، فخف طلاب المعرفة من أذكيائها إلى مدارس إسبانيا وفرنسا وصقلية ونبغ منهم حوالي القرن الثاني عشر نفر لا يساويه في عدده ولا في علمه نظراؤهم من الأمم الأوروبية الأخرى، ويذكر في طليعتهم أديلارد أوڤ بات، ودانيال أوڤ مورلي، وروجر أوڤ هيرفورد، وإسكندر نكوام. ويليهم: رائد المدرسة التجريبية الحديثة روجر باكون (1214-1292) أستاذ سكوتس زعيم الاسميين، وأكهام زعيم الواقعيين الذي كان لوثر يفخر بالانتساب إليه، فيقول: «أستاذي العزيز أكهام.»

ولولا هؤلاء لما تمهدت سبل البحث والنظر لإمام المدرسة التجريبية فرنسيس باكون معاصر شكسبير.

وسبب آخر من أسباب وفرة العوامل التي ضاعفت قوة النهضة في هذه الجزر المعزولة أنها أصبحت في المحيط الأطلسي مركز الملاحة والتجارة بعد كشف القارة الأمريكية، فقد تحولت طرق الملاحة العالمية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي بعد كشف أمريكا وكشف الطريق البحري حول رأس الرجاء إلى الشرق الأقصى، فنشطت في إنجلترا طوائف عدة من الرواد والملاحين ورجال الأعمال وطلاب المغامرة والمرشحين لولاية الحكم في مستعمرات الغرب والشرق، وتعاظم نفوذ هذه الطوائف في عصر شكسبير - عصر عريضة الحقوق الدستورية - فنالت الأمة الإنجليزية منها ما لم تنله الأمم الأوروبية بجوارها إلا بعد ذلك بعشرات السنين، وكانت عزلتها في البحر من أسباب هذا السبق في انتزاع الحقوق من أيدي المستبدين؛ لأن حكومتها كانت تعتمد على الأسطول لحماية أرضها، وكان يكفيها القليل من الكتائب في الجيش القائم لحماية الأمن في داخلها، وكان لنبلائها جيوش صغيرة في أقاليمهم توازن جيش الملك الكبير في العاصمة والمدن المحصنة، فلما نهضت الطبقة الوسطى - الجديدة - للمطالبة بحقوقها لم يكن في طاقة الملك أن يقمعها، وأن يستغني عن معونتها المالية في تسليح جيشه والإنفاق عليه، فنجحت الثورة الدستورية قبل أن تنجح في بلاد الحكومات التي تحميها الجيوش القائمة، ويضعف فيها نفوذ الطبقات الوسطى في كل حركة تستقل بها عن طبقة النبلاء، ولا تعتمد فيها على مشايعة الدهماء. •••

ولما دخلت إنجلترا في المذهب البروتستانتي كان دخولها في هذا المذهب بمثابة ثورة من طرفين متقابلين: ثورة الملوك على سيطرة الكنيسة للاستقلال بالحكم في دولتهم وإقامة أنفسهم على رأس الكنيسة في بلادهم، وثورة الشعب الذي كان على استعداد لخلع الرئاسة الدينية المفروضة عليه بعد تتابع الدعوات من قبيل دعوة وايكليف وأتباعه، أو قبيل دعوة المتطهرين التي ضمت في أحضانها شراذم متفرقة من طبقات متفاوتة تدين أحيانا بعقائد رومة ولا تدين في الجملة بمراسمها وتقاليدها «الكهنوتية».

وقد اصطلحت شتى العوامل على وضع الجزر البريطانية في موضع المناظرة والمقاومة لدولة القارة الكبرى التي تمثل فيها النظام القديم في موقفه من الدين والعلم وموقفه من مسائل الاجتماع والسياسة، وقد تمثل ذلك النظام على أتمه وأعمه في الدولة الإسبانية.

فالدولتان - إسبانيا وإنجلترا - تتنافسان في السياسة؛ لأنهما تتنازعان السيادة والغلب على المحيط الأطلسي ومستعمرات الأمريكتين الشمالية والجنوبية.

وكلتاهما تناصب الأخرى العداء؛ لأنها أكبر الدول التي تحمي مذهبها في العقيدة، فكانت إسبانيا حامية الكثلكة وإنجلترا حامية المذهب الذي اشتهر يومئذ بمذهب «الاحتجاج» والإصلاح.

وبين الدولتين منافسة في العنصر «القومي» لا تخلو من آثارها الملموسة في شؤون الفكر والنظرة الروحية، ولا شك أن لهذا التنافس أسبابه التاريخية التي تتصل بالسياسة وأنظمة الشعوب والقبائل، ولكنه - كائنا ما كان في منشئه وتطوره - ظاهر للعيان في تقسيم الأمم بين الكثلكة والمذاهب الأخرى؛ فالأمم اللاتينية إلا القليل منها جانحة إلى كنيسة رومة، والأمم التيوتونية والجرمانية إلا القليل منها جانحة إلى المذاهب التي فارقت كنيسة رومة وخرجت عليها، وقد يظهر ذلك في الجزر البريطانية نفسها، فإن الشعوب التي لا تنتمي إلى الجرمان والتيوتون بقي أكثرها على مذهب رومة ولم يتابع جيرانه في الخروج عليها.

وزبدة هذه العوامل المتشابكة أن الحوادث كانت تميل بالأمم البريطانية إلى الجانب المعارض للنظام القائم منذ القرون الوسطى، وأن دعوة الإنسانيين بالنسبة إليها كانت إلى الواقع المقرر أقرب منها إلى الرأي والمطاوعة المقصودة، فكل ما حرمته النظم القائمة فهو بحكم المصلحة - أو بحكم رد الفعل - عرضة للمناقضة والشك من الجانب الذي يناظره ويتحداه، وهذا الذي جعل الجزر البريطانية على عهد النهضة في ثورة مطبقة تشترك فيها بجملتها، فضلا عن ثورتها في داخلها على حكامها.

وكل تلك العوامل المتشابكة تتراءى على كثرة، أو على قلة، فيما يصادفنا من أحوال المجتمع وعادات طوائفه وفئاته وأزياء رجاله ونسائه وفيما يتبدل من نظم الحكومة ودساتير المعاملة بين الرعاة والرعايا، وما يجيش في نفوس هؤلاء من سورات القلق والشكاية، وهذه نتائج تلك العوامل الجديدة في عالم الواقع على صورتها العملية، ولكنها تطالعنا صريحة ناطقة في صفحات الكتب ونظرات المفكرين وذوي الرأي فيما يتناولونه من موضوعات الدعوة الإنسانية، أو فيما يتخلل الموضوعات العامة عرضا واتفاقا بمعزل عن تلك الدعوة، وهجيراها في جملتها ترديد الاعتراف بحق الإنسان في التفكير المستقل والحياة الدنيوية، وتصحيح مكانه في هذا العالم تبعا لما تعارفه الناس من تصحيح علاقاته وحدوده، وهذه هي رسالة عصر النهضة التي بلغت مرحلتها الوسطى قبيل ميلاد شكسبير، ولم تزل آخذة في التمام والاتساع أثناء حياته وبعد مماته. •••

فالقس ريتشارد هوكر

Hooker (1554-1600) يقول في فصل عن قوانين الكون: إن الله قانون لنفسه ولسائر الموجودات، ويبدأ كلامه قائلا: «جميع الموجودات لها أعمال ليست بالجامحة ولا بالعرضية، وما من شيء يعمل ما لم تكن له وجهة مرسومة يعمل لأجلها، ولا تدرك هذه الوجهة ما لم يكن العمل المتجه إليها صالحا لبلوغها من طريقه.»

وسير والتر رالي

Raleigh (1552-1618) يكتب عن العوامل الطبيعية وعوامل السحر فصلا يقول فيه: «إنه لصحيح أن ثمة صناعات كثيرة - إن صدقت التسمية - تنطوي تحت عنوان السحر، ويلوح عليها أنها فروع من الشجرة التي ما نمت عليها قط في الحقيقة، وأول هذه الصناعات استحضار الأرواح، وهو على أنواع: أحدها التعزيم على روح الميت عند قبره ويسمع فيه الجواب من الشيطان لا من الطيف الذي يخيل للناظر أنه قد ظهر أمامه، ومن البين أن الأرواح الباقية لا تسكن التراب ولا تستقر في جثث الموتى، وإنما كانت تهب الحركة والفهم للحي وهو بقيد الحياة فما كان الموت إلا انفصالا بين الجسد والروح.»

ثم يقول عن نوع آخر من العزائم: «إنه ذلك الذي يقال فيه إنه عهد مع الشيطان يجعل لصاحبه قدرة على استدعاء الشياطين لسؤالها عما تريد أن تعلمه، وخطأ هؤلاء الذين يدعون هذه الدعوى ظاهر؛ لأنهم يعتقدون أنهم يرعبون الشياطين بالكلمات المخيفة التي تحصرها في خطوط دائرة لا تقوى على أن تحبس فيها الفأر الضعيف ...»

وتوماس ديج

Digges (1545-1595) الفلكي يكتب في تأييد نظريات كوبرنيكس بعد تصحيح بعض الأخطاء، فيقول: «إنه بين تلك الأخطاء وجدت أوصاف للعالم ومراكز الأفلاك السماوية والعناصر على حسب شروح بطليموس التي تسربت إلى الجامعات كافة على ما يظهر من أثر التسليم بفلسفة أرسطو. ولكننا قد نبغ في عصرنا هذا نابغة ألمعي، فطن للأخطاء المتكررة والأقوال السخيفة التي سيق إليها من لا يريدون أن يصدقوا أية حركة في فلك الأرض، فكشف بالدرس الطويل والبحث المجهد والذكاء النافذ صورة للعالم تدل على أن الأرض لا تثبت في مركز الكون، بل في مركز هذا الفلك الدنيوي الفاني تحت القمر وحول الشمس التي استوت على العرش في وسط ملكها تصدر قوانين الحركة لسائر ما يحتويه.»

وجابرييل هارڨي

Harvey (1545-1630) الشاعر الأديب يكتب إلى صاحب يشكو إليه فساد الدنيا في الزمن الأخير، فيقول له إن ما ينعاه على دنياه قديم كقدم هابيل وقابيل وآدم وحواء وبابل وسدوم، وإن تاريخ الإنسان يرينا أن الأقدمين كانوا أساتذة للتابعين في خلائق الغدر والرجس والجريمة، فلا ينبغي أن نجهل حقيقة الأولين ولا أن نبخسهم حقهم أو حق الخلف الذين يعيشون في هذا الزمان ... إلى أن يقول: «إنك لتحسب أن العصور الأولى كانت في حياة الإنسان عهدها الذهبي، وما هو بذاك، فلعل العهد الذهبي كما قال بودين

Bodin

مزدهر بيننا الآن.»

وجابرييل هارڨي هذا يكتب عن العلم والعمل أو عن معرفة الورق ومعرفة التجربة، فيقول عن أحد الصناع : «إنه شاب لم يتعلم في جامعة، ولكنه يخجل أساتذتها الذين يتعلمون منه؛ إذ هم يملكون الكتب والصناع يملكون المعرفة.» ثم يمضي فيسرد أسماء: همفري كول

Cole

صانع المكنات الفلكية، وماثيو بيكر

Baker

السفان، وجون شيوت

Shute

البناء، وروبرت نورمان

Norman

الملاح، ووليام بورن

Bourne

صانع الأسلحة، وجون هستر

Hester

الكيمي، فيقول: إنهم سيذكرون يوم ينسى كثير من أساتذة الأوراق. •••

وأينما قلبنا الصفحات في المؤلفات التي ظهرت باللغة الإنجليزية بين أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، فهناك هذه النظرة الجديدة إلى العالم وإلى الإنسان وإلى المعرفة التي تقوم على تحقيق الضوابط والقوانين وتحرير التجربة العملية.

ولأول مرة في الغرب بعد القرون الوسطى يفهم عشاق المعرفة أنها سرور ورياضة، ويشيحون بوجوههم عن المعرفة التي تقيدهم بالأماني الموروثة أو تلقى إلى الطلاب كأنها ضريبة ثقيلة ترين على رؤوسهم وكواهلهم، ويسري هذا الرأي في المعرفة المحبوبة من ولاة الأمر الذين يصدرون الأوامر والنواهي ولا يرتاحون عادة إلى الإقلال من القيود والتخفيف من الفرائض والمحظورات، ولكنهم يخالفون ديدنهم في هذه القيود؛ لأنهم كانوا في ذلك العهد أصحاب الحصة الكبرى من المعرفة الجديدة: حلية الرئاسة، وأداة المنصب، والوظيفة.

يروي روجر أشام

Ascham (1515-1568) أستاذ الأميرة اليصابات وأمين سرها باللغة اللاتينية بعد ارتقائها إلى العرش أنه كان يحضر مجلس المائدة في القصر وكل حاضريه من نخبة من وزراء القصر ومستشاريه، فذكر أحدهم على سبيل العجب أن بعض الطلاب تركوا الجامعة تذمرا من صرامة العقاب، فكان تعليق أحد الوزراء أن هذه الصرامة تبغض الناشئة في العلم قبل أن يتذوقوا حلاوته فيصبروا على الشدة في تحصيله، وقال غيره: إن الجامعة ينبغي أن تكون مثابة متعة وملعب رياضة، ولم يكن بينهم أحد من شيعة التعليم بالخوف والعقوبة.

وفي هذا العصر نبغ العلماء والأدباء من العلية وكبار الساسة وذوي المناصب في القيادة والرئاسة، ومن هؤلاء كان فرنسيس باكون إمام المدرسة التجريبية الذي يسبق إلى الظن من تلقيبه بإمام هذه المدرسة أنه أول من دعا إلى التجربة العلمية ووجه العقول إليها، وإنما كان في الواقع أحد الباحثين الذين نشأوا في عصر البحث والقوانين الكونية والعلوم التجريبية، وفضله الخاص بين الدعاة إلى هذه الوجهة العامة أنه طبق فكرة التجربة في ناحية البحث العلمي ووضع له قواعده الصالحة لتحقيق النتيجة الصحيحة، ولم يكن أحد من فضلاء عصره يقرر نتيجة من نتائج العلم على أساس غير أساس التجربة واستقلال الفكر بالفهم والمناقشة، وعلى هذا تتم أقوالهم وأقوال أمثالهم في مسائل النظر وأبواب العلم والدراسة بأنواعها.

وتلك الخليقة حرية بالتقرير في هذه المقدمة عن عصر شكسبير؛ لأنها - مع لزومها لفهم روح العصر - لازمة في فهم شكسبير وباكون وسائر المفكرين من أبناء الحركة الفكرية المخضرمة بين القرن السادس عشر والقرن السابع عشر؛ إذ كان يعيش الشاعر والفيلسوف، فإنها فترة من الوقت لم ينفرد فيها أحد بنوع من المعرفة ولا أسلوب من المعرفة، وغاية ما ينفرد به النابغ في إبان الدعوة العامة على مثال دعوة الإنسانيين أن يضفي عليها طابعه الشخصي فيما تخصص له من فن أو علم، وما هو بالحظ القليل.

الشعر والمسرح

يسمى عهد الملكة - اليصابات أحيانا - بعصر الغناء أو بالعصر المغني، ويصدق عليه هذا الوصف لأنه العهد الذي وجد فيه روح العصر أغنيته التي تناسبه من منبعه الذي انبثقت منه دعوة الإنسانيين وما يتصل بها من الدعوة إلى إحياء العلوم والفنون.

فليس عهد الملكة اليصابات بالعهد الذي ولدت فيه المنظومة الغنائية كما لا يخفى، ولا هو - على كثرة الأغاني فيه - بالعهد الذي يفوق العهود التي سبقته كثرة في أنواع النشيد؛ لأن تلك العهود لم تخل من أنواع للأناشيد يتغنى بها العامة أو الخاصة ويشيدون فيها بأبطال الأساطير أو كرامات القديسين أو أحاديث العشاق على ضروب شتى من الأوزان والأساليب.

ولكن عهد اليصابات كان في إنجلترا أول عهد راجت فيه «الموشحة» الإيطالية كما نظمها بترارك أكبر الشعراء الإنسانيين، ونترجم هذا الضرب من الأغاني

Sonnet

بالموشحة، وقد يترجم بالزجل لتشابه الموشحة والزجل في القوافي والأغصان والنوبات والخرجات والأقفال على اصطلاح الوشاحين والزجالين، غير أن الموشحة أقرب دلالة من الزجل ؛ لأنها وضعت في الأصل للمنظومة التي تتكرر فيها القوافي اثنتين اثنتين تشبيها لها بالعقد الموشح ذي السمطين، وهذا هو الغالب على أغنية عهد اليصابات كما اقتبسها الشعراء الإنجليز.

وقد اقتبس هذا الوزن من الإيطالية شاعران شابان هما توماس ويات

Wyatt (1503-1542) وهنري هوارد (1517-1547) فنقل أولهما طريقة بترارك بغير تصرف فيها واتبع زميله هذه الطريقة ببعض التصرف في ترجمة شعر فرجيل، ثم شاعت هذه الأغاني الجديدة ونظم فيها سياسي من حاشية اليصابات هو الوزير الأديب سير فيليب سدني كما نظم فيها بعده شكسبير وغيره من معاصريه.

ولما نهض التأليف المسرحي نظما ونثرا في اللغة الإنجليزية بقيت له، بطبيعة الحال، صبغته الواقعية الحسية التي استمدها من البيئة والتاريخ، وبقيت له معها صبغته الدينية الأخلاقية التي استمدها من تقاليد القرون الوسطى وعرف الفروسية، ولكنه احتفظ من ناحيته الفنية بصبغة الدعوة التي ابتعثته من غيابة النسيان فاتخذ قدوته وقالبه من فن رومة القديمة، وتداول المعنيون بالمسرح روايات أديبين من مؤلفي التمثيليات كان لهما حظ الشهرة إلى عصر الميلاد في اللغة اللاتينية السهلة ولغة اللهجة الدارجة التي كانت تستخدم يومئذ في كتابة الملاهي والفكاهات على الخصوص، فانبعث اسم بلوتوس

(254-184ق.م) واسم سينكا (4-65م) كأنهما من مؤلفي الجيل.

وكانت اللاتينية بلهجاتها أعم اللغتين القديمتين بين الإنجليز؛ لأنها لغة الدولة الرومانية التي كانت إنجلترا جزءا منها في بعض تاريخها، ولأنها لغة الكنيسة الغربية التي تبعتها الأمة الإنجليزية إلى أن حدث الانقسام بينها وبين البابا في عهد هنري الثامن أبي الملكة اليصابات، بيد أن اللغة الإغريقية لم تكن مجهولة بين الإنسانيين؛ لأنهم في جملتهم من زمرة المثقفين أو طبقة العلية التي توسعت في دراسة الإغريقية وآدابها بالجامعات، ونظرت إلى ثقافتها كأنها حلية لا غنى عنها من شمائل الرفعة والجاه.

ومن الواضح أن حركة الإنسانيين لا تقوم في مبدئها بمعزل عن أنصار المعرفة وأنصار الإقبال على الحياة، فهي في بواعثها ووسائلها حركة من حركات العلم واليسار، ويكفي أن نلم بأسماء بعض القائمين علياه لنعلم أنها رسالة المعرفة في عصر الفتح والإقدام والتطلع إلى المستقبل على ثقة ورجاء ، فقد كان الشابان اللذان نقلا الموشحة من أرفع طبقات النبلاء المثقفين، وكان رائدهما الأول - سير فيليب سدني - وزيرا من كبار وزراء المملكة، وعناه من أجل هذا أن يكتب رسالته المشهورة في الدفاع عن صناعة القريض، وكان مما قاله فيها: إن اسم الشاعر باللغة اللاتينية كفيل أن يدل على قداستها في نظر الأقدمين؛ لأنه اسم يشير إلى الإلهام والنظر أو النبوءة، وقريب منه في جلالة شأنه اسم الشاعر باللغة الإغريقية؛ لأنه يفيد معنى الصانع ويشبه معنى الخلق في مجاراة الطبيعة والتفوق عليها، واستطرد من الكلام على الشعر في اللاتينية والإغريقية إلى الكلام على الشعر المقدس في العبرية، فذكر منه المزامير، وقال إنها من الكلام الموزون، فلا يجوز الغض من صناعة تختارها لغات الحضارة والعقيدة للتعبير عن أشرف المقاصد وأرفع الأفكار.

ولولا قوة الإنسانيين في المجتمع الحديث لما تسنى لسلطان الدولة برمتها أن يعزز الدعوة إلى إحياء الفنون والعلوم والإقبال على الحياة في وجه الجامدين المتعصبين للتقاليد بين شعب مشهور بالمحافظة عليها والتريث في تبديلها، أو في وجه المجددين الذين أرادوا التجديد في شعائر الدين؛ سخطا على رذائل البذخ والفساد التي استرسل فيها فريق من أقطاب الدين قبيل عصر النهضة وفي إبان ذلك العصر المتناقض العجيب.

ولقد كاد مجلس المدينة يتمرد على أوامر الملكة لما أذنت للممثلين أن يعرضوا صناعتهم داخل أسوار العاصمة، فإن التمثيل كان عند المحافظين المتشددين محسوبا من صناعات الخلاعة والابتذال، وكان الممثلون يسلكون في عداد الأفاقين والشطار واللصوص، ويطاردهم الشرطة ما لم تكن في أيديهم شهادة بالانتماء إلى أحد النبلاء وذوي الأقدار يقبلهم للتمثيل في قصره بين خاصته وذويه، وظل الحال كذلك إلى ما قبل نهاية القرن السادس عشر بقليل، ولعل المحافظين لم ينكروا تلك الصناعة اعتسافا في أيام المتطهرين وما قبلها؛ لأن التمثيل إنما كان نوعا من أنواع التهريج والشعوذة والألعاب البهلوانية قبل أن تستقل الرواية المهذبة بفن المسرح بزمن طويل، وكان المشتغلون به يرودون المدن والقرى متنقلين في الفرق الجوالة ولا تؤمن طائلتهم إذا سنحت لهم غرة من سكان الحضر والريف.

على أن المثقفين من دعاة الإحياء والإقبال على الحياة لم يكن في طاقتهم أن ينهضوا بهذا الفن لو كان قصارى الأمر فيه أنه دعوة من دعوات المعرفة والذوق تروجها فئة من السادة والعلماء. وإنما نجحوا في دعوتهم لأنها صادفت رغبة قوية بين سكان مدينة تمتلئ عاما بعد عام بألوف الوافدين من أنحاء المملكة في طلب العمل واللهو الجديد، ويكاد أن ينحصر في فن التمثيل وأن يكون في هذا الفن تلبية لشوق الوطن كله إلى تمثيل مفاخر القوم وتصويرها على المسرح في صور المجد والبطولة، وكان هذا الباب من أبواب الرواية المسرحية فنا تمليه رغبة الجمهرة الغالبة من العامة والسواد؛ إذ لم يكن معهودا في روايات الإغريق والرومان، ولم يكن مما يشتغل به هواة الفن في الجامعات والقصور، وهم الذين اشتهروا يومئذ باسم أذكياء الجامعة

University wits

وعالجوا التمثيل كما عالجوا التأليف.

ويصح أن يقال إن العلية والسواد معا كانوا يدا واحدة في تشجيع هذا الفن الجديد، وإن معارضيه من المتطهرين لم يخذلوه بمعارضتهم بل أضافوا إلى لذات الإقبال عليه لذة الثمرة المحرمة التي لا تباح كل الإباحة ولا تحرم كل التحريم.

أسرة شكسبير

كاتب الأعاجيب ليس في سيرته خبر عجيب.

يقال هذا ويعاد في مفتتح السير التي تروي لنا عجائب الأخبار في الواقع والخيال، ويصدق على فئة كبيرة من أعلام الشعراء والكتاب يصفون لنا أبطال العظائم والغرائب، ويخلقون لنا من أخيلتهم سيرا تشوقنا بما تعمله أو بما تلقاه من صروف المحن والتجارب، ونعود إلى سيرتهم في وقائعها وأخبارها فنعجب لخلوها من العجائب، ونحار كيف نضعها مع السير التي وصفوها لنا كما خلقها الله أو وضعوها لنا كما خلقوها من صنع القريحة والخيال.

وأصدق ما تقال هذه الكلمة حين تقال عن وليام شكسبير، صاحب الروايات التي امتلأت بعجائب السير من وصفه ومما صنعه على يديه، ولا عجيبة في سيرته من يوم مولده إلى يوم وفاته، إلا ما كتبه بقلمه وابتعثه على مسرح التمثيل ثم أبقاه على مسرح الحياة كأبقى ما يبقى الخلائق الأحياء.

إلا أننا - على ما يقال في أحاديث الأرواح والأطياف - لا نبحث عن العجائب إلا وجدناها أمامنا، وإن لم نجدها على تقديرنا وحسباننا، ولعلنا لا نبحث عن العجائب إلا لأنها تستدعينا وتتخايل من وراء حجابها لنلقاها وتلقانا.

إن عظمة شكسبير أعجوبة خارقة، ولكننا لا نبحث عنها لأننا نراها حيثما رأينا شكسبير في عمله، ورأينا أنه عمل عظيم قليل النظر بين أعمال النابهين على غراره.

ولكن العجيبة في هذه السيرة التي لا عجب فيها أنه ولد حين ولد، وأنه رحل من مسقط رأسه حين رحل عنه، وما من عجب في مولد أحد كما يولد سائر الناس ولا في هجرته من مسقط رأسه كما هاجر في زمنه مئات وألوف، ولكننا نعجب لهذا وذاك؛ لأنهما توفيق من الحوادث يستوقف النظر ولو حسبناه في عداد المصادفات؛ لأن المصادفات من هذا القبيل جديرة بالتنبيه والتسجيل.

ولد شكسبير سنة 1564، في الوقت الذي نشأ فيه المسرح الثابت بخانات لندن وأصبح من ملاهي العاصمة التي لا يستغني عنها أبناؤها ومن يرتادون خاناتها من وفود الريف، وعمد أصحاب الفرق التمثيلية إلى إقامة المسارح خارج أسوار المدينة بنجوة من تشريعها حين اشتدت وطأة الرقابة عليها من جانب عمدة العاصمة وزملائه في إدارة مجلسها، ثم غلبت رغبة النظارة من الخاصة والعامة في هذا الفن الجديد فاجتاحت أمامها عناد المجلس وبقايا العرف الموروثة وصلابة المتطهرين في مقاومة كل بدعة تدخل فيما يسمونه بالملاهي أو الألعاب، فأذنت الملكة بإقامة المسارح في المدينة وسوغت أمرها بما اشترطته آنفا من اجتناب المساس بالدين والأخلاق وشؤون الحكم فيما يعرض على مسارح التمثيل من قصة أو غناء، وعادت الأوامر الملكية التي تخطت تشريع المدينة في هذا الصدد؛ فأكدت ما فرضته من قبل من شروط الاستقامة و«حسن السلوك» فيمن يشتغلون بهذه الصناعة، فلا يقبلون في زمرة الممثلين بالمسارح الثابتة إلا بشهادة من نبيل أو وجيه معروف عند ولاة الأمور.

وهاجر شكسبير إلى العاصمة حوالي سنة 1586، بعد ارتفاع الحظر على التمثيل فيها بقليل.

هاجر إلى العاصمة وهو في نحو الثالثة والعشرين من عمره؛ لأنه كان يعول أسرة عجز عن الإنفاق عليها وتدبير معيشتها بوسائله الميسورة له ولأهله في الريف، وكان أهله من الريفيين ذوي اليسار، فأصابت أباه عسرة وهو في الثانية عشرة، وعاش في كفالة أبيه إلى ما بعد زواجه على اضطرار قبيل بلوغه العشرين، فلم يطق أن يضطلع بأعباء أسرته بعد أن تزوج وولد له الأبناء، وأوشك أن يطالب بالمشاركة في معونة أبيه.

ترى هل كان يهجر الريف إلى المدينة لو دامت لأسرته النعمة التي توارثتها من أسلافها؟

ترى هل كان يخطر له أن يشتغل بالتمثيل لو بقي التمثيل كما كان قبل مولده صناعة من صناعات الأفاقين والجوالين الذين حشرهم العرف والقانون في طغمة اللصوص والطرداء المنبوذين؟

أغلب الظن أنه كان يطاوع ملكة الشعر، فينظم القصيد كما نظمه أمثاله من الموهوبين، ويبلغ فيه غاية ما بلغه من الإبداع في مقطوعات الأغاني والموشحات أو في أقاصيص الغزل وتراجم الأساطير، وغاية ما بلغه في هذا الفن يسلكه في عداد المئات، أو الألوف، من شعراء الأمم في مختلف اللغات، ولكنه لا يرفعه إلى منزلة الآحاد الذين لا تنطبق على عدهم أصابع اليدين، كما ارتفع - بموازين النقد جميعا - في فن الرواية المسرحية: فن الخلق والإبداع في تصوير النفوس وتصوير العلاقات بينها على السواء.

أما أن يلحق بالفرق الجزالة ويوطن النفس على عيشة كعيشة الطرداء والشذاذ فليس بالمستحيل ولكنه بعيد، وأبعد منه أن يرتقي في صناعة المسرح الجوال إلى مكان يحتفل به تاريخ الآداب.

إن القائلين: «إن السبب يبطل العجب.» يقولون صوابا إذا أرادوا بمقالتهم أن عرفان السبب يريح من حيرة الأعجوبة التي تبده الذهن بما يذهله ويخالف مألوفه.

ولكنهم لا يقولون صوابا إذا وقع في ظنهم أن الأعاجيب بغير أسباب، فإن أعجب الأعاجيب له سببه كهذه الحوادث التي تشيع بيننا كل يوم وكل ساعة فيما نسمعه أو نراه.

وليس بطلان الحيرة وبطلان العجب بسواء، فإن الحيرة قد تبطل في أمر نعرفه وننفذ إلى سره أو نحسب أننا قادرون على النفاذ إليه، ويظل الأمر بعد ذلك عجبا نادرا كأندر ما تكون الأعاجيب.

فربما كان شكسبير قد أحس في صباه قدرة على النظم وراقه بعض ما اطلع عليه من مناظر التمثيل في المدرسة أو في أحاديث قرائها من أبناء قريته، وفيها من قراء اللاتينية غير قليل.

وربما استمع إلى أحاديث أبناء القرية العائدين من العاصمة يتندرون بفتنة لندن وفتنة هذا الفن الجديد الذي يناهض سلطان مجلسها ويقهره على قبول ما يأباه في عقر داره؛ فلا يملك أن يشوقه فن العاصمة الفاتن من بعيد، وإن فتنته للمستعدين لأقوى سحرا وأعمق أثرا من فتنته لمن يأنسون به ولا يزيدون على النظر إليه.

ولكنه كان ينبغي أن يولد حين ولد، وأن تدركه العسرة حين أدركته وأن يهجر وطنه حين اضطر إلى الهجرة، لينبغ في العمل الوحيد الذي كان نبوغه فيه أعجوبة الأعاجيب.

وهذه العبقرية على عظمتها إحدى عبقريات لا تحصى نعلم منها أن هذه الهبة العالية قد يوافقها زمان دون زمان، وقد تصلح لها حالة دون حالة، ولكنها تعم البيئات جميعا في الريف والحضر، وفي الرخاء أو الشدة، وفي شواغل العلم أو العمل. •••

كان مولد شكسبير في ولاية وارويك بقرية ستراتفورد على أصغر الأنهار التي تعرف باسم «أڨون»، وهي كلمة قلتية تقابل كلمة «نهير» باللغة الإنجليزية.

واسم شكسبير قديم في الولاية يتركب من كلمتين بمعنى: هزاز الرمح، ولعله كان في أصل التسمية لقبا مقصودا بهذا المعنى؛ لأن بحوث العلامة شيمبرز انتهت إلى رجل كان يسمى وليام شكسبير - كاسم الشاعر - قضي عليه بالموت في سنة 1248؛ لأنه كان يسطو على الأطراف يوم كان غزو الولايات والخروج على أمرائها آية من آيات النخوة والمخاطرة، وليس في الأسانيد التاريخية ما يدل على صلة بين وليام شكسبير هذا ووليام شكسبير الشاعر.

أما أقدم المعروفين باسم شكسبير من المتصلين بنسب الشاعر فهو جده ريتشارد شكسبير المتوفى سنة 1561 قبل مولد حفيده بثلاث سنوات، وكان يزرع الأرض ويستأجرها ويرعى الماشية كما يؤخذ من حكم محفوظ بتغريمه اثني عشر بنسا لتسريحه في مراعي القرية قطيعا يزيد على مائة رأس في الرعية الواحدة.

وقد استقصى الباحثون في سيرة الشاعر تراجم ثلاثة يدعون باسم جون شكسبير بين منتصف القرن ونهايته، وهم غير جون ريتشارد أبيه الذي تكرر ذكره في سجلات القرية، وكان يختار له توقيعا يشبه رسم القفاز لأنه يجهل الكتابة، وقد التبس الأمر على بعض الذين تصدوا لترجمته بعد اشتهار ولده فذكروا مرة أنه كان يحترف الجزارة ومرة أخرى أنه كان يحترف الدباغة، وربما اشتغل بذبح الماشية ودبغ الجلود لاستخدامها في صناعة القفازات التي جعلها في توقيعه شارة صناعته، ومن جراء هذا التوسع في أعماله تعرض للحكم عليه بغرامة «اثني عشر بنسا»؛ لأنه ترك القمامة في الطريق، وهو إهمال لا يسلم منه من يحتاج في عمله إلى رعي الماشية وذبحها ودبغ جلودها، وله في هذه المخالفة شركاء مذكورون في سجلات القرية.

وليس لترجمة جون شكسبير مصادر يوثق بها غير التوقيعات والعقود المحفوظة في تلك السجلات، ومنها يعلم أنه ظل على حالة محمودة من اليسر والكفاية بعد وفاة أبيه، فاشترى في سنة 1556 بيتين من بيوت القرية الحسنة، وتزوج في السنة التي تليها بماري آردن بنت روبرت آردن صاحب الأرض التي كان يستأجرها ريتشارد شكسبير ويعيش من غلتها ومن رعي الماشية وبيعها، وهي فتاة متعلمة تنتمي إلى أسرة عريقة أغنى من أسرة زوجها؛ إذ كان أبوها يملك البيوت والأرض ويخص ماري وحدها بعد وفاته بستين فدانا غير بعض الحصص الموزعة في ميراث الأرض والمال، ولا شك أنه آثرها بأفضل الحصص بين أخواتها الثمان، إما لأنها كانت أصغرهن أو لأنه كان يأنس فيها النجابة والتفوق في الذكاء والمودة على أخواتها.

وولدت ماري لجون شكسبير طفلتهما حنة (1558) التي ماتت في طفولتها، ثم طفلة أخرى سمياها مرجريت (1562) ماتت بعد خمسة أشهر، ثم ولدت أول أبنائها وليام (23 أبريل سنة 1564)، ورزقا بعده بثلاثة أبناء هم: جلبرت، وريتشارد، وإدموند. وبنتين هما: حنة، وآن. وتوفيت ماري سنة 1608 بعد وفاة زوجها جون بست سنوات.

وكانت حالة جون قد اطردت في التقدم والرخاء بعد زواجه إلى سنة 1575 حين اشترى منزلين آخرين غير منازله التي كانت له قبل الزواج، ثم تقلبت به صروف التجارة والصناعة في أيام التحول الاقتصادي الذي طرأ في البلاد الإنجليزية على تجارة الداخل والخارج ونظام التصدير والاستيراد وتداول المراكز التجارية بين القرى والحواضر ومدن السواحل، فطاحت الأزمة بعتاده وعتاد زوجته وأثقلت كاهله بالمتاعب والهموم حتى شغلته عن وظائفه العامة في القرية، وكان قد تولى منها عدة وظائف هامة كأمانة الخزانة ووكالة الدعاوى ورئاسة المشايخ فاعتزلها أو عزل منها، وعين مجلس القرية بديلا له لانقطاعه عن جلساته.

ويجهل التاريخ تفصيلات هذه المحنة لأنها لم ترد في سجلات القرية المحفوظة، إلا ما كان من خبر هنا وخبر هناك عن القضايا التي رفعت عليه والديون التي طولب بها والعقود التي دونت فيها الرهون أو الإجارات، ولكن الخطأ في محنته إنما كان من أخطاء الضرورة التي أوقعه فيها التوسع في أعماله بين صناعة القفازات وزراعة الأرض وتجارة المبيعات من محصول الزراعة والصناعة ومباشرة الوظائف المتعددة في مجلس القرية، وغير ذلك من متاعب البيت ومطالب البنين والبنات، ولم يثبت في تاريخه المسجل ما يدينه بسيئة من سيئات الخلق أو سيئات الخطل العيب.

ويظهر من أسماء ذرية شكسبير أن الأبناء والبنات من هذه الذرية كانوا يسمون بأسماء أقربائهم وقريباتهم من العمومة والخؤولة، وأنهم كانوا يقيمون في قراهم ولا يطلبون الاغتراب عنها، وأن إخوة شكسبير الذكور لم يعمروا ولم يخلفوه؛ إذ مات جلبرت في السادسة والأربعين ومات إدموند في السابعة والعشرين ومات ريتشارد في التاسعة والثلاثين، ولم يشتغل منهم غير واحد بصناعة التمثيل وهو أصغرهم إدموند الذي ولد سنة 1580 وتوفي سنة 1607.

وقد توفيت البنات صغيرات، فماتت حنة الأولى وأختها مرجريت في سن الرضاع، وماتت آن أصغرهن في الثامنة من عمرها، ولم تبلغ منهن سن الشيخوخة غير حنة الثانية التي سميت على اسم أختها المتوفاة، فإنها ولدت سنة 1569 وتوفيت سنة 1646. •••

في هذه الأسرة الريفية نشأ وليام شكسبير بن جون بن ريتشارد شكسبير، ويخيل إلينا الآن أنه يحل منها في مكان ناشز غير معد لأمثاله؛ لأنها في جميع سماتها وعاداتها تطرد على شاكلة الأسر الريفية التي تتطلع إلى الستر أو الوجاهة ولا تطمح إلى مكان في العالم فوق ذلك أو وراء ذلك، ثم يصعد من بينها هذا الاسم الذي لا يدانيه في آفاق الشهرة الإنسانية غير آحاد معدودين، فليس في أبناء الأسر المالكة ولا في أبناء العروش الإمبراطورية من اشتهروا مثل شهرته وعني الناس بأقوالهم وأخبارهم عنايتهم بأقواله وأخباره، وإذا استثنينا الرسل والأنبياء من أصحاب الأديان الكبرى فليس في أصحاب الأقلام منذ كتب الإنسان بالقلم عشرة يعدون معه في الصف الأول الذي تقدم إليه بين الصفوف العباقرة العالميين. لا جرم يتخيل المتخيل حين ينتقل من سيرة ذويه إلى سيرته أنه ينتقل من جو إلى جو ومن عالم إلى عالم، وأن هذه الشهرة الضافية نشوز في تلك الرقعة الضيقة من تلك القرية المنزوية في بعض الطريق.

لكن الواقع أن وليام شكسبير - قبل اشتهاره وبعد اشتهاره - هو ابن تلك الأسرة في الصميم، وهو سليلها الذي نعرفه ونعرفها فلا ندري كيف ينشأ في غيرها، وهو بتلك الخلائق وتلك المشارب وتلك السيرة من المولد إلى الممات.

وما من علم من أعلام التاريخ يغنينا العلم به عن العلم بكل صغيرة وكبيرة من شئون أسرته إذا استطعنا النفاذ إلى بواطنها وأسرارها؛ لأننا نفهمه كلما فهمنا كيف نشأ ومن أين أتى وماذا أخذ وماذا ترك من طبائع وسمات تظهر في قومه أو لا تظهر، ولكننا أحوج ما نكون إلى العلم بتاريخ الأسرة في هذا المقام؛ لأن القليل الذي علمناه منه يفسر لنا الكثير مما يحسبه المترجمون ألغازا في حياة الشاعر والفنان، ولو ازددنا علما بتاريخه في قريته وفي بيته لما بقي في سيرته ما يحسب في عداد الألغاز.

ولد وليام في الثالث والعشرين من شهر أبريل سنة 1564، وعمد في السادس والعشرين من ذلك الشهر في كنيسة القرية، فكتب اسمه في دفاترها كما يكتب بالصيغة اللاتينية، وتولى تعميده فيها القس برتشجيردل

Bretchgirdle

المشهور بحماسته للدعوة البروتستانتية، وكان قس الكنيسة يوم كان جون شكسبير من أمناء مجلسها.

ولا يعرف - على التحقيق - شيء عن تعليم وليام قبل سن التلمذة في مدرسة القرية، فربما تعلم مبادئ الهجاء والمطالعة في البيت قبل الثامنة من عمره: تعلمها من أمه إذا صح أنها كانت على معرفة حسنة بالكتابة كغيرها من بنات أغنياء الريف، أو تعلمها من مدرس يزورهم بين زوار أبيه، وكان يومئذ من وجوه القرية المقصودين.

وحانت سن القبول في مدرسة القرية فدخلها وانتظم في فصولها نحو خمس سنوات، وقد كان لهذه المدرسة نظار من خريجي جامعة أكسفورد يذكرون بأسمائهم في سجلات المجلس والكنيسة، وكان برنامج الدراسة في هذه المدارس التي اشتهرت باسم مدارس الأجرومية الحرة متفقا على دروس مقررة في أنحاء البلاد الإنجليزية، يتلقى التلاميذ بعد مبادئ القراءة والحساب طرفا من اللغة اللاتينية، ويقرؤون فيها حكايات إيسوب ومختارات من شيشرون وفرجيل وهوراس وأوفيد، ويمثلون بعض مناظر بلوتس وسينكا ويستظهرون نبذا من كتابات البلغاء في القرون الوسطى، ولا يدرسون من الإغريقية إلا ما يمكنهم من مراجعة الآيات في الكتب الدينية.

وحلت الضائقة بوالد وليام وهو في نحو الثانية عشرة، فترك المدرسة في هذه السن أو بعدها بقليل، وعكف على مساعدة أبيه في صناعته وتجارته ورعي ماشيته، وهي أعمال يستفيد منها الصبي الناشئ خبرة بالناس وبالطبيعة قلما تتيسر له في كتبه المدرسية.

وفي الثامنة عشرة تزوج ب «آن» كبرى بنات أبيها من أسرة هاثواي الريفية، وكانت تكبره بثماني سنوات؛ لأنها توفيت سنة 1623 وهي في السابعة والستين، فكان مولدها بين سنة 1555 وسنة 1556، ويفهم من صيغة وثيقة الزواج أنه تم بعد تردد من الأسقف المنوط به تدوين هذه العقود؛ فإن الوثيقة كتبت في السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1582، وفي الثامن والعشرين منه كتبت وثيقة أخرى يشهد فيها رجلان من مقدمي الفلاحين أنهما مسئولان عن كل طعن في الوثيقة يعرض الأسقف لتبعة المخالفة لحكم القانون.

ويظهر بعد ذلك من تاريخ ولادة البنت الكبرى «سوسن» وليام شكسبير أن أسقف التعميد داخلته الشبهة لسبب لا يخفى؛ فإن الطفلة عمدت في السادس والعشرين من شهر مايو من السنة التالية - أي بعد ستة أشهر من تاريخ وثيقة الزواج - ووجب الاعتراف بهذه الشبهة التي بادرت الأسرتان إلى الاتفاق على تصحيحها؛ إثباتا للعلاقة الشرعية دون مساس بصحة التسجيلات في تاريخ الزواج أو تاريخ الولادة. •••

وبعد ولادة سوسن بسنتين (في الثاني من شهر فبراير سنة 1585) ولد له توأمان - ذكر وأنثى - سمي الذكر هامنت والأنثى جوديث، وأصبح لزاما عليه أن يبحث عن مورد للرزق غير مورده النزر المضطرب الذي يأتيه من معونة أبيه في متجره ومصنعه، وكانت الضائقة التي حلت بأسرته تستحكم وتتأزم ولا تؤذن بانفراج قريب، ففي السنة التي ولد فيها هذان التوأمان اضطر أبوه إلى التخلف عن أعماله بمجلس القرية ودواوينها؛ فخسر وظائفه في الحكومة كما خسر ثروته في التجارة والصناعة، وأصبح لزاما على وليام أكبر أبنائه ورب الأسرة الوحيد بينهم أن يستقل بعمل يكفيه أو يهجر القرية ليعول نفسه وأهله ما استطاع.

ومرت من أواخر هذه السنة إلى سنة 1591 فترة فراغ في ترجمة وليام لم يسمع فيها خبر عنه في القرية ولا في لندن؛ حيث يغلب على الظن أنه أقام في هجرته الأولى، وكثرت الأقاويل عن هذه الفترة على غير هدى لملء هذا الفراغ.

ولإيضاح الغوامض والشبهات التي أثارتها بحوث النقاد وشكوك المعترضين والمعجبين معا بعد استفاضة ذكره وتشعب الآراء في نسبة أعماله إليه أو إلى غيره.

ويذهب الأكثرون من أصحاب الأقاويل المختلفة في ملء فراغ هذه السنوات مذاهب من الظن أو التخمين لا سند لها من الوقائع ولا من الشهادات المسلمة أو الوثائق المتفق عليها، وإنما يأخذون فيها بالقرينة والاحتمال القريب قياسا على المعهود من أحوال العصر أو أحوال المترجم وأمثاله، وبعضها رجم بالظن لا يرجع إلى شهادة عيان ولا إلى شهادة سماع مقبول، وقد تكون القرينة في نفيه أقوى من القرينة في ترجيحه.

فمن قائل إنه هجر القرية هربا من القصاص الذي أنذره به أحد النبلاء في الإقليم - سير توماس لوسي - لأنه علم أن وليام يطارد الصيد خلسة في أرضه بجوار ستراتفورد، ومن قائل إنه هرب من القرية على غير علم من أهله ليلحق بفرقة من فرق التمثيل الجوالة في الريف، ومن قائل إنه خرج من الجزيرة البريطانية كلها في رحلة من رحلات البعوث العسكرية التي كانت تتردد ذهابا وجيئة بين إنجلترا وشواطئ أوروبة الغربية، ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير الحق» أنه لم يقصد إلى لندن عندما هجر قريته على أثر مولد طفليه، بل قصد توا إلى بليموث وركب البحر منها إلى بلاد المشرق بعد زيارة البلاد الإيطالية؛ لأن أوصافه لهذه البلاد أحجى أن تكون أوصاف خبرة عيان.

1

ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير بين الصدق والرواية» أنه كان يختلف إلى جامعة أكسفورد قبل زواجه بسنوات، وأنه لم ينقطع عنها إلا بعد عقد الزواج وإلحاح الحاجة عليه بالتماس وجوه العمل لتدبير نفقات البيت، وأنه عمل بمدرسة القرية في هذه الفترة كما جاء في بعض أنبائه، ولا يتشكك صاحب هذه الرواية في احتمالها لخلو دفاتر القيد بالجامعة والمدرسة من اسم شكسبير؛ إذ كانت هذه الدفاتر خلوا من بعض الأعلام الذين حضروا دروس الجامعة باتفاق المؤرخين وأشهر هؤلاء الأعلام «أوليفر كرمويل» زعيم الثورة بعد جيل شكسبير.

2

ويتساوى ملء الفراغ بهذه الأقاويل وترك الفراغ لمن يشاء أن يملأه بأمثالها من التخمينات التي لا تقطع فيها الحجة بنقض ولا بتوكيد.

قال الشاعر الناقد جون ماسفيلد في كتابه عن شكسبير بعد الإلمام بطائفة من هذه الأقاويل: «كل هذا ليس بالبينة ولا بالرواية ولكنه تخمين جامح، وقد يقال مثله إنه ارتقى عرشا أو صار من قدماء الرومان أو عمل في صناعة النسيج أو افتتح حانة شراب، ولا فرق في السند بين ما قيل وما يقال على هذا المثال.» •••

هذه قيمة التخمينات والفروض التي تواترت في أقوال الشراح والنقاد لملء فراغ هذه السنوات في ميزان ناقد ملهم معجب أيما إعجاب بالشاعر الكبير، وليس في كلامه عن تلك الفروض مبالغة في جوهر الحقيقة، إلا أن تكون مبالغة السخرية والتعميم، يستدركها من شاء بالتفرقة بين الفروض التي تركن إلى سند من الواقع وصدق الظن والفروض التي لا تركن إلى شيء غير الوهم وخبط عشواء.

وبعد هذه الفترة من الفراغ في سيرة وليام نسمع به في سنة 1591، ونعلم أن هذه السنة كانت نهاية السنوات العجاف في حياته، وأنه قد انتظم في صناعة التمثيل والتأليف، وعمل في أكبر الفرق التمثيلية وهي فرقة الإيرل أڤ لسيستر التي من أجلها أباحت الملكة اليصابات إقامة المسارح في العاصمة.

وهنا محل لاستقصاء فرض من الفروض التي ذهب إليها مؤرخوه ليملأوا به فراغ السيرة في السنوات الخالية، ولكنه فرض له سند من الواقع والاحتمال جدير بالالتفات إليه من طرفيه.

فمن المحقق أن وليام لم يشتغل بالتمثيل في تلك الفرقة إلا بعد تمهيد طريقه إلى قصر آل لسيستر للظفر بالشهادة التي لا غنى عنها لمن يريد أن يشتغل بالتمثيل ولا يحسب - في رأي الشرطة - من طغمة الشذاذ والأفاقين.

ومن المحقق أن «لسيستر» غادر لندن على رأس بعثة عسكرية إلى الأرض الواطئة لمؤازرة الهولنديين في حربهم للدولة الإسبانية، وكانت مغادرته للعاصمة في سنة 1585 التي انقطعت فيها أخبار وليام من القرية ومن العاصمة ومن كل مكان في الجزيرة البريطانية.

ومن المحقق أن لسيستر قد استدعى للسفر في حاشيته الممثل الهزلي كمبس

Kemps

الذي كان نديمه المختار من رجال فرقته وكان في قصره بمثابة «المضحك» الخاص في قصور الملوك الأقدمين، ولا يبعد أن يكون قد صاحبه في تلك البعثة أيضا خمسة من ممثليه الذين زاملهم شكسبير بعد ذلك في الفرقة التمثيلية؛ لأن هؤلاء الممثلين الخمسة - وبينهم أشهرهم جورج بريان - كانوا يستدعون للتمثيل في القصور الملكية بين سنتي 1586، 1587 ويقيمون الحفلات في بلاط الدانمرك وبلاط سكسونية، كما جاء في أخبار دعوات البلاط بالمملكتين.

ويلاحظ أن «كمبس» الذي لا شك في سفره مع لسيستر في بعثته إلى هولندة كان مقيدا في هذه البعثة باسم دون جولهلم

Gulihelmo

ولم يقيد باسمه المشهور بين رواد المسرح؛ فلا يبعد أن يكون وليام وزملاؤه - في المستقبل - قد دخلوا هذه البعثة بأسماء غير أسمائهم المتداولة في غير السجلات العسكرية، وأنه مهد طريقه إلى صحبة لسيستر أثناء غيابه عن البلاد الإنجليزية؛ لأن التعرف إلى هذا القائد النبيل صاحب المقام الأول والحظوة الأثيرة في البلاط لا يتم بعد عودته من القارة في وقت قصير.

والمعروف من سيرة وليام بعد سنة (1591) قليل بالقياس إلى أخبار نظرائه وإن لم يكن أقل من أخبار معاصريه، ولكن هذا القليل كاف للعلم بنجاحه وارتفاع شأنه، وانصراف همته إلى تعزيز مكانته في المجتمع ورد المفقود من تراث أهله في قريته، فحصل على حلة من حلل التشريف «الرسمية» تخوله التلقب بلقب السيد أو الجنتلمان، وسجل أداء الرسوم لهذه الحلة في شهر أكتوبر سنة (1596)، وشارك في مسارح العاصمة مع انتمائه إلى فرقة لسيستر إلى آخر أيامه في التمثيل، وحاول جهده أن يستعيد حصص الأرض التي ضاعت من أسرته بالرهن أو البيع، واستعاد منها ما ارتضى مالكوها أن يبيعوه، واقتنى البيوت والأكواخ لسكنه وسكن أقربائه، واشترى في سنة 1602 مائة وسبعة وعشرين فدانا في ستراتفورد القديمة، ثم عاد إلى مسقط رأسه ليقيم فيه سنة 1611، وبقي ثمة إلى أن أدركته الوفاة سنة 1616 في الثانية والخمسين من عمره، لا يفارق بلدته إلا لينظر في بعض أعماله بالعاصمة، ثم يكر إليها راجعا متزودا له ولأقربائه فيها بما تتطلبه حياة المستورين من أهل الريف.

وفي أوائل سنة 1616 أحس الشاعر بدنو أجله؛ فكتب وصيته في شهر يناير من تلك السنة ونقحها في الخامس والعشرين من شهر مارس قبل وفاته بأقل من شهر، وأوصى فيها بحصص مقدرة من المال والأرض والعقار وبقايا الأثاث والعتاد لزوجته ومن بقي من ذريته بقيد الحياة، وهن: سوسن بنته الكبرى، وجوديث بنته الصغرى، وحفيدته اليصابات. لأن ابنه الوحيد «هامنت» كان قد مات صغيرا سنة 1596 في الحادية عشرة من عمره؛ وأوصى ببعض الهبات والهدايا لفقراء القرية ولأفراد من مساعديه وصحبه، ولم يذكر شيئا في الوصية عن حصصه في المسرحين اللذين كان شريكا فيهما إلى ما بعد سفره من لندن، كأنه كان قد باع ما يملكه في غير قريته حين شعر باقتراب أجله.

ومات في الثالث والعشرين من شهر أبريل، أي في نفس اليوم الذي ولد فيه، وأعد قبيل وفاته أسطرا من الشعر أوصى بكتابتها على ضريحه في مقبرة الكنيسة، فحواها التذكير بحرمة العظام المطوية في رجامها، ودعاء بالبركة لمن يرعاها وباللعنة لمن يحركها من مكانها.

وقد كتبت الأسطر المنظومة بلغة ساذجة تشبه لغة العامة، واستدل بعض المتأخرين بهذه السذاجة على أن الأسطر المنظومة وأشعار الروايات والدواوين لم يكتبا بقلم واحد، ولكن الأسطر - ولا شك - كانت مكتوبة باللغة الشائعة في القبريات التي تعودها أبناء الريف، ولم يكن من السائغ أن تكتب بالأسلوب الفخم الذي يتخيره الشعراء لمنظوماتهم الأديبة.

ونسي أناس آخرون من الشراح والمعقبين زمان الشاعر ومكانه في موطنه، فوهموا أنه كتب تلك القبرية لأنه توقع أن تحتفي الأمة بذكراه وتنقل رفاته إلى المكان الذي جعلوه بعد ذلك مثوى للعلية من النوابغ والعظماء في كنيسة وستمنستر، ولكن القبرية تفهم على وجهها الصحيح من حيث الأسلوب والمعنى إذا فهمت على أنها «وصية محلية» يقرأها أبناء تلك الجيرة ممن يطيفون بالمقبرة ويباشرون دفن موتاهم بين جدرانها، وقد زار ستراتفورد قبل نهاية القرن السابع عشر (1694) أديب من خريجي أكسفورد يسمى وليام هول، فقال في رسالة كتبها إلى صديق: «إنني ذهبت في اليوم التالي لزيارة رفات شكسبير العظيم المدفون في الكنيسة، فقرأت الأسطر التي أمر في حياته بحفرها على شاهد قبره، وفيها من قلة الدلائل على العلم ما قد يبين عن قلته في غيرها لولا أنها تنطوي على شيء يحتاج إلى تعقيب، فإن في الكنيسة موضعا يطلقون عليه اسم (منزل العظام) ويودعونه بقايا العظام المستخرجة من حفائر المقبرة، وهي من الكثرة بحيث تملأ المركبات الكثيرة، وقد أراد الشاعر أن تترك عظامه آمنة في مثواها؛ فلعن من ينبش عنها ترابها، ووجه الخطاب إلى عمال الكنيسة وخدمتها، وهم على الأغلب الأعم شرذمة من أجهل الناس ...» •••

وليست هذه الصفحة الأخيرة بالصفحة الوحيدة التي نفهمها حق فهمها حين نفهم وليام شكسبير في قريته وبين آله وعشيرته؛ فإن السيرة كلها صفحات لا نفهم سطورها ولا ما بين سطورها بمعزل عن بيئة القرية وما احتوته من بيئة الأسرة بين جوانبها.

فينبغي أن نحضر في أخلادنا أن وليام شكسبير - في أخلاقه وعاداته - وريث أسرة ريفية حريصة جد الحرص على السمت والسمعة وكرامة الجاه على سنة أهل الريف في عصره، وأنه كان بين إخوته سليل جيل قصير الأعمار يندر بين رجاله خاصة من كان يناهز سن الشيخوخة أو يقارب الستين.

ويغنينا إحضار هذه الصفة في أخلادنا عن أسئلة كثيرة سألها المترجمون والشراح، ونظروا فيها إلى سيرته العالمية دون أن يرجعوا بها إلى سيرته في أسرته وقريته؛ فضلوا عن جوابها في متاهة الظنون، وإن جوابها لعلى منال اليد منهم لو التفتوا إليه.

لماذا هاجر من قريته؟ ولماذا توارى عن الأعين والأسماع ست سنوات أو سبعا بعد هذه الهجرة؟ لماذا كف عن الكتابة بعد الأربعين بقليل؟ لماذا ترك لندن وانزوى في قريته ولما يجاوز الخامسة والأربعين؟ من أين جاءه العلم بمراسم الشريعة وإجراءات الدعاوى ومصطلحات المحاكم والقضاة؟ ومن أين جاءه العلم برياضة الصيد وطبائع الحيوان؟

أسئلة لا يسألها من عرفه متصلا بمسقط رأسه مشاركا لآله وعشيرته في عاداته وشمائله ومعايير السمعة والشرف في نظره.

فهجرته من قريته في الموعد الذي هاجر فيه بعد أن عال وثقلت نفقته على أهله وثقلت نفقتهم عليه، وولد له في سنة الهجرة توأمان، وأبوه يخسر جاه الوظيفة وجاه التجارة في تلك السنة ولا يحسن بابنه الشاب في نحو العشرين أن يبقى كلا عليه، وباب الهجرة مفتوح على مصراعيه أمام شبان القرى والعواصم مع بعوث السلم والحرب في المشرق والمغرب.

وكما هجر قريته يوم اضطر إلى الهجرة عاد إلى الظهور يوم استطاع أن يظهر بعمل مرضي موفور الكرامة لا يخجله أن ينتسب إليه إذا استعان بمورده منه على معونة أهله.

ولقد كف عن الكتابة قبل الخامسة والأربعين، فكان قعوده عن عمله الناجح من غرائب سيرته التي لا بد لها من تأويل لا يستغربونه كما يستغرب من المؤلف الناجح هذا القعود في عنفوان قواه، فلماذا لا يكون هذا التأويل أنه لم يكتب ولم يقعد عن الكتابة، وإنما كتبت له الروايات والقصائد ومات كاتبها المزعوم فانقطع في وسط الطريق.

ولكن الخامسة والأربعين، أو نحوها، ليست بمنتصف الطريق عند من يبلغ أمده في الثانية والخمسين، وليس المضي في الكتابة بالعمل الميسر لمن يشرف على مسرحه ويشرف معه على مسرحين كبيرين له فيهما حصة الشريك وحصة الخبير بشئون التمثيل والإخراج، وقد تشغله من قبل أسرته وعشيرته أعمال تتجدد وتتكاثر عاما بعد عام، على قلة المعين وشدة العناية بمن يعولهم هنالك من صغار أو كبار.

ونجاح المؤلف في كتابة الروايات لا يعني أنه يملك باختياره أن يمضي في كتابتها إلى غير انتهاء، فربما كان الانتهاء إلى القمة غاية شوط النجاح، وربما كان المؤلف قد استنفد حاجته وحاجة عصره إلى هذا النمط من الروايات كما ظهر من هبوط منزلة المسرح بعد عهد الملكة اليصابات بقليل.

وقد أقام الشاعر في لندن ما أقام فلا نخال أن مقامه بها زهده في معيشة الاستقرار والسكينة بين أحضان الطبيعة؛ إذ كانت لندن في أوائل القرن السابع عشر تستهل عهد العظمة والصولة ولكنها كانت أبعد شيء عن الطمأنينة والدعة، وكانت تجتذب إليها طلاب المغامرة والمخاطرة وتضطرب بلواعج النزاع على مذاهب الدين ومذاهب الفكر ومآرب السياسة بين بيوت الملك وأشياع المتألبين لها من أصحاب الدولة الدائلة أو أصحاب السلطان القائم، وقد رأى شكسبير فيها مصارع خمسة أو ستة من أصدقائه النبلاء والمتأدبين، طاحت رؤوسهم أو نكبوا في مناصبهم وأموالهم، ولم يسلم صاحبه لسيستر من بينهم بعد الحكم عليه بالموت إلا لما صادفه من الحظ والحظوة في أعين الملكة التي كانت تدنيه وتقصيه على حكم الدسيسة والفتنة، ولم يسلم صديقه الشاعر مارلو من الاتهام بالكفر ولا من الاغتيال المريب مع اتصاله الخفي بعيون الدولة وجواسيسها، وليس من شأن هذه الحياة القلقة أن تصرف رجلا في مزاج شكسبير عن الحنين إلى قريته ومآلف صباه، بل لعلها عجلت بعزيمة العودة إليها وجعلت هذه الراحة أمنية من أماني النجاح في عمله، وقد يحن مثله إلى اللياذ بأحضان الطبيعة ولو لم تربطه بها مآلف الصبا وأواصر الجيرة والقرابة.

وقد تقدم أن المتشككين حسبوا من غرائب هذا القروي الذي خرج من مدارس الريف قبل أن يكمل تعليمه فيها أنه يعرف من مراسم القضاء ومصطلحات المحاكم ما تحتويه الروايات المنسوبة إليه، ولكن هذه النشأة القروية - نشأة شكسبير خاصة - أحجى أن تمنع العجب وإن كانت لا تمنع الإعجاب، فإنه نشأ في بيت يكثر فيه الكلام عن القضايا والدعاوى ويعمل أبوه في مجالسها ومنتدياتها، وما لم يعرفه من وظيفة المجلس فهو خليق أن يعرفه من عقود الصفقات والمعاملات التي سيق إليها في حالتي رواجه وكساده، وخليق بابنه الأكبر أن يزداد علما بأحاديث القضايا والذرائع القانونية بعد هجرته من القرية إلى عاصمة المملكة في عصر المحاكمات والتهم والوشايات، وهي من ضروب الأحاديث التي تطول جرائرها إلى زمن بعيد، ولا تخلو حواشي النبلاء وحلقات الأدب والفن من اللغط بها والتشدق بعباراتها وادعاء العلم بخفاياها والتشيع لهذا أو ذاك من المدعين أو المدينين فيها.

أما العلم برياضة الصيد فلا يستغرب من القروي المقيم في الريف، ولا سيما الريف الذي ولد فيه الشاعر واشتغل فيه بتربية الحيوان ورعايته على مقربة من مروج الصيد المشهورة في الأقاليم الإنجليزية، ومن عادة المشاهدين للصيد أن يشهدوه في الخلاء وعند أرباض المدن ولا يشهدوه حيث يقيم النبلاء في عمائرهم وقصورهم، ومنها ما لم يكن محجوبا عن شكسبير أيام انتمائه إلى رعاة المسرح من أولئك النبلاء.

ولنسأل ما شئنا أن نسأل عن غرائب هذه العبقرية العالمية فإننا لا نهتدي إلى جواب سؤال منها إذا ابتعدنا بها عن قريته وأسرته، ولعلنا حين نقترب بها من القرية والأسرة لا نحتاج إلى سؤال.

الرجل

ليس لشكسبير صورة مرسومة في أيام حياته، وكل ما يرى اليوم من الصور والتماثيل التي تختلف فيها الملامح والأوضاع فهو نسخ منقولة من تمثاله النصفي على ضريحه أو من صورة صنعت له بعد موته بسنوات، وهي صورة دروشوت

Droeshout

التي ظهرت في الطبعة الأولى من مجموعة رواياته وقصائده.

وصانع هذه الصورة مارتن دروشوت (1601-1650) مهندس فلمنكي نزل بلندن مع أبويه ولم تكن سنه تزيد على خمس عشرة سنة حين مات شكسبير في سنة 1616، ومضت ست سنوات بعد موته حين صنع الصورة في أواخر سنة 1622 قبيل ظهور الطبعة الأولى من المجموعة.

والمفهوم أنه استعان في استحضار ملامح الصورة برسم تخطيطي تممه بما وعته ذاكرته وراجعه فيه زملاء الشاعر وعارفوه، وجاءت الصورة على ما يظهر مطابقة لقسمات الوجه وتركيب الجسم غاية المستطاع؛ لأن بن جونسون الشاعر - أعرف الناس بشكسبير - كان يرتضيها ويلمح فيها صفات صاحبه وزميله، وقد كتب تحتها أسطرا منظومة قال فيها يخاطب القارئ: «إن هذا الرسم الماثل أمامك يحكي فيه الرسام صورة شكسبير الرضي الوديع، وإنه ليجتهد اجتهاده أن يباري الطبيعة في صنيعها، ولكنه لو استطاع أن يرسم ذكاءه كما رسم طلعته لفاقت الصورة الكتاب، فأما وهو غير مستطيع فهاك صورة ذكائه فانظر إليها في حروف هذه الصفحات ...»

وقد حاول الرسام جهده أن يودع صورته لمحات من صفات النفس كما تنم عليها ملامح الوجوه، فوضحت فيها صفات اللطف والوداعة التي قدمها بن جونسون على سائر صفاته، وبدا فيها مع سماحة الطباع شيء من الجنوح إلى العزوف والاحتجاز في غير جهامة، وشيء من الاعتزاز في غير صلف أو مناجزة، كأنها تنبيه خافت يهمس ولا يجهر، ولكنه لا يهمل ولا يأذن للناظر إليه أن ينساه.

ولا بد أن يكون شكسبير رضي الخلق حقا ليذكره بن جونسون بهذه الخصلة قبل سواها من عامة خصاله، فإن بن جونسون لم يكن بالرجل الذي يرضيه ما يرضي غيره من شمائل الطيبة والوداعة، وقد غضب مرة من أحد الممثلين فدعاه إلى المبارزة فقتله وأوشك أن يؤخذ به على أعواد المشنقة لولا سابقة له في الحرب ودالة له على بعض العظماء، وكان يلوم من يحسب إصابته بالمرض خبرا دون أخبار الزلازل وكوارث الطبيعة، وبينه وبين شكسبير منافسة قوية تثيره عليه ولا ترضيه عنه لو لم تكن سجية السماحة والمودة فيه أقوى من دوافع المنافسة والعداء، بل لا بد أن تكون المودة فيه قوة لا تقهر ولا يسهل نكرانها أو إغفالها في معترك الخصومة والمزاحمة بين أهل الفن وأصحاب المسارح ونظراء الأدب والوجاهة في العاصمة والريف، وقد ارتفع في شهرته إلى الذروة التي تغري بالحسد والغيرة في مجاله وفي غير مجاله، ولكنه لم يدع لأحد من منافسيه ذريعة للتجني عليه، ولم يستدرجه أحد قط إلى مقابلة الخصومة بالخصومة ومجاوبة الذم بالذم والوقيعة بالوقيعة، وخرج من حرب الشهرة الزبون بعدو واحد متهم في عداوته وصداقته، هاجمه عند زملائه وبالغ في إغرائهم بتصديق مثالبه وإقناعهم برأي في الرجل مثل رأيه، فلم يكن لحملته صدى غير الإعراض.

ويشاء القدر الساخر أن تبقى هذه الحملة العنيفة بعد ثلاثة قرون ليرجع إليها طلاب الشهادة لفضل الشاعر وكفايته وصدق دعواه، فهي اليوم حجة من الحجج المقنعة التي تقوم عليها سمعة شكسبير وتنتفي بها عنه شبهات الادعاء والانتحال، وتجد من ثمة مكانها في سيرته بين كفتي الثناء والانتقاص، لترجح بها كفة الثناء.

في الفصل الثالث من رواية هنري السادس التي ألفها شكسبير كلمة يتحدث فيها عن قلب نمر في إهاب امرأة، وهذه هي الكلمة التي استعارها روبرت جرين - منافس شكسبير في التأليف المسرحي - ليقول إن قلب النمر إنما هو ذلك القلب الذي يكمن في إهاب ممثل يظن أنه الوحيد الذي «يهز الستار»، ويومئ بذلك إلى اسم شكسبير الذي يتألف - كما تقدم - من كلمتين بمعنى «هزاز الرمح» ... ثم يحذر «جرين» زملاءه الشعراء من هذا الدعي الذي داخله الغرور؛ فخيل إليه أنه ينظم الشعر المرسل كأقدرهم وأبرعهم في صناعة القصيد.

ولم تكن هذه الحملة أولى الحملات التي شنها جرين على الممثلين الذين يرفضون رواياته أو يقبلونها ولا يحفلون بآرائه في تمثيلها وإخراجها وتقدير حقوقها، فإنه أطال الحملة عليهم في جملتهم وأفرد أناسا منهم بأسمائهم، وختم هذه الحملات المتواترة عليهم بحملته الأخيرة قبيل وفاته (1592) على شكسبير.

ويستوي شكسبير وزملاؤه الممثلون في حملات جرين وشكاياته، ولكنه يزيد عليهم بأنه ممثل ومؤلف وناجح في التمثيل والتأليف وملحوظ المكانة بين الممثلين والمؤلفين ، ولا لوم عليه ولا على زملائه فيما أصابهم من جرين أو فيما أصابه منهم؛ لأنه قد أصيب في الواقع من سوء فعله وخلقه وخابت آماله بعد أن تعلم في جامعة كمبردج وتخرج من جامعة أكسفورد فلم يدرك شأو النخبة المفلحين، ممن اشتهروا باسم أذكياء الجامعة ولم يدرك شأو الأدباء الذين انقطعوا للتأليف، وابتلي بداء الإدمان وعشرة المدمنين فأتلف ما عنده من قليل المال وتزوج على طمع في مال امرأته؛ فأنفق ما عندها وطردها ليعيش مع امرأة مريبة تنصب الحبائل للمخدوعين من طلاب اللعب والشراب، وقد جار المسكين على بدنه وعقله بالإدمان والإفراط، وقضى نحبه في الرابعة والثلاثين على أثر أكلة فاسدة أكثر فيها من أصناف الأنبذة والخمور، وكتب حملته الأخيرة وهو بهذه الحال من السقم والخبل والقنوط.

وأصدق ما في هذه الحملة الجائرة ما أثبته الكاتب على غير قصد منه في رسالته إلى زملائه الشعراء، فإنه لم يقصد أن يثبت أن شكسبير هو مؤلف هنري السادس وغيرها من الروايات التي تشترك معها في موضوعها، ولم يقصد أن يثبت أن شكسبير كان له عمل في المسرح غير التمثيل والإخراج، وهو كتابة الشعر المرسل ليجاري به أكبر شعراء زمانه غير قانع فيه بمنزلة التابع المسبوق حتى في سنة 1592 التي تعد من سنوات الابتداء في حياته الأدبية، ولو أن شكسبير كان يدعي روايات المؤلفين المستترين لما خفي ذلك على رجل مثل جرين يخالط المسرحيين، ويخالط أذكياء الجامعة، ويخالط المؤلفين وثراثرة المجالس الأدبية، ولا يفوته في أدوار من يوم كتابتها ونسخها وإخراجها وتلاوة مناظرها في دور التجربة وعثرات شكسبير في النطق بألفاظها أن يكشف سرها الذي لا يخفى في جميع هذه الأدوار، ولا شك أن تأليف هذه الروايات قد كان بعيدا من كل مظنة وكل واردة من واردات الخواطر حتى غاب أمره عن الحاسد الشانئ الذي يتصيد المزاعم لاتهام غريمه بالادعاء والانتحال.

فلم يقصد جرين أن يقيم هذه الحجة لتثبيت سمعة شكسبير وإدحاض التهمة عنه أو التشكيك فيها وإبعادها من ظنون التابعين كما كانت بعيدة من ظنون المعاصرين، ولكنها حجة تسبق إلى الخاطر على غير قصد من جرين وممن يقرأون حملة جرين؛ إذ ليس من اليسير على العقل أن يصدق أن ممثلا غير أهل للتأليف يفاجئ القوم بالروايات من أرفع طراز في عصره، ويدعي أنه ألفها وهو لا يحسن فهمها ولا يحسن إخراجها، ثم تفوتهم هذه المفاجأة ويستعصي عليهم أن يلحظوها وينقبوا عن أسرارها، وهي ليست مما يطول خفاؤه في رواية بعد رواية بين أدوار الكتابة والمراجعة والتوزيع والإخراج والإلقاء، وإن خفي ذلك على النظارة فلن يخفى على الممثل الخبير بصناعته وراء الستار، ولن يخفى على النبيل صاحب المسرح إذا كان المؤلف المستتر نبيلا من أقرانه يتخطاه إلى فرقته المسرحية ليعرض على يديها عملا لم يأذن به ولم يطلع عليه.

لم يقصد جرين هذا ولم يقصد كذلك أن يقول إنه كان يخاطب أناسا يعتقدون في شكسبير غير اعتقاده ويحذرهم من صاحب يركنون إليه ولا يحذرونه، ولكنهم سمعوا هذا التحذير من الممثل الذي يخفي بين جوانحه قلب نمر فلم يصدقوه، وظل أحدهم - وأكبرهم - بن جونسون يركن إلى ذلك القلب ويصفه بعد نيف وعشرين سنة بالسلامة وبراءة الخلق من النفاق والمداجاة.

ويوشك أن نتعلم من سيرة شكسبير أن عفو الثناء أدل على الأقدار وأولى بالإصغاء إليه من الثناء المقصود؛ لأن عفو الثناء حكم عام يسري بين الناس كلما خلا من التشيع والغرض، وقلما سلم الثناء المقصود من نزعة مذهب أو مسحة هوى يغلب على قائله، وإن كان من الصادقين المصدقين.

وأخلى ما يكون الثناء من الغرض الخاص حين نستخلصه من مضامين النوادر والأحاديث ولا نعلم من قاله كأنه نبت وحده من بداهة عامة لا تتوقف على وجهة شخصية أو على فكرة مذهبية، وفي هذه السيرة أشتات من النوادر والأحاديث التي جرت هذا المجرى، وجاز أن تحسبها من الإشاعات المرسلة والأساطير الموضوعة التي تدل برموزها ولا تدل بوقائعها وأسانيدها.

زعموا أن شكسبير وصل إلى لندن بغير زاد وبغير معين؛ فقاده حبه للتمثيل إلى باب المسرح، ولبث يتردد عليه بغير عمل يستطيعه في داخله، أو في خارجه، غير حراسة الخيل لمن يرتادونه من النبلاء والنبيلات، ولم يلبث غير قليل حتى لفت إليه أنظار الرواد؛ فجعلوا يسألون عنه ويتفقدونه ولا يسلمون خيلهم إلى غيره إلا إذا كرروا السؤال عنه فلم يجدوه، وتكاثر الطلب على حراسته؛ فاستعان بصبيان له يجيبون النداء عليه، ويقول حاضرهم لمن يسأل عن «ولد شكسبير»: أنا صبي شكسبير!

وليم شكسبير.

وكتب الدكتور صمويل جونسون علامة زمانه هذه القصة نقلا عن مصدرها الأول الذي ظهر في سنة 1753 ولم يرجع بها إلى مصدر قبل ذلك، ولكن النقاد من بعده تتبعوا القصة إلى مصادرها المحتملة؛ ففهموا أن راويها سمعها من صديق، عن الأسقف نيوتن، عن الشاعر بوب، عن المؤرخ راو مترجم شكسبير، عن بترتون، عن سير وليام دافنتات معاصر شكسبير، ولم يجدوا القصة في ترجمة راو كأنه استضعف سندها فلم يثبتها فيما نقله عن الرواة الثقات.

وهذه الأحدوثة قد تكون خبرا واقعا وقد تكون إحدى الأحدوثات الموضوعة التي تضاف إلى تراجم المشهورين، ولكنها تروى لتقول لنا إن شكسبير كان على استعداد بفطرته لكسب الثقة والحمد ممن يعرفونه ويعاملونه، وإن له كياسة يصحبها النجاح والتفوق فيما تصدى له من عمل وإن صغر وهان.

وهذا ما نعنيه بعفو الثناء: ثناء لا يأتي بشيء من عنده ولا يخلق الواقع الذي يثني عليه، ولكنه يكرره في صورة من صور الخيال تعلق به كما تعلق الحواشي والأهداب بالصورة التي تبعث من شهادة الحس ومن تحصيل الحاصل، فهي توحي إلى الأذهان أن تعيد أوصافها بلون من ألوان الخيال.

فالنجاح والتفوق في حياة الممثل شكسبير آية من آيات هذا الاستعداد العجيب؛ لأنه نجاح لم يحرم صاحبه حظا من الثقة والحمد بين زملائه المتخلفين عنه، ومنهم من ذهب إلى نهاية الشوط يوم كان هذا الطارئ على الفن يخطو على خشبات المسرح خطو المبتدئين المتطفلين، ولعله لم يبلغ في دور من الأدوار غاية شوطه، ولكنه لم يجهل مداه من هذه الصناعة، ولم يخطئ فيما هو قادر عليه وما هو عاجز عنه من أشواطها، فأعطاه التمثيل قصارى ما يعطيه من علمه وعمله وجدواه.

ونجح شكسبير وتفوق في منافسة أخطر من منافسة الزملاء على خشبة المسرح، وهي منافسته لأكبر الزملاء في تأليف المسرحيات، ونجاحه على الرغم من ذلك في كسب الثقة والحمد منهم، وأكثرهم قد سبقوه إلى التأليف كما سبقوه في مؤهلات الشهرة والدعوى، فمضى في التأليف قدما وتخلف وراءه أعلام مبرزون من طبقة مارلو وفلتشر وبوشي وناش ودرايتون ولايلي وبيل وكيد وبن جونسون وروبرت جرين، وفيما عدا هذا الأخير لم ينقم عليه نجاحه وتفوقه أحد من هؤلاء الأعلام، ولم نسمع من شكسبير كلمة تشف عن نقمة من هذه المنافسة أو ضيق بتكاليفها.

وليس شكسبير المؤلف بصاحب الفضل في هذه الصلة النادرة بينه وبين زملائه، فإن الإبداع في التأليف لم يكن يوما من الأيام ضمانا للحمد والثقة بين المتنافسين، وإنما الفضل لخليقة في الرجل تكسر حدة الغيرة وتفل سلاح العدوان وتوصد باب اللجاجة في الخصومة على من يفتحه بغيا عليه.

تلك - فيما نحسب - خليقة الجد والدأب مع ثقة بالنفس وشعور بالمناعة يدعوه إلى المسالمة ولا يستجيش فيه ثورة النضال ما دام في أمان من قدرته على عمله.

وخليقة الجد والدأب تشغله ولا ريب عن صغائر الكيد ولغو الفضول في غير طائل؛ لأن قرابة أربعين رواية وديوانا في نحو عشر سنوات عمل شاغل يضاعفه عمل التمثيل والإدارة وتدبير أمر الأسرة التي يعولها في أزمتها، ولكنه عمل شاغل له لا يشغل منافسيه عن الافتيات عليه وتضييع وقته، لولا عصمة من مناعته وثقة منه بنفسه وثقة منهم بفضله، وعزوف ينحيه عن طريق الثرثرة واللغط، وييئسهم أن ينالوا منه بعدوان لا يضيره ولا يسلمون من مذمته.

وربما كان للرجل شأن غير هذا الشأن لو أن رسالته في الحياة كانت رسالة دعوة إلى عقيدة جديدة أو نقض لفكرة مخالفة، أو لو أنه كان مطبوعا على مزاج الدعاة المصلحين الذين يحسون الأخطاء والعيوب في أعمال الناس وأفكارهم فلا يملكون الصبر عليها ولا يهدأون أو يزيلوها ويتجردوا ليلهم ونهارهم لتبديلها.

فإن صاحب الدعوة إلى تبديل الأفكار مدفوع إلى الغضب والإغضاب يثور على مخالفيه ويثيرهم عليه، ويصدم شعورهم وتفكيرهم ويتلقى صدماتهم لشعوره وتفكيره، وليس في مقدوره أن يتجنب النضال أو يسكن إلى حياة المسالمة أو الموادعة؛ لأن السكينة وتحريك الأفكار للدفاع والهجوم نقيضان لا يتفقان.

ومن كان مطبوعا على مزاج الدعاة المصلحين فهو منذور لحياة القلق والنضال لاعتقاده أن الإصلاح ضربة لازب وأن الشرور تنتهي على أيدي المصلحين وتنقضي بانقضاء الزمن الذي هي فيه، وربما تجرد للإصلاح وهو لا يؤمن كل الإيمان بزوال الشرور على يديه أو على أيدي المصلحين من بعده، ولكنه يتجرد لجهاده لأنه لا يطيق التوفيق بين حالته وحالة زمنه، ولا يخشى من الجهاد قلقا أشد عليه من قلق الصبر على ما يخالفه ويستثير سخطه على قومه.

أما شكسبير فلم تكن رسالته دعوة يثيرها بل كانت رسالة عمل يؤديه، فإذا صور الدنيا على صورتها فقد وفى عمله كل حقه ورفع المرآة الصادقة أمام دنياه لتصلح من أمرها ما تريد، وإذا بدا لدنياه أنها راضية عن عيوبها لم يعجلها عن هذا الرضا وتركها على مهل إلى اليوم الذي تتبدل فيه على مهل؛ لأنها لن تدوم على حال.

ولو أنه سيق اضطرارا إلى رسالة من رسالات الدعوة لما وجد في نفسه طبيعة الدعاة؛ لأنه خلق بطبيعة الحكيم المتأمل ولم يخلق بطبيعة القلق المناضل المدفوع إلى تبديل ما يخالفه من أمور زمنه، وفي وسعه أن يحيط من زمنه بخيره وشره ووفاقه وشقاقه، وليس عسيرا عليه أن يصنع الهوادة مع الحياة على علاتها كيف كانت، وكيف كان.

تتراءى لنا هذه الطبيعة فيه من موقفه بين مذاهب الخلاف في زمنه، وهو من أكثر العصور مذاهب خلاف.

كان فيه خلاف بين الإنسانيين المجددين وبين المحافظين الجامدين، وكان فيه خلاف بين البابويين والمحتجين على البابوية، وكان فيه خلاف بين البابويين في داخلهم من المسلمين بالواقع ومن المعارضين القائلين بالرجعة إلى سنة السلف الأولين ، وكان فيه خلاف بين المتطهرين أنصار الحجر والشظف وبين المترخصين أنصار الهوادة والسماحة، وكان فيه خلاف بين المدرسة التجريبية ومدرسة الفلسفة الإغريقية اللاتينية، وكان خلاف العصر في السياسة بين شيعة الأسرة الذاهبة وشيعة الأسرة المقبلة أشد من خلاف المختلفين على مذاهب الدين والعلم والفن والأخلاق.

وأين كان شكسبير من كل هذا؟ كان في حومتها وكانت كلها في ميزانه بأقدارها وأثقالها، ولم يكن هو ذاهب القرار مختل الوزن بين كفتيها.

هل كان بابويا؟ هل كان بروتستانتيا؟ هل كان منشقا على الكنيسة متبعا لنحلة من نحل المنشقين عليها؟ هل كان من المتطهرين؟ هل كان من الإنسانيين؟ هل كان على عقيدة أو كان منكرا لا يؤمن بدين؟ ...

دافيز ريتشارد القس الكاثوليكي المتوفى سنة 1506 يقول عنه إنه مات على مذهب الكنيسة البابوية، ويدون ذلك في أوراقه التي وجدت بعد موته ولم يعدها للنشر أو الدعاية. وفريب

Fripp

المتوفى سنة 1931 يقول إنه كان من الغلاة في مذهب البروتستانتية، وهو مؤرخ من مترجمي الشاعر المتأخرين ولكنه تولى أمانة التراث الشكسبيري في قريته وتخصص في إلقاء المحاضرات عنه في أندية العواصم الإنجليزية، وشمل بدراسته تراجم أصدقائه وصحبه وتاريخ ستراتفورد في جملته، وهو الذي قال عن الشاعر إنه كان أديبا موفور الثقافة واسع الاطلاع.

وغير هذين يقولون غير هذا وذاك، ولكنهم يأخذون جميعا بالقرينة والاستنتاج من سيرته وأقواله في رواياته، ولا يذكرون لنا خبرا قاطعا عن مذهب معلوم كان ينتمي إليه.

ومن أمثلة هذه القرائن أن القس الذي قام بعمادته كان من غلاة المتشيعين لمذهب البروتستانتية، وأن الشاعر كانت له صدقات لبيوت من معاهد الإحسان لا تتبع الكنيسة البابوية، ولكن القرائن من هذا القبيل لا تقطع بانتمائه إلى البروتستانتية إلا إذا قطعت بانتماء أبناء ستراتفورد جميعا إليها، إذا كان قس كنيستها يقوم بتعميد جميع أبنائها، وكانت صدقات الشاعر تعم المحتاجين إليها من أبناء القرية ولا تخص فريقا منها.

وفيما عدا هذا القرائن يرى بعض المعقبين أنه كان بابويا لأنه كان يغمز أتباع البروتستانتية في رواياته الفكاهية ويعرضهم على صورة من صور السخرية والاستخفاف، كما يلوح من صورة سيرناثنائيل في رواية «عناء الحب الضائع»، وصورة سير أوليڨر مارتكست في رواية «كما تهوى» وفي صورة سير هوج إيفانز في رواية «الليلة الثانية عشرة» إذ يقول: «لست سياسيا، وإني لأوثر أن أكون براونيا على أن أكون في زمرة السياسة!»

والبراونيون هم أتباع روبرت براون الذي كان ينكر قوامة الأساقفة، ويخول كل طائفة متعبدة أن تنشئ معبدها حيث شاءت وتختار له الوعاظ والقساوسة مستقلين عن أحبار الكنيسة ورؤساء الدولة.

إلا أن الشاعر كان يلقي على ألسنة أبطاله ما يناسبهم من القول على حسب الموقف أو على حسب مدار الحوار، وقد جعل الملك جون يقول لبندلف رسول البابا إنه لا يسمح للإيطاليين برئاسة الدين تحت سلطانه المستمد من السماء، ولما قال له فيليب ملك فرنسا: إنك تجدف أيها الأخ! أجابه معرضا بالرشوة والفساد في الوصايا البابوية!

وليس لشكسبير رأي في مذهب المتطهرين ولا في مذهب الإنسانيين على غير هذا المثال الذي يتبعه في إملاء الآراء على ألسنة المتكلمين حسب مواقفهم وأدوارهم في الروايات، وإنما المرجع إلى قرائن الرأي إن كانت فيها قرينة من لهجة الخطاب يحس منها القارئ أنه مفرغ في قالب الموافقة والارتياح أو مفروض على المؤلف بمقتضى المقام على حكم الحوار.

إلا أن قرائن الآراء في كلامه على مذهب المتطهرين ومذهب الإنسانيين لا تحتاج إلى عناء كبير في الموازنة والاستنتاج؛ لأنها غير مقصورة على المواقف في بعض الروايات، بل هي قرائن مجتمعة نستمدها من عمله كله ومن حياته كلها، ومما قاله على لسان غيره ومما لا حاجة به إلى قول.

فهو لا يذكر المتطهرين بأسمائهم ولا يذكر مذهبهم باسمه، ولكنه ينعتهم بصفاتهم ويومئ إلى مبادئهم وتقاليدهم، ويكاد يستدعيهم إلى المسرح ليطردهم منه على عجل مشيعين بنظرات الضجر والاستخفاف، ولا حاجة إلى هذه الأقوال المعترضة لاستخلاص رأي الشاعر في هذا المذهب وفي غلاة أتباعه من أبناء عصره، فإن الرجل الذي يدين بمذهب المتطهرين أو ينظر إليه نظرة العطف والإغضاء لا يقضي حياته في المسرح بين قراءة وتمثيل وتأليف وإدارة وإشراف، ولا يستطيع التوفيق يوما واحدا بين رسالة حياته ورسالة القوم الذين يتحرجون من رؤية المسرح بين أسوار المدينة ويلحقونه بالحانة والماخور وبؤرة الفساد.

ولم يذكر الشاعر مذهب الإنسانيين باسمه، ولكنه ذكر الإنسانية وآدابها في مواطن متفرقة تنصرف إلى معناها في مذهب الإنسانيين، وقال في رواية «هنري الرابع»: «لو كان لي ألف ولد لعلمتهم أول مبادئ الإنسانية.» وتحدث في رواية «هملت» عن الذين يحاكون الإنسانية محاكاة بغيضة، وقال في مواقف السخط برواية «عبد الله»: «إنني آوي إلى مسلاخ القرد بديلا من هذه الإنسانية ...» وجأر بصيحة كهذه الصيحة في رواية تيمون.

على أن الشاعر في غنى عن كلام يقوله بلسانه أو لسان غيره لنعلم منه أنه «إنساني» في عقيدته وتفكيره، فإنه يؤمن بكل ما احتواه المذهب من عقيدة أو فكرة إذا آمن بإحياء الفنون والإقبال على الحياة وعرف حدود الطبيعة الإنسانية، وهو من ثم أكبر من مؤمن بالمذهب وأكبر من مستجيب فيه إلى دعوة السابقين إليه: هو ركن من أركان النهضة الإنسانية يقيمها بعمله وسيرته وإن لم يشرحها بحجته وبيانه، وهو ظاهرة من ظواهر هذه النهضة قد أظهره في عصره ما أظهرها في عصرها، وتقاس به كما يقاس بها في تفصيل مقدماتها وأطوارها.

ونرى أن النهضة الإنسانية تقاس به قبل أن يقاس بها؛ لأنه يحتويها ولا تحتويه كله في عقيدته وتفكيره، ولأنه يمضي معها إلى حدودها الصالحة ولا يجاوزها إلى ما وراءها، وهو القائل بلسان هملت: «إن في السماء والأرض أمورا أعظم مما تحمل به فلسفتك يا هوراشيو ...» وهو الذي بلغ بالإنسانية إلى قرارها حيث يتمنى الإنسان أن يستبدل بها مسلاخ القرد، وحيث يصبح الإنسان إنسانا زائفا بالمشابهة والمحاكاة.

وهكذا يصدق طبعه في موقفه من فلسفة الإنسانيين كما صدق طبعه في مواقفه من مذاهب المتطهرين والبابويين والمنشقين والبروتستانت أو المحتجين على اختلاف الدعاة وأسباب الاجتماع، فهي كلها في ميزانه بأقدارها وأثقالها، وليس هو بالحائر المضطرب بين كفتيها، وهو يلمح ما يؤخذ عليها ويردد هذه المآخذ بألسنة خصومها، ولا يلزم من ترديدها أن يقرها على علاتها ، ولكنه يلقيها بلسان غيره عن علم بها ثم لا يفوته أن يميز بين لبابها وقشورها.

ولم نعلم من كلام شكسبير أنه كان مطلعا على كتب دينه وأنه يكاد يستظهر أسفار العهدين القديم والجديد بحروفها، ولكننا نعلم هذا من أسلوبه ومن تركيب عباراته لأنه يشبه تركيب الجمل في نصوص الترجمتين: ترجمة القرن السادس عشر التي ظهرت قبل مولده بخمس سنوات، وترجمة القرن السابع عشر التي ظهرت قبل وفاته بعشر سنوات، واطلاعه على هذه النصوص اطلاع من يفهم ويحفظ ويضع الشاهد الموافق في مكان الحاجة إليه. •••

ونحن إذا قلنا بعد هذه التقديرات إننا نعلم القليل عن عقيدة شكسبير على سبيل اليقين، فقد قلنا الكثير عن طبيعة الرجل وتكون مزاجه، وهما سبب السؤال عن عقيدته يوم كان الناس يقذفون بعقائدهم في وجه من يسأل عنها ومن لا يسأل، وناهيك بزمن كان يتوسط النهضة بمنازعاتها في الدين والعلم والسياسة، ويفتتح الثورة التي ثلت العروش وطاحت برؤوس الملوك في وطنه وإلى جوار وطنه وفي العالم الجديد بين أبناء جلدته ومن عاش معهم من ورثة النهضة والإصلاح.

في ذلك الزمن كان صاحب المعتقد يأخذ بتلابيب الناس ليعلنهم برأيه ويقسرهم عليه، وها هنا رجل يعرف من دعوات زمنه وعيوب أهله ما يجهله الكثيرون ويكتب ما لم يكتبه أحد قبله ولا بعده عن طبائع الناس وحقائق الحياة، ونسأل عن عقيدته فنبحث عنها في طوايا كتبه ولا نعلم منها غير القليل من طريق الظن والتقدير.

لو كان لا يعلم ولا يعمل لأمكن أن يقال إنه جاهل لا يدري ما حوله، ولما احتاج أحد في أمره إلى سؤال.

ولكنه يعلم ويعمل، فإن جهلنا اليقين من عقيدته فليس اليقين من تكوين مزاجه بمجهول: إنه مزاج رجل يعرف رسالته فيعكف عليها، ويفرغ للجد والدأب في أدائها على وجهها.

إنه رجل يغلب فيه مزاج الحكيم المتأمل على مزاج الثائر الغيور، وشفيعه إلى وجدانه وضميره أنه ينظر إلى جانب هنا وجانب هناك، وأنه لا يرى بينهما موقع الفصل بين الخير والشر ولا قضية الحياة والموت في مشكلات الماضي والحاضر، ومن ورائها مشكلات الغد المجهول.

وندع المفاضلة بين المزاجين لموضعها من كتب الأخلاق وعلم السلوك، ونكتفي هنا بأن نقول إن الفضل لأحدهما على الآخر لا يطرد على إطلاقه في كل قضية وكل آونة، فرب قضية تكون فيها الحكمة جبنا لا يغتفر، ورب قضية في آونة أخرى تكون فيها الحكمة فريضة لا هوادة فيها، ومناط الفصل بين المزاجين في هذه السيرة أن نسأل من يطالبون الشاعر بمزاج غير مزاجه ويوجبون عليه حمل السلاح غيورا ثائرا: في أي جانب يريدون منه أن يحمل سلاحه؟

لقد كان موقفه بين الجوانب موقف المؤمن الذي لا تؤويه حظيرة من حظائرها، وكان يؤمن بعظمة الله وعظمة هذا الكون الذي تغيب أسراره في سمائه وأرضه عن فلسفة الحكيم ومعرفة العليم، وكان يأخذ على كل نحلة من نحل العصر مواضع الهدة فيها، ولا يبرئ إحداها من سوء المغبة ولا ينوط حسن المغبة بسواها، ففي أي جانب منها يحمل سلاحه وإلى أي جانب منها يسدد ذلك السلاح؟

إنه صنع في حياته ما كان عليه أن يصنعه لو أنه عاد إلى الحياة بعد ثلاثمائة سنة، وهذه المئات الثلاث من دورات الفلك هي مسافة السبق بين وعي العبقرية الخالد ووعي السالف العابر الذي يغمره غبار المعركة فترميه ضجة هنا وتتلقاه صيحة هناك، وتنقضي حملته ولما ينكشف للمعركة غبار. •••

ويبدو أن قوام هذا المزاج الناجح الرضي كان صفة لا يظن لأول وهلة أنها تساعد صاحبها على كسب النجاح والرضا، وهي صفة العزوف.

وغير بعيد أن تكون صفة العزوف قد ساعدته في حياة الفكر كما ساعدته في أسباب المعيشة ومعاملة الناس؛ لأنها يسرت له أن يقف موقف الحيدة بين أبطاله وشخوص رواياته، فاستطاع أن يعطي كل شخص من أولئك الشخوص وجهة النظر التي تناسبه في الرواية وأن يلقي على لسانه كلامه الذي يطابق تلك الوجهة دون أن يتخلله بكلام المؤلف على حسب تفكيره وشعوره.

والعزوف - كما أسفلنا - صفة لا يظن لأول وهلة أنها تساعد صاحبها على النجاح وكسب رضا الناس، لولا أن العزوف في نفس متعددة الجوانب غير العزوف في النفوس الضيقة التي يستوعبها جانبها المحدودة فلا تتسع لغيره، إن العزوف في نفس قادرة على الاشتغال بمختلف الشواغل يلهمها أن تدع الناس وما يعنيهم وتتفرغ لما يعنيها من أعمالها، ومن عزف عن الناس فمن اليسير عليه أن يقول «لا يعنيني» وأن يجعل هذه القولة شعاره في علاقاته بغيره وسياسته لنفسه، وليس أيسر من كسب رضا الناس بهذا العزوف، ولا أقرب إلى النجاح ممن يعكف على شأنه ويصدف عن الفضول في مطالبه وأحواله.

ومهما يكن من أثر هذه الصفة في نجاحه بين زملائه فلا ريب أنها أكسبته ذلك السمت الرصين الذي كان يضمن له الكرامة في كل بيئة يتصل بها ويعيش بين ظهرانيها على قدر ورفق، فلا تمله ولا تنظر إليه نظرتها إلى المقتحم المتطفل عليها.

وكرامة الطبع هي التي خولته كرامة اللقب؛ لأنهم رأوه في بيئة الألقاب أهلا لحلة التشريف التي توجب لصاحبها أن يلقب بلقب السيد أو الجنتلمان، فكان سيدا بأدبه قبل أن يكون سيدا بلقبه، وتيسر له أن يدرك اللقب الذي لا يدركه كل من سعى إليه، وقد كان المتأدبون من نبلاء عصره يقربونه ويستقبلونه في مجالسهم بين خاصتهم وعشرائهم، وارتفعت منزلته في بلاط الملكة اليصابات فشملته برعاية أكبر من رعاية الفنان المستحسن على المسرح، واقترحت عليه تأليف الأدوار التي تحب أن تراها ممثلة على مسرح القصر، ومنها دور فلستاف في موقف غرام.

ولم يعرف في تاريخ ملوك الإنجليز أن أحدا منهم كتب بيده خطاب إعجاب إلى ممثل مؤلف غير شكسبير، فقد كتب له جيمس الأول خطابا خاصا لم يعهد إلى أمناء حاشيته أن ينوبوا عنه في تسطيره، بل سطره بيده، وظل الخطاب محفوظا إلى سنة 1870 ثم ضاع ولم يظهر له أثر بعد ذلك، ولكن الأستاذ هسكث بيرسون

Hesketh

يروي عن اللورد بمبروك

أن جده رآه واطلع عليه، وأن عمة من عماته عاشت إلى سنة 1920 رأت الخطاب في صباها.

وجدير بالملاحظة أن شكسبير لم يحفظ هذا الخطاب ، وإنما حفظه سير دافنانت

D’Avenant (الذي قيل إنه ابن غير شرعي لشكسبير)، ووردت أول إشارة إليه في تقديم قصائد الشاعر في طبعة لنتوت

Lintot

التي ظهرت سنة 1709 نقلا عن الدوق أڤ بكنجهام.

ويلاحظ كذلك أن الشاعر لم يذكر في رسائله ولا في أقواله المحفوظة شيئا عن حظوته في البلاط الملكي ولا عن عطف الملكة اليصابات والملك جيمس عليه، ولكننا نعلم ذلك من أبيات للشاعر بن جونسون يتحدث فيها عن بجعة نهر أڨون الحلوة التي ترفرف على نهر التاميز وتروق رفرفتها أعين اليصابات وجيمس، وموضع الملاحظة في سكوت شكسبير عن هذه الأحاديث أنه لا يعنى بالحظوة الملكية ولا بالمكانة المرعية بين علية القوم لأنه يفخر بها فيدل بها على أقرانه، وإنما يطلبها ليصون كرامته ثم لا يبالي متى صينت له هذه الكرامة أن يغض بها من كرامة الآخرين، وليس بالمستغرب من هذا العزوف السليم أن يكسب صاحبه الرضا؛ لأنه يفل سلاح الحسد ويكسر شوكة الغيرة.

تلك صورة جلية من تلك الشخصية تخرجها لنا البداهة من الواقع الثابت الذي لا عمل فيه للسماع والرواية، ونعتقد أن مترجم شكسبير في حل من قبول السماع والرواية فيما يطابق تلك الصورة البديهية؛ لأن لسان الحال يطابق فيها لسان المقال، وقد يعرض الشك للرواية المسموعة في جيل بعد جيل الشاعر على ألسنة مجهولة السند متناقضة الخبر، ويضيق مورد الشك في صفة تمليها البداهة ويؤيدها السماع.

كان أقدم مترجميه أوبري

Aubrey (1626-1697) قد ولد بعد وفاته بعشر سنين، وكان رحالة طلعة يتنقل بين البلدان والأندية ويتلقف النوادر والغرائب من أفواه الثقات وغير الثقات ويسرع إلى تدوينها جزافا في دفتره بإسنادها إلى رواتها ممن صادفهم في حله وترحاله، وكان إذا أولع بترجمة يحبها يتحرى مواطن السؤال عنها ولا يخطئه التوفيق في اختيار مراجعها، وكان على ولع شديد بسيرة شكسبير؛ فبحث عمن عرفوه أو عرفوا أحدا من أقرانه وعشرائه، وأجدرهم بالتعويل عليه ابن بيستون

Beeston

الممثل المشهور الذي كان زميلا لشكسبير في فرقته وجليسا له في أوقات فراغه، وجملة ما رواه عن صفاته وعاداته من هذه المراجع أنه «كان وسيما مليح المنظر، حسن المجالسة جدا سريع الخاطر جدا، وديعا ودودا ظريف الفكاهة، وكان من عادته أن يزور قريته مرة كل عام في أيام مقامه بلندن، ومن أصحابه المعدودين توماس شدويل

Shadweel

الممثل الفكاهي النابغ، وهو يذكره، فيقول: إنه خصب الذهن، فياض القريحة، يفوق زملاءه من كتاب المسرحيات ولم يكن من عادته أن يمحو سطرا مما يكتبه. ويعقب بن جونسون على ذلك فيقول: وددت لو أنه محا ألف سطر! وستعيش ملهياته ما بقي قارئ يفهم الإنجليزية.»

ولم يرد في كلام أوبري شيء عن عاداته وملاهيه في غير مجالس المسامرة، ولكن سير والتر رالي

Raleigh

مترجم شكسبير في القرن التاسع عشر يعتمد على مسرحيات شكسبير وعلى الذكريات المنقولة، فيقول عنه إنه كان يشترك في رحلات الصيد ويتقن من هذه الرياضة ملاحقة الطرائد واستخدام البزاة.

ويتوسط بين أوبري ورالي في الزمن مترجم معجب بالشاعر كان يتولى رعاية الكنيسة بقرية ستراتفورد من سنة 1662 إلى سنة 1681، ويتتبع أخبار الشاعر من كبراء السن فيها، وذلك هو القس جون وارد

Ward

جد السيدة سيدون أعظم الممثلات في أدوار شكسبير، وهو يسرد من تلك الأخبار أشتاتا متفرقة لا يسندها إلى مرجع معروف ويختمها بقوله: «إن شكسبير ودرايتون وبن جونسون اجتمعوا في مجلس طرب وأكثروا من الشرب على ما يظهر؛ لأن شكسبير مات بالحمى التي أصابته بعد ذلك.»

وليس الغريب في هذا الخبر أن شكسبير يشرب مع زملائه، فإنه لم يكن بدعا في عادات العصر بين قومه ولا بين زملائه، ولم يكن من طائفة المتطهرين التي تدين بالحمية في الطعام والشراب، ولكن الغريب أن يفرط في معاقرة الخمر حتى يقضى عليه من جرائها؛ إذ لا يعقل أن يفرط الرجل في الشراب ويفرغ للعمل الذي أتمه في الكتابة والتمثيل وإدارة المسرح وتدبير شؤون الأسرة في مقامه بلندن ومقامه بقريته، وأن يحدث منه ذلك بعد أن جاوز الخمسين.

ونحسب أن القس جون وارد عجب من أن يقضي الشاعر نحبه في الثانية والخمسين بغير علة معلومة ولا حادث طارئ، فعلل موته بإصابة عارضة من حمى الشراب، وما كان للقس أن يعجب لموت بطله قبل علو السن لو قابل بين عمره وأعمار إخوته وأبنائه، فإنه نبت في قوم قصار الأعمار وأحس وطأة الموت وهو في الثلاثين كما جاء في موشحته الثالثة والسبعين، وختم حياة العمل والاغتراب عن موطنه في نحو الخامسة والأربعين، فإذا كان للشراب أثر في التعجيل بأجله فلا حاجة إلى الإفراط فيه لتقصير هذا العمل القصير. •••

وبعد، فنحن نقنع من الأخبار والقرائن بهذه الصورة الصغيرة «للإنسان» شكسبير؛ لأننا لم نعثر بصورة له تغنينا عنها، وهي على الجملة صورة صغيرة مجردة من الألوان الواضحة، ولكنها على صغرها ونصول ألوانها صادقة الشبه واضحة الخطوط، وقد نحصر خطوطها الواضحة في كلمتين حين نقول إن «الإنسان شكسبير» هو القروي العالمي الذي نفهمه كلما فهمنا العالم الذي عاش فيه والقرية التي نبت منها ولم ينقطع عنها حتى عاد إليها.

فلا تتم في أخلادنا صورة «الإنسان شكسبير» إلا إذا عرفنا أنه عاش في عالم الكشوف الذي تراجعت حوله حدود المجهول في الأرض والسماء وفي أغوار الطبيعة الإنسانية، وإن أهم هذه الكشوف لهو هذا الكشف عن طبيعة الإنسان فيما يغنينا من ملكات الرجل الذي تقوم رسالته على تصوير مئات من الرجال والنساء يمثلون الطبائع على خيرها وشرها، ويتقاربون أو يتباعدون على ضروب من العلاقات قلما تغيب عنها علاقة بين إنسان وإنسان.

ولا تتم صورة العبقري العالمي بغير تلك الخطوط التي ترتسم بها سمات القرية بناحيتها الطبيعية وناحيتها الاجتماعية في تلك العبقرية الخالدة، فإن القرية هي التي ترسم لنا من صورة شكسبير الإنسان ملامح السمت والحرص على السمعة وتوجيه خلائق الجد والدأب إلى غايتها في القرية بين غايات الفن والشهرة، وقد تفسر لنا هذه الخطوط القروية خفايا السنوات المجهولة فنرضى عن تفسيرها؛ حيث يتركنا كل تفسير عداه متطلعين إلى سؤال لا جواب عليه.

فلا لغز في اختباء شكسبير بضع سنوات يشتغل فيها بالتمثيل منزويا عن عشيرته الأولى قبل أن ترتفع عنه معابة الاشتغال بهذه الصناعة، وقبل أن يحمد من أسرته مغبة الانتساب إليها.

وما من غرابة في هذا المسلك تلجئنا إلى طلب التفسير؛ لأنه المسلك الذي لا مسلك سواه بين يديه، ولا فكاك منه للفنان المطبوع الذي ولد قرويا ومات قرويا ولم تصرفه المدنية ولا العالم عن أحضان الطبيعة في قريته بين مآلف صباه ومعاهد آله وعشيرته.

فلم يكد يفرغ من حق المدنية والعالم عليه حتى عاد إلى القرية التي أعطته حياته الأولى ليعطيها بقية حياته.

الفنان

يقول روبرت جرين في هجائه لشكسبير إنه دعي يخيل إليه أنه هزاز الستار غير مدافع في أنحاء البلاد، وأنه من أجل ذلك يحسب أنه قادر على قرض الشعر المرسل كأبدع ما يبدعه فحول الشعراء في زمانه.

ولا ننظر هنا إلى نية روبرت جرين في مقاله، وإنما نستدل منه على اعتداد شكسبير بصناعة التمثيل كاعتداده، بصناعة التأليف ونظم القصيد، وربما لزم التنبيه إلى ذلك في العصور المتأخرة؛ لأن شكسبير قد كاد أن ينفرد بعظمة التأليف المسرحي بين نظرائه الذين سبقوه في الزمن أو لحقوا به إلى هذا العصر الحديث، حتى صغرت في أعين الناس كل شهرة غير شهرة التأليف تضاف إليه.

ومن الراجح أن شكسبير الممثل لا يفوق نخبة الممثلين كما فاق المؤلف شكسبير نخبة المؤلفين، إلا أننا لا نرى من أجل ذلك أن عنايته بالتمثيل كانت أقل من عنايته بالتأليف، فإن العناية بالشيء والقدرة عليه لا تتلازمان، وقد تكون القدرة العظيمة كافية لإتقان العمل بقليل من العناية، وقد تعظم العناية كلما صغرت القدرة ولم تأت وحدها بالكفاية من الإتقان، فإذا احتاج الشاعر إلى الجهد في إحدى صناعتيه فلا جرم يكون التمثيل أحوج الصناعتين منه إلى الجهد والاكتراث، ويكون الاعتداد به - كما قال جرين - أظهر من اعتداده بمجاراة الشعراء في النظم والتأليف.

وقد وجد في عصر شكسبير ممثلون تخصصوا للتمثيل ولم يشتغلوا بالكتابة للمسرح، ووجد فيه كتاب مثلوا الأدوار في الأدب القديم أيام دراستهم بالجامعات، ثم تخصصوا للتأليف ولم يأنسوا في أنفسهم القدرة على تمثيل الأدوار في رواياتهم ولا في غيرها من روايات زملائهم، ومنهم من تصدى للتمثيل ثم عدل عنه وأسند إلى الممثلين المنقطعين للمسرح تمثيل الأدوار التي يريد لها النجاح، وقد كان بن جونسون يشتغل بالتمثيل ويسند إلى شكسبير بعض الأدوار المختارة كما صنع في رواية «كل على هواه»

Everyman in his humour .

ولهذا يحاول جرين أن يوغر صدور الشعراء على الممثل الذي يسلمون له قدرته في التفرق بصناعته عليهم، فيقول لهم إن نجاحه على المسرح يغريه بالتطاول عليهم في صناعتهم، ويوقع في روعه أنه يضارعهم، إن لم يكن يفوقهم في نظم الشعر المرسل، وهو الشعر المأثور يومئذ لتأليف المسرحيات.

ويروي «أوبري» - الذي ذكرناه في الفصل السابق - أن شكسبير «كان حسن التمثيل جدا.» ويقول «راو

Rowe » إنه كان يمثل دور الطيف في رواية هملت، وهو من أسهل الأدوار في العصور الحديثة بعد ابتداع وسائل الإضاءة الطيفية، ولكنه من أصعب الأدوار في العصر الذي تعودوا فيه التمثيل بالنهار على مقربة من النظارة وعلى غير استعداد في أدوات العرض والإخراج التي تشبه مناظر الأجسام الآدمية بمناظر الأطياف.

ويروي أولديز

Oldys (1696-1761) في تعليقاته التي اقتبست في طبعة شكسبير سنة 1778 أنه كان يمثل دور آدم في رواية «كما تهوى» ويدخل إلى المسرح بلحية طويلة متهالكا من الضعف يوشك أن يسقط من فرط الإعياء في طريقه إلى المائدة، وقد نقلت هذه القصة عن رجل يقال إنه أخ صغير لشكسبير كان يزوره بلندن ويحضر تمثيله ولا يدري ما اسم الدور أو اسم الرواية التي تحدث عنها، ولكنها عرفت من وصفه للدور الذي رآه في إحدى زياراته، وكاد أن ينساه في شيخوخته الباكرة.

وقد ظهرت في حياة شكسبير مسرحية باسم «العودة من البرناس أو جبل الآلهة» يومئ فيها المؤلف إلى الزميل الذي كان يبز أساطين القلم في تصوير الأدوار وتمثيلها؛ لأنهم يرسلون أدوارهم مشبعة برائحة المكتبة ويرسلها «الزميل الممثل» كما خلقها الله في غير كلفة.

ولا يبدو أن شكسبير قد تخصص في فن من فنون التمثيل ذلك التخصص الذي يغلب على صاحبه فيقصره على طائفة من الأدوار لا يصلح لغيرها، فلم يشتهر كما اشتهر بعض زملائه بالأدوار الهزلية أو أدوار الفواجع ولم يضارع ملوك الفكاهة أو ملوك الفاجعة من أولئك الزملاء الذين شاركوه وشاركهم في فرقة واحدة، ولكنه كان - على ما يظهر - ينتقي أدوار الشخصيات حيث كانت في روايات الفكاهة أو روايات الفاجعة، فلم يحسب في طائفة خاصة من طوائف الممثلين، ولم تكن تلك الطوائف مجهولة بأقسامها وفروعها، كما يفهم من تقديم الممثلين إلى «هملت» على حسب أدوارهم التي يتقنونها خالصة في بابها، أو مشتركة بين سائر الأبواب. •••

وإذا كان المؤلف الأوحد لم يتبوأ مثل هذه المكانة على خشبة المسرح فلا يزال كثيرا على المبتدئ أن يتقن ما أتقنه من صناعة التمثيل في ثلاث سنوات أو أربع على فرض اشتغاله بالتمثيل والتأليف معا منذ هجرته إلى لندن إلى السنة التي أغلقت بها المسارح (1593) لاتقاء عدوى الطاعون. وهو أمر مشكوك فيه؛ لأن قبول المبتدئ في المسرح يقتضي قبل ذلك على الأقل أن يلوذ بأحد النبلاء ليحصل على تزكيته وأن يبتدئ عمله فترة من الوقت بمناداة الممثلين في أدوارهم على حسب عاداتهم في تدريب الناشئين بمسارح تلك الأيام.

وقد لاح لبعض المترجمين أنها مفارقة تستدعي بحثا وتوضيحا، واعتقدوا أن خبرة شكسبير بالمسرح بدأت قبل هجرته إلى لندن بمشاهدة التمثيل في قريته عن كثب، وتتبع فريب

Fripp

أمين متحفه تواريخ زيارات الفرق التمثيلية لقرية ستراتفورد منذ طفولة الشاعر؛ فتبين له من التنقيب في دفاتر القرية ودفاتر المسارح أن ستراتفورد كانت من القرى المقصودة لتمثيل الروايات القديمة والحديثة في القرن السادس عشر، وأن أهلها كانوا على خلاف أبناء الريف في القرى الأخرى يرحبون بالفرق التمثيلية ولا يتحرجون من شهود الروايات المتنوعة على سنة المتطهرين ومن اتبع سنتهم من المعارضين لمذهب الإنسانيين، ويؤخذ من بيان فريب أن الفرق الكبرى زارت ستراتفورد أكثر من عشرين زيارة بين سنة 1569 التي بلغ فيها شكسبير سنته الخامسة أو السادسة إلى أن فارق القرية حوالي سنة 1587، ومن هذه الفرق الكبرى فرقة ليسستر التي عمل شكسبير في مسرحها وكتب لها كثيرا من رواياته.

ففي سنة 1569 زارت القرية فرقة الملكة وفرقة ورسستر في سنة 1573 زارتها فرقة ليسستر في سنة 1575 زارتها فرقة وارويك وفرقة ورسستر، وفي سنة 1576 زارتها مرة أخرى فرقة ليسستر وفرقة ورسستر، وفي سنة 1579 زارتها فرقة سترانج، وفي سنة 1580 زارتها فرقة دربي، وفي سنة 1581 زارتها للمرة الرابعة فرقة ورسستر وفرقة بركلي، وفي سنة 1582 عادت فرقة ورسستر فزارتها للمرة الخامسة، وفرقة بركلي فزارتها للمرة الثانية، وفي سنة 1583 زارتها هذه الفرقة للمرة الثالثة، وزارتها كذلك فرقة شاندوز، وفي سنة 1584 زارتها فرقة أكسفورد وفرقة ورسستر للمرة السادسة وفرقة أسيكس معها، وفي سنة 1586 زارتها فرقة غير مذكورة باسمها، وفي سنة 1587 زارتها فرقة الملكة للمرة الثانية، وفرقة أسيكس للمرة الثالثة وفرقة ليسستر كذلك للمرة الثالثة وفرقة غير معروفة وفرقة ستافورد، وفيها ممثلون اشتركوا في فرق شتى.

وتبين لأمين المتحف من تنقيباته المتلاحقة أن الممثلين تارلتون وكيمب أقدر الممثلين الهزليين في ذلك العصر زارا الإقليم مع فرقة الملكة صيف سنة 1587 وكانا زميلين بعد ذلك لشكسبير في تلك الفرقة.

وكان جون شكسبير - والد وليام - يستقبل تلك الفرق ويشرف على تصديق الرخص والطلبات التي تفرض على الفرق التمثيلية في رحلاتها خارج العاصمة بحكم وظيفته في المجلس ورقابته على المعاهد والأندية الخاضعة لإشرافه، فإن لم يكن في مقدمة النظارة من وجهاء القرية فهو - بحكم الوظيفة - وثيق الصلة بالمسرح في الشؤون التي تعني النظارة وغير النظارة من أبناء قريته، وقد كان من عادة القوم يومئذ أن يصطحبوا أبناءهم إلى معاهد التمثيل وبخاصة في القرى المتوسطة التي تتشوف إلى ملاهي الحاضرة وترحب بمقدمها؛ لأنها فرجة نادرة وفرصة حسنة للتنافس بين المتفرجين في المظاهر الاجتماعية، فلا بد أن يكون شكسبير الصغير قد شهد التمثيل من طفولته إلى شبابه، وحضر في أكثر الفرق رواية من رواياتها المتنوعة، إن لم يكن قد حضر جميع رواياتها ونظر إلى جميع ممثليها في أشهر الأدوار يحذقونها.

وربما شهد الطفل الصغير رواية واحدة تتكرر أمامه سنة بعد سنة، وينمو في أيامه فينمو في فهمها والإحساس بمعانيها ومناظرها على مراحل العمر من السادسة إلى الحادية أو الثانية والعشرين.

وربما تسنى له أن يشهد الدور الواحد يمثله نخبة من أقطاب المسرح كل منهم على طريقته ووفاقا لمذهبه في إخراجه وإلقائه، فاستطاع أن يختار له طريقة من تلك الطرق يخصها بإعجابه، واستطاع أن يعرف للإعجاب أسبابا تلائم ذوقه وتفكيره، ثم خرج من ذلك كله بخطة يتبعها فيما يحاوله من اقتدائه وابتكاره.

وربما قرأ المنظر في مختاراته المدرسية ورآه على المسرح معروضا بأزياء المسرح وهيئات الإخراج والتحضير، فأدرك الفوارق الخفية بين المطالعة في المدرسة والأداء على المسرح، وتعود أن يقرأ لنفسه ويمثل لنفسه وهو يقلب صفحات الكتاب ويستوعب قصائد الغناء والإنشاد.

وربما احتوته جمهرة من النظارة بعد جمهرة تشاكلها حينا وتخالفها حينا، فلمح على وجوهها دخائل نفوسها، وفطن من أطوارها لمكامن أهوائها ومواطن التجاوب بينها وبين المسرح، وبين المسرح وبينها، وانساق معها تارة وانعزل عنها برأيه وشعوره تارة أخرى، وسمع من تعليقاتها في البيوت والمجالس ما يقره وما لا يقره وما يتعلم منه وما ينكره لسخفه وسذاجته؛ فاستفاد من طول التجربة خبرة بطوائف النظارة تنفعه عندها وتنفعه في فنه، وتغريه بمراس ذلك الفن الذي طالما بهج به وأحس القدرة عليه.

ولا حاجة في القرن السادس عشر إلى تلمذة للمسرح أتم من هذه التلمذة ولا أطول منها في أمدها وأوفر منها في تنويعها؛ إذ كانت التلمذة كلها في ذلك القرن تلمذة إعداد بالمحاكاة والاقتباس، وكان زاد الفن من بقايا القرون الوسطى قليلا من القواعد العامة منقولة على السماع من أصول الخطابة والبلاغة عند قدماء اليونان والرومان، أو منقولة بالدراسة في معاهد العلم من أقوال أرسطو وخلفائه، وقلما وصلت على صحتها إلى أسماع الممثلين ومديري المسارح المحترفين، ولعل شكسبير قد جمع القواعد النظرية التي كانت شائعة يومئذ فيما قاله على لسان هملت من حديثه مع الممثلين أو مناجاته لنفسه، وهي تتلخص في صدق المحاكاة للملامح وترك التكلف في الأداء واجتناب التهويل بالصياح والجلبة وضرب القدم والتلويح باليد ، وما إلى ذلك من الوصايا التي لا ينتفع بها من يغفل عنها ويحتاج فيها إلى وصية معادة.

والمعلوم عن ممثلي ذلك العصر أنهم كانوا يخلقون فنهم على أيديهم، وأنهم كانوا يفتتحون طريقهم غير مسبوقين إليه؛ لأنهم كانوا يمثلون على مسرح جديد في بنائه وتبديل مناظره، ويخاطبون جمهورا لم يخاطبه الممثلون من قبلهم في عهد اليونان أو عهد الرومان، ويرتبون المواقف والمناظر - بل الأدوار والأقوال أحيانا - على وفاق الحركة المستطاعة فوق المسرح وفي مواعيد التمثيل، ولا مناص للممثل على ذلك المسرح من استخدام الكلام والحركة للدلالة على المواقيت والمواقع وتعويض النقص في أدوات المسرح بحماسة الشعر أو حماسة الحوار أو بالإكثار من الجمل المعترضة التي توحي إلى النظارة ما يستوحونه اليوم بنظرة عاجلة في غير جهد من الممثلين.

فالمسرح في العصر الحديث يستعين بالوسائل الآلية على تذليل صعوبات الإضاءة وتبديل المناظر والدلالة على الأوقات والأماكن وتحريك الأدوات، ولكن هذه الصعوبات كانت في القرن السادس عشر عصية التذليل يتركونها أو يلقون عبئها على الممثل ليحتال عليها بما يدخل في دوره من كلام أو إيماء.

وكانوا يقيمون المسارح العامة مكشوفة بغير سقوف ويمثلون بالنهار في المكان الأوسط من مقاعد النظارة لتيسير الرؤية والسماع عليهم في جوانب الدار، ويقول الممثل شيئا في عرض الكلام ليدل على مواسم السنة أو ساعات الليل، وقد يكتفون بوضع مصباح مشعل للدلالة على أوقات الظلام، أو يستعينون بالشعر الوصفي لاستجاشة عواطف النظارة وتصوير بهجة الربيع أو جهامة الشتاء، ويسري أثر هذه الصعوبات المسرحية إلى أسلوب التأليف؛ فتكثر فيه الجمل المعترضة وعبارات الكناية والاستطراد التي نحسبها اليوم من الحشو والفضول، وهي في ذلك العصر من ألزم اللوازم للإبانة عن أغراض المؤلفين وأدوار الممثلين، وقد يكثرون من المناجاة المنفردة فلا يستغرب السامعون ذلك كما يستغربونه اليوم، وإنما يرجع هذا الاختلاف في التأليف إلى اختلاف وضع المسرح في القرن السادس عشر ووضعه في العصر الحديث؛ لأن المسرح الحديث في مكانه المستقل قائم على تجاهل النظارة في أماكنهم المفصولة عن خشبة المسرح، ولكن الممثل في القرن السادس عشر كان يقف في موضعه ويتحرك فيه من جانب إلى جانب وهو محوط بالنظارة في وضح النهار فلا يقع في خلده أن يتجاهلهم كأنهم غير موجودين، ويختلف أسلوب التأليف من جراء اختلاف الوضع المسرحي في أغراض عدة لا يشعر بها المؤلفون أو الممثلون في هذه الأيام، فإن صعوبة تبديل المناظر تلجئ المؤلف إلى ابتداء الكلام بدخول الممثل إلى المسرح وانتهائه بخروجه منه في أكثر الأحيان، ولا يبقى الممثلون على المسرح إلا إذا كان بينهم حوار متداول في المنظر الواحد، ولمثل هذا الغرض تخلو خشبة المسرح من الممثلين أحيانا ريثما يتبدل المنظر مع اتصال الموضوع، فتكتب الرواية في عشرين منظرا وتبلغ مناظرها الخمسين لضرورة التبديل والتحويل في معالم المكان.

وقد كانت لهذه الاختلافات آثارها في أسلوب التأليف وأسلوب التمثيل، بل في أسلوب النظر والسماع بين المشاهدين للتمثيل، فكان اشتراك المؤلف في التمثيل أو اشتراك الممثل في التأليف أمرا معهودا تتيسر له الصناعتان، وكانت الصناعتان معا أصعب منهما في العصر الحديث؛ لأنهما تحملان العبء الذي أعفي منه المؤلفون والممثلون بما اخترع في العصر الحديث من وسائل الفن وأدوات الصناعة، وكان المشاهدون للتمثيل يعلمون هذه الصعوبات فيصطلحون على الإغضاء وقبول المفارقات الحسية على علاتها ولا يحسبونها من مواضع النقد التي يطلبون اجتنابها؛ إذ كانوا يعلمون أن اجتنابها غير مستطاع.

وكانت هناك صعوبة أخرى غير الصعوبات المسرحية تواجه المؤلفين والمخرجين في تدبير أمر الممثلين الذين يؤدون أدوار النساء؛ لقلة النساء العارفات بالقراءة والكتابة ونفور المتعلمات من الاشتغال بصناعة التمثيل، فإذا تيسر إسناد أدوار الفتيات الأيفاع والفتيان الصغار، فليس إسناد دور الكهولة أو المرأة النصف إلى كهول الرجال بهذه السهولة، ولا سيما في الأدوار الطوال التي تبرز فيها أخلاق المرأة وعواطف جنسها؛ لاختلاف الصوت والسمت بين الجنسين في سن الكهولة، ويسري أثر هذه الصعوبة إلى أسلوب التأليف أحيانا فيضطر المؤلف إلى كتابة الأدوار النسائية على النحو الذي ييسر تمثيلها مع ملاحظة هذه الصعوبة والاحتيال عليها بالإيجاز وملاءمة المعاني والألفاظ. •••

وعلى هذا المسرح بدأ شكسبير الممثل عمله فأصاب حظا ثابتا من النجاح في بضع سنوات، ولكنه على ما يظهر لم ينشئ لنفسه شهرة ممتازة في نوع من الأدوار كالذين تخصصوا من زملائه لتمثيل الفواجع أو الفكاهات أو تمثيل أدوار الملوك والأحبار؛ لأن تخصصه لم يبلغ من قوة الظهور أن يسلكه بين طائفة من أصحاب الأدوار الخاصة دون طائفة، بل توسط في جميع الأدوار ولم يتفوق غاية التفوق في بعضها ولم يخفق في توسطه؛ لأنه استقر على المسرح طوال أيامه في العاصمة وعمل في أكبر الفرق التي تدعى للتمثيل في البلاط وتظفر بالرعاية الملكية في عهد اليصابات وعهد جيمس الأول، وذلك قسط من الإجادة في صناعة التمثيل لا يستكثر على شاب خارق الذكاء قضى أكثر من عشرين سنة يرقب المسرح في قريته في عهد كان يسمح للممثل أن يخلق قواعده ويبدع طريقته وفقا لضرورات مسرحه وعلى هدى القول الذي يلقيه المؤلف على لسانه، وهو يؤلف لنفسه ويغطي لمقاصد المؤلفين.

ومن المتفق عليه أن شكسبير مثل في مسرح الجلوب ومسرح الستار ومسرح الأخ الأسود، وعمل في فرقة ليسستر وقام ببعض الأدوار مع فرقة كبير الأمناء، وهي الفرقة التي يسأل عنها كبير أمناء القصر وتدعى للتمثيل على مسرح البلاط، وحضر إلى لندن وهو ممثل صغير يقال إنه لاذ بأبواب المسارح قبل أن يؤذن له بمعالجة التمثيل فيها، ثم فارق لندن بعد نحو عشرين سنة وهو ممثل كبير وشريك في أكثر من دار للتمثيل.

المؤلف

ولدت المسرحية الإنجليزية قبيل مولد شكسبير في منتصف القرن السادس عشر، وسميت بالمسرحية الحديثة لأنهم نظروا إليها نظرة المقابلة بين الفن الوطني الناشئ والفن الروماني العتيق في أواخر أطواره، عند زوال الدولة الرومانية.

وكانت المسرحية الحديثة فتحا كسائر الفتوح التي تتحقق بين المقاومة والرغبة، فلم تكن طريقها ممهدة سهلة، بل كانت هي التي فتحت الطريق ومهدته ولم تستغرق في ذلك وقتا يزيد على نصف قرن؛ لأن عوامل الإقبال كانت أكبر وأقوى من عوامل الإدبار، فظهرت المسرحيات الأولى حوالي سنة 1550 ولم يبدأ القرن السابع عشر حتى أوفت على التمام، فلم تزحزحها من مكانها إلا مسرحية جديدة أخرى جاءت في إبان عصر العلم الحديث، بين أواسط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

كان التجديد في القرن السادس عشر غلابا ماضيا في طريقه بين محافظة المتطهرين وطلاقة الإنسانيين، وكان التمثيل كله رجسا منبوذا في رأي الأولين لا يبالي هذا الإنكار من جانبهم؛ لأنه كان على ثقة من مؤازرة العصر المقبل وعلى رأسه صفوة العلية النبلاء، وهم قادة العصر بفضل المعرفة وقادته بفضل الجاه في وقت واحد؛ فلم تعوقه مقاومة المتطهرين بل كانت من أسباب سرعته وانطلاقه، كأنها جذبة السهم من الوتر المشدود، تشده إلى الخلف لتدفعه إلى الأمام، ولولا ذلك لما بلغت المسرحية تمامها في ذلك الزمن الوجيز.

كان الكاتب المعاصر جوسون

Gosson (1554-1624) لسان حال المحافظين المتشددين، وكان شعاره في حملته على المسرحية الجديدة أنها فن بلا روح، أو أنها فن أضاع روحه؛ لأن جوسون كان يلتمس روح الفن في القداسة التقليدية، ولم يكن لهذه القداسة محل ظاهر في المسرحية الجديدة التي تتناول الإنسان على سجيته أو على علاته، وتكشف عنه ألفافا بعد ألفاف من حجب الرياء التي طوته فيها موروثات العرف والعقيدة.

وكان مارلو رائد المسرح في عصر شكسبير لسان حال الغلاة من المجددين يقول: إن الدين لعبة ... وإنه «لا خطيئة أقبح من الجهالة.» وشعاره المفهوم أن المسرحية الجديدة قد وجدت فكرها ولم تضيع روحها؛ لأن الروح لا تضيع مع المعرفة، وإنما مضيعة الروح الجهالة الجهلاء.

وكان العصر بحاجة إلى مذهب قوام بين المذهبين، فكان قوامه في عالم المسرح مذهب شكسبير معتدلا متوسطا بين الإيمان بالمعرفة والإيمان بالغيب؛ لأن في الأرض والسماء أمورا لا يحلم بها عقل الإنسان، وعقل الإنسان مع هذا موفور الحق مسموح له بدعاوى القوة والعظمة وأعذار الضعف والقصور.

ولعل المعرفة لم تكن وحدها كفؤا لمناضلة العادات المتراكمة من بقايا القرون الوسطى لو لم تصاحبها الحماسة الوطنية وتتجه معها إلى وجهتها في تلك الحقبة من نشأة المسرحية الجديدة، فإن هذه المسرحية نشأت في إبان يقظة الأمة والدولة واتجاههما معا إلى مطاولة المجد الروماني في مظهره القديم ومظهره الجديد، فلهج العصر كله بمساماة رومة القديمة في السيادة واتساع السلطان، ولهج العصر كله بحق الكنيسة الوطنية في وجه الحق المطلق من جانب أحبار رومة وأئمة الدين المرسلين من قبلهم إلى الأقطار الأجنبية؛ وأصبح «الاستقلال» بالفن فخرا وطنيا ونزعة نفسية تمتزج بالأنفة وحب المعرفة فتعصف بعقبات العادة والعرف كلما اعترضتها في سبيلها، وراق للناقد ميرز

Meres

أن ينظر إلى نهضة الفن في بلاده من هذه الناحية، فقال: «إذا عد بلوتس وسينكا أبرع كتاب اللاتين في الملهاة والمأساة، فإن شكسبير أبرع من كتب للمسرح في هذين الفنين.»

1

ومن ظواهر هذه النزعة المستقلة أن القوم سلكوا في مسرحهم المسلك الذي يوافقه ويوافقهم ولم يتقيدوا بشروط المسرح القديم في قواعد التأليف أو التمثيل، وكان الكاتب الإيطالي كستلڨترو

Caslivetro (1572) قد اقتبس من كتاب أرسطو شرط الوحدة في الحادث والوحدة في الزمن، وأضاف إليهما شرط الوحدة في المكان لأنه لم يرد في النسخة المحفوظة من كتاب أرسطو الذي وصل إليه، وتناقل المترجمون إلى اللغات الأوروبية هذه الشروط؛ فقيدوا مدة المسرحية بيوم أو ما يزيد على اليوم بقليل، وقيدوا موضوعها بحادث متصل الأجزاء لا ينفصل جزء منها عن سائرها دون إخلال بزبدة الرواية أو غايتها، وقيدوا مجال الحادث بمكان واحد أو بمجال تزدحم فيه الوقائع في أضيق الحدود كما جاء في الفقرة السادسة والعشرين من شعريات الحكيم اليوناني القديم، ونقلت هذه القواعد إلى اللغة الإنجليزية واطلع عليها العارفون باللغات في مراجعها من اللاتينية واليونانية، ولكنها أهملت في بيئة المسرح كما أهملت آراء الحكيم في بيئة العلوم التجريبية، وجاء الشاعر الناقد درايدن

Dryden (1631-1700) بعد جيل شكسبير، فقال: إن الحكيم لم يشاهد من التمثيل غير مسرح بلاده، ولو أنه شاهد روايتنا لغير ما رآه.

وقد ذكر ميرز اسم شكسبير فريدا بين المؤلفين الذين ضارعوا كتاب الرومان المشهورين في ذلك العصر؛ لأنه أجاد فن المأساة وفن الملهاة وكان وحده ندا لبلوتس وسينكا في هذين الفنين، ولكن ميرز ذكر معه أكثر من ثلاثين مؤلفا تخصص بعضهم للمأساة وبعضهم للملهاة، وجاءت في كتب تاريخ الأدب أسماء ثلاثين - أو نيف وثلاثين - آخرين عاشوا في عصر شكسبير بين سنة 1550 وسنة 1625، ويضاف إليهم المؤلفون المجهولون ممن بقيت رواياتهم ونسيت أسماؤهم وهم لا يقلون عن عشرة على حسب أسماء الروايات، وهذه جمهرة من مؤلفي المسرح لم تجتمع في أمة واحدة وفي حقبة واحدة قبل ذلك العصر ولا بعده إلى هذا العصر ولا بعده إلى هذا العصر الحديث، ولا شك أن المسرحية الجديدة لم تلق هذا الإقبال العميم لأنها جديدة وحسب، وإنما لقيته ووجدت الإقبال عليه من المؤلفين والممثلين والنظارة والرعاة الحماة؛ لأنها تنبئ عن ميلاد جديد في حياة الإنسان، ولأنها ترجمان جيل قد اهتدى إلى روحه ولم يضيعها كما قال جوسون أديب جماعة المتطهرين.

على أن الإقبال العميم كفيل بسعة الانتشار وكثرة المؤلفين ولكنه لا يكفل - حتما - أن يرتفع فن المسرحية إلى ذروته العليا في جميع العصور ومنها العصر الذي نشأت فيه، إنما يكفل هذا عبقرية تعطي العصر فوق ما أخذت منه وتنتمي إلى جميع الأجيال ولا تنتمي إلى فرد جيل أو قبيل، وقد كانت المسرحية الجديدة خليقة أن تبلغ مداها من سعة الانتشار على أيدي أولئك المؤلفين الذين بقيت أسماؤهم أو نسيت في زمانهم، ولكنها كانت بحاجة إلى مؤلف واحد - يفوق زمنه - ليرتفع بها إلى ذروتها العليا عند النظر إلى القمم الإنسانية في تواريخ الآداب، وقد وجدته يوم وجدت شكسبير، ولو كان وجوده اختيارا مدبرا لما كان أوفق منه لهذا الاختيار؛ لأنه أقل الكاتبين يومئذ فائدة في عصره وأكثرهم إفادة لذلك العصر وما تلاه من عصور، ولو كان بلوغ الذروة من الفن ثمرة لا تستفاد في غير إبانها لكان غيره أحجى بها وأسبق إليها، ولكن العبقرية الإنسانية لها هذه العلامة، وهي المزية التي تنتمي إلى جميع الأزمان.

وبدأ اسم شكسبير في الظهور بين أسماء المؤلفين المسرحيين بعد هجرته من قريته بنحو خمس سنوات حوالي سنة 1592، ولعله فكر في التأليف المسرحي قبل هجرته من القرية؛ لأن المثابرة على شهود المسرح سنوات توحي هذه الفكرة إلى ذهن الشاب الموهوب المستعد لهذه الصناعة فهو لا محالة متنبه إلى التمييز بين الرواية الناجحة والرواية المخفقة، وبين المنظر المقبول والمنظر المستهجن أو الضعيف، وبين الموقف المؤثر والموقف الفاتر، ويخطر له - ولا ريب - أن يستبدل موقفا بموقف وأن يحذف بعض الحوار أو يزيد عليه، ولعل تدرجه في التنبه لدقائق هذا الفن كان أسرع وأقوم من تدرج زملائه الذين اشتغلوا به على غير استعداد مطبوع أو رغبة صادقة، وربما خطر له أن يمارس التأليف قبل ممارسة التمثيل لقلة القيود التي تحيط بصناعة القلم أو تغض منها في عصره، إلا أن التدرج السريع لا يجديه في هذه الصناعة ولا يغنيه عن التدرج في علاقته بأصحاب المسارح وحماتها بين العلية وذوي الأخطار من زمرة النبلاء المثقفين، وأقرب إلى المألوف في أمثال هذه الأحوال أن يبدأ المؤلف الناشئ بمساعدة أصحاب المسارح على إصلاح الخلل في الروايات المؤلفة المهجورة، وأن يعرض عليهم بعد ذلك روايات يؤلفها بإشراف الأعلام المشهورين سواء اشتركوا في كتابتها أو عاونوه بالتوجيه والاقتراح، وهذا في اعتقادنا أقرب الفروض إلى تفسير قول القائلين إنه ألف روايته الأولى بمشاركة مارلو أو جونسون أو غيرهما، وإن أسلوبه في بعض تلك الروايات مشوب بالاختلاف والاختلاط من أثر التنقيح أو التبديل الكثير في المواقف والعبارات.

ولم يهتم شكسبير بطبع رواياته في حياته، وإنما كانت تطبع متفرقة لذمة المسارح التي ينزل لها عن حقوقه، فلما نشرت مجموعته الأولى بعد وفاته بسبع سنوات كان فيها ثماني عشرة رواية من ست وثلاثين لم يسبق نشرها ولم يراجعها للنشر في حينها، ولا تزال هذه المجموعة الأولى التي اشتهرت باسم السجل الأول “First foho”

أوثق المراجع لتصحيح الروايات التي تنسب إلى شكسبير، وقد أضيفت إليها في مجموعات تأليفه عدة روايات مشكوك فيها أو مقطوع بنفي نسبتها إلى الشاعر أباح الناشرون الملفقون لأنفسهم أن يستغلوا شهرة الشاعر بعد رواج كتبه فنسبوها إليه، ولم ينخدع بها النقاد والقراء طويلا فسقطت من طبعاته المعتمدة بعد قليل.

وتعزز السجل الأول وثائق من عصره وردت فيها أسماء الروايات من تأليف شكسبير وطابقت أسماء الروايات في السجل كما أثبتها زملاء الشاعر في التمثيل والتأليف مشفوعة بأسماء الممثلين الذين قاموا بأداء أدوارها في حياته وفقا لرغبته واختياره، وأوثق المراجع التي عززت السجل الأول وثائق الرخص المثبتة باسم المؤلف شكسبير لنحو تسع عشرة رواية، وعناوين الروايات الثماني عشر التي ظهرت في طبعات متفرقة، وإحصاء «ميرز» المتقدم ذكره وهو من مطبوعات سنة 1598، وإشارات إلى المؤلفات في أقوال المعاصرين، يتبين منها جميعا أن شكسبير نسبت إليه في زمنه ست وثلاثون مسرحية على ثلاثة أقسام: قسم الملهاة، وقسم التاريخيات، وقسم المأساة، وهذا بيانها مقرونة بأسمائها التي عرفت بها عند صدورها.

فالملهيات تحتوي أربع عشرة هي بترتيبها في السجل الأول أي طبعة المجموعة الأولى: (1) العاصفة

The tempest (2) السيدان من ڨيرونا

The two Gentlemen of Verona (3) زوجات وندسور المرحات

The merry wives of windor (4) دقة بدقة

Measure for measure (5) ملهاة الأغلاط

The comedy of Errors (6) لجاج في غير طائل

Much ado about Nothing (7) عناد الحب الضائع

Love’s labour’s lost (8) حلم منتصف ليلة صيف

Midsummer Night’s Dream (9) تاجر البندقية

The merchant of Venice (10) كما تهوى (أو كما تهوون)

As You like it (11) ترويض السليطة

The Taming of the shrew (12) العبرة بالخواتيم

All’s well that ends well (13) الليلة الثانية عشرة

Twelfth Night (14) نادرة ليلة الشتاء

The Winter’s Tale

ويحتوي قسم التاريخيات عشر روايات هي: (1) حياة الملك جون وموته

The life and death of king john (2) حياة ريتشارد الثاني وموته

The life and death of Richard the second (3) الملك هنري الرابع: جزء أول

The First part of king Henry the Fourth (4) هنري الرابع: جزء ثان

The second part of king henry the fourth (5) حياة الملك هنري الخامس

The life of King Henry the Fifth (6) الملك هنري السادس: جزء أول

The First Part king henry the sixth (7) الملك هنري السادس: جزء ثالث

The Second Part of King Henry the sixth (8) حياة ريتشارد الثالث وموته

The life and Death of Richard the third (9) حياة الملك هنري الثامن

The life of king henry the eighth

ويحتوي قسم المآسي اثنتي عشرة رواية هي: (1) مأساة كريولينس

The tragedy of Coriolanus (2) تيتس أندرونيكس

Titus Andronicus (3) روميو وجولييت

Romeo and Juliette (4) تيمون الأثيني

Timon of Athens (5) حياة يوليوس قيصر وموته

The life and Death of Julius Caesar (6) مأساة ماكبث

The tragedy of Macbeth (7) مأساة هملت

The tragedy of Hamlet (8) الملك لير

King lear (9) عبد الله مغربي البندقية

Othello. The moor of Venice (10) أنتوني وكيلوبترة

Anthony and Cleopater (11) سمبلين ملك بريطانيا

Cymbeline King of Britain

وأضيفت أثناء الطبع مأساة ترويلس وكريسيدا

Troilus and Cressida

بعد أن قدمت «أولا» للطبع في مكان مأساة تيمون الأثيني.

ومما لوحظ كثيرا أن رواية بركليس

لم تطبع في السجل الأول وأضيفت إلى مجموعة مؤلفاته لأول مرة في السجل الثالث الذي صدر سنة 1664 بعد وفاة شكسبير بخمسين سنة، ولكنها طبعت منفردة مرتين في حياته، وثلاث مرات بعد موته، أولها سنة 1619 وآخرها سنة 1635، واشتملت الطبعة الخامسة على أسماء الممثلين الذين قاموا بالأدوار وهو بقيد الحياة.

وتلاحقت الطبعات التامة بعد السجل الأول فأعيد طبع المجموعة التامة ست عشرة مرة بين أوائل القرن السابع عشر وأوائل القرن التاسع عشر في سنة 1821، وكثر الاختلاف بين الطبعات المتلاحقة بين طبعة تزيد وطبعة تنقص، وطبعة تتحرى ترتيب تواريخ التأليف، وأخرى تتحرى تقسيم الموضوعات وارتباطها بالعناوين.

وفي القرن التاسع عشر، نشأت مذاهب النقد التحليلي ومذاهب الدراسات النفسية في أوقات متقاربة، فجاءت بحوث النقد التحليلي وبحوث النقد النفساني بنتائجها القيمة في تمحيص الحقائق عن آداب عصر النهضة وفنونه، وصح عند الباحثين المحدثين أن البراهين المستمدة من موضوع الكتابة ومن التعمق في تحليل الشخصية أولى بالاعتماد عليها من الأسانيد المنقولة عن أقوال الرواة المعاصرين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وما حولهما، لما ثبت في كثير من الأحوال من قلة اكتراث القوم بتصحيح الأسانيد وانصراف عنايتهم إلى العمل الفني دون التفات لتحقيق أسماء المؤلفين وأصحاب الأعمال.

وعلى هذه القاعدة قام البحث من جديد عن مؤلفات شكسبير وعن الشكوك التي تساور القارئ من اختلاف الطبعات وتردد الناشرين في إسناد بعض الروايات إليه.

لماذا أسقط الناشرون رواية بركليس من المجموعة الأولى؟ ألم يكن تصديرها باسم شكسبير في طبعتها المنفردة كافيا لتصحيح نسبتها إليه؟

ولماذا وضعوا رواية ترويلس وكريسيدا ثم رفعوها ثم عادوا إلى وضعها بعد إثبات رواية تيمون الأثيني في مكانها الأول؟

ولماذا عاد الناشرون في المجموعة الثالثة، فأثبتوا رواية بركليس وأثبتوا روايات أخرى حذفها الناشرون بعد ذلك؟

عاد البحث على أساس النقد الموضوعي والنقد النفساني إلى جميع مؤلفات شكسبير وفي مقدمتها الروايات التي كانت موضع التردد بين الناشرين في مختلف الطبعات.

فانجلى البحث عن شك قليل في بعض مناظر بركليس، ورجح عند الثقات النقاد أن فصولها من الثالث إلى الخامس شكسبيرية لا موجب للتردد في نسبتها إليه، وفيها مقطوعات من الشعر كأجود ما نظم الشاعر في مسرحياته، مع المشابهة بينها وبين عامة شعره في «الروح» ومناهج التعبير.

والاختلاف على رواية بركليس يسير بالقياس إلى الخلاف الواسع على رواية أخرى يقبلها أناس على مضض وينفيها آخرون كل النفي من أدب شكسبير، وهي رواية تيتس أندرينكس التي لا ينجلي البحث فيها من وجهة الموضوع ولا من وجهة التحليل النفساني عن رأي حاسم، فمن قال إنها شكسبيرية فهو يقولها على تردد وتحفظ ولا يزعم أنها «دعية» في نسبتها، ولكنه يزعم أنها عمل غير صالح، ولا ينسى أن يستدرك قائلا إنها في الحق من أسوأ ما صنع شكسبير، ومن نفاها وأصر على نفيها قال إنها لن تكون شكسبيرية إلا على فرض واحد يسوقونه على سبيل الظن والتخمين، فهي عندهم رواية مجهولة النسب اضطر صاحب المسرح إلى تمثيلها، فألقى بها إلى الشاعر ليعمل فيها قلمه ويداري من عيوبها المسرحية ما استطاع أن يداريه قبل عرضها في أجل محدود، ومن ثم جاءت حيرة النقاد والناشرين في أمرها؛ لأنها لا تتجرد من طابع الشاعر - ولا تمتاز بحسنة من الحسنات التي تشفع لعيوبه فيما ينزل به عن مستواه.

وتناول الشك روايات وفصولا شتى غير هاتين الروايتين، وأشد الروايات تعرضا للظن والنقد رواية هنري السادس بأجزائها الثلاثة، فإن المناظر الفرنسية والمناظر الإنجليزية في الجزء الأول لا تنمان على روح واحدة، والمناظر الإنجليزية منها ليست بالشكسبيرية الخالصة في تعبيراتها وأسلوب أدائها، ولعل الشاعر كتبها في أيام تلمذته على مارلو بإشراف أستاذه.

وليس في الجزء الثاني مثل هذا التباين في الروح والمنهج، إلا أن المؤلف يبدو فيها مقيدا بتنسيق للفصول والمناظر لا يرتضيه، مما يرجح عند بعض الشراح أن شكسبير وجد أمامه رواية قديمة أجرى فيها قلمه وأكثر من التنقيح فيها، مع إبقائه على تقسيم فصولها ومناظرها، وهي فكرة يوحي بها بحث الدكتور إسكندر بيتر أستاذ الأدب بجامعة جلاسجو وصاحب الرسائل الحديثة في ترقيم شكسبير وتقسيم فصوله (1945).

وتتلخص الآراء عن الجزء الثالث في كلمات الشاعر الناقد جون ماسفيلد الذي يقول في كتابه الوجيز عن شكسبير: «إن هذه النسخة قد تكون من تأليف جرين وبيل ومارلو مشتركين أو متعاونين على نحو من توزيع العمل بينهم وتراءى أثر شكسبير في مواضيع منها ولكنها غير كثيرة، وقد نقحت الرواية بعد نسخها الأولى ووسعت بقلم مجهول وتخللتها لمسات من قلم شكسبير.»

وتساءل جيمس سبدنج “Spedding”

في مقاله بمجلة الجنتلمان (أغسطس سنة 1850) عمن كتب رواية هنري الثاني؟ وأجاب سؤاله بأنها من عمل جون فلتشر إلا القليل منها، وربما اشتركت فيها يد ثالثة على شيء من الخبرة بفن الإخراج المسرحي، ولكنها محدودة القدرة على تمثيل العظائم في عرض الحوادث وتصوير الرجال.

أما رواية ترويلس وكريسيدا التي تردد الناشرون المعاصرون لشكسبير في ضمها إلى المجموعة، فالأستاذ ماسفيلد يقول عنها: «إنها مسودة حوار بقيت في انتظار الإتمام، وقد تضاربت الأقوال عن تمثيلها في حياة شكسبير، وحدث أنها نشرت على نحو غامض قبيل عودته إلى قريته، وفيها منظر أو منظران تم تأليفهما ولكن مناظرها الأخرى ظلت على أسلوب التخطيط الساذج خلوا من الصقل والجمال، وتعد مناظرها التامة من أعظم ما تصوره شكسبير، إلا أنها عظمة الفكر لا عظمة الأداء.» •••

وبعد أكثر من مائتي سنة من صدور المجموعة الأولى ظهرت مسرحية باسم توماس مور تشتهر الآن باسم المسرحية المخطوطة؛ لأنها ظلت من عهد كتابتها في أواخر القرن السادس عشر محفوظة بخطوط النساخ لم تطبع قبل سنة 1844 حين وصلت إلى أيدي الجماعة الأولى التي تألفت لإحياء آثار شكسبير، وهي الآن تلحق بمجموعاته في الطبعات الأخيرة، ولا تثبت لها صلة به غير اشتمال مسوداتها على كلمات بخطة كما تبين من تحقيقات الخبير المختص بالخطوط «موند تومبسون». وتدور فصول المسرحية على ترجمة الفيلسوف المؤرخ الوزير توماس مور صاحب المدينة الفاضلة ورائد البحث عن المدن الفاضلة في العصور المتأخرة، وقد كان من المعارضين للملك هنري الثاني في دعوى الرئاسة الروحية والدنيوية، وموضوع حياته وموته جدير بقلم شكسبير، ولكنه لا يطرد مع طريقته في اختيار أدوار المسرحيات التاريخية وعناوينها. •••

وعلى هذا المثال تناولت مدرسة النقد التحليلي ومدرسة النقد النفساني مسرحيات الشاعر، وأفاض الشراح من المدرستين في تناولها إفاضة موفورة الأسباب والأمثال تستعصي على الحصر في هذا الكتاب، وأسفرت هذه الدراسات - التحليلية النفسانية - عن ثروة نفيسة من أسرار اللغة وبواطن المعاني ودقائق الفهم والاستدلال، وثبت من محاولاتها العصية أنها مسبار من التحقيق لا غنى عنه في تقويم المؤلفين وتواليفهم، وإن لم يأت بالنتيجة القاطعة في جميع الأحوال، وزاده صعوبة في دراسة شكسبير أن الشكوك كلها قائمة على فوارق التعبير وفوارق التنسيق، وأن الشراح والنقاد لم يتيسر لهم إقامة الحد الواضح بين الفروق الضرورية التي لا بد منها والفروق العارضة التي توجد في أحوال ولا يلزم أن توجد في سائر الأحوال.

فمن الفروق الضرورية أن تختلف البواكير والنهايات في أعمال كل مؤلف كبير المواهب متعدد الجوانب يتطور سريعا وترتبط أطوار التقدم والنضج عنده بمطالب المسرح ودواعيه الفنية، مع ما يقترن بها من دواعي الإدارة والانتقال من فرقة إلى فرقة ومن موضوع إلى موضوع ... ولقد وجدت فوارق البواكير والنهايات في أعمال كل شاعر وكاتب من الأقدمين والمحدثين، وكانت هذه الفوارق على أوسعها وأغربها بين أوائل شكسبير وخواتيمه، فامتلأت مؤلفاته الأولى بالكناية والنزوع إلى الإشباع والتركيز وتحميل العبارة غاية ما تطيق من القصد والإيحاء، وغلب عليه التكلف في هذا الطور الأول على ديدن المبتدئين الذين يدفعون الظنة عن قدرتهم على مجاراة الفحول من نظرائهم المنافسين، فبالغ في إثبات تلك القدرة وصمد على أسلوب الإشباع سنوات، ثم تحول عنه فلم يتركه كل الترك، بل ترك الإطناب والتفخيم ولم يترك تحميل الكلمات غاية ما تطيق من معان وإشارات؛ لأن أفكاره بطبيعتها تزيد على وعائها من الألفاظ والتراكيب.

هذه الفوارق الضرورية بين البواكير والنهايات تأتي في سنوات طويلة أو قصيرة ويسهل استقراؤها باستقراء التواريخ والأدوار، إلا أن المؤلف قد تلازمه الفوارق الضرورية في الحقبة الواحدة وفي موضع بعد موضع من العمل الواحد، وتلك هي الفوارق بين حالات الإجادة والإلهام وحالات الإهمال والركود، أو هي الفوارق بين المؤلف على أحسنه وأجوده والمؤلف نفسه على أردأ حالاته وأبعدها عن الإجادة والإتقان، وشكسبير من المؤلفين الذين يعظم التفاوت بين أعماله في الحالتين.

وهناك الفوارق المقصودة التي يتبين في روايات عدة أن شكسبير كان يتعمدها ويختارها للتوفيق بين الموقف وما يقتضيه من الحماسة أو الخشوع أو الإيمان أو المرح أو الأبهة والروعة، ويقول بهذا الرأي في تعليل الفوارق كتاب محدثون من أعرف الشراح بالشاعر وبدواته وعادات ذهنه وقلمه في تنويع عباراته، ومنهم نوتني

Nowottny

مقدم مجموعته في طبعة أودهام التي صدرت منذ سنتين، فهو يشير إلى الاختلاف بين أسلوب الفواتح التي تمهد للروايات وبين أسلوب اللغة المعدة للإلقاء على ألسنة الممثلين، ويشير إلى الاختلاف بين أسلوب القصة على لسان الجندي في رواية ماكبث وبين أسلوب الرؤيا وسائر الأقوال في رواية «سمبلين».

ويجتهد أصحاب هذا الرأي في إبراز الفوارق بين أساليب التعبير في المؤلفات التي لا يتطرق الشك إلى نسبتها، ولا سيما المنظومات المتفق على تأليفها، فإنها لا تطرد على نسق واحد ولا تخلو من الفوارق التي يتعهدها الناظم كلما تحول من شخصية إلى شخصية أخرى أو من موضوع إلى موضوع على حسب اختلاف الباعث وموقع التأثير.

وكذلك نخرج من بحث الفوارق بمسبارين صحيحين بدلا من مسبار واحد: أحدهما يشكك في تأليف شكسبير والآخر يؤكده وينفي الظنة عنه، فإن لم نسقط حساب الفوارق جملة واحدة فلا مناص من التسليم بأنها - فيما بلغته حتى الآن - مفتاح يفتح أبواب الظنون والشكوك، ولكنه لا يوصدها على يقين. •••

إلا أن اليقين الذي نملكه - حتى الآن - يكفي لدراسة شكسبير، فمهما نأخذ أو ندع من تلك الظنون والشكوك فنحن على يقين من كيان العبقرية التي ندرسها باسم شكسبير، وعلى يقين من كفاية الآثار التي يقوم عليها ذلك الكيان، ولا يتحتم لإثباته أن يكتب شكسبير كل سطر منسوب إليه في المسرحيات، فإن المشكوك فيه إنما هو وضع النقص منها، لاعتقاد المتشككين أنه دون الطبقة الممتازة التي يرتفع إليها الشاعر على أحسنه وأتمه وأعلاه، ومهما يثبت من مواطن النقص فهناك مواطن للكمال تثبت ويثبت معها كيان العبقرية التي أخرجتها وتمثلت في وحدة طابعها وتناسق أجزائها، وهي باقية وراء تلك الشكوك بيقين لا شك فيه.

الشاعر

يقول رأي واحد من آراء المترجمين لشكسبير إنه شاعر لم يكتب شيئا من النثر، وإن الكلام المنثور في مسرحياته إنما هو كلام مشاع من وضعه تارة ومن وضع الممثلين معه تارة أخرى، ولهذا وقف الشاعر على طبع قصائده، ولم يقف على طبع مسرحياته، ولو كانت كلها من عمله لما أهمل طبعها في حياته.

وليس صاحب هذا الرأي من الإنجليز، ولكنه رأي أديبة إيطالية نشرته في كتاب لها ظهر سنة 1950 باسم «العبقرية والغوامض» أو «شكسبير وعجائب فنه»، وهذه الأديبة فالنتينا كابوتشي

Valentina Capocci - تحذق اللغة الإنجليزية وتتكلم عن طبقات البلاغة فيها بلهجة الحسم والتوكيد، ولكنها قليلة العلم بأسلوب المسرح ودواعيه، فهي تستهدف لخطأ من هذه الناحية، وتتعرض للتفنيد الشديد من مواطنة لها تعرف من أسلوب المسرح ما جهلته، وتلك هي الممثلة النابغة إلزا دي جيورجي

Elsa De Giorgi

التي نظرت إلى منثور شكسبير ومنظومه من الناحية المسرحية، فذهبت بشبهات الأديبة كلها في غير عناء.

على أن الأديبة الإيطالية لم تخطئ الحقيقة كلها في حكمها على النظم والنثر في مسرحيات شكسبير، فلولا الإغراق في رأيها لاتفق هذا الرأي مع جملة الآراء في الموازنة بين نثر شكسبير وشعره، فإنه في منثوره واحد من مئات، وإنما الشاعر شكسبير هو شكسبير الخالد، بما نظم من قصيد منفصل أو قصيد متصل بالمسرحيات.

ففي مسرحياته ألوان من الأغاني ومن شعر الوجدان الذي اصطلح الغربيون على تسميته بالشعر الغنائي، وفيها ألوان من شعر الوصف والحكمة ينتظم منها ديوان ضاف وتقوم بها شهرة شاعر كبير، وربما فضلها النقاد من الوجهة الفنية على الشعر المنفصل الذي لا يدخل في أدوار المسرحيات؛ لأنها صاحبت تطور الشاعر من بداءة حياته الأدبية إلى نهايتها، وتشعبت في مذاهب من القول أوسع وأحفل من مذاهب القول في القصائد المنفصلة.

على أن شكسبير الشاعر ينفرد بشيء لم يتوافر عند شكسبير المؤلف كاتب المسرحيات: شيء لا يرجع إلى تفضيل فن على فن أو ملكة على ملكة، ولكنه قد يرجع إلى اختلاف الصلة في الحالتين: صلة المؤلف بالنظارة، وصلة الشاعر بقارئه الذي يستأثر به لنفسه ويتلقى الخطاب منه كأنه يتلقاه من صفيه ووليه.

المؤلف يتصل بالعالم كما يتمثل في النظارة الذين يرون الممثلين قبل أن يروه.

والشاعر يتصل ب «الإنسان» على حدة ويلقاه حيث شاء في خلوته أو في مجتمعه مع غيره، ولا يشترط عليه أن يلقاه في مسرح أو يسمعه على لسان وسيط من الممثلين والمخرجين، بين شركاء من النظارة والمتفرجين.

وقد كان الناشرون يجمعون أعمال شكسبير في مجلد واحد ويقسمونه إلى قسمين: قسم المسرحيات، وقسم الأشعار، وكأن من عادة الناس أن يذهبوا إلى المسرح ليطلعوا على المسرحيات، وأن يفتحوا الصفحات ليطلعوا على الأشعار؛ ولا يمنع ذلك أن يكون للمسرحيات قراء وأن يكون للأشعار نظارة ومستمعون، ولكن الصلة في الحالتين تختلف بين شعور القارئ نحو الشاعر وهو يطالعه، وشعور الناظر نحو المؤلف وهو يلمحه من وراء الممثلين ووراء الأدوار.

وجاء زمن بعد ازدهار المسرح في القرن السابع عشر نسيت فيه المسرحيات وقل الإقبال عليها عند عرضها، بل قل عرضها لغير الصفوة من طلابها، فقامت صلة الشاعر بالعالم - جماعاته وأفراده - على القصائد التي نظمها في غير المسرحيات، وعمد الناشرون إلى الشعر المسرحي فطبعوه للقراءة واستخرجوا منه ما يصلح للقراءة والإلقاء في غير معاهد التمثيل، وكاد شكسبير الشاعر أن يستغني بقرائه عن نظارته ومشاهديه.

ولا تعدم الأشعار المنفصلة أسبابا فنية تنفرد بها وتحببها إلى قرائها، بل إلى نقادها والمشتغلين بدراستها، فإنها معرض للشعر القصصي يقابل الشعر المسرحي في المآسي والملهيات، وفن من أداء الرواية يخالف الفن الذي يؤديها بالحوار وتصوير المناظر وتقسيم الأدوار، وقد برع شكسبير في القصة الشعرية براعته في القطعة المسرحية، واستطاع أن يمثل لقارئه بالقصيدة المكتوبة ما يحتاج إلى مسرح وممثلين على المسرح، لتصويره للعيان وإبلاغه إلى الأسماع وبثه في الخواطر والقلوب، واستخدم طريقة المسرح - بغير المسرح - لتعليق الأفكار والأنظار، وإزجاء المفاجآت على انتظار وعلى غير انتظار.

وللموشحات التي نظمها شكسبير مزية فنية تنفرد بها بين المنظومات التي تستخدم لمواقف التمثيل أو لرواية القصة؛ لأنها تصلح لشعر التأمل وشعر النشيد وشعر العاطفة، ويودعها الشاعر «ترجمة نفسية» لحياته في أعماق وجدانه وخلجات ضميره: ترجمة مباشرة نتلقاها منه بغير وساطة المسرح أو وساطة الرواية أو وساطة المؤرخ وصاحب الأخبار فما يعلمه القارئ عن شكسبير من موشحاته لا يعلمه من كلام قاله في مسرحية أو قصة، ولا من كلام قاله عنه المترجمون والرواة. •••

أول شعر قصصي نظمه شكسبير «أسطورة فينوس وأدونيس» أو «ملكة الغرام ورب الجمال والشباب»، اقتبسها من كتاب «أطوار الحب» للشاعر الروماني أوفيد، وقال عنها في تقديمها إنها باكورة ابتداعه، ونشرها في سنة 1593، ولكنها في تقدير بعض النقاد نظمت قبل ذلك بست أو سبع سنوات، وبدأ الشاعر في نظمها وهو في قريته أو قريب العهد بهجرتها؛ لأنها تنضح بأنداء الريف وترف تحت ظلاله، ولعله نشرها وهو لم يخرج بعد من حضانة القرية؛ لأن ناشرها ريتشارد فيلد كان من أبناء قرية ستراتفورد وممن اعتمد عليهم شكسبير لارتياد طريق الأدب في العاصمة الكبرى، وقد راجت القصة رواجا يفوق تقدير الناشر والشاعر، وأعيد طبعها نحو عشر مرات في عشر سنوات، وكانت من أسباب شهرة الشاعر في عالم التمثيل.

ومن يقرأ القصة اليوم لا يفتقد فيها لمحة شكسبير في مسرحياته التي كتبها نثرا ونظما إلى مختتم حياته الأدبية، ففيها عاداته في تحميل العبارة غاية ما تطيق من معانيها وأشكالها، وفيها شواهد الولع بالنقائض والأضداد، وفيها آيات القدرة على تصوير الشخصيات وتدبير المواقف والمفاجآت، وفيها عبرته الغالبة على جميع العبر في روايات المأساة والملهاة: وهي الحذر من الجماح والاستغراق والإنذار بسوء العاقبة؛ لأنها موكلة أبدا باللجاجة في الأهواء.

فالقصة شكسبيرية في مزاجها لا تختلف فيها سمات الشاعر إلا كما تختلف ملامح الصبا والكهولة، فهو في هذه القصة متوهج العاطفة ساطع الألوان فياض بالصور والأشكال، كأنما يريد أن يعطي كل ما عنده في دفعة واحدة، وكأنه يلتذ بالشعور الذي يساوره فلا يدعه حتى يستنفده كما ينفد اللهب من شدة الاشتعال، ولكن القارئ لا ينسى في أشد حالات الاسترسال أنه حيال عمل محكوم مملوك العنان، وأن وراء الأهواء إشرافا موزونا يلمسه في النتيجة التي تنتهي إليها القصة، وهي فجيعة فينوس في غرامها؛ لأنها أغرقت في ملاحقة أدونيس حتى هلك في طراد السباع معرضا عن لجاجتها وإصرارها، وفي بعض الحوار يقول في المقارنة بين الحب والشهوة: «إن الحب أنس كأنس الشمس المشرقة بعد المطر، ولكن الشهوة عاصفة بعد إشراق الضياء، وإن الحب الرقيق ربيع دائم، ولكن الشهوة شتاء يعاجل الصيف قبل انقضائه، وإن الحب لا يشكو التخمة، ولكن الشهوة تتخم حتى تموت، وإن الحب صدق، ولكن الشهوة كثيرة الأكاذيب.»

وقد أهدى شكسبير قصته المنظومة إلى اللورد سوثامبتون الذي كان يناهز العشرين عند إهداء القصة إليه، وكان في ذلك العصر نادرة من نوادر الذكاء والجاه والجمال، ولد في سنة 1573 وتخرج من جامعة كامبردج في السادسة عشرة، وحصل على إجازة أستاذ في الآداب من جامعة أكسفورد وهو في العشرين، وكتب اسمه بين ذوي الألقاب في الحاشية الملكية وهو دون العاشرة من عمره، وملك زمامه بين فتنة المال وفتنة الجمال، وبين غرور السطوة وغرور النبوغ على ذلك المثال الذي جعله بطلا من أبطال شكسبير في مسرح الحياة.

وبعد سنة - أي في سنة 1594 - أهدى إليه شكسبير قصته الشعرية الثانية إنجازا لوعده حين قدم له رواية فينوس وأدونيس، وكان مدارها - كالقصة الأولى - على لجاجة الحب ولكن من جانب الرجل في هذه المرة، وموضوعها مقتبس كتلك القصة من أشعار أوڨيد.

كانت قصته الثانية عن اغتصاب لوكريس زوجة كولاثيموس من كبار نبلاء الرومان، وكان تاركوين - ابن ملك الرومان - يهيم بها ويلاحقها على غير جدوى، ومما زاده هياما بها أنها اشتهرت بالعفة كما اشتهرت بالجمال، وقد تحدث قادة الرومان يوما في معسكرهم فذكروا عفة نسائهم ووفاءهن لهم في غيبتهم، وأرسلوا إلى المدينة من يمتحن هذه العفة، فوجدوا النساء جميعا يرقصن ويلهون بالسمر والمنادمة، إلا لوكريس - سيدة الجمال بينهن - فإنهم وجدوها في دارها تشتغل بمغزلها إلى الهزيع الأخير من الليل، فجن جنون تاركوين وعز عليه أن تمتنع عليه امرأة من نساء المدينة اللاهية وهو صاحب الغزوات في ساحة الحب وساحة الحرب، وخالف إليها زوجها مع الليل فهددها بالفضيحة وأقسم ليقتلن عبدا ويلقيه إلى جانبها على فراشها، فلم يرعها التهديد ولم يرجع عنها حتى اغتصبها عنوة وعاد من حيث أتى، وأصبحت لوكريس في ثياب الحداد تأخذ على ولاتها العهد أن يقتصوا لها، ثم بخعت نفسها وخرج زوجها يطوف المدينة بجثتها ويستعدي الرعية على رعاتها، فثارت ثائرة المدينة على الملك وأسرته، ولم تهدأ هذه الثائرة إلا بإجلاء البيت المالك كله عن عرشه، وإقامة الحكومة الجمهورية. •••

والقصتان المنظومتان نفحتان من روح واحدة وطرازان في التعبير من نسج واحد، ولكن الثانية أجود وأنضج من الأولى وأقرب منها إلى الجد والإتقان في موضوعها ومغزاها. •••

وللشاعر في غير المسرح والقصة مقطوعات كثيرة على وزن الموشحات، نظمت كلها في أغراض الشعر الغنائي من غزل ومناجاة وشكاية وخواطر تجري مجرى الأمثال، وهي من ثم أدل الشعر على نفس الشاعر ودخائل طويته وأصدقها تعبيرا عن حبه وعطفه، وعن نظراته الخاصة إلى أحواله وصروف أيامه، وتبلغ عدتها مائة وأربعا وخمسين موشحة نظمت ما بين سنتي 1592، 1598. ويرى الأستاذ لسلي هوستون

Leslie Hoston

الذي تخصص لتحقيق التواريخ الملتبسة والكشف عن الروابط بين موضوعها وترجمة الشاعر أن بعض الموشحات نظم في سنة 1589؛ أي قبل ظهور الموشحات التي نظمها السير سدني واعتبرها المؤرخون فاتحة عهد الموشحات في الآداب الإنجليزية على أيام الملكة اليصابات.

طبعها توماس ثورب لأول مرة في سنة 1609 وأهداها إلى مستر «و.ه» جالبها الوحيد، وهو في رأي بعض المترجمين لورد سوثامبتون الذي أهدى إليه شكسبير قصة فينوس وأدونيس، وقصة اغتصاب لوكريس؛ لأن اسمه الأول وريوثسلي

Wriothesley

هنري، وكما رأى آخر أنه هو لورد بمبروك لأن اسمه الأول وليام هربرت، ويذهب بعضهم إلى أن المقصود بجالب الموشحات هو الطابع وليام هول

Hall

الذي جمعها وهيأها للطبع ولم يكن طبعها ميسورا بغير مجهوده وسعيه؛ لأن شكسبير لم يتول جمعها بنفسه ولم يشرف على تصحيحها بعد جمعها لأمر لا يذكره ناشرها ولا المعلقون عليها.

والخطاب في أكثر الموشحات موجه إلى شاب مفرط الجمال ينصح له الشاعر أن يحتفظ بجماله وأن يبادر إلى تخليده في عقبه، ويلومه أحيانا لأنه استغوى بجماله عشيقة الشاعر، ويشير في بعض الموشحات إلى عشيقة لعوب يسميها «السيدة السمراء» وإلى شاعر منافس يؤثره ذلك الشاب الجميل برعايته، ويقول الشاعر إنه يستحق منه أن يعنى بشعره لحبه وإعجابه إن قرأ شعر الآخرين لبلاغته وإتقانه، ثم تختم الموشحات بمقطوعتين إغريقيتين عن «كوبيد» إله الحب الصغير لم تثبت نسبتهما إلى شكسبير.

وتتعدد الأقوال في تعيين الأسماء التي أشارت إليها الموشحات، ولكنها تكاد أن تتفق على تعيين اسم اللورد سوثامبتون للفتى الموصوف أو المخاطب في أكثر الموشحات، ويكون المقصود بجالب الموشحات إذن أنه هو موحيها وملهمها الذي تقبل قصص الشاعر وشجعه على الإصغاء إلى أغانيه ومنظوماته. •••

وقد درج الناشرون المحدثون على تضمين ديوانه متفرقات من الشعر الغنائي، وشذرات من الشعر القصصي؛ كان بعض الناشرين في أيامه يلحقها بالديوان أو يطبعها على حدة منسوبة إليهم، ويؤثر الناشرون المحدثون إلحاقها بديوانه على سبيل الحيطة، أو على سبيل الإحاطة، ولا يجهلون ضعف السند الذي ترجع إليه نسبة الكثير من هذه المتفرقات إليه، وهو ظهورها منسوبة إليه في حياته، فقد تحقق أن قراصنة الأدب - كما كانوا يعرفون يومئذ - كانوا يستبيحون أن يختلسوا الطبعات وأن ينحلوا شكسبير ما ليس من قوله؛ ترويجا له بين القراء في العاصمة وفي غيرها.

وربما اطلع عليه شكسبير أو لم يطلع عليه، ولكنه لم يكترث قط لنفي كلام منحول أو لمقاضاة المختلسين ومطالبتهم بحقه؛ لقلة العوض واطمئنانه إلى حقوقه المسرحية وعلم العارفين من حماة الشعر ونقاده بحقيقة الصحيح والمنحول، غير أننا نجمل الإشارة إلى تلك المتفرقات للإلمام بما يقال عنها عند تقديرها أو تصحيح نسبتها.

فمن تلك المتفرقات قصيدة الفونقس والقمرية

The Phoenix and the turtle

وهي صحيحة النسبة إليه، نظمها معارضة - أو إجازة - لقصة في موضوعها من نظم الشاعر روبرت شستر، وطبعها ريتشارد فيلد مواطن شكسبير في سنة 1601، وهي من متوسط شعره، ولكنها لا تعد من عيونه ومأثوراته.

وتنسب إليه قصة «شكاة عاشق» ولا يصح من نسبتها إليه إلا أنها تنم على آثار قلمه، كأنه عمل في تصحيحها وتهذيبها ثم أهملها، وليس في أسانيدها «الخارجية» ما هو أقوى من نسبتها إليه، ولا في أسانيدها الداخلية - أسانيد النقد التحليلي - ما هو أقوى من مشابهتها في أوزان النظم لبعض أعاريضه المحببة إليه.

واشتملت مجموعة منتخبة في عصره على نخبة من موشحاته وأغانيه في مسرحياته، ومعها نحو عشرين قطعة لم تنسب إليه في غير هذه المجموعة، وربما خفي عليه أمرها أو أهملها كما أهملها النقاد في عصره لاستبعاده أن تجوز على قرائه، وقد نشر هذه المجموعة وليام جكارد المشهور بالقرصنة الأدبية، وظهرت في سنة 1599 بغير تسجيل. •••

وفي القرن السابع عشر كشف المنقبون عن سجل مخطوط فيه قصائد ومقطوعات ونتف متفرقة ينسب بعضها إلى شكسبير، ومنها قطعة عن الملك يقول فيها إنه يملك الدولة والسطوة ولكنه إذا كان ذا بصر ومعرفة كان لذلك أشبه بخالقه وباريه، وليس لشكسبير شعر في المبادئ السياسية فيما عدا المسرحيات غير هذه الأبيات، ولكنه كان ولا شك حسن الاطلاع على محصولها في مباحث عصره، وأقربها إليه مباحث الأستاذ جيوفاني فلورير العالم الإيطالي الذي كان يدين بالمذهب البروتستانتي ويأوي إلى حمى اللورد سوثامبتون صديق شكسبير، وعلى نسخة من ترجمته لمقالات مونتاني توقيع شكسبير محفوظا بالمتحف البريطاني وإلى فلسفته تعزى المقتبسات من مصطلحات العلم السياسي فيما ورد على لسان أبطال المسرحيات. •••

والمشكوك فيه من شعر الديوان قليل بالقياس إلى المسرحيات.

والجزء الذي يتطرق إليه الشك نافلة من القول لا شأن له بترجمة الشاعر ولا بقيمة شعره ولا بتاريخ الأدب على أيامه.

وإنما تتباعد الآراء في شعره لتباعد الآراء - بعده - في الشعر كله، ولكثرة المدارس والمذاهب التي نجمت في عالم الفنون الغربية بين القرن السادس عشر والقرن العشرين.

ففي هذه العصور نجمت مدرسة السلفيين المحدثين ومدرسة المثاليين ومدرسة الواقعيين والطبيعيين ومدرسة البرناسيين، وتكلم النقاد من غير هذه المدارس عن وظيفة الشعر وعن شروطه وغاياته، فذهبوا في حدودهم وأحكامهم متفرقين تفرق النقائض والأضداد: يقنع بعضهم من الشعر بالرونق والطلاء، ويحسبه بعضهم إلهاما يقارب النبوة وينوطه بعضهم بالتأمل وبداهة الحكمة، ويراه آخرون زيا من الأزياء التي لا تحمد على حالة واحدة في جيلين متعاقبين ولا في عامة الأجيال .

فإذا كان شكسبير قد خرج من هذه الآراء المتعارضة بشاعرية مسلمة فتلك امتحانات شتى قد جازها، لا يجوزها على مدار الزمن غير آحاد من أعلام الشعر المعدودين في القديم والحديث، وقد جاز تلك الامتحانات على تباعد الآراء؛ إذ كان في شعره ما يرضي طلاب الرونق وطلاب التأمل وما يعجب مدرسة الطبع ومدرسة التعمق، وما يضطر المتعنت في شروطه وحدوده أن يترخص للزمن في تبدل أحواله ويستثني من تلك الأحوال شعرا يتخطى الأزمنة ويصاغ لكل آونة وكل بيئة.

ولا مناص من تسليم النقاد على نحو من هذا التسليم أمام الشعراء الذين سمت بهم عبقريتهم عن علاقة البلد والبرهة، وارتفعوا إلى علاقة دائمة تتصل بطبيعة الإنسان في كل جيل وقبيل.

ولا محل لاختلاف الرأي أمام الواقع المتواتر، ومن هذا الواقع المتواتر أن شكسبير شاعر متأمل عميق التأمل، وأنه يملأ العبارة بمعانيها وأخيلتها حتى ليوشك أن تضيق عنها، ومن الواقع كذلك أن صناعته الشعرية طوعت له زمام المعاني والأخيلة حتى استطاع أن يبرزها للقارئ ولا يخفي بها جمال النغم ومسحة الجزالة والعذوبة، فما أثنى عليه أحد من المعجبين به في عصره إلا كانت صفة «الحلاوة» أسبق الصفات إلى ثنائه، وكاد المعجبون بحلاوة نظمه أن يخيلوا للقارئ الذي لا يعرفه أنه شاعر من شعراء الطرب والإيقاع، ليس له من مزية تذكر إلى جانب اللفظ الرشيق والنغم العذب والعبارة المونقة.

ويقول أوليفانت سميثون صاحب كتاب «حياة شكسبير وعمله» ما فحواه: إن الشهرة التي جلبتها هذه الأشعار لشكسبير لشهرة واسعة، قد انهال عليه الثناء من كل صوب، فقال وليام كلارك إن شكسبير - العذب - جدير بكل ثناء من أجل قصة لوكريس، وقال جون ويڨر

Weever

يناديه: أيها المعسول اللسان شكسبير، وقال ريتشارد كاريل «إنه كاثيولس اللسان الإنجليزي.» وكاد أن يغلب عليه لقب شكسبير «الحلو» أو الشاعر المعسول.

أما شعره من حيث الصناعة العروضية فقد أسعده فيه حسن الحظ وحسن التصرف، فإنه بدأ النظم حين اكتمل العروض في لغته وتمت له قوالب الأوزان من مأثورات النظم في لغات الجزر البريطانية ولغات القارة الأوروبية، فأخذ من أوزان السكسون والنورمان والأيقوسيين والغاليين، واقتبس من بحور الشعر في فرنسا وإيطاليا ورومة القديمة، وكان من هذه الأعاريض ما يقوم وزنه على النبرة وما يقوم وزنه على حروف المقطع التي نسميها الأسباب والأوتاد في اللغة العربية، وانتقل الشعر المرسل إلى اللغة الإنجليزية لأول مرة بعد ترجمة المطولات اللاتينية، فجاء هذا الشعر - المعفى من القافية - في أوانه مع نشأة الفن المسرحي وضرورة النظم في غير المعاني الغنائية أو في غير معاني الغزل والمناجاة.

ولم يزد شكسبير شيئا على هذا العروض المكتمل غير حسن الاختيار وحسن التصرف، فاختار وزن الموشحة لمقطوعاته ونظمها من أربعة عشر سطرا تتخالف القافية في جميع سطورها إلا في السطرين الأخيرين، فإنهما يتحدان في قافية واحدة، واختار الوزن المسمى بالروي الملكي لكثير من أغانيه، وهو يتألف من الرباعيات والمثنويات في روي الرجز والتسميط باللغة العربية، وزاد الشعر المرسل «رسلا على رسل»؛ لأنه لم يتقيد بحصر الجملة في سطر واحد، وتسنى له بهذا الاسترسال أن ينتقل بالعبارة من سطر إلى سطر حيثما اطرد له المعنى أو المعاني المتلاحقة، وقد سبقه مارلو إلى إطلاق السطر ونقل موضع الإيقاع، ولكن الشعر المرسل إنما اكتسب مرونة النثر وإيقاع الشعر المنغوم على يد شكسبير، وأفادته نشأته في الريف أنه استخدم أهازيجه للغناء الخفيف في المواقف التي تلائمها من روايات الملهاة أو المأساة، وأسعده حسن التصرف مع حسن الحظ؛ فانقادت له ملكة الشاعر البليغ وملكة الناظم الصناع.

الخصائص والمزايا

من العسير جدا أن تتفق وجهات النظر في استحسان مزايا الشاعر مع كثرة موازين النقد وكثرة آراء النقدة وأساليبهم في تطبيقها، ولكنه إذا تعذر الاتفاق على إنكار مزاياه فقد يكون ذلك لفضل فيه أكبر من وجهات النظر وأجدر منها بالاعتبار وأحق بالبقاء.

فمن الجائز مثلا أن ينكر الناقد عليه مزية من مزايا الفن ويعود فيشهد له بمزية أو مزايا كثيرة فيما عداها.

ومن الجائز أنه ينكر عليه جميع المزايا ويقابله في زمانه نقدة يضارعونه في المكانة والخبرة ويخالفونه في إنكاره ، ويستندون في آرائهم على الأصول التي يستند إليها وإن لم يذهبوا مذهبه في تفسيرها وتطبيق مبادئها.

ومن الجائز أن تعبر بالشاعر فترة ينساه فيها النقاد والقراء ويلهون عنه بفتنة من فتن الزمن أو نوبة من نوباته، ثم تنقضي تلك الفترة فترجع ذكراه ويتعوض من النسيان إسرافا في الإقبال عليه، كأنه ندم على جناية الإعراض عنه والحرمان من متعة الاطلاع عليه.

وتطرد هذه القاعدة في عظماء الشعراء، فنعرفهم من الإنكار كما نعرفهم من الإعجاب، وكلاهما إذا اختلفت وترددت فيه الأحكام دليل على سعة الجوانب وتعدد المزايا ورسوخ الفضل العميم رسوخا يحيط بالنقد والناقدين، ولا يحيط به النقد والناقدون.

وليس أكثر من الإنكار على شكسبير إلا الإعجاب به والرد على منكريه هل هو شاعر فنان يمتاز بالجمال والسلاسة وطلاوة العبارة؟

هل هو شاعر حكيم يمتاز بأصالة الفكر وصدق التأمل واستبطان الحقائق الخفية؟

هل هو شاعر بصير بالطبائع والسرائر يمتاز بالوعي المحيط والنظرة الثاقبة والغوص العميق على طوايا الغيب في الطبيعة وفي الإنسان؟

هل هو شاعر المسرح؟ هل هو شاعر القصة؟ هل هو شاعر الملحمة؟ هل هو شاعر قوم؟ هل هو شاعر جميع الأقوام؟

نعم ولا، ووراء «نعم» و«لا» مرجع دائم يبرم وينقض، وينتهي إلى مراجعة الموازين نفسها؛ لأن الشاعر العظيم يصحح الموازين ويضطر فريق كل ميزان إلى إعادة النظر فيه، فله الكلمة الأخيرة فيها وليست الكلمة الأخيرة فيه للميزان الذي يتقبل التصحيح والتبديل منه ومن أمثاله على الدوام. •••

كان ڨولتير يقول عن شكسبير إنه محروم من الفن والنسق، والمثل الأعلى عند ڨولتير في الفن والنسق أن يكون وفاقا لسنن الأقدمين التي أخذ الزمن في تبديلها من قبل أيام ڨولتير.

ولما كتب رسائله الفلسفية عن الإنجليز قال عنه إنه محروم من أقل مسكة من الذوق وأقل دراية بالنسق، ولكنه لم يستطع أن ينكر عليه «العبقرية المفعمة بالقوة والخصب والدراية بما هو طبيعي وجليل.» وعاد بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة، فكتب إلى هوراس والبول يقول: «إنه ذو سجية حسنة، ولكنه ذو عنجهية همجية بلا نسق ولا فطنة ولا فن، يخلط الضعة بالعظمة والهذر بالهول ...»

وڨولتير الذي يقول هذا هو الناقد الحصيف الذي قرر في مقاله عن الملاحم أن آيات الفن لا تنتظم في نسق واحد، وأنه ما من تعريف يمكن أن يحيط بالروائع من طراز أوديب لسفوكليز، وسينا لكورنيل، وأتالا لراسين، ويوليوس قيصر لشكسبير، وكاتو لأديسون.

وڨيكتور هيجو، وهوند لڨولتير في النقد وفهم الشعر، يفضل الفن الحديث على فن الإغريق لأن الفن الإغريقي يخرج «النشوز النافر» من حسابه ولا يلتفت إلى الصلة بينه وبين الروعة والجلال، ولكن المحدثين - وفي طليعتهم شكسبير - يعرفون كيف يتزحزح أحدهما فينسرب في غمار الآخر، وكيف يصبح النافر جليلا كما يصبح الجليل نافرا، وينظرون آخر الأمر إلى النقيضين في أطوار الطبيعة، فلا ينسون التقريب بينهما؛ حيث يقتربان في الحقيقة ولا يبتعدان إلا بتكلف من عمل الإنسان.

ويناصي ڨولتير وهيجو في زمرة النقاد الأدباء هردر وفردريك شليجل الألمانيان، وعندهما أن المسرحية العظيمة لن تخلو من الفن؛ لأن الفن ينبع من الروح ولا ينشأ بداءة من حيل اللباقة أو تزويق الصورة المحسوسة، ويقول هردر: إنه لا يدفع عن شكسبير ولكنه يستند إليه ليرد على ناقديه، فإنه ترجمان الطبيعة التي تتكلم بألسنة كثيرة، ومن قرأه فلا عليه أن ينسى المسرح والممثل وينظر إلى الأوراق المتطايرة من صفحات الكتاب الأبدي: كتاب الكون والحياة.

وبنديتو كروشي الإيطالي ند لهؤلاء جميعا إذا عدوا من النقاد أو عدوا من الفلاسفة، وجوابه لهم فيما افترقوا فيه أن الفن يلتقط أبطاله من الحياة ولكنه لا يماثلها في صورها العامة المشتركة، وأن شكسبير عبقرية عالمية لا يحدها زمانها ولا تحدها فترة واحدة كائنة ما كانت، وهو يمثل لنا أشتاتا من البشر على تباين شديد في بواطنها وظواهرها، ولكنه يشرف عليها لتمثلها على سواء ولا ينعزل عنها؛ إذ نحن نفرق بينها على حسب شعورنا بها في صورتها المعروضة علينا من صنع يديه، ولو كان بمعزل عنها لما افترق أحد منها عن أحد في شعورنا، وإن شكسبير على هذا الإشراف فوق الشخوص والأمزجة ليطوي كل شيء في شخصه مما تعلمه أو اختبره في حياته، وبهذه الخصلة فيه استطاع أن يأخذ الموشحات من ينبوعها الإيطالي ويودعها ترجمة حياته.

ولعل الأدب الأوروبي لم يعرف بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ناقدا فنيا من الباحثين في فلسفة الجمال أبرع من جورج براند الكاتب الدنمركي صاحب الآراء المأثورة في مباحث «الإسطاطيقا» وتطبيقاتها على الشعر والمسرحية بصفة خاصة، فربما نبغ في عصره من أصحاب هذه المباحث كثيرون من نظرائه وأقرانه، ولكن آراء براند لا تزال حتى الآن في مقدمة الآراء عند من يرجعون بالفن والأدب إلى أصول فلسفة الجمال وأصول الفلسفة على الإجمال.

فهذا الناقد الفنان الفيلسوف يرى أن الوحدة في العمل الفني شرط لازم، ولكنه لا يحصرها في شروط الوحدة التي نص عليها الأقدمون، بل يفضل عليها أحيانا وحدة الباعث والحركة ووحدة الجو الوجداني الذي يحيط بالأمكنة والأزمنة والحوادث والشخوص، ويعرض براند للعناية باللفظ فلا ينفي أن شكسبير كان يتخير اللهجة الخطابية في أشعاره ومسرحياته، وإنما يعزو ذلك إلى حكم الموقف الذي لا فكاك منه بعد انتقال التعبير من اللاتينية إلى الكلمات السكسونية فالإنجليزية، فليس من الفن ولا من التأثير الفني أن تأخذ الألفاظ السوقية لتضعها على حالها في موضع اللغة التي قدستها التقاليد ودرجت عليها أساليب النخبة الأفذاذ من نوابغ الشعر والنثر والحكمة، وهذه العناية بسوق الألفاظ في مساق الخطابة والتأثير هي الموازنة التي لا بد منها لمجاراة الأدب السلفي في مجاله، وما زالت مراعاة المقام في كل كلام شرطا من شروط الفن الأصيل كيفما اختلفت عليه الموازين والآراء.

ومدرسة الفن للفن لا تغيب عن هذا المعترك الذي تتلاقى فيه الآراء أو تفترق حول الفن والفكر، أو الفن والأخلاق، أو الفن المستمد من أعماق الروح، أو الفن الذي ينقل عن الطبيعة ويلتقط منها نماذج الصور والألوان.

وإمام هذه المدرسة في الأدب الإنجليزي «والتر پاتر» الذي يلقب بالكاتب المرصع أو الكاتب الموشي؛ لأنه يجري الكتابة مجرى الصور فيما تعرضه من الأصباغ والظلال أو مجرى العقود فيما تنتظمه من الفصوص والجواهر على تناسب الأحجام والألوان.

عند پاتر أن مدرسة الفن للفن تجد رضاها في شكسبير؛ لأن رواياته «توليفة» من النفوس البشرية تمتزج وتنفرد كما تمتزج أشعة الطيف الشمسي مع الحركة السريعة أو الحركة البطيئة، فلا تنافر بينها في امتزاجها، ولا يتراءى عليها التنافر وهي منفردة إلا ريثما تتحول من مادة صبغية إلى صورة متناسقة التلوين والتظليل، ويختار پاتر ملهاة «الحب الضائع» - وهي من أوائل المسرحيات التي ألفها شكسبير - ليورد منها الأمثلة على اللفظ المنتقى لجمال إيقاعه والنماذج الإنسانية المتلاقية؛ لما بينها من تجاوب الأشكال والشيات.

1 •••

وربما اتفق الناقدان من مدرسة واحدة على فهم واحد للشعر ولم يتفقا على مواضع الاستحسان في موضوعاته وأقسامه.

فالناقد الإنجليزي مورتون لوس

Luce

صاحب كتاب «متناول شكسبير» يرى أن قصة لوكريس دون قصة فينوس وأدونيس وأن الأولى «أقل طبيعة، وأقل نغمة، وأقل جمالا، وأقل شعرا.» من سابقتها في النظم فينوس وأدونيس.

وجورج ريلاند

Ryland

صاحب كتاب الكلمات والشعر يقول نعم! ولكن لأننا نأخذ بديلا من ذلك مزيدا من شاعر الدرام أو شاعر المسرحيات، وأن شكسبير قد وعد في إهدائه لقصة فينوس أن يعقبها بعمل أرصن وأقرب إلى الجد، ثم يقول الناقد: «إن الزينة في قصة فينوس تنوب عنها التشبيهات في قصة لوكريس ... وإن في دحيلة ثاركوين قبل العدوان صراعا كالصراع الذي اشتجر في قلب ماكبث؛ إذ يقول عن الملك: «إن عار العدوان عليه - وهو من أهلي وخاصة صديقي - لا غفران له ولا نهاية.» وإذ يقول: إنه هنا في ذمتين: ذمة القريب وذمة الرعية ... وكذلك يقول ثاركوين، وهو يدعو الآلهة ويتأمل: «إن الآلهة التي أدعوها تمقت هذه الفعلة فكيف تمدني بالمعونة عليها؟»»

ويمضي الناقد في بيان الأسلوب الذي يناسب هذا السياق المسرحي ويخالف سياق الخطاب الوجداني في قصة فينوس وأدونيس. •••

وإن القارئ ليمعن في استطلاع هذه الآراء، فيجتزئ منها بالأمثلة الكافية أو يطيل الأمد في الاستقصاء والإحاطة؛ لأن الكتاب الذين عرضوا لنقد شكسبير في لغات الحضارة يعدون بالمئات، ولكنه يعلم كلما أمعن في الاستطلاع أن مقاييس الفن تستهدف للتعديل والتنقيح كلما اقتربت من عبقرية نادرة بين عبقريات الفنون، وإن مقال شاعرنا المتنبي عن قصائده:

أنام ملء عيوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

يصدق على كل عبقرية تخلق الفن والفن لا يخلقها، وأنه ما من مذهب من مذاهب النقد يستطيع أن ينكر شاعرا عظيما أو يجد من يتقبل حكمه إن أنكره؛ لأن الشاعر العظيم يأتي بدستوره الذي يجري عليه حسابه، وقد يضيق المذهب فلا تتسع حدوده لشاعرين عظيمين. •••

والنقاد يطيلون النقاش ولا حرج عليهم أن يطيلوه في كل مطلب تتشعب نواحيه وتتعمق أغواره وتتقابل زواياه، لكنهم قد استطاعوا في نقد شكسبير أن يقسموا الكلام عنه إلى قسمين: قسم تتقارب فيه وجهات النظر لأنه أشبه الأشياء بوصف الواقع، وهو الكلام على خصائص الأداء من لفظ وأسلوب وطريقة تنظيم للمناظر والأدوار، وقسم آخر هو الذي يطول فيه النظر ويكثر التعليق والتعليل، وهو الكلام على المزايا العليا التي امتازت بها عبقرية شكسبير. •••

والكلام على أدائه من وجهة الألفاظ والمفردات مسألة إحصاء؛ إذ كانت مفرداته تحسب بالأرقام وتزيد على المفردات في كتابات كل أديب استخدم اللغة الإنجليزية من قبل القرن السادس عشر إلى اليوم، وتبلغ عدتها ستة عشر ألف كلمة، يدخل منها في معجماته الخاصة التي تعرف باسم مصطلحات شكسبير أكثر من عشرة آلاف.

وسر هذه الكثرة أن شكسبير كتب في العصر المتوسط بين ابتداء الكتابة باللغة الإنجليزية وبين شيوعها والاقتصار عليها في موضوعات الفن والثقافة وسائر الموضوعات.

فقبل القرن السادس عشر بأجيال قليلة كانت اللاتينية لغة العلم والدين في إنجلترا وفي القارة الأوروبية، وكانت الفرنسية لغة السياسة والمخاطبات الرسمية في أوروبة الغربية، ثم تنبه الشعور باستقلال الفكر واستقلال الوطن في عصر النهضة، فترجمت الكتب اللاتينية والفرنسية إلى اللغات الوطنية، وأخذت طائفة من الإنجليز في استخدام لغة الحديث للكتابة، فظهر أسلوب الكتابة الذي تختلط فيه الكلمات الإنجليزية الدارجة والكلمات النورماندية، أو السكسونية وأشتات من الكلمات النورماندية أو السكسونية وأشتات من الكلمات اللاتينية «المكلنزة» في هجائها والنطق بها على النحو الذي تنطق به الكلمات الشائعة.

وأكثر شكسبير من تلك الكلمات الشائعة في لهجات المدن ولهجات القرى من الأقاليم الوسطى، وكان يفضل الاقتباس من هذه اللهجات كلما اقتبس الكتاب المعاصرون من اللاتينية أو الإغريقية؛ لأنه لم يكن واسع المحصول من مفردات هاتين اللغتين، وقد ثبتت مفرداته في اللغة وإن تغير المفهوم من بعضها مع تغير المصطلحات والأذواق، ثم تخصصت الكتابة بألفاظها وعباراتها، فبقيت كلمات من مفرداته مهملة في الكتابة متداولة في الحديث، ولا سيما في قرى الأقاليم الوسطى التي أخذ منها محصوله من عبارات الريفيين.

ويحرص الإنجليز على تدوين لغة شكسبير فيحصرون مفرداته في معجمات خاصة أو يذكرونها في المعجمات العامة مشفوعة بالنسبة إليه، وقد يلحقونها بمجموعة أعماله ويكتفون منها بما يفهم على وجه يخالف وجهها في الكلام المتداول بعد عصره، وكثيرا ما تأتي هذه المخالفة من إيثاره للكناية والمجاز في بعض التراكيب، ولا يعسر فهمهما بغير تفسير على من ألقى باله إلى طريقته في اللحن والإيحاء.

أما أسلوبه في تركيب المفردات فالغالب عليه في أول عهده بالتأليف المسرحي أن يجنح إلى التفخيم والتأثير وأن يودع الجملة غاية ما تحمله من المعنى الصريح والإشارات الخفية.

وكان من الطبيعي أن تغلب عليه هذه النزعة في أول عهده بالتأليف للمسرح؛ لأنه كتب للمسرح في عهد لم تخلص فيه الأذهان من بقايا قصص البطولة والقداسة، وبدأ كتابته باللغة الدارجة فلم يكن في وسعه أن يحلها محل اللاتينية وأن ينزل بها من أحاديث البطولة والقداسة دون أن يمسح عنها غبار الابتذال والسوقية بشيء من تفخيم الخطاب والمجاز، وأكبر الظن أنه لم يكن طليق الرغبة في هذه النزعة؛ لأنها كانت شعار المسرح على ألسنة أقطابه وأصحاب الرأي والعمل في توجيه التمثيل والتأليف، ومنهم إدوارد ألين

Alleyn

صاحب القيادة في هذه الصناعة يوم بدأ شكسبير في تأليف المسرحيات، وقد كان له شعار يلخصه في كلمتين: الصوت والسورة

Sound and fury

فلا تجوز المسرحية امتحانها عنده حتى يكون لها لفظ رنان يملأ الآذان وحركة دائمة تشغل الأذهان، وهو شعار كان شكسبير يؤمن بضرورته في بعض المسرحيات التي لا غنى فيها عن الروعة والتأثير، فإذا تفتح له باب الخلاص منه لم يتوان في ولوجه، كما يظهر من طريقته في روايات الملهاة؛ حيث تغني الفكاهة عن استرعاء الأسماع بالتفخيم والتأثير، وحيث درج المؤلفون فيها قديما على اجتناب لغة البطولة والقداسة قبل أن تتحول من لغة اللاتين والإغريق إلى لغة السوق والطريق. •••

ويلاحظ عند عرض أعماله في تسلسلها التاريخي أنه كان يميل إلى السلاسة والبساطة في مسرحياته ومنظوماته الأخيرة، وأنه كان أسرع إلى السلاسة والبساطة في المنظومات وتتلوها روايات الملهاة ثم روايات المأساة، كأنه كان يستفيد من طول الخبرة فيملك ناصية القلم ويستفيد من سعة الشهرة فيملك حريته مع قادة المسرح وجمهرة النظارة والقراء، وسبقت منظوماته سائر أعماله في هذا الاتجاه الفني؛ لأنه كان أقرب فيها إلى الاستقلال برأيه وهواه.

يقول هاليدي

Halliday

في كتابه «شكسبير والنقاد»: «يرى من وجهة الصنعة والأداء - أن النماذج المختارة - تبدي لنا تطوره في النظم من دوي السطر ذي المقاطع العشرة الذي اختاره مارلو إلى الأداة المرنة المونقة في المآسي والقصص.»

ثم يقول عن النثر بعد الاستشهاد ببعض النماذج: «إن هذه النماذج تبدي لنا تطورا شبيها بالتطور الذي أشرنا إليه في النظم انتقالا من الجفاف والحرص على النمط إلى الرشاقة والسجية الظاهرة، وانتقالا من صنعة ليلي

Lily

وشقشقة «الحب الضائع» إلى الحديث المصقول في براعة ويسر على لسان بنديك ولسان بتريس إلى ما هو أيسر من ذلك وأسلس في حوار هملت أو الحديث السهل النبيل في فاجعة ماكبث، وما نقوله هنا تعميم سريع، إذ لا شك أن تطور النثر من حيث هو أداة مسرحية أقل بروزا من تطور القصيد، وأقل انتظاما واطرادا منه؛ فلا يمتنع أن تبدو السهولة في كتابته الأولى أو تبدو الكلفة في كتابته الأخيرة، إلا أن الكتابة الأولى على وجه التعميم أقرب إلى اليبوسة والكلفة والتضلع - أو نتوء الزوايا - في حين تبدو الكتابة الأخيرة أقرب إلى المرونة والتنوع والخفة، أو هي - في كلمة واحدة - أقرب إلى الصبغة المسرحية.»

ويقال على التعميم أيضا إن شكسبير تطور ولم يتغير، ويقصدون بالتطور - دون التغير - أنه يدل على التقدم ويدل مع التقدم على بقاء الملامح بينة ناطقة لا تختلف إلا كاختلاف ملامح الوجه بين سن الصبا وسن النضج والتمام: من شاء استحسن منها ما شاء، ولكنهم يستحسنون هذا أو ذاك على تفاهم وإدراك. •••

وتتقارب وجهات النظر في بيان معالم الطريق خلال هذا التطور كما تقاربت في الكلام على خصائص الأداء على الإجمال، وقد أجمل هذه المعالم كاتب من حذاق المترجمين للأدباء في عصر الملكة اليصابات، والمتفرغين لأدب شكسبير على التخصيص، وهو الدكتور هريسون مقدم المسرحيات وصاحب الرسالة الممتعة في تقديم شكسبير، وهي من أحدث ما كتب في تقديم الشاعر لقراء العصر الحاضر ومن أجمع التصانيف الأخيرة لأقوال شراح المطولات والموسوعات، وفي هذه الرسالة يفرد الكاتب فصلا لتطور أسلوب شكسبير، يسمي فيه معالم الطريق خلال ذلك التطور بأسماء المسرحيات، ويقول في مفتتحه: «إن أسلوبه الأول يتميز بغير مشقة، فالأوزان فيه ملحوظة بدقة وانتظام، والقافية فيه متبعة يفضل منها ذات الأسطر المتخالفة على المثاني المتتابعة، وبين حين وحين يدخل الموشحة في الحوار، ويكثر في الملهيات من الكلم البارع وبخاصة في الحوار بين الفتيان حتى ليضجر السامع لسرعة التبدل في الأذواق، ويتدفق ثمة حشد النكات المركبة مع استخدام الصور الخيالية حبا لها لا لتوضيح الفكرة أو مضاعفة التأثير، أما في المآسي - والتاريخيات منها بصفة خاصة - فإنه يعمد إلى اللفظ الطنان أحيانا ويودعه من أقوال البطولة ما ليس من ضرورات المقام، غير أنه لم يزل يؤثر العبارة الجميلة على الصياغة المسرحية.»

ثم يقول: «إن أحسن عاداته وأسوأها في مسرحياته قبل النضج تتراءى في أجمل مسرحياته الباكرة روميو وجولييت ...»

ويمضي فيقول ما فحواه: «إن أسلوبه الأول اختفى سريعا مع زيادة الخبرة والقدرة على الأداء، وفي سنة 1596 كتب تاجر البندقية فكان فيها حواره الجدي خيرا من مساجلاته الفكاهية ... وبعد تسعة أشهر على التقريب كتب الجزء الأول من هنري الرابع؛ فكان لأول مرة مسيطرا كل السيطرة على أداة تعبيره، وتعددت في الرواية شخوصها المختلفة، فكان لكل منها أسلوبه يلائمه ويحكيه ... وبعد ذلك كتب روايته عبد الله المغربي فلعلها كانت أتم المسرحيات في بنائها وتكوينها، وأوفاها لجلاء أساليبه الأربعة في الشعر الغنائي وفي القافية وفي الشعر المرسل وفي النثر ... ولما كانت سنة 1606 كتب لير وماكبث، فجاءت أولاهما عصية على المطالعة لتركيز الفكر فيها لا لغرابة مفرداتها، ولاستخدام الكلمة والصورة الخيالية معا للإعراب عن معنى لا يسهل الإعراب عنه ... ومضت فترة ندرت فيها كتابة شكسبير ... ثم كتب في سنتي 1610، 1611 سمبلين ونادرة الشتاء والعاصفة ... وبدا فيها قليل من الانحدار بعد الذروة التي ارتقاها منذ سنوات، غير أن الحوار في نادرة الشتاء يرينا شكسبير على أحسنه وإن اختل تأليف الرواية لانقضاء ست عشرة سنة بين فصلها الثالث وفصلها الرابع ... أما في العاصفة فقد بلغ في رأي النقاد الكفاة قمة التأليف في المسرحيات، وجاء فيها بأجمل ما ترتقي إليه اللغة الإنجليزية في نظم القصيد، وستفنى اللغة الإنجليزية في أجلها المقدور، وذلك الشعر منتهاها من البلاغة والجمال ...» •••

ويعتبر النقد الموجه إلى الأداء المسرحي، أو العرض المسرحي، في روايات شكسبير نقدا موجها في أساسه إلى بناء المسرح في القرن السادس عشر، وإلى ضرورات التأليف التي استلزمها ذلك البناء.

إذ يرجع النقد في أساسه إلى صعوبة تحويل المناظر على المسرح وصعوبة الدلالة على ابتدائها وانتهائها وعلى أمكنة الحوادث التي تجري فيها وتستمر أو تنقطع دون نهايتها، وكانوا تارة يجعلون تقسيم المناظر تابعا لحركة الأبطال البارزين في الرواية أو تابعا لاجتماع العدد الأكبر من ممثليها في وقت واحد، وينوطون أمر التقسيم بالمخرج الذي يتولى دعوة الممثلين إلى أدوارهم، ويلاحظ اتصال الأدوار قبل خلو المسرح من الممثلين المتكلمين، وقد ظهرت الطبعة الأولى من مجموعة شكسبير وليس فيها علامات تدل على انتقال المناظر أو على أماكنها، واجتهد نيقولاس راو

Rowe (1674-1718) في تدارك هذا النقص في طبعته المهذبة لهذه المجموعة، فأصاب وأخطأ وفتح الباب للتعديل والتنقيح في تقسيم المناظر، بل لكتابة بعض أجزائها على نمط آخر يوافق تطور المسرح وتطور لغة الخطاب وتطور اللغة والمتكلمين بها في استعمال المفردات بين جيل وجيل.

وانفتح الباب للتعديل والتنقيح، فكان الممثل جاريك

Garrick

يعيد كتابة بعض المناظر ويجاوز ذلك إلى تحويل الروايات من المأساة إلى الملهاة كما صنع في ختام رواية «روميو وجولييت» وجاء على آثاره أناس من الممثلين والمخرجين، فقدموا وأخروا في المناظر، وغيروا وبدلوا في الحوار والخطاب، وأدخلوا الموسيقى والرقص إلى بعض المواقف، بدلا من الأغاني والأناشيد، أو تلحينا لما يصلح منها للرقص والإيقاع.

واسترسل طلاب التعديل والتنقيح حبا للتفنن والتنويع أحيانا، ولغير ضرورة من ضرورات المسرح أو ضرورات الاصطلاح في اللغة، فخطر للسير باري جاكسون

Barry Jackson

في أوائل القرن العشرين أن يمثل هملت بملابس العصر الحاضر، فقوبلت فكرته بالاستغراب والتطلع ولكنها لم تعدم من النقاد المعدودين من يحبذها ويستكثر من تطبيقها، وقال أحدهم هيورت جريفين، ما معناه إن هذا التمثيل بالملابس العصرية قد أظهر الجانب الإنساني الخالد في هملت فلم يبد عليه شيء من الغرابة كالذي بدا على أصحابه الثانويين ممن غلبت صبغة عصرهم على الصبغة الإنسانية. •••

وتتراجع في هذا العصر محاولات التبديل والتعديل في نصوص شكسبير، بعد أن مرت بأدوار شتى لم تكن كلها تدور على الأسباب المسرحية التي نشأت منها.

فقد نشط المبدلون والمعدلون في أيام الرجعة أو أيام الاستقرار

Restoration ؛ لأنها كانت في نظر أبنائها عصر تبديل وتعديل في النظم والآداب والتقاليد والعادات وكانوا ينظرون إلى ثورة المتطهرين كأنها حد فاصل بين ماض مهجور ومستقبل منظور، يبنى كل ما فيه على أساس جديد.

واستولت هذه الفكرة على خواطر القوم وأهوائهم قرابة مائتي سنة إلى أواسط القرن التاسع عشر، وفي هذه الفترة سرت دعوة النقد التحليلي ودراسات علم النفس وتطبيقاتها على الفنون، ولا سيما فن التمثيل وفن التأليف المسرحي؛ لأنهما موكلان بتحليل الشخوص وتطبيق الدراسات النفسية، فتبين من إعادة النظر في شكسبير على ضوء هذه الدراسات أنه أعظم من ناقديه وأعظم من مسرحه وجمهوره ، وكان من مفارقات الزمن أن شهرته العالمية خارج بلاده نبهت قومه إلى المحافظة على تراثه والاعتداد بمكانته فأصبح عندهم، وعند نقاده الأوروبيين فنا مستقلا يوزن بميزانه، ويحتفظ به لذاته، وأصبحت له إلى جانب قيمته الحية الباقية قيمة الأثر العزيز الذي يضن به على التغيير.

وقد تراجعت محاولة التبديل - من ثم - إلى حدودها المعقولة، فاستباح المخرجون والممثلون ترك الفضول من المناظر التي يغني عنها بناء المسرح الجديد، وأجمع المشتغلون بالمسرح على التحرج من التبديل الجائر الذي يخفي صنعة الشاعر وأنماطه المألوفة في التعبير والتأثير، واستحبوا أن يعودوا النظارة قبوله في ساحة المسرح على علاته وأن يعرفوا له حقه في الكلام على سجيته، كما يعرفون هذا الحق لمن يقدرون نفاسة حديثه ويضنون بها أن تضيع بدواته، أما فنه المكتوب فقد تركوه بحرفه واجتهدوا في تقريبه شرحا وتيسيرا على درجات تناسب القراء، مع تفاوت السن والفهم والثقافة. •••

وننتقل من خصائص الشاعر إلى مزاياه، وكأننا ننتقل من الأداء إلى الرسالة التي أداها الشاعر بفنه من منظوم ومنثور وقصص وتمثيل، ولباب هذه الرسالة في كلمة واحدة أنها رسالة «الإنسان».

كانت دعوة العصر كله دعوة الإنسانيين، وكان من نصيب هذا الشاعر أن يكون ترجمانا لدعوة عصره، ولا بد لها من ترجمان، فانتهى العصر وبقيت الترجمة؛ لأنها ترجمة عن الإنسان الخالد، وهو لا ينحصر في عصر من العصور.

والأمر في رسالة شكسبير أكبر من أمر الترجمة عن الإنسان، وأكبر من أمر تصويره أو وصفه أو التعبير عنه؛ لأن ذلك كله قد يصنعه الشاعر ولا يبلغ من المنزلة الأدبية - الإنسانية - أن ينفرد بتمثيل العصر كله، وأن يمتاز برسالة الدعوة بين لفيف من دعاتها الممتازين.

إنما كانت رسالة شكسبير في دعوة الإنسانيين «خلقا فنيا» للطبيعة الإنسانية ولم تكن مجرد تصوير لها أو تعبير عنها.

والفرق بين الرسالتين واضح محسوس يلمسه من يريد أن يتحراه بنفسه في كل آونة.

فليس من النادر أن نعرف إنسانا فنصوره بصفة غالبة عليه، أو نصوره بجميع صفاته التي يدركها عارفوه.

وليس من النادر أن نعبر عنه ونقول بألسنتنا ما يقوله هو بلسانه، ولكن النادر أن نخلق صورة منه وندعها ماثلة في عالم الكتابة تعيش كما يعيش الأحياء ، وتحيا لو نفخ الله فيها روح الحياة فإذا هي نسخة أخرى من صاحبها في قوله وعمله وفي سره وعلنه، وفي خاصة نفسه وفيما يرتبط به مع الناس من مجاوبة في الشعور ومعاملة في الخير والشر والموالاة والعداء.

فرق بين خلق الشخصية وبين الحكاية عنها بالوصف أو بالتعبير، وخلق الشخصية في عالم الفن هو رسالة شكسبير في دعوة الإنسانيين، وأي شخصية؟ شخصية الإنسان في طبيعته المتنوعة المتقلبة حيثما كان وكيفما كان.

مئات من الرجال والنساء والأطفال، في كل سن، ومن كل مزاج، وعلى كل حالة، وبين كل طبقة، تجمعهم تصانيف شكسبير.

منهم الطيب والخبيث، ومنهم الصريح الجلي والغامض الخفي، ومنهم الطامع والقانع، ومنهم العظيم والحقير، ومنهم من يعرض في حالة الفرح والرضا ومن يعرض في حالة الحزن والسخط، ومن يعرض في جميع الحالات، وكلهم يتكلمون كما ينبغي أن يتكلموا ويعملون كما ينبغي أن يعملوا، ويعيشون بأنفسهم في أخلادنا ولا يعيشون بمجرد الكلام الذي قالوه والصنيع الذي مثلوه، أو كما يقول أديب فرنسي مفرقا بين شخصيات راسين وشخصيات شكسبير: «إن الأولى تنقضي بعد نزول الستار، ولكن شخصيات شكسبير تلبث لحظة على المسرح وتمضي فنحس أنها لا تزال باقية وأننا قد نلتقي بها مرة أخرى.»

2

ولا تزول الغرابة في إبداع هذه الصور لأبطاله من الرجال؛ لأنه رجل ينبغي أن يعرف كل رجل، فإن الإنسان ليعجز عن خلق صورة فنية لنفسه وهو أعرف بها من غيره، فليس في مقدوره - لأنه رجل - أن يخلق في عالم الفن رجالا من الملوك والساسة من العظماء والحقراء، ومن رجال الدين ورجال الدنيا، ومن الشيوخ والشبان، ومن الخيرين والأشرار، ومن العاملين على كره والعاملين على اختيار.

إلا أنه كلام يقال عن رجل يخلق شخوص الرجال.

لكن ماذا يقال عن خلق أمثال هذا العدد من النساء؟ وماذا يقال عن خلق شخصيات الأطفال وهم لا يعرفون أنفسهم في أعمارهم ولا يعرفون ما يبقى لهم من ذكريات الصبا إذا جاوزوا سن الطفولة؟

كتبت السيدة آنا جيمسون كتابها المشهور عن بطلات شكسبير، فنقلت فيه خمسا وعشرين صورة تحليلية من صور النساء في مسرحيات شكسبير: منهن نساء الذكاء والفطنة، ومنهن نساء المطامع والمغامرات، ومنهن نساء العاطفة والحنان، ومنهن النساء المعروفات في التاريخ، وكلهن نساء وليس فيهن واحدة تشبه الأخرى في جملة صفاتها ونياتها، وخلاصة ما قالته عنهن إنها - وهي امرأة - كانت تنظر في مرآة شكسبير؛ فتصحح منها علمها بالنساء حين يختلفن مثل هذا الاختلاف، إنه لأبعد اختلاف وجد بين أنثى وأنثى في جميع الأمم.

والممثلة النابغة إلين تيري

Ellen Terry

تكتب عن الأطفال في مسرحيات شكسبير، وقد بدأت عملها على المسرح بتمثيل بعض هؤلاء الأطفال، فإذا بها تنسى، وإذا بالشاعر يذكرها كما تذكرها صور الحياة، وكأنها تستكثر أن يكون هذا وعيا باطنا من الشاعر وحسب، فيخيل إليها أنه كان ينقل الصورة تارة من ابنه «هامنت» وتارة من الطفل وليام شكسبير كما بقي في وعيه من ذكريات صباه. •••

وأغرب من هذا في القدرة على استكناه بواطن النفس ومحاكاتها على حقيقتها أن يقتدر شاعر في القرن السادس عشر على عرض العلل النفسية بحدودها العلمية التي كشفت عنها دراسات العلماء بتفصيلاتها ودخائلها في العصور المتأخرة، ولم يزل منها سر خفي ينكشف من غيابته العميقة عاما بعد عام إلى هذه الأيام.

إن الأقدمين قد عرفوا حالات الجنون والبلاهة، وعرفوا أن الجنون فنون، وأن الهوى قد يداخل العقول بمس من الجنون في الأصحاء، كما قال ابن الرومي:

أعيى الهوى كل ذي عقل فلست ترى

إلا صحيحا له حالات مجنون

غير أن هذه الحالات لم تعرف بتفصيلاتها وعوارضها التي تميزت بها قبل شيوع الدراسات النفسانية على منهج العلم الحديث، ومنذ أواخر القرن الثامن عشر بدأت هذه الدراسات كأنها دراسة واحدة ترتبط بموضوع واحد، ثم تفرعت على هذا الأصل الواسع فتخصصت منها دراسة لكل ضرب من ضروب الخلل والشذوذ، وانفصلت كل علة بأعراضها وأسبابها فهي لا تتشابه في عشرات من الشخصيات وإن شملتها كلمة الخبل أو كلمة الانحراف.

وأعرف العارفين بدخائل العلل النفسية اليوم هم الذين يستطيعون أن يراقبوا العلل في مظهريها المختلفين : مظهر الشخصية المريضة، ومظهر الإنسان الصحيح الذي يصاب بلوثة من الخبل والانحراف؛ فتشاهد آثارها في توجيه أفكاره وأعماله.

وهذان مظهران مختلفان، فإن الشخصية المريضة وحدة مشتبكة ترتبط فيها بعض الأعراض ويتلازم فيها بعض البواعث، وتكاد الشخصية المصابة بعلة من العلل أن تنفرد بلوازمها وأعراضها فلا تصلح لدراسة علة غير علتها ولا يصلح لها العلاج الذي تعالج به العلل الأخرى، فمريض العظمة غير مريض السوداء، وكلاهما لا يشبه مريض الإجرام في جملة أعراضه وبواعثه، بل يختلف أحيانا مرضى الإجرام فلا يتشابه مريض القتل والإيذاء، ومريض السرقة والاختلاس.

أما الشخصية التي تعتريها لوثة من لوثات الخبل والانحراف، فقد ينحرف مسلكها فيما يتصل بهذه اللوثة وقد يبدو الخبل فيها كأنه بقعة طارئة، يجوز أن تصبغها كلها بصبغتها ويجوز أن تلابسها بلون غير لونها، ولكنها على هذا وذاك بقعة طارئة وليست من مزاج الشخصية وتركيبها.

فإذا ملك الطبيب النفساني زمام علمه فقصاراه أن يدرك صورة الشخصية المعتلة فلا يخلط بين بواعثها وأعمالها وبين البواعث والأعمال التي تتميز بها شخصية مصابة بعلة أخرى، وقصاراه في أمر العلة الطارئة أن يدرك موقعها من النفس وعلاقتها بالأعمال والبواعث التي تعرضت لتأثيرها.

منذ بدأت الدراسات النفسية في أواخر القرن الثامن عشر - نشأت في عالم الأدب مدرسة النقد التحليلي التي جعلت قوامها تحليل الأدب والأدباء من الناحية النفسية، واتخذت صدق التعبير عن النفس معيارا لملكات الأديب، كما اتخذت أمانته للطبيعة معيارا لقدرته على حسن الأداء.

ولم يكن اصطلاح العقل الباطن معروفا في أواخر القرن الثامن عشر، ولكن الناقد المحلل وليام هوايتر ذكره باسم البواعث والنيات الخفية أو العميقة في كتابه الذي ألفه سنة 1794 وسماه نموذجا من التعقيب على شكسبير، فكان مداره على النوازع الكامنة وراء أعمال الأبطال والبطلات وأقوالهم التي ينساق إليها الأحياء بدافع من دوافع الشعور، يطيعونه وقل أن يدركوه.

3

ومضى بعد كتاب هوايتر قرن كامل في أشباه هذه البحوث والدراسات امتلأت فيه الأذهان بأصداء الحديث عن النفس ودخائلها وأسرارها وعلامات السلامة والمرض فيها، ووقر في روع الجيل كله أن العالم الحديث مصاب بداء الانحلال والاضمحلال، فشاعت على الألسنة كلمة «آخر زمن»

Fin de sicéle ، وطفق المتكلمون يرددونها كلما سمعوا عن خبر من أخبار الغرائب والبدوات التي يحسبونها من علامات الانحلال والاضمحلال، كأنهم يحسبون أيضا أن ختام السنوات في القرن يوافق ختام الزمن أو ختام العالم، وظهر في هذه الفترة كتاب «الانحلال والاضمحلال

Degénération » لمؤلفه الطبيب الكاتب الألماني ماكس نورداو

Nordau

يقرر فيه أن أخلاق الجيل تنم حقا على انحلاله واضمحلاله، ولكنه يستدل بذلك على أول العلامات في نظره وهو تفسيرهم عيوب الأخلاق والآراء بنهاية القرن؛ إذ كانت نهاية القرن رقما من أرقام الحساب لا ارتباط بينه وبين الواقع ولا أثر له في تدهور النفوس أو تقدمها، وإنه لرقم يدل على الانتهاء في حساب التقويم الميلادي يقابله رقم يدل على الابتداء في التقويم الهجري، وقد يقابلهما رقم يدل على التوسط في التقاويم الأخرى، ولا يقال من أجل ذلك إن العالم يحبو في طفولته أو يدب إلى شيخوخته أو يعتدل في عنفوان الكهولة والاستواء، ثم استطرد الكاتب الطبيب إلى المقابلة بين أدباء العصر ومن تقدمهم من الأدباء الأقدمين والمحدثين، فقال إنها مقابلة بين المرض والصحة وبين الانحراف والطبيعة المستقيمة، واتخذ شواهده من أبطال شكسبير مستندا إلى حقائق الطب والأدب، فقال - فيما قال - إننا نستطيع أن نتحرى أعراض هوس الاضطهاد وأعراض العته - مثلا - من «شخصية» هملت وشخصية لير، كما نتقراها من الشخصيات الحية التي تروح وتغدو بيننا في معترك الحياة. •••

وتقدم العلم في القرن العشرين تقدما حثيثا في البحوث النفسية وتطبيقاتها على الفن والأدب، وكلما نجحت نظرية منها طبقها النقاد على شخوص شكسبير كما يطبقونها على شخوص الطبيعة، واستعانوا على توضيح النظرية بهذه المقابلة بين الشخوص التي اعتبروها بمنزلة واحدة من الصدق والمطابقة، وكان فرويد - إمام النفسانيين - في أوائل القرن أحد الذين اعتمدوا على هذه المقابلة في توضيح فكرته عن العلاقة بين الوعي الباطن وفلتات اللسان، بما اقتبسه من الشاعر الألماني شيلر، ومن شكسبير.

وجاء العالم النفساني أرنست جونس

Jones ، فألف كتابه المشهور عن سر هملت وعقدة أوديب وشرح فيه أعراض هذه العقدة في المصابين بها، فكان خلاصة رأيه أن تصرف هملت يطابق تمام المطابقة تصرف الغيور الذي يتردد في الانتقام من غريمه؛ لأنه يكره أن يصارح نفسه بسبب غيرته، وأنه كان يحس أن يمقت عمه لسبب آخر غير قتله لأبيه، وهو مزاحمته إياه في حب أمه، فلا يندفع إلى قتله لأنه لا يملك إرادته التي شلها هاجس الإثم في أعماق سريرته، وأوفى وأحدث من هذا البحث كتاب إيلا شارب الذي ظهر في سنة 1950 عن وجهة نظر التحليل النفساني في شكسبير

4

فإنه ألم بشخوص أخرى على هذا النحو، تصدق فيها فروض علم النفس على شخوص شكسبير كما تصدق على الأحياء.

وقد التفت فريق من علماء النفسيات المتخصصين لدراسة الجريمة إلى وجوه الشبه بين الحوادث التي تجري في الواقع والحوادث التي تمثلها مسرحيات شكسبير، وقسموا حوادث الإجرام إلى عناصر، أو أركان تتم بها الجريمة من دور النية إلى دور التنفيذ، فأدهشهم أن تتوافر هذه الأركان في حوادث الواقع وحوادث المسرحيات على وتيرة واحدة، وأن يلاحظ الشاعر عناصر تكوين الجريمة من الوجهة النفسية عفوا على البديهة، كأنه يتقراها ركنا ركنا كما ظهرت للمحققين فيها والمعقبين عليها.

ومن العلماء الذين التفتوا إلى تحقيق هذه المشابهات الدكتور فردريك ورثام

wertham

من نيويورك، وقد عرضت عليه قضية الفتى الإيطالي جينو الذي قتل أمه في السابعة عشرة لأنه أنكر سلوكها بعد موت أبيه، فأخذ في استقصاء أحوال الفتى القاتل منذ خطر له خاطر القتل إلى أن أقدم على تنفيذ جريمته في مخدع أمه، فإذا الفتى الإيطالي نسخة حديثة من هملت دون أن يسمع به أو يطلع على قصته، وإذا هما متماثلان في خواطر التردد التي انتهت بالقتل في قضية جينو ووقفت دونه في مناظر المسرحية؛ لأن الأمير هملت أنف أن يكون شبيها بالطاغية نيرون في فتكه وقسوته، وتشابه جينو وهملت عدا ذلك في عوارض القضية وأوهامها، وأخصها اعتقاد كل منهما أن طيف أبيه يلاحقه ليحضه على الانتقام، وحرص كل منهما على إشهاد أمه على نفسها وتوكيد سيئاتها ونزوات غيها، لتحسها ماثلة أمامها وتسمعها بأذنيها. •••

وعلى هذا المنهج روجت شخوص المسرحيات التي تحسب من الشخصيات المعتلة، وروجعت العقد النفسية ومركبات النقص التي تأتي من صدمات الخيبة وصدمات الغيرة وصدمات التشويه وعيوب الخلقة، وروجعت معها الأقوال وفلتات اللسان التي يفوه بها المصابون بجنون العظمة أو جنون الاضطهاد أو جنون الحسرة والندم ووخز الضمير، فوجد المراجعون من نقاد التحليل النفساني أنهم أمام طبيعة ثانية خلقها الفن على صفحات الورق، ونقلها من طبيعة الله فأحسن نقلها غاية الإحسان.

وكذلك روجعت عوارض الحالات النفسية التي يشتغل بها علماء هذه الدراسات غير حالات الآحاد من الأبطال والبطلات، وكانت البحوث النفسية قد استفاضت حتى شملت «الشخوص الاعتبارية» كما يقال في مجازات القانون، وحتى شملت «الشخوص» الخيالية أو شخوص ما وراء الطبيعة كما يقال في مجازات الشعر والأساطير، وقد خلق شكسبير جماعاته في روايات يوليوس قيصر وكريولينس وماكبث وغيرها من المآسي والملهيات قبل أن يخطر على بال أحد أن شيئا يسمى علم النفس سيهتدي إليه الباحثون، وأنهم سوف يطبقونه على شيء يسمى «نفسية» الجماعات والجماهير في حالات الرضا والغضب، وحالات الاقتناع والاضطراب، فلم يكن صدقه في «وعي» هذه النفسيات المفروضة دون صدقه في وعيه لنفسيات أبطاله من الرجال والنساء والأطفال، ولم يؤخذ عليه خطأ قط في تصويره لحالات «الجماعة» وهي تنتقل من الاقتناع بشيء إلى الاقتناع بضده، ومن الهجوم لسبب تعرفه إلى الهجوم حبا للهجوم في غير اكتراث لسبب أو غاية، ومن التسليم المحكوم بزمام إلى العبث المنطلق من كل زمام، ولم يجد النقاد المعنيون بأطوار الجماعة فرقا بين مراقبة أحوالها في الحياة العامة وبين مراقبة هذه الأحوال في كلماته وفي تضاعيف أقواله وإشاراته أثناء المناظر والأدوار.

ولا يقال عن خلائق الخيال إنها تطابق الواقع أو لا تطابقه، وإنما تصدق أو لا تصدق بمقدار تعبيرها عن خوالج النفس التي توحيها، ومقدار براعتها في الرمز إلى معانيها، وقديما علم الناس أن ما يتخيلونه من الأطياف والغيلان إنما هي أشباح موهومة كأشباح الأحلام التي يعبر بها النائم عن أشواقه وأوهامه ويخلع عليها صورها وأشكالها على عادة الخيال في تمثيل المعاني بالمحسوسات، فإذا قيل عن خليقة من هذه الخلائق الخيالية إنها صادقة فإنما يقال إنها خيال صحيح التعبير ورمز صادق الدلالة، وهذا هو المقصود بتطبيق البحوث النفسية على خلائق الخيال.

يقول أديسون - وهو من كتاب أوائل القرن الثامن عشر في مجلته الإسبكتاتور - «إننا نحس شيئا من الروعة والصدق في كلمات أشباحه وأرواحه وسحرته لا نملك معه إلا أن نحسبها كائنات طبيعية، وليست لدينا كائنات نرجع إليها في تحقيق صورها، ولكننا لا نرى محيصا من الاعتراف بأنها لو وجدت لتكلمت وتصرفت كما مثلها.»

ويقول وليام هازليت من نقاد القرن الماضي: «إن عالم الأرواح مفتوح أمامه كعالم الرجال والنساء، وفي هذا من الصدق والحقيقة ما في ذاك؛ إذ لو كانت هذه الخلائق توجد لأمكن أن تتكلم وتشعر وتعمل على الصورة التي صورها عليها.»

ورأي المحللين النفسانيين يوافق رأي أديسون وهازليت، ولكنهم يقولونه على أسلوبهم فيقولون مثلهم إن خلائق الخيال في شكسبير «طبيعة» ثم يعنون بذلك أنها تعبير صحيح عن أحلام الطبيعة البشرية حين تجيش بالأشواق والمخاوف التي ترسمها بلغة الرموز والأشكال المحسوسة، وأن شكسبير ترك صور الأشباح والأرواح التي تخلفت عن القرون الوسطى ليستبدل بها أشباحا وأرواحا تتقبلها طبيعة الإنسان بعد أن ارتفعت عنها كوابيس الفزع والجهالة من ميراث عصور الظلمات، فهي طبيعية صادقة وإن لم تكن لها أشكال تدركها الحواس؛ لأننا نخلع أشكالا تماثلها على عواطفنا التي نراها في الأحلام، ولو سئل الفنان المصور أن يعرضها لنا بفنه لاختار لها أشكالا على الصورة التي اختارها الفنان الشاعر لإبرازها على المسرح للأنظار والأسماع. •••

رسالة شكسبير إذن هي رسالة الخلق الفني الموكل بالطبيعة الإنسانية يخلقها في صورها الفنية، ويجسم لها ما يجول في سريرتها كأنها تحسه وتدركه على مشهد ومسمع منها، وليس في جعبة النقد النفساني رسالة يطلبها من الشاعر أجل وأندر من هذه الرسالة في آداب الأمم؛ ولهذا يستكثر بعض النقاد أن تصدر من قريحة واعية تقصدها وتشعر بصنيعها، ويخطر لهم أنها عمل من أعمال الغريزة كعمل النحل في هندسة خلاياها وعمل العنكبوت في نسيج بيته وعمل العصفور في بناء عشه، ولا نخالهم صنعوا شيئا ينقل هذه القدرة من القريحة إلى الغريزة؛ لأنها إن كانت غريزة كما يحبون أن يسموها فهي غريزة نادرة جليلة الأثر ممتازة بين الغرائز الفنية من قبيلها، وهذا على كون الغريزة ملكة «مخصصة» تنساق إلى عمل واحد وتعجز عن غيره، فلا تبني العناكب خلية ولا تنسج النحل خيطا ولا يعرف الطائر طريقا غير الطريق التي تهديه إليها غريزته الموروثة، وإنه لمن خوارق الطبائع أن توجد الغريزة التي تحسن إبداع كل صورة من الصور الإنسانية وهي غافلة عما تصنع، ساهية عما تقصد إليه، فإن وجدت هذه الملكة فسيان أن تسمى بالغريزة المطبوعة أو تسمى بالقريحة الفنية، فهذه هي العبقرية نصفها بما نشاء من الصفات ونسميها بما نؤثر من الأسماء، وهذه مزية الخلق الفني التي امتاز بها الشاعر، يطول فيها البحث والنظر كما يطولان في كل شيء يتعلق بخلق الإنسان، أما المزية التي أخرجت للعامل خلائقها الفنية فلا نكران لها ولا جدال فيها. •••

وقد أحاطت هذه الرسالة - رسالة الخلق الفني - بملكات شكسبير، وإن لاح لأول وهلة أنها ملكات مستقلة كملكة البلاغة في جوامع الكلم، وملكة النزاهة في تصوير الشخصيات المتناقضة.

فمن ملكاته في النظم والنثر وفرة الشواهد التي تجري مجرى المثل السائر، وتورد على الألسنة والأقلام مورد جوامع الكلم ومواقع الفصل في الخطاب.

هذه بلاغة لسانية فيما يبدر إلى السامع لأول وهلة، ولكن البلاغة اللسانية لا تخلق مواضع الشاهد ولا دواعيه ومناسباته، وإنما يخلقها الشعور بالحالة النفسية التي تمليها، وتتعدد الشواهد كلما تعددت الحالات النفسية وطابقتها الكلمة عند قائلها وسامعها، وليس في وسع بليغ أن يضع الشواهد على الألسنة قبل أن يحرك في النفس شعورها الذي يدعوها إلى التمثل بكلماتها.

ومن ملكات الشاعر في تأليفه المسرحي نزاهته بين أبطاله وبطلاته، وهذه صفة أخرى من صفات الخلق الفني وصدق الوعي في تصوير النظائر والنقائض من أحوال الطبيعة البشرية، فهو لا يكتب الفواجع لأنه حزين متشائم، ولا يكتب الملهيات لأنه فرح متفائل، وهو لا يمثل الظلم في الموقف الواحد لأنه يقسو مع الظالم ويشكو مع المظلوم، وإنما يعطينا الصورة صادقة لهذا وذاك، ويدع لنا حين نلعن الظالم أن نلعنه حق لعنه لأنه ملأ صورته من البغي والشر، ويدع لنا حين نرثي للمظلوم أن نوليه حقه من الرثاء لأنه ملأ صورته من الضعف والبراءة، وبديه أن هذه الرسالة ليست برسالة الداعية الغيور الذي يجاهد في حومة واحدة ويتحرر لقبلة ميممة لا ينحرف عنها ولا يعقل للحياة معنى بغيرها، فلا شأن لشكسبير بهذه الرسالة ولا هو ممن طبعوا على غرارها واستعدوا بفطرتهم للاضطلاع بأعبائها، ولو تجرد لها لترك عملا يتقنه وتصدى لعمل لا يحسنه، ولا خير في ذلك للفن ولا للدعوة، بل خسارة يضيع فيها الشاعر الخلاق في عالم الفنون ولا يزيد فيها عدد المصلحين الغيورين.

والبصر الدقيق بعناصر الفجيعة والفكاهة تمام هذه المزايا التي تؤدي بها رسالة التأليف المسرحي في مآسي شكسبير وملاهيه، فكل رواية من رواياته تدور على عنصرها من الفجيعة أو الفكاهة، وتكاد تختص به ولا تشاركها فيه رواية أخرى على وتيرتها، وكل هذه العناصر يشف عن إدراك عميق لتطور الزمن في فهم عوامل الفجيعة وعوامل الفكاهة؛ إذ تحل الطبيعة الإنسانية في المكان الأول محل القدر والعرف من روايات الإغريق الأقدمين، فليس صراع القدر كل شيء تدور عليه المأساة، وليست سيطرة العرف كل شيء تدور عليه الملهاة عند شكسبير، وإنما تدور كلتاهما على باعث من بواعث الطبيعة الإنسانية في الأبطال أو في البيئة، ويهمنا من الرواية ما يهمنا من أجل هذا الباعث الإنساني في قوته أو ضعفه وفي سموه أو إسفافه، ولا يمتنع أن تتحكم الحوادث مرة كما تحكمت في مأساة روميو وجولييت، ولكننا نلتقي بالقدر هنا في صورة العصبيات الجائرة التي تخلفت من بقايا القرون الوسطى، فهي هنا قد لبست ثوب القدر وقامت بالدور الذي كان يتولاه في فجائع الأقدمين بمعزل عن إرادة الإنسان فردا وإرادة الناس مجتمعين.

وتنقسم مسرحيات شكسبير بأقسام تقابلها في النفس البشرية كما قال صاحب كتاب شكسبير وعلم النفس: «فحيثما نظر إلى نفس الإنسان في عليائها فلدينا الدرامة التي تجنح جادة إلى عاقبة أليمة أو عاقبة راضية، وحيثما يتفاقم هم النفس؛ فيستحيل ولعا بالأثرة والطمع والأبهة فهنالك الفاجعة على أسوئها، وحيثما يستحيل غرام الإنسان بنفسه فينحدر إلى صغار الأنانية والتيه وخديعة الطبع، وتتضاءل فيه الهموم، أو تتباعد الشقة بين توافه الأغراض وجلائل العواقب - فهنالك الملهاة، وذلك أسلوب يضرب فيه شكسبير ضرباته على سواء وإنصاف - وإن مازجه بالضحك والرفق والهوادة - كلما عرض لصغائر النفس وغلطاتها ومواطن ضعفها.»

5

تطور في إدراك عناصر المأساة والملهاة لم يأت عفوا واتفاقا، ولم يختلف فيه فن الإغريق وفن النهضة لاختلاف الأساليب والأقلام، ولكنه هو الاختلاف المنظوم في ثمرات الفن الذي تمخضت عنه عصور النهضة وعكفت فيه على رسالة جديدة: هي رسالة الإنسان.

مصادر الروايات

أحصى مؤرخو المسرح عدد الروايات التي كتبت بالإنجليزية للتمثيل في السنوات العشرين بين سنتي 1586-1606 فبلغ نحو مائة وخمسين رواية مستمدة من التاريخ المعروف بين أدباء الإنجليز عند نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن الذي تلاه، وقد حدث هذا في تلك الفترة خاصة لأنها كانت فترة تاريخية تهم التاريخ وتهتم بالتاريخ؛ إذ هي فترة اليقظة الوطنية في الجزر البريطانية، بلغت حماسة القوم فيها لتاريخهم ومعالم حياتهم الغابرة والحاضرة غايتها على أثر الشعور بالخطر من جانب الدول الكبرى في القارة، وأعظمها يومئذ إسبانيا وفرنسا، وزادهم النصر حماسة على حماسة فنشطوا لإحياء تراثهم الغابر على علاته، وأقبلوا على كتابة التاريخ وجمع أسانيده وتمثيل مشاهده إقبالا لم يكن معهودا بينهم قبل ذلك، ولعلهم لم يعهدوا له نظيرا بعد القرن السابع عشر إلى القرن العشرين.

ويعنينا هذا الإقبال على إحياء التاريخ في عصر شكسبير من جانب الفن المسرحي ومن جانب الدلالة على معنى التأليف المسرحي في تلك الفترة، فلا يخفى أن اقتباس المسرحية التاريخية من مصدر معلوم أمر مفروغ منه بين مؤلفي الرواية وقرائها والناظرين إلى حوادثها ومشاهدها وشخوص أبطالها على مسرح التمثيل، فلا ينتظر أحد من الشعراء والنظارة أن يأتيه المؤلف بتاريخ من عنده ولا يحمد منه ذلك إذا أتاه بالتاريخ مخترعا ملفقا منقطع السند في جملته وتفصيله، وإنما هم ينتظرون منه أن يعرض لهم شيئا يعرفونه ولا يطالبونه بغير إتقان عرضه وترتيبه وتهيئة المناظر فيه والأقوال لإشباع ما عندهم من الشوق والشعور بالحادث المكتوب في صفحاته الصامتة، فإذا تسنى للمؤلف أن يشبع هذه الرغبة فذلك حسبه من الوفاء بحق التأليف وحق التأثير من طريق التمثيل، وقد أجازوا له - بل أوجبوا عليه أحيانا - أن يعيد تأليف الرواية التي كتبها المؤلفون قبله ولم يدركوا بها تلك الغاية، ولعله كان مسؤولا عندهم عن استدراك هذا النقص مشكورا عليه ولم يكن في عمله ما يعاب أو يحسب عليه من قبيل العجز أو من قبيل العدوان على عمل الآخرين، وينبغي أن نستحضر في أخلادنا هذا الخاطر لنفهم منه معنى التأليف المسرحي ومعنى التجويد فيه، فإن التجويد فيه قد كان يستدعي إعادة النظر فيما كتب للمسرح ولم يظفر بالرضا والاستحسان من النظارة والنقاد، ومن صنع ذلك فقد لبى الطلبة المحسوسة ولم يخالف العرف المتفق عليه.

قال جون هامبدن

John Hampden

في التعقيب على رواية الملك جون: «إن شكسبير لم يخترع موضوعات رواياته، بل كان يأخذ القصص والشخوص والحوادث حيثما اتفقت له وراقت لديه، ومنها - على سبيل المثل - روايات سابقة، وسير مشهورة، وتراجم من بلوتارك، وحكايات من الإيطالية يعلم أنها معروفة بين النظارة، ولكنها في عصرنا هذا تحسب في عداد السرقات التي لا تطاق، خلافا للعرف الذي كان يحسبها القاعدة المصطلح عليها.»

والمهم في هذه الحالة أن توجد الفكرة عن التأليف المسرحي بهذا المعنى، فإذا تعود الناس أن يشهدوا على المسرح حوادث وشخوصا يعرفونها ويترقبون عرضها في سياق التمثيل فهم لا يقصرون ذلك على التاريخ وحوادثه وشخوصه، بل يقبلونه ولا يستغربونه إذا تمثل لهم في حوادث القصص المطروقة والحكايات الشائعة والأخبار الحاضرة، وما إليها من المألوفات والمحفوظات، وكأنهم يتعودون أن يسألوا أنفسهم كلما خطرت على بالهم قصة من القصص النادرة أو المتداولة: ترى كيف تكون هذه القصة لو شهدناها على المسرح؟ وكيف تبدو لو كتبها ذلك المؤلف أو مثلها ذلك الفنان؟ وكيف تتراءى مناظرها وتقع كلماتها وراء الستار في هذا المسرح أو ذاك؟

وقد كان لفهم التأليف المسرحي بهذا المعنى أثره في تقدير الفن المسرحي وتقرير مكان المسرح في الحياة الفنية والحياة الاجتماعية، فكان من هذا الأثر استقلال الكتابة المسرحية وكفاية الفن المسرحي بذاته، فتعود الناس أن يروا ما يعرض على المسرح عملا مكتفيا بذاته مهما لأسلوب عرضه وأدائه، غير متوقف على القصة ولا على الحادثة ولا على التاريخ نفسه، وربما كان من أثره أيضا إباحة الخروج على التقاليد المرعية في توحيد الزمن والمكان والواقعة، فما صلح للعرض على المسرح بالغا من نفوس النظارة مبلغه المطلوب فلا حرج عليه أن تتفرق فيه المواقع والأوقات ما أمكن جمعه في نطاق المسرح ومناظره المستطاعة بحيلة من الحيل التي لم تكن ميسورة في تمثيل الروايات الإغريقية واللاتينية، بل ربما كان لكفاية الفن المسرحي بذاته أثره في إباحة التصرف بترتيب الحوادث التاريخية وترتيب أماكنها وأوقاتها، أو في إخضاع التاريخ على المسرح لمقتضيات التمثيل سواء نشأت هذه المقتضيات من ضرورات التوفيق بين الوقائع والمناظر أو من دواعي التحسين والتجميل؛ لاسترعاء النظر وإبلاغ الأثر المقصود واستثارة الشعور على الأسلوب المأثور، ولهذا أجاز شكسبير وغيره في رواياتهم التاريخية أن يخالفوا سرد الحوادث على علمهم بحقيقتها في كثير من الحالات، وفعلوا ذلك كما يفعل المصور الذي يظهر الإنسان المرسوم بجانب واحد على حسب الموقع أو حسب الوجهة التي ينظر إليه منها، وهو ولا شك يعلم أنه ينظر إلى إنسان ذي جانبين متقابلين، ومن المؤلفين من كان يستبيح هذا التصرف بحوادث التاريخ على تفاهم بينه وبين النظارة والقراء؛ لأن ما وقع من هذه المخالفات التاريخية لم يكن كله مجهول الحقيقة ولم يكن شيء منه عبثا لغير مزية فنية أو ضرورة عملية، ولا يمنع هذا أن يكون بعضه قد وقع فيه المؤلف والنظارة عن جهل بتفصيل حقائق التاريخ.

وقلما اتفق لشكسبير مصدر من مصادر التاريخ أو الخبر أو الحكاية، فاستغنى في إعداده للمسرح عن شيء من الصقل والتحوير أو عن شيء قليل من التبديل والتغيير، إلا أنه كان يقصد ما استطاع في المساس بما يعلمه من أصول الحوادث التاريخية ويستعين على اتقاء ذلك بامتداد الزمن واتساع الموضوع، فينقسم العهد الواحد أقساما مستقلة ويتحرز بذلك من المداخلة بين أنبائها والخلط بين أجزائها وأسمائها، أما ما اتفق له من حكاية أو أسطورة تصلح للمأساة أو للملهاة، فلم يكن يبالي أن يأخذ منها ما يشاء وينبذ منها ما يشاء، وأن ينقلها من موطن إلى موطن ويخرج بها من زمن إلى زمن ويفصل بين أطراف القصة الواحدة، ويجمع بين أطراف القصص المتعددة، ولا يرى لها حقا من الحفظ إلى جانب الاجتهاد في إبرازها للمسرح على الوجه الذي يرتضيه.

ومصادره من حيث الوضوح ورجاحة السند تنقسم أقساما ثلاثة: مصادر التاريخ، ومصادر المأساة، ومصادر الملهاة.

فمصادر الروايات المستمدة من تاريخ الجزر البريطانية تكاد تنحصر في مصدر واحد، وهو الموسوعة التاريخية التي شرع الناشر ريجنالد وولف

Reginald wolfe

في إعدادها وتبويبها للإحاطة بأخبار العالم القديم والحديث، ثم مات قبل إتمام العدة لها، فلم يظهر منها غير أجزاء خاصة بالجزر البريطانية، أهمها ما كتب بقلم هولنشد

Holinshed ، وعليه كان تعويل شكسبير في سلسلة رواياته التاريخية.

على أنه كان يرجع أحيانا إلى مصادر من المسرحيات التي كتبت قبل تمثيل مسرحياته كرواية «عهد الملك جون المضطرب» التي لم تنسب إلى مؤلف معروف، ويتعمد الشاعر في اختيار مصادره من هذا القبيل أن يحيي الموضوعات التي تصلح للعرض على المسرح ولكنها حبطت لنقص في التأليف وإعداد مناظر التمثيل.

وله مسرحيات تاريخية مستمدة من غير تاريخ الجزر البريطانية معروفة المصادر محسوبة في عداد المآسي ولم يحسبها في عداد التاريخيات المقصورة في مجموعة أعماله على تاريخ إنجلترا أو ما جاورها، وهي روايات: كريولينس، ويوليوس قيصر، وأنتوني، وكليوبترة. وكلها من سير بلوتارك في تاريخ الرومان، وقد كانت مشهورة متداولة في أصلها اللاتيني ، وترجمت عن الفرنسية إلى الإنجليزية بقلم سير توماس نورث سنة 1579، ثم تبعتها طبعتان أخريان مع زيادة في السير ظهرت أولاهما سنة 1595 وظهرت الثانية سنة 1603، وكانت هذه السير مادة غزيرة للشاعر في رواياته الرومانية، وفي رواية تيمون الأثيني ينقل منها الحوادث وينقل منها العبارات المطولة بنصوصها مع تنقيح بعضها؛ لجلاء المعنى أو لموافقة أسلوب الخطابة والحوار في التمثيل.

ولقد كانت سير بلوتارك أهم المراجع في رواياته الرومانية، ولكنها لم تكن مرجعه الوحيد فيها ولا في غيرها، فإنه كان يتمم النادرة الواحدة من مرجعين أو أكثر كلما وجد لها مزيدا من التفصيل في المراجع الأخرى، ومن أمثلة ذلك نادرة المعدة والأعضاء في رواية كريولينس، فإنه استوفاها من بلوتارك وليڨي

Livy ، وأضاف إليها تفصيلا آخر من كتاب البقايا الذي لخص فيه المؤرخ وليام كامدن تواريخه المطولة.

1 •••

أما روايات المآسي فيندر التحقق من جميع مصادرها، ويكثر التردد فيها بين المظان المشتركة من كتب مطبوعة وأخبار مسموعة وأساطير متناثرة يضاف إليها أو يقتضب منها، كلما تناقلها الرواة بين لغة ولغة أو بين أمة وأمة.

وعدة هذه المآسي - عدا التاريخية الرومانية - ثمان، هي: تيتوس أندرونيكس، وروميو وجولييت، وهملت، وترويلس وكرسيدا وأوتلو، والملك لير، وماكبث، وتيمون الأثيني.

فيرجح أن تيتوس أندرونيكس

Titus Andronicus

مأخوذة من أحدوثة شعبية كانت شائعة في أوروبة الوسطى عن زعيم من زعماء الأساطير الرومانية بنيت عليها قصص شتى في جرمانيا وهولندة، ضاعت ولم يبق منها غير النتف المتفرقة التي أدركها شكسبير في عصره وأدخل عليها بعض المناظر من تصانيف الأديب الروماني سينكا

Senca ، وقصائد الشاعر الروماني أوڨيد

Ovid ، وبقايا المسرحيات المنسية، ولولا أن محاسن الرواية تشبه محاسن شكسبير لغلب على الظن أنها مدخولة عليه.

وأقرب المصادر التي اقتبس منها شكسبير رواية روميو وجولييت قصة شعرية للأديب الإنجليزي أرثر بروك

Brook

المتوفى سنة 1563 مستمدة من القصص الإيطالية التي ظهرت بين القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، ومنها قصة لماسشو

Masucco

وقصة للويجي دي بورتو

Luigi Deporto

وقصة لباندلو

Bandello

وقصة لبويستيو

Boaistuau ، وهو المرجع الذي اعتمد عليه بروك في أكثر فصول قصيدته، وقد كان للقصة مرجع إنجليزي آخر في عهد شكسبير هو كتاب وليام بينتر

المسمى قصر المسرات

، وفيه جمع الكاتب طرائف منوعة من الأقاصيص والأخبار الإيطالية الحديثة والرومانية القديمة. •••

ويرجح الشراح أن رواية هملت

Hamlet

مستمدة من رواية ضائعة كتبها توماس كيد

Kyd ، وأخذ حوادثها من كتاب فرنسي بقلم فرانسوا بلفورست

François de Belleforest

نقل فيه قصة هملت من كتاب تاريخ الدانيين

Historia Danica

الذي ألفه مؤرخ دنمركي يسمى سكسو جرمتيكس

Saxo Grammaticus

عاش في القرن الثاني عشر وكتب تاريخه باللغة اللاتينية، ووردت قصة هملت منه في الكتابين الثالث والرابع، وقد عرفت قبل شكسبير رواية بهذا الاسم مثلت في سنة 1594 تنسب إلى توماس كيد

Kyd ، ولم يبق منها إلا الشذرات التي وردت في كتاب بلفورست، ولم يعرفها قراء اللغة الإنجليزية قبل سنة 1608 التي ترجم فيها الكتاب الفرنسي إلى هذه اللغة.

وترجع رواية ترويلس وكرسيدا

Troilus and Cressida

إلى حرب طروادة، ولكنها ترددت في شعر الشاعر الإنجليزي شوسر

Chaucer

ونظمها الشاعر الأيقوسي روبرت هنريسون

Henryson (1430-1506م) مؤلف حكايات إيسوب المشهورة، وبنيت عليها مسرحيات لم يبق لها أثر في عصر شكسبير.

أما رواية أوتلو

Othello (والأرجح أنها محرفة من اسم عبد الله الذي ينطق بالإيطالية «أبتلو»، ويسهل تحريفه مع جرس اللغة في الأسماء إلى أبتلو وأوتلو) فقد ذكرت قصتها في «المئوية»

Hecatommithi

التي جمع فيها الأديب الإيطالي جيوفاني جيرالدي

Giraldi

سنة 1504-1573م مائة وثلاثين نادرة على منهاج نوادر ألف ليلة وليلة، وضمنها نادرة المغربي وزوجته ديدمونة، وترجمت كلها إلى الفرنسية والإسبانية قبل أن تترجم إلى الإنجليزية.

ويرجع الشراح برواية الملك لير

King Lear

إلى مصادر متعددة بين تاريخية وقصصية وملاحم شعرية، ومنها مسرحية لمؤلف مجهول عنوانها (الملك لير وبناته الثلاث) كتبت سنة 1594 ولم تنشر قبل سنة 1605، ومنها تاريخ هولنشد الذي تقدم ذكره، ومنها قصائد ملكة الجن

Fairy Queen

للشاعر سبنسر

Spencer

وملحمة وارنر

Warner

المنظومة في وقائع التاريخ بالجزر البريطانية.

وعلى تاريخ هولنشد - أيضا - عول الشاعر في اقتباس قصة ماكبث، ولا يبعد أنه أخذها من المصدر اللاتيني الذي اعتمده هولنشد، وهو تاريخ أسكوتلاندة تأليف هكتور بويس

Boyce

العالم الأسكوتلاندي الذي تولى تدريس التاريخ زمنا بجامعة باريس، وقد ترجم كتابه إلى الإنجليزية سنة 1563، ولكن شكسبير مزج القصة بطرف من أخبار الملك داف

Duff

التي اشتملت على خبر مفصل عن مقتل الملك بيد نبيل من زعماء دولته.

ومرجع الرواية التي كتبها شكسبير بعنوان تيمون الأثيني

Timon of Athens

إلى عدة مواضع من سيرة مارك أنتوني وسيرة ألسبيادس

Alcibiades

في كتاب بلوتارك، وربما نظر فيها إلى محاورات لوسيان

Lucian

وإلى كتاب قصر المسرات لمؤلفه بينتر المتقدم ذكره مع مسرحية باسم تيمون كاره البشر، كتبت سنة 1585. •••

وتأتي بعد مصادر المآسي والتاريخيات طبقة أخرى من المصادر دونها في الثقة والقيمة الثقافية، وهي مصادر الملهاة.

فيمكن أن يقال على الجملة إن مصادر التاريخيات ومصادر المآسي في كثير من الأحيان تتطلب من المؤلف اطلاعا على الكتب في لغته وفي اللغات الأجنبية، ومعظمها مما يدرسه المثقفون أو يتأدبون بالاطلاع عليه، ولكن مصادر الملهاة على الأكثر «شفوية» أو كالشفوية في مادتها؛ لأنها تجمع في الصفحات ما يتداوله جمهرة الناس من الحكايات والنوادر التي تشمل أحيانا عجائب السحرة والعفاريت وخلائق الأساطير والخرافات، وقد تقوم الملهاة على إشاعة من إشاعات الثرثرة واللغط في المجتمع على اختلاف طبقاته، فلا يعلم بعد عصرها من أين وصلت إلى المؤلف ومن هم المقصودون بما تعرض له من الإشارات والمضامين.

وهذه المصادر تدل على تفرقة المؤلف والنظارة في ذلك العصر بين قيمة المسرحية التاريخية أو المأساة وقيمة المسرحية الفكاهية من الوجهة الفنية، فهم لا يحفلون باختيار مصادر الملهاة كما يحتفلون باختيار المصادر التاريخية أو وقائع الجد والخطر، ويدل هذا من جهة أخرى على شأن المصدر عندهم في تأليف الرواية المسرحية على العموم، فهم لا يطلبون من المؤلف أن يبتدع لهم موضوعا يرونه على المسرح لأول مرة، بل يكفيهم منه، أو هم يطلبون منه في الواقع، أن يمثل لهم ما يتحدثون به ويتسامعونه في الصغر في البيوت والأندية، ولا يعنيهم وهم يذهبون إلى المسرح أن يسألوا: ما هي القصة؟ كما يعنيهم أن يسألوا: كيف يمثل لنا المؤلف هذه القصة التي نقرأها في الكتب أو نتحدث بها في الأسمار؟

وتحتوي مجموعة شكسبير ست عشرة ملهاة مع حسبان رواية بركليز وسمبلين من الملهيات خلافا لتقسيم بعض المجاميع الأولى، وهي رواية الأغلاط والسيدان من ڨيرونا، وترويض السليطة، وضيعة الحب، وحلم ليلة صيف، وتاجر البندقية، وزوجات وندسور المرحات، ولجاجة في غير طائل، وكما تهوى أو كما تهوون، والليلة الثانية عشرة، والعبرة بالخواتيم، ودقة بدقة، ونادرة الشتاء، والعاصفة، وبركليز، وسمبلين.

فرواية الأغلاط مأخوذة من مناظر متفرقة من روايات الشاعر الروماني بلوتس

(254-148ق.م) والشاعر الإنجليزي جون جوار

Gower (1331-1408م)، ولا يعلم هل اطلع شكسبير على رواية التوأمين لبلوتس باللاتينية أو اطلع عليها مترجمة مخطوطة بقلم وليام وارنر

Warner

عند اللورد هندسون

Hunsdon ؛ لأن وارنر قدمها إلى اللورد في سنة 1594 قبل نشرها بسنة واحدة، وكان شكسبير من الأدباء ذوي الحظوة لديه.

ورواية السيدان من ڨيرونا

The Two Gentlemen of Verona

يعرف من مصادرها ما يدور حول موقف بروتيوس وجوليا وهو مشابه لمثل هذا الموقف في رواية إسبانية باسم فليكس فيلمونا

Felix and Felismena

للشاعر جورج ديمنتماير

Jorge Demontemaior

ترجمت إلى الفرنسية سنة 1578 وإلى الإنجليزية سنة 1582، ثم نشرت سنة 1598، ولا يعلم مرجع محقق لسائر مناظر الرواية إلا أن يكون في إحدى الروايات التي مثلت على مسرح القصر الملكي في سنة 1585 مشابه من المناظر الباقية، وموضوعها علاقة غرامية بين فليكس وفيليمونا

Felix and Philiomena

تقارب هذه العلاقة في الرواية الإسبانية، وقد ضاعت الرواية منذ عصر شكسبير.

ورواية ترويض السليطة

The Taming of the Shrew

مصدرها مسرحية لمؤلف مجهول ظهرت سنة 1549 وبعض شخصياتها كشخصية السكير التائب منظور فيها إلى قصص ألف ليلة وليلة، ومن قصص موريل

Morel

قصة تشبهها عن الزوجة الملعونة ظهرت سنة 1560، وللشاعر الإيطالي أريستو

Ariosto

قصة توصف فيها المرأة العصية وصفا يقارب وصف البطلة في رواية شكسبير.

ولا يعرف لرواية عناء الحب الضائع

Love’s Labour’s Lost

مصدر مكتوب أو مسموع، ولكنها قد تشير إلى أنصار هنري ناڨار وخصومه في نضاله للمطالبة بعرش فرنسا.

ورواية حلم ليلة صيف

Midsummer Night’s Dream

ليس لها مصدر معروف، ولكن قصة الحب بين ثيسوس وهينوليت موجودة في نوادر الشاعر شوسر وفي سيرة ثيسوس

Theseus

من سيرة بلوتارك، وما في الروايات من حكايات الجنة والأطياف من المرويات الشائعة بين الشعب الإنجليزي وسائر الشعوب على نحو من الأنحاء.

ورواية تاجر البندقية

Merchant of Venice

لها مصادر موزعة بين الحكايات الشعبية والقصائد القصصية أشهرها حكاية للأديب الإيطالي سير جيوفاني كتبها سنة 1558، ويظن أن الشاعر نظر فيها إلى مسرحية مفقودة باسم «اليهودي» وإلى رواية مارلو

Marlowe «يهودي مالطة».

ورواية زوجات وندسور المرحات

The Merry Wives of Windsor

تجري على نمط معروف في عصر النهضة الذي كثرت فيه الأقاصيص عن المرأة المرحة والزوج المضحك والعشيق المختبئ في زوايا المنزل، ويقال إن الرواية وضعت لأن الملكة اليصابات أبدت رغبتها في مشاهدة البطل المضحك فلستاف

Falstaff

في دور العاشق المغازل، وفي الرواية إشارة إلى زيارات بعض الأمراء الأجانب للبلاد الإنجليزية.

ورواية لجاجة في غير طائل

Much Ado About Nothing

مقتبسة من حكاية للأديب الإيطالي بندلو

Bandello

ترجمها بلفورست إلى الإنجليزية ومن حكاية للأديب الإيطالي أريستو ترجمها السير جون هارنجتون إلى الإنجليزية، ومن قصة ملكة الجنة للشاعر الإنجليزي سبنسر، وفيها مواقف لم ترد في إحدى هذه الحكايات.

ورواية كما تهوى

As You like it

مقتبسة من رواية روزالند

Rosalyned

التي ألفها توماس لودج

Lodge

سنة 1590، ولم تطبع قبل طبعتها الأولى سنة 1721، ولكنها كانت من المحفوظات المتداولة في أيام شكسبير.

ورواية الليلة الثانية عشرة

Twelfth Night

تأخذ قليلا من رواية «الوداع للجندية» التي ألفها برنابي ريش

Barnabie Riche

في سنة 1581، وبناها على قصة بندلو الإيطالي المسماة بحكاية أبولونيوس وسيلا

Apolonius and Silla (1554) وهي مستقاة من ملهاة إيطالية أخرى ظهرت في سنة 1531.

ورواية العبرة بالخواتيم

All is Well that ends Well

من حكايات بوكاشيو في الديكامرون كما نقلها بينتر في كتابه قصر المسرات (سنة 1566م).

ورواية دقة بدقة

Measure for measure

من مسرحية پروموس وكسندرا

التي ألفها جورج هويتستون من فصلين، واستعار حوادثها من حكاية وردت في المائة والثلاثين حكاية تأليف جيرالدي الذي تقدم ذكره.

ورواية نادرة الشتاء

Winter’s Tale

مستمدة من قصة للأديب الإنجليزي روبرت جرين

Green

اسمها باندوستو

أو انتصار الزمن (سنة 1588).

ورواية العاصفة

The tempest

لا يعرف لها مصدر محدود، ولكن أخبارها في الأدب الإيطالي مستفيضة من قبيل الأحدوثات الشعبية، ويوافق تاريخ الرواية عدة كشوف وأخبار عن غرق السفن الكشفية، ومنها كشف جزائر برمودة.

أما روايتا بركليز

وسمبلين

Cymbeline - وتحسبان أحيانا في عداد الملهيات - فالأولى منهما مأخوذة من أشتات متفرقة في اللغات الأوروبية جمعها في اللغة الإنجليزية لورنس توين

Lawrence Twine (سنة 1576) وظهرت لها خلاصة سابقة في قصائد الشاعر المتقدم.

وثانيتهما «سمبلين» ترجع إلى أصل تاريخي في كتاب هولنشد وإلى الأحدوثات الشعبية التي لخصها بوكاشيو في قصة برنابو الجيني، وربما لحظ فيها شكسبير بعض الوقائع في المسرحية المسماة «نوادر النصر في الحب والحظ»

The Rare Triumphs of Love and Fortune

وهي لمؤلف مجهول مثلت أمام الملكة اليصابات في سنة 1589. •••

وينبغي - مع الإلمام بمصادر الملهيات جميعا - أن نذكر أنها لا تعدو التقدير والتقريب، وأن كل مصدر منها في الواقع إنما هو جزء صغير من مصادر منوعة يحيط به شكسبير من طريق الاطلاع أو من طريق السماع أو هو الجزء الذي تتيسر الدلالة فيه على موضع محدود على وجه الظن والاحتمال، وفيما عداه لا تخلو رواية من إلمام بالأحدوثات الشعبية والإشاعات الرائجة والأساطير المروية عن السحرة والأرواح الخفية يصعب التثبت من ورودها على خاطر شكسبير أثناء كتابته لهذه الرواية أو تلك في هذه الفترة أو في غيرها من حياته الفنية. •••

وتقترن بجهود الشراح لاستقصاء المصادر جهود مثلها لاستقصاء تواريخ التأليف والتمثيل؛ لأن دراسة شكسبير تستلزم العلم بهذه التواريخ لأغراض مختلفة.

تستلزمها لترتيب السابق واللاحق من الروايات والاهتداء إلى روح العصر التي توحي إلى شكسبير كما توحي إلى معاصريه أن يؤلفوا الروايات المتعددة حول موضوع واحد، وتستلزمها للبحث في تطور الشاعر لغة وفنا ودراية بالحياة والناس وخبرة بالصناعة المسرحية ورياضة النظارة وجمهرة القراء.

تستلزمها للوقوف على ارتباط المناسبات في حياة الشاعر اليومية ومناسبات الحوادث التي وقعت في عصره وأومأ إليها في طوايا المناظر والفصول؛ مما يساعد على تصحيح نسبة الروايات إلى مؤلفها، وبخاصة بعد شيوع الشك في نسبة جميع الروايات إلى شكسبير.

وللشراح وسائلهم المستطاعة في تصحيح التواريخ وربطها بأعمال شكسبير وأعمال معاصريه، ومنها مراجعة الأوراق المتخلفة من سجلات الترخيص بالنشر والتمثيل، ومنها المذكرات التي دون فيها مديرو المسارح مواعيدهم وحساباتهم وأسماء معامليهم، ومنها الإشارات التي وردت في أقوال الكتاب والنقاد وزملاء الشاعر ومنافسيه، ومنها المضاهاة بين الأقوال والحوادث واستخراج الدلالة من الأقوال على الحوادث ومن الحوادث على الأقوال.

والذين تصدوا لهذه الدراسة الدقيقة أقطاب ثقات من علماء للأدب والتاريخ المتخصصين للبحث في أمثال هذه المشكلات، ولكنهم على حصافتهم واجتهادهم وإخلاصهم في عملهم لم يخرجوا من بحوثهم الطويلة بنتيجة تتفق عليها آراؤهم ويتقبلها القراء المطلعون كأنها فصل الخطاب.

فلم يتوفر على دراسة شكسبير منذ القرن التاسع عشر أحد أولى بتصحيح أخباره وتواريخه من شيمبرز ولي وآدمز من أعلام الأدب بين المتكلمين بالإنجليزية.

تفرغ إدموند شيمبرز

Edmund Chambers

لمباحث المسرح في القرون الوسطى وفي عصر الملكة اليصابات على الخصوص، وألف كتاب المسرح في القرون الوسطى في مجلدين، وكتاب المسرح اليصاباتي في أربعة مجلدات وكتاب وليام شكسبير عن الشاعر وأيامه وأعماله.

وعكف سدني لي

Sidney Lee

على التنقيب الواسع عن تاريخ ستراتفورد من أقدم العصور إلى وفاة شكسبير، وألف كتابه الحافل عن الشاعر، كما ألف عن شكسبير وعصر النهضة الإيطالية، وعن شكسبير والمسرح الحديث، وأعاد طبعة شكسبير كما ظهرت في أيامه مع التنقيح والاستدراك، واجتمعت له من أسباب التنقيب عن التراجم عامة محاصيل من الكشف والاستنباط قلما اجتمعت لغيره في زمانه؛ لأنه أشرف على إعداد موسوعة التراجم القومية بضع سنوات.

وتصدى لهذا البحث عالم أمريكي يضارع هذين العالمين في حسن النظر وسعة الاطلاع وأمانة المعرفة، هو الأستاذ جوزيف كوينسي آدمز

Joseph Quincy Adams

الذي ألف عن مسارح شكسبير كما ألف عن ترجمته وأعماله، وأشرف زمنا على مكتبة فولجر

Folger

التي لا نظير لها في المكتبة الشكسبيرية؛ لأن صاحبها فولجر أنفق ملايين الجنيهات التي كسبها من التجارة والصناعة في شراء الذخائر والمخلفات التي تتصل بأعمال الشاعر وأخباره، ومنها تسع وسبعون نسخة من طبعته الأولى وأكثر من مائتين من الكراسات المتفرقة، عدا التعليقات والشروح والتحف الأثرية النادرة التي لا تنحصر في مكتبة واحدة غير هذه المكتبة، ومع هذا خرج هؤلاء الأقطاب الثلاثة بنتائجهم التي تناقضت فيها الفروض والتقديرات كما نرى في المقابلة بينها في الجداول التالية :

الرواية

شيمبرز

لي

آدمز

2 هنري السادس

1590-1591

1592

1592

3 هنري السادس

1592

1592

1 هنري السادس

1591-1592

1592

1594-1595

1598-1599

3 ريتشارد

1592-1593

1593

1595

رواية الأغلاط

1592

1588-1589

تيتوس أندرونيكس

1593-1594

1593

ترويض السليطة

1595

1597

السيدان من فيرونا

1594-1595

1591

1592-1594

ضيعة الحب

1591

1592

روميو وجولييت

1592

1593-1596

2 ريتشارد

1595-1596

1593

1595

حلم ليلة صيف

1594

1596

1595

الملك جون

1596-1597

1594

1595

تاجر البندقية

1594

1597

1 هنري الرابع

1597-1598

1597

1597

2 هنري الرابع

1597

1597-1598

لجاجة في غير طائل

1598-1599

1599

1599

هنري الخامس

1598

1598

يوليوس قيصر

1599-1600

1600

1599

كما تهوى

1599

1599

الليلة الثانية عشرة

1600

1599

هملت

1600-1601

1602

1601

زوجات وندسور

1597

1598

تروليوس

1601-1602

1603

1602

العبرة بالخواتيم

1602-1603

1595

1596، 1600، 1601

دقة بدقة

1604-1605

1604

1603-1604

أوتلو

1604

1604

الملك لير

1605-1606

1607

1605

مكبث

1606

1606

أنتوني وكيلوبترا

1606-1607

1608

1607

كريولينس

1607-1608

1609

1608-1609

تيمون الأثيني

1608

1607

بركليز

1608-1609

1608

1607

سمبلين

1609-1610

1610

1609-1610

نادرة الشتاء

1610-1611

1611

1610-1611

العاصفة

1611-1612

1611

1611

هنري الثامن

1612-1613

1611

1613

وقد صبر العلماء الثلاثة على الموازنة بين هذه الأرقام صبر الثقات، ثم جاء بعدهم من وازن بينهم وزاد عليهم وحاول أن يخلص إلى تاريخ مقارب لكل رواية يورده على أنه أرجح التواريخ إذا وجب أن يقتصر على قول واحد، وهذا أحدث الجداول التي أعقبت جداول شمبرز ولي وآدمز كما أقرها مؤلفو كتاب المجمل من أعمال شكسبير

Outline of Shakespeare’s plays

في طبعته السابعة التي صدرت سنة 1947، وهم الأستاذ هومر وات

Watt

وكارل هولز كنيخت

Holz knecht

ورامون روس

Ross ، وكلهم من أساتذة الأدب المختصين بهذا المبحث في الجامعات الأمريكية.

اسم الرواية

التاريخ

2 هنري السادس

1590-1592

3 هنري السادس

1590-1592

1 هنري السادس

1590-1592

3 ريتشارد

1593-1594

رواية الأغلاط

1592-1594

تيتوس أندرونيكس

1593-1594

ترويض السليطة

1594-1597

السيدان من فيرونا

1592-1594

عناء الحب الضائع

1590-1592

روميو وجولييت

1594-1597

2 ريتشارد

1594-1596

حلم ليلة صيف

1594-1596

تاجر البندقية

1594-1596

1 هنري الرابع

1597-1598

لجاجة في غير طائل

1598-1600

هنري الخامس

1598-1599

يوليوس قيصر

1598-1599

كما تهوى

1599-1600

الليلة الثانية عشرة

1599-1601

هملت

1600-1601

زوجات وندسور

1597-1600

تروليوس

1601-1603

العبرة بالخواتيم

1600-1604

دقة بدقة

1603-1604

أوتلو

1604-1605

الملك لير

1605-1606

مكبث

1605-1606

أنتوني وكيلوبترا

1607-1608

كريولينس

1608-1610

تيمون الأثيني

1607-1608

بركليز

1607-1608

سمبلين

1609-1610

نادرة الشتاء

1610-1611

العاصفة

1611-1612

هنري الثامن

1612-1613

وبعد، فهذا الجدول الأخير قد تتلوه جداول أرجح منه وأدنى إلى الإجمال، ولكنها جميعا تقديرات لا تخرج بنا من الترجيح إلى اليقين، وقد نقبلها كلها على علاتها، ثم لا تمنعنا أن نتوسع في دراسة اللباب الجوهري من أدب شكسبير، وكل ما هنالك من فرق فهو الفرق الذي نتوقعه في كثير من الموضوعات، وهو الفرق بين الدراسة المستوفاة من جميع جوانبها والدراسة التي تتفتح للمزيد وتقوم على طائفة من الأسانيد دون جميع الأسانيد.

نسبة الروايات

بدأ الشك في نسبة الروايات قبل ظهور طبعتها الثانية في سنة 1632؛ لأن حصر هذه الروايات في طبعتها الأولى قد فتح الباب لمراجعة العارفين بها، فاستدركوا ما سقط منها وما أضيف إليها من غيرها، على حسب علمهم بمصادرها، وربما كان منهم من عرف اسم الرواية ولم يشهد تمثيلها، فالتبس عليه الأمر بين الروايات التي ألفها شكسبير بهذا الاسم وبين الروايات التي سبقتها بأقلام المجهولين أو لمذكورين.

ومن أقدم ما سجل من هذه الشكوك كلمة كتبها إدوارد رافنسكروفت

Ravenscroft

سنة (1640-1697) في مقدمة رواية تيتوس أندرونيكس - وهو اسم رواية تنسب إلى شكسبير - فقال: «إنه ليبدو لي أن اختلاس أعمال الموتى سرقة أكبر إثما من سرقة أموالهم، ولا أود أن أرمى بجريمة من هذا القبيل، فلا مناص لي من أن أنبئ القارئ بأن هناك رواية في مجموعة مستر شكسبير باسم تيتوس أندرونيكس نقلت عنها جزءا من روايتي، وقد أنبأني بعض المطلعين على تاريخ المسرح أنها ليست له ولكنها وضعت بقلم مؤلف آخر لتمثيلها، ولم يزد عليها شكسبير غير بعض التنقيحات في تصوير الشخصيات الهامة، وأراني جانحا إلى قبول هذا الخبر؛ لأن الرواية أقل أعماله صحة وهضما، وكأنها كوم من النفاية وليست بنية منظمة ...»

على أن هذا الشك القديم يردده بعد نحو ثلاثة قرون نخبة من النقدة الكفاة في دراسة شكسبير ومنهم الشاعر المتوج في عصره جون ماسفيلد

Masfeld

وهو على شهرته في قرض الشعر أديب عليم بتاريخ الأدب، له كتاب موجز ألفه عن شكسبير، فقال فيه عن هذه الرواية: «ولا يساورنا الشك في أن شكسبير كتب قليلا من هذه الرواية، لا ندري أين ومتى؟ غير أن الشاعر لا يقترف الخطيئة في حق فنه ما لم تقسره الضرورة، وما كان شكسبير ليزاول هذا العمل حبا وكرامة عن طيب خاطر ... ويجوز أن الرواية وصلت إليه بوصاة من مدير مسرحه وهو يقول له كلمات بهذا المعنى: لدينا قطعة رديئة - جد رديئة - لولا أنها قد تنجح وأود أن أعرضها وأبدأ بتوزيع أدوارها توا. ألا تستطيع أن تعالجها؟ أرجو أن تجتهد فيها اجتهادك، ولو أنشأت لها كلمات هنا وفقرات هناك عند الحاجة، ومهما يكن من أمر فأرجو أن أتلقاها منك يوم الاثنين». •••

ويحيط الشك بمسرحيات أخرى في المجموعة غير هذه المسرحية، وأشهرها وأكثرها حظا من الشكوك رواية بركليس وروايات هنري السادس ورواية هنري الثامن ومناظر من مكبث والملك لير وسمبلين، ويظن فريق من النقاد أن فلتشر

Fletcher

كتب أكثر هنري الثامن، وأن مارلو

Marlowe

كتب أكثر هنري السادس، ويقول أديب مفكر فياض الذهن - هو الشاعر الفيلسوف كولردج - إن فاتحة الروايات على الأقل ليست من قلم شكسبير، ويتناثر القول بمثل هذا عن مناظر من تيمون الأثيني وترويض السليطة والعبرة بالخواتيم وما عداها، وحجتهم في فروضهم أن مواضع الشك كثيرة الخلط والخلل، وأنها ليست على سواء في رسم الشخوص، ولا في تقسيم الفصول، ولا في سوق الحوادث، أو الشعور بلب الحادث الفاجع والحادث الذي لا يعدو أن يكون واقعة أليمة لا معنى فيها للفجيعة، وأن بعض المناظر في الروايات - كمنظر جان دارك في ضراعتها ودفاعها - يهدر القيم الإنسانية التي لم يهدرها شكسبير، وإن كان لا يستهين بما في طوايا الناس من الشر واللؤم والفساد.

وعلى وجاهة الملاحظات التي توجب هذه الفروض عند نخبة من جلة النقاد، يظل أناس من حذاق القراء مترددين في تسليم هذه الشكوك يعللون الملاحظات أو المفارقات بالعلل الطبيعية التي تعرض للعبقرية في أطوار نموها بين عهد البواكير وعهد النضج والاستواء، ولا يصعب عليهم أن ينسبوا تلك المفارقات إلى قلم واحد في فترة واحدة؛ لأن العبقرية لم تسلم قط من تفاوت النتاج في العمل الواحد، ولا من الإسفاف الذي يقابل الارتفاع النادر ويلازمه في آثار العباقرة من أرفع الطبقات.

ومن أذكى هؤلاء القراء الحذاق وليام بليس

Bliss

صاحب كتاب «شكسبير الحق» أو الرد على الشراح، وهو يقول في الفصل الأول منه: إن الشراح لم يتفقوا على سطر يجوز أن ينسب إلى شكسبير ولا على سطر لا يجوز أن ينسب إليه، وإن الشاعر لا يؤلف الجيد من كلامه دون الرديء، وإن رديء الروايات المشكوك فيها أشبه برديء شكسبير منه برديء مارلو، وإن عيوب الموضوع أحيانا تسوق الشاعر إلى عيوب لا فكاك منها ولا حيلة له فيها.

وصفوة آراء هذا القارئ الحاذق في كتاب زاد على ثلاثمائة صفحة أن شكسبير كتب كل قطعة تبناها، وأنه لا ينفرد بما لوحظ عليه من التفاوت في أدوار نموه ولا في دور واحد من حياته، بل يكاد كل مؤلف عظيم أن يخرج منه ثلاثة مؤلفين أو أربعة إذا فصلنا بين أجود ما فيه وأردأ ما فيه وبين وحي التحليق والإلهام من عمله ووحي الهبوط والتكلف المكدود. •••

إلا أن هذه الشكوك التي أجملناها فيما تقدم تنتهي عند الشك في نسبة هذه الرواية أو تلك، ونسبة هذا المنظر أو ذاك، وكلها من ملاحظات طائفة من النقاد تدين «أولا» بوجود عمل لا شك فيه صحيح النسبة إلى شكسبير، وتدين «ثانيا» بعظمة الشاعر وتنزيهه عن العيوب التي يكبرون تلك العظمة أن تنحدر إليها وتنزلق فيها، ويفرقون بين العمل الفج أو المختل الصادر من طبيعة الشاعر والعمل الذي ينافر تلك الطبيعة ولا يلائمها، ومحصول نقدهم أن عبقرية شكسبير حقيقية لا شك فيها، وأنها أكبر وأرفع من الروايات التي ينكرون نسبتها إليه.

ولكن ضربا من الشك غير هذا نجم في القرن التاسع عشر، وقام على أساس مناقض لأساس كل شك من تلك الشكوك التي تنتهي إلى إنكار بعض المناظر أو بعض الروايات.

وأساس هذا الشك أن الرجل المعروف باسم شكسبير في التاريخ الصحيح أقل من أن تنسب إليه رواية من روايات المجموعة بجيدها ورديئها على السواء، وأن كل رواية من هذه الروايات أتم وأعلى من أن ينهض بها ذهن شكسبير، بما صح في التاريخ من دلائل ثقافته ودرايته ومقدمات استعداده. •••

وتعزى الحملة على شكسبير حديثا إلى بواعث بعيدة من تاريخ الأدب وموازين الثقافة:

تعزى إلى نزعة اجتماعية أو سياسية بلغت غايتها من العنف واللجاجة خلال الفترة التي حامت فيها الشكوك حول أصالة الأعمال المنسوبة إلى الشاعر، وهي فترة العراك بين الطبقات على حقوق الحكم وحقوق الانتخاب، وما ينطوي فيها من نزاع على المزايا والملكات التي يقال إنها تولد مع الإنسان، أو إنها قد تكسب ولكن بالتعليم والمرانة الطويلة وجريان العادة في العرف عقبا بعد عقب وذرية بعد ذرية، وقد كانت المعركة في وجه من وجوهها الماثلة للأبصار والبصائر معركة شكسبير دون غيره أو قبل غيره؛ لأنه علم العبقرية الأعلى بين القوم، فإذا جاز أن ينبت في غير بيئة الحكم والسيادة فليست مزايا الفكر وملكات الفهم حكرا للعلية ولا لطبقات الحكم والسيادة، وإذا سقط هذا العلم من أيدي الثائرين المطالبين بالحقوق فليس لهم علم سواه يغني غناه.

ولم يرد هذا الخاطر على الأفكار في العصر الحديث بغير مسوغ يوحيه، بعد تجدد المعركة في القرن العشرين على نطاق أوسع من نطاقها في القرن الثامن عشر، بل كانت له مسوغات كثيرة من موافقات الأحوال ومن مجرى الحوادث ومن مضامين الحملة على شكسبير، ومنها أن المتشككين في أصالته كانوا ينتهون دائما إلى نسبة أعماله إلى رجل من العلية يحمل لقبا كبيرا من ألقاب النبلاء، وأنهم عادوا بعد استضعاف القرائن التي تعزز نسبتها إلى لورد باكون؛ فنسبوها إلى واحد بعد واحد من طبقة النبلاء.

ومنها أن أنصار شكسبير في أمم القارة الأوروبية كانوا أوفر عددا وأرفع صوتا وأشد حماسة له من أنصاره في الأمة الإنجليزية، وكان الانتصار لشكسبير يساوق الانتصار للحقوق الاجتماعية أو السياسية التي احتدمت معاركها في أمة من الأوروبيين.

وآية الآيات في هذه العبقرية النادرة أنها كانت من سعة الأفق بحيث تنهض منها الحجة لكل طالب حجة في القضايا المتناقضة، ولا سيما قضايا التنافس أو التفاخر بين الطبقات، وقد بلغ من اتساع هذا الأفق أن يزعم أناس أن شكسبير لم تكن له نزعة خاصة في مسائل الاجتماع ونزاع الطبقات، وأن يزعم غيرهم أنه صاحب نزعة «أرستقراطية» في النظر إلى أحوال المجتمع وأحوال الحياة على عمومها، وأن يزعم غير هؤلاء وهؤلاء أنه يأبى هذه النزعة وينزع على نقيضها إلى الثورة واتهام ذوي السلطان، وكل هؤلاء الزاعمين ممن يسمع لهم رأي في هذه الأمور، ومن يستندون في رأيهم إلى وجه جدير بالتأمل والالتفات. •••

فالأستاذان الفرنسيان لجوي وكازميان

Legouis and Cazamian

يقرران في تاريخهما للآداب الإنجليزية أن شكسبير لم تكن له فلسفة اجتماعية يدين بها، ولم تعرف من كتبه نظرة خاصة إلى قضايا الاجتماع.

وجورج براند

Brandes

الناقد الدنمركي الذي كان ميزانه في النقد - ولا سيما نقد شكسبير - أشهر الموازين في القارة الأوروبية إلى ما بعد وفاته في سنة 1927 يعتقد أن شكسبير ينزع منزع العلية في آرائه الاجتماعية، ويسيء الظن بروح الجماعة، ويعرض الغوغاء في صورة مزرية كلما صور حركة من حركاتهم في مواقف الشغب والهياج.

والأستاذ لورنز إكهورف النرويجي

Lotentz Eckhorf

يذهب إلى الطرف الآخر فيقول إن الشاعر كان لسان الطبقة الثالثة ويؤلف في تفصيل ذلك كتابا سماه شكسبير مدره الطبقة الثالثة:

Shakespeare. Spokesman Of the third Estate

ويبين فيه أن الشاعر لم ينظر قط في رواياته نظرة الرضا بالسلطان القائم، وأنه في حكم الثائر الدائم على كل حالة ينكرها الثائرون ويعملون لتغييرها، ولا ينفي الناقد النرويجي تصوير الشاعر لهياج الغوغاء في صورته المزرية، ولكنه يعود إلى الأفراد من الدهماء حيثما صورهم شكسبير في رواياته، فيستخلص منها دلائل العطف - بل العطف الكبير - على كل فرد منهم، ويذكر - على سبيل المثال - شخصية آدم في رواية كما تهوى، وشخصية الخادم في رواية تيمون الأثيني، وهو الذي ثبت وحده على سجية الوفاء والأمانة بين أهل المدينة.

فلو بحثت معركة الطبقات عن علم تدور عليه لم تكد تعثر في البلاد الإنجليزية بعلم أوفق لها من اسم هذا الشاعر في سمو مكانته واتساع أفقه وإحاطة جوانبه بأطراف المعركة من أقصاها في اليمين إلى أقصاها في اليسار.

فلا جرم يخطر على الأفكار المشغولة بالصراع بين الطبقات في العصر الحديث أن الحملة على شكسبير قد انبعثت كلها من غرضها الاجتماعي - أو السياسي - ولم يكن لها باعث من بواعث النقد الأدبي وموازين الشعر والثقافة.

ولا سبيل إلى الفصل الحاسم بين الغرضين في الواقع، فإن المعركة الاجتماعية - ولا ريب - قد كان لها أثرها في توجيه الأنظار وإثارة الأفكار التي لا تثيرها معارك الأدب الخالص في جميع الأوقات ولا تجتذبها إليها بغير حافز من حماسة الجدل في مسائل الاجتماع والسياسة، أما أن تكون الحملة بحذافيرها من توليد الدعوة السياسية فهو تخمين لا سند له من الواقع، بل ينقضه الواقع عند استقصاء تاريخ الحملة والرجوع بها إلى بداءتها في القرن الثامن عشر، قبل احتدام النزاع على حقوق الحكم وحقوق الانتخاب.

وإنما سبق إلى الخواطر أن الحملة وليدة الدعوة السياسية لشيوع الظن بأنها صدرت أول مرة من كتاب رجل مشغول برياضة الملاحة، وأن الكتاب الذي وردت فيه موضوع عن قصة هذه الرياضة

Romance of Yachting

في سنة 1848 التي تعتبر من سنوات الحرج في تاريخ صراع الطبقات بالقارتين الأوروبية والأمريكية، ولم ينشر هذا الكتاب في إنجلترا بل نشر في الولايات المتحدة وهي مشغولة بصراع الأجناس والعصبيات مع صراع الطبقات، وكان مؤلفه من رجال السلك السياسي يسمى جوزيف هارت

Hart

يكتب في هذه المباحث وما إليها كتابة الهواة.

إلا أن هذا المؤلف لم يكن أول من أثار الشك في أصالة أعمال شكسبير، بل قام هذا الشك قبله بنحو سنة في دراسات رجل من رجال الدين بعيد عن شواغل السياسة يكاد ينقطع لدراسة المنطق والحكمة وما يتصل بهما من علوم الربوبية أو اللاهوت، وكان هذا القس - واسمه جيمس ويلموت

Wilmot - يعكف على دراسة الفلسفة التجريبية في كتب فرنسيس باكون، ويستغرب التشابه بين عباراته وعبارات شكسبير، ويسجل استغرابه هذا عرضا في تعليقاته ورسائله بين ما كان يسجله من اللمع والآراء، ولم يذهب في التعليقات والرسائل مذهب القول الصريح بنسبة العبارات المتشابهة إلى باكون دون شكسبير، ولكنه أثار الشك في نفوس محادثيه والمطلعين على رسائله، وذاعت عنه هذه المقارنات قبل أن تصدر في كتاب مطبوع ببضع سنوات.

وكان من أثر المحادثات في بيئة القس ويلموت أن صديقه الأستاذ جيمس كورتون كويل

Cowell

أحد المحاضرين في مواسم شكسبير عدل عن إلقاء محاضرة أعدها لزيارة من زيارات ستراتفورد؛ لأنه ارتاب في إبداع شاعرها لما نوه به في المحاضرة من أسرار البلاغة وآيات الإبداع، وتوفي القس ويلموت سنة 1807 ولم ينشر شيئا باسمه عن أصالة أعمال شكسبير، وإنما كثر الكلام في المشابهة بين عبارات شكسبير وعبارات باكون بعد ظهور الرسائل التي طبعتها إحدى قريباته في حياته، ويظن أن الكتب التي نشرت في هذا المعنى لمؤلفين مجهولين مكتوبة بقلم القس نفسه ولكنه أخفى اسمه ليربأ بمكانته الدينية عن لجاج الخصومات في موضوع كهذا الموضوع المثير، ومن هذه الكتب كتاب عنوانه سيرة الفهم السليم ومغامراته

The life and adventures of common sense

قيل إنه بقلم طبيب - غير معروف - يسمى هربرت لورنس

Lawrence

طبع قبل وفاة القس ويلموت بنحو أربعين سنة (1869) وتلاه كتاب الخنزير العليم

Learned pig

الذي تخيل مؤلفه أن الحكمة روح يتجسد عصرا بعد عصر من أقدم الأزمنة، وأنها عادت في ذلك العصر لكشف الحقائق الخفية، ومنها حقيقة شكسبير، وقد طبع هذا الكتاب سنة 1786 قبل وفاة القس ويلموت باثنتين وعشرين سنة، ومضت بعده فترة طويلة تلاحقت بعدها الكتب في نفي أصالة شكسبير، ثم تعددت الأسماء التي تنتسب إليها الروايات والقصائد المنشورة في مجموعته، وأصبح باكون أحد ثلاثة من النبلاء يدعي المنكرون لشكسبير أن أصحابها ألفوا له تلك الروايات والقصائد، والنبيلان الآخران هما لورد روتلاند

Rutland

ولورد أكسفورد

oxford

وقد سماه لوني

Looney

في كتاب ظهر سنة 1921، ثم زكته الأستاذة أمفلت

Amphlett

في كتابها: «من هو شكسبير؟»

who was Shakespeare .

وكان اسم لورد أكسفورد آخر الأسماء المختارة من طبقات النبلاء في عصر شكسبير لكتابة المؤلفات المنسوبة إليه، ثم بقيت الدعوى وتغير الاتجاه في اختيار الأسماء، فظهر في سنة 1956 كتاب عنوانه «الرجل الذي كان شكسبير»

the man who was Shakespeare

بقلم كلفن هوفمان

Calvin Hoffman

وهو ينقل هذه الدعوى من سلك النبلاء إلى سلك الأدباء، ويرشح الشاعر مارلو

Marloew

لكتابة الروايات والقصائد، ولكنه يقول إن «مارلو» كتبها متخفيا؛ لأنه كان مطاردا على خطر من الاعتقال والموت، فكتب اسمه على قبر بحار يعرفه وظل متخفيا في زاوية مجهولة حتى مات، فانقطع شكسبير عن التأليف.

وربما بلغت بعض الظنون مبلغ اللعب بالألغاز في النظريات والتخمينات المتأخرة من ابتكارات المحدثين، وأشبهها بلعب الألغاز تلك النظرية التي يقول صاحبها بنسبة تواليف شكسبير إلى حلقة من النبلاء، وعلماء اللغة يشترك فيها اللوردات أكسفورد ودربي وروتلاند وباكون وآخرون، وأقوى ما في أظانين المؤلف من حجة على زعمه أن أسلاف هؤلاء النبلاء ممجدون - فوق اللازم - في بعض الروايات ... وما من حجة من هذا القبيل تثبت لمحة عين أمام اعتراض واحد يرد عليها، وهو استحالة كتمان السر الذي يشترك فيه أولئك النبلاء والأدباء ومن حولهم أعوانهم من الحاشية ومديري المسارح والممثلين.

1 •••

ومن مساوئ هذه الدعاوى أنها تجتذب إليها المتهوسين وعشاق الأفانين كما تجذب إليها المولعين بفض الأغلاق وحل الرموز والألغاز، فينحرف البحث فيها عن سوائه ويشترك فيه طلاب الحقائق وطلاب الحيل وضروب المهارة والتوفيق بين الغرائب والأقاويل.

وهكذا حدث في موضوع المباحث التي تدور على أصالة شكسبير، فكان ممن تصدى لها من أفضى به الهوس بهذه الدعوى إلى مستشفى المجانين، ومنهم من كان يكتب حكايات الشرطة واللصوص وحكايات التزييف والتضليل على التخصيص، ومنهم من كان يشتغل بالجاسوسية الدولية أو يتتبع أخبار هذه الجاسوسية، وقل في أسانيدهم جميعا ما يستحق التوقف عنده وإطالة النظر فيه، وليس من السهل تلخيص هذه الأسانيد في بضع صفحات، ولكنها قد تلخص في ثلاثة أبواب من الأسانيد يوزن كل منها بميزان قريب يبين حظه من الرجحان.

فأول أبواب هذه الأسانيد وأضعفها، باب الرموز والحروف المدسوسة بين السطور، ويصعب نقلها من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية لارتباط الهجاء بالمعنى في الرموز التي يستدلون بها على الأسماء والكنايات، وأيسر الأمثلة فهما اعتمادهم على المشابهة بين كلمة باكون

Bacon

اسم الفيلسوف المعروف وكلمة باكون بمعنى لحم الخنزير، فإنهم يحسبون تكرار الكلمة مقصودا للإيحاء باسم المؤلف المستور، ولكن هذا التكرار يماثله تكرار بمقداره أو أكثر منه في الكلمات المشتركة بين أسماء الأشياء وأسماء الرجال والنساء، وقد لهجوا بكلمة شاذة ملفقة

2

جاءت في رواية الحب الضائع تهكما بالمتشدقين المولعين بالكلمات الطويلة، فعالجوا حروفها الكثيرة ضما وتفريقا ليستخرجوا منها اسم المؤلف المفروض، وأيا كان اسمه فمن المحقق أن اشتراك الحروف لا يصدق في وقت واحد في الإيحاء باسم باكون، واسم روتلاند، واسم أكسفورد، واسم مارلو، ومن عسى أن يذكر من أسماء النبلاء والأدباء. •••

ولسنا نعلم أن أحدا من علماء اللغة وخبراء الأدب أقام وزنا لقرينة من قرائن الجفر والرموز، وإنما يلهج بهذه القرائن جمهرة المتطلعين وطلاب الأفانين، أما علماء اللغة وخبراء الأدب والنقد فوسيلة التحقيق عندهم أن يقابلوا بين الأساليب والموضوعات، وهي أدنى إلى الجد وسداد النظر في هذه الدراسات، وأكثرهم يرى بعد المقارنات الطويلة أن تشابه العبارات لا يثبت شيئا خاصا بشكسبير أو بأديب من أدباء عصره؛ لأنه قد يثبت المستحيل وهو أن يكون باكون مؤلفا لكتب العصر كله من منظوم ومنثور؛ إذ كانت العبارات المتشابهة غير قليلة بين أدباء العصر على الإجمال، وعندهم أن لوازم العصر قد تشيع على تعبيرات الأقلام كما تشيع في أحاديث الألسنة في كل حقبة على نهجها ووتيرتها، وبخاصة في عصور التطريق والتعبيد على مثال العصر الذي كتب فيه شكسبير وباكون؛ لأنه كان بمثابة مفترق الطريق بين الكتابة باللاتينية والإغريقية والإقبال على الكتابة باللغة الإنجليزية الحديثة، وفي أمثال هذه العصور تتولد الصيغ والقوالب ويكثر التشابه في الأنماط والعبارات، ويكاد الكتاب جميعا أن يصدروا عن نمط واحد وسليقة واحدة؛ لأنهم لا يبلغون من كثرة العدد أن تتسع بينهم شقة الخلاف، ولا يبلغون من تنوع الأساليب أن تكون فيهم مدرسة مستقلة لكل أسلوب.

ومما يذكر في جانب شكسبير أنه كان ينقل الخطب والأحاديث بنصوصها من تراجم بلوتارك كما نقلت إلى اللغة الإنجليزية، وأنه كان يستطيع ذلك دون أن يحتاج إلى أقلام باكون أو روتلاند أو أكسفورد أو مارلو أو غيرهم من علماء عصره؛ لأنهم أحرى أن يرجعوا إلى المصادر الأولى إذا احتاجوا إلى التأليف.

على أن اتفاق النقاد على تشابه الألفاظ وتناقل العبارات بين كتاب العصر - يقابله اتفاق يكاد أن ينعقد انعقاد الإجماع - على تباعد «الروح» بين كتابة باكون وكتابة شكسبير، وتباعد «الروح» بين شكسبير وسائر معاصريه، وليس هذا الفارق الواضح بالفارق الضعيف الذي يجوز إهماله في هذا المقام، ولكنه على وضوحه فارق عسير الثبوت بالبرهان المتفق عليه، كما يعسر ثبوت الفارق بين ملامح الوجهين مع يقين الناظر بوجود هذا الفارق أمام عينيه، وقصارى هذه الفوارق الجلية الخفية، أن تقوم في الروع وتحول دون الجزم بوحدة التأليف.

وندع هنا أسئلة السائلين عن العلة التي تدعو باكون أو روتلاند أو أكسفورد إلى تأليف كل هذه الروايات من وراء ستار، وعن العلة التي تفسر لنا خفاء الأمر في رواية بعد رواية وفي بيئة المسرح وبيئة العلية وبيئة اللغط الاجتماعي التي تحيط بكل قصر من قصور النبلاء وكل أديب من أعلام الأدباء، وكل ممثل ملحوظ المكانة بين الزملاء والنظارة ورواد الفن من خلف الستار أو أمام الستار، وحسبنا أن نقول إن كل سؤال من هذه الأسئلة يجاب عليه بأقوال متضاربة ليس منها قول واحد يقطع الجدل ويوجب الإقناع، ومن أمثلتها أن صناعة المسرح كانت يومئذ من الصناعات المرذولة في عرف المتطهرين، وأن المؤلفين النبلاء كانوا يتخذون الرواية المسرحية أداة لإبداء الآراء التي يكتمونها في شؤون السياسة، وأن هواية المسرح لزمت بعض النبلاء من أيام تلمذتهم في الجامعات؛ لأنهم درسوا فيها ومثلوا بين جدرانها روايات اليونان والرومان، وعاشوا بعد ذلك ينظمون الشعر، ويعرضون المواقف المسرحية في سهرات القصور، وكل هذه الأجوبة من مطارح الظن تقال ويبقى بعدها متسع للسؤال.

إلا أن المقارنة بين الأساليب قد أسفرت عن نتيجة لا يسكت عنها في صدد الكلام على تحقيق أصالة الشاعر بهذه الوسيلة، وربما اختلف النظر إلى النتيجة التي أسفرت عنها المقارنات الطويلة بين مجموعة شكسبير وغيرها ثم بين الروايات والقصائد التي احتوتها مجموعة شكسبير، ولكن الرأي الغالب عند جلة النقاد أن شكسبير لم يكتب كل ما في المجموعة من نظم ونثر، وأن هناك أقلاما شتى تنم عليها بعض الفصول أحيانا وبعض المناظر أحيانا أخرى.

فإذا صحت هذه الآراء فهي أدعى إلى الاستغراب من خفاء أمر المؤلفين المتسترين، ولا بد من سؤال يضاف إلى تلك الأسئلة وهو: لماذا يحتاج النبيل المتخفي إلى ترقيع كتابته بكلام أديب آخر دون طبقته في الأدب وفي المنزلة الاجتماعية فضلا عن اطلاعه على السر الذي يخفيه؟ ولماذا يستعير من المؤلفات المهجورة إذا كانت شهوة التأليف باعثه الوحيد إلى الكتابة؟

إذا كان شكسبير هو صاحب التأليف وهو المسئول عن إعداد المسرحيات للتمثيل فقد تزول الغرابة بإحالتها إلى ضرورات المسرح أو إلى طبع المجموعة بعد وفاته، ولكنها تلجئنا إلى تفسيرات غير مفهومة إذا كانت المجموعة من عمل نبيل يهوى الكتابة ولا يحترف التمثيل. •••

وصفوة القول في بحث خصائص الكتابة أن المقارنة بين أسلوب شكسبير وأسلوبي باكون ومارلو لم تنته إلى بينة معقولة تزعزع أصالة شكسبير، ولم تجر مقارنة تذكر بين أسلوبه وأسلوبي كروتلاند وأكسفورد؛ لأن المحفوظ من آثارهما لا يكفي لترجيح رأي من الآراء.

ولقد أشرنا من قبل إلى النزعة الاجتماعية أو السياسية التي قيل إنها أوحت بإنكار شكسبير وإسناد أعماله إلى أولئك النبلاء، فلا يفوتنا أن نشير هنا إلى الموافقات الأدبية التي تكمن وراء كل نوع من أنواع القرائن والشبهات يستدلون به على ظنون المتشككين في أصالة شكسبير، فإنها أحق بالملاحظة في دراستنا الأدبية وأوضح منها علاقة بأسبابها، فقد كان الاستدلال برموز الجفر والحروف يشيع في الزمن الذي راجت فيه قصص الشرطة وأسرار المغامرات، وكان الاستدلال بخصائص الأساليب يشيع في إبان الإقبال على تحليل الشخصيات واستخراج طبيعة الكاتب من الكتابة على ديدن القائلين بأن الأسلوب هو الرجل، أو على ديدن الرواد الأوائل من النقاد النفسانيين.

كانت الرموز وحروف الجفر قراءة المتطلعين من عشاق الألغاز والأفانين، وكانت خصائص الأسلوب قراءة الأدباء المتخصصين، وبقيت بعد هذين النوعين قراءة أخرى أعم منهما وأدنى إلى بديهة الإنسان من القراءات الخاصة أو قراءات المتخصصين؛ لأنها تتناول طبيعة العقل الإنساني التي تعني الإنسان في كل أمة وفي كل زمان. •••

أهم وأجدى من الرموز ومن خصائص الأساليب، نظرات الباحثين في طبائع الفكر وعادات العقل الإنساني وخوارقه، وفيما يلهمه بالفطرة وما يكسبه بالتعليم والخبرة، وفي معنى العبقرية ومعنى النبوغ ومعنى الإدراك اللدني والإدراك بالوسيلة والدراسة، وهذا هو مجال البحث الذي طوى كل بحث يتناول الشك في أصالة شكسبير؛ لأنه يقيم هذا الشك على مقدار المعلومات التي لا بد منها لمن يبدع المؤلفات المنسوبة إليه.

شكسبير لم تتهيأ له المعلومات الضرورية لتأليفها.

شكسبير لا حاجة به إلى معلومات غير معلوماته التي استفادها من دراسته وتجارب حياته، واستلهمها من فطنته ووحي عبقريته.

وبين هذين القطبين المتقابلين تموج الأقوال والآراء وتتدافع الوقائع والنظريات بين المنكرين والمعجبين، وتعمل العاطفة عملها مع ما يعمله الدرس ويعمله الخيال، فيذهب الخلف كل مذهب، ويخيل إلينا أن القطبين يستديران من آونة إلى أخرى، فلا ندري أين يكون المنكرون وأين يكون خصومهم المعجبون.

فالمنكرون لشكسبير يبالغون جهد المبالغة في تعظيم الأعمال المنسوبة إلى شكسبير، ليقولوا إنها أعظم من طوقه وأبعد من ذرعه، وأحجى أن تكون من عمل غيره.

والمعجبون بشكسبير يبالغون من الجانب الآخر في إحصاء العيوب والتنبيه إلى مواطن الجهل والخطأ، ليقولوا إن هذه المؤلفات لا تأتي ممن تعلم تعليم باكون وروتلاند وأكسفورد، وتعليم مارلو وشعراء عصره المثقفين.

وعلى هذه القضية - قضية المعلومات - تدور رحى المعركة التي هدأت من جانب المختلفين على الرموز ومن جانب الباحثين في خصائص الأساليب، ولكنها في هذا الجانب لا تزال إلى السنة الأخيرة تتلقى المدد من حين إلى حين، وفيما يلي خلاصة تلملم من شعث هذه المعركة ما يستطاع الإلمام به في حيز هذه الصفحات: يقول المنكرون إن المؤلفات المنسوبة إلى شكسبير تدل:

أولا:

على السياحة الواسعة في القارة الأوروبية.

ثانيا:

على العلم بالبحر وحوادث السفن وفن الملاحة.

ثالثا:

على فهم دراسات دقيقة كدراسة القانون وأحوال المقاضاة مع قلة الإشارة إلى الصناعات التي زاولها شكسبير وأولها صناعة التمثيل.

رابعا:

على شواغل من الرياضة العالية ولهو الفروسية يشتغل بها العلية ولا يشتغل بها أمثال شكسبير.

خامسا:

على نظرات رفيعة في المسائل الكبرى ومعرفته باللغات الحديثة والقديمة لم يتبين من ترجمة شكسبير أنها تيسرت له بالدراسة أو الاطلاع.

وزبدة أقوالهم في هذه الملاحظات على إجمالها أن علامة الصحة أن تكون الترجمة مفسرة للمؤلفات وأن تكون المؤلفات مفسرة للترجمة، وهذه علامة لا نجدها إذا نسبنا المؤلفات إلى شاعر ستراتفورد، ولكننا نجدها وافية متواترة إذا نسبناها إلى غيره، وكل من المنكرين يرى أن هذا «الغير» لا يكون إلا النبيل الذي اختاره بين زمرة يشبهونه في التربية والرياضة والسياحة وشواغل الحياة.

ويتبين منهج المنكرين عامة من الأسئلة التي تمليها المشكلة ويعتقدون أنهم أجابوا عنها وحلوا المشكلة بنسبة الروايات والقصائد إلى مؤلفهم المختار، وهذا نموذج من تلك الأسئلة يلقيها الكاتب الروسي بروفشيكوف

في كتابه الذي سماه إماطة اللثام عن شكسبير

Shakespeare Unmasked

ونسب فيه المؤلفات إلى اللورد روتلاند، ثم يجيب عن كل منها إجابة واحدة لا تحتمل قولين في ظنه، ويبدو من وضع الأسئلة فيها أن الجواب محضر قبل السؤال.

وهذه هي الأسئلة الهامة في هذا الكتاب، ولها نظائرها من الأسئلة في كتب المنكرين الآخرين، ممن لا ينسبون المؤلفات إلى لورد روتلاند وحده بين النبلاء، يسأل الكاتب الروسي: (1)

كيف يمكن أن تنكشف الروايات عن طبقة من المعرفة تناصي أرفع قمة بلغتها الثقافة في عصرها؟ (2)

ولماذا تغمر الروايات بالكلام على الرياضة ومصطلحات القانون؟ (3)

ولماذا تخلو الروايات - إلا في النادر - من صور المسرح إن كان مؤلفها شكسبير؟ (4)

وما سر هذا الولع بالمناظر الإيطالية في مدن معينة تقاد إليها الحوادث من أماكنها التي ذكرت في مصادرها الأولى؟ (5)

ولماذا تتابعت الملهيات السعيدة حول سنة 1600 وتلتها الفواجع الأليمة بعد ذلك؟ (6)

ولماذا كان شكسبير الشاعر الوحيد الذي لم يكتب سطرا واحدا عند وفاة الملكة اليصابات؟ (7)

ولماذا لم يكتب شيئا بعد سنة 1612؟ •••

ومحصل الأجوبة عن هذه الأسئلة جميعا أن حياة روتلاند وموته يفسران لنا كل سؤال منها نحار في جوابه إذا أصررنا على نسبة الروايات إلى شكسبير، ولكن الكاتب الروسي يزيد الحيرة في الحقيقة حيرتين؛ إذ هو يناقض القائلين بموافقة الروايات لحياة باكون وموافقتها لحياة أكسفورد، ولا اتفاق بينهم فيما عرضه من سؤال أو جواب. •••

وأول اعتراض يرد على الذهن المستقل - فضلا عن الذهن المتعصب لشكسبير - أن المنكرين تذكروا كل سؤال ونسوا سؤالا واحدا هو أولى بالتقديم من كل ما سألوا عنه، وكان عليهم أن يسألوا قبل ذلك: ما هو فضل العبقرية في حسبانهم؟ وأين مكان الملكات الممتازة إن أسقطوا من حسبانهم خوارق العادات وأجروا كل شيء في التأليف مجرى المعهود المقدور في عادات المعقول؟

ففي الروايات «معلومات» لا تستقى من ثقافة العصر كائنا من كان مؤلفها وبالغا ما بلغ من علوم عصره ومحصول جامعاته، ولم يكن في طاقة ذلك المؤلف أن يقسم عوارض علم النفس على حسب المرضى المصابين بانحراف العقل وانتكاس الخليقة ذلك التقسيم الدقيق الذي نقرأه اليوم في أدوار هملت وتيمون الأثيني والملك لير ولادي مكبث وريتشارد الثالث وغيرهم من المرضى «النموذجيين» في أوصاف علماء النفس المحدثين، وما كان في طاقة المؤلف أن يستبطن تلك العوارض والأعراض ويقسمها حسب أطوارها بما يستقيه من دروس جامعاته ومعاهده، ما لم ندخل في الحسبان فضل العبقرية وقدرتها على خوارق العادات في وعي السرائر واستطلاع خبايا الضمائر وتصوير كل أولئك في قالب شبيه بقالب الحياة.

على أن الغريب عندنا في القرن الحاضر أو في القرن التاسع عشر لم يكن غريبا في عصر شكسبير، وهكذا كل عصر من عصور الانتقال والانقلاب له معارفه العامة التي يتبادلها الناس من المختصين وغير المختصين ومن المتفرغين لها وغير المتفرغين، فليس من اللازم أن نلجأ إلى فرض العبقرية لنفهم قدرة شكسبير على العلم بمصطلحات الرياضة والملاحة ومراسم القانون؛ لأن رياضة الفروسية كانت خبرا مشاعا في عصر اليصابات، وكان قيام ملكة على العرش حافزا قويا بين النبلاء للتنافس في النخوة والبطولة وبراعة الفروسية والصيد والمسابقة، ومن لم تكن له ثروة النبيل فلا حجاب بينه وبين ساحات الطرد والصيد وحلبات المبارزة والسباق، ومما اشتهر عن شكسبير أنه هجر بلده هربا من تهمة التعرض للصيد في بعض ساحاته الممنوعة، وأنه كان على صلة حميمة بكثير من فرسان عصره، وأنه كان لمعرفته بالخيل تعهد إليه خيول السادة المترددين على المسارح قبل أن يشتغل بالتمثيل، وما كان ليفوته وهو يحرس تلك الخيول أن يسمع من أخبارها ومزاياها ما يغنيه في كتابة ما كتبه عن ألعاب الفروسية وأحاديث الفرسان.

أما الملاحة فقد كان حديثها على كل لسان في عصر المغامرات البحرية والرحلات إلى الأقطار المعلومة أو المجهولة، ولم يكن ناد من أندية العامة عند فرضة لندن يخلو من عشرات الملاحين من شتى الأمم يتحدثون بما شهدوه وما سمعوه وفيه ما يغني السامع عن ركوب البحار لوصف ما وصفه الشاعر في بعض رواياته، وهو مكتوب لأناس يسمعونه ويسمعون أمثاله في غير المسارح ومشاهد التمثيل، وقد كتب الشاعر سوذي

Southey

سيرة نلسون، فقال قراؤه من جنود البحر إنه كان يتسلل بين أدوات السفن كأنه قطة السفينة المنذورة أو كلبها المنذور، وسوذي لا يسمو في عبقريته إلى أوج شكسبير، وسفن القرن السادس عشر أو السابع عشر لا تحتوي من الدقائق ما احتوته السفن في عصر نلسون، ولا تحتاج مصطلحاتها إلى علم وافر بالملاحة كعلم الملاحة الحديث، وليس لنا - بعد كل تقدير - أن ننفي خروج شكسبير من وطنه ونقطع باستحالة وصف البحر في رواياته على المشاهدة والتجربة وممارسة الملاحة في بعض الرحلات، فإن في سيرته - كما تقدم - فترة مجهولة بعد سنة 1584 تزيد على ست سنوات لا يجوز البت في خبر من أخبار حياته ولا في مزاولة من شتى مزاولاته ما لم تنكشف لنا أخبارها على وجه اليقين، فإن لم يكن قد ثبت أنه قضى هذه الفترة في رحلات البحر ومشاهدات السياحة فلم يثبت كذلك أنه بقي خلالها في مكان معلوم لم يفارقه إلى مكان قريب أو بعيد.

ومصطلحات القانون في الروايات لا تزيد على القسط الذي يلتقطه الذهن اليقظ من معاملاته أو من محادثاته مع الفقهاء والمسجلين، وكانت لشكسبير معهم - ولا ريب - أحاديث في بلدته حيث يختلف القرويون إلى المسجلين وكتاب العقود شهودا أو موقعين أو أصحاب شأن في ورقة من أوراق التوثيق، وكانت له عقود ومشاركات كما كانت له أسمار يستمع فيها لفقهاء القانون وأصحاب القضايا ورواد المحاكم والدواوين، وفي استطاعة مثله - ولو لم يقصد - أن يتلقف من معارف القانون ما يعينه على مساجلاته القانونية، فإذا قصد أن يحيط ببغيته منها فلا يعييه أن يدرك ما يبتغيه.

ولقد قيل إن كثرة الكلام على الصناعات ما عدا الصناعة التي مارسها الشاعر - وهي التمثيل - دليل على أن الكاتب من غير الممثلين، والأحجى لا يكتب رواياته ليمثل الممثلين ولا ليعرض على النظارة أدوات فنه ومصطلحات عمله، وإنما يكتب ليمثل الصناعات والصناع جميعا ما عدا الصناعة التي يرونها منه حين يرونه على المسرح في تلك الأدوار، وليس الإكثار من ذكر المسرح والتمثيل دليلا على خبرة المؤلف بالشؤون المسرحية أو قيامه بتمثيل الأدوار أو توجيهه للممثلين، وإنما يدل على ذلك وضعه للرواية على النحو الذي يهيئها للغرض ويهيئ للممثلين فيها أداء أدوارهم وإلقاء أقوالهم على أيسر سبيل، وهذه هي القدرة التي أحسها أستاذ المسرح الشكسبيري في زمانه سير هنري إيرفنج الذي مثل أشهر الأدوار في روايات شكسبير، فإنه يقول إن هذه الأدوار لا يتأتى لأحد لم يشتغل بالتمثيل أن يكتبها هذه الكتابة وينسقها هذا التنسيق. •••

أما الثقافة التي تنال بالتعليم في معاهده ولا يتلقاها طالبها - في رأي المنكرين - من أفواه الناس أو من معلومات العصر المتداولة بين عامة أبنائه، فليست هي بالكثيرة في مجموعة شكسبير، ولكنهم يستكثرونها عليه فيما عرف من تعليمه المدرسي بالقرية التي ولد فيها، وأخص ما يذكرونه من هذه العلوم دروس اللغتين القديمتين اللاتينية والإغريقية ودروس اللغات الحديثة، ولا بد أن يكون مؤلف المجموعة قد أضاف فيها شيئا من الفرنسية والإسبانية والإيطالية.

ولكننا نرجع إلى الروايات والقصائد فلا نرى فيها جزءا كبيرا أو صغيرا يحتاج إلى معرفة باللغات القديمة أو الحديثة أوفى من النصيب الذي ناله شكسبير ومن نشأوا مثل نشأته في قرى الريف، فقد كانت المدارس المعروفة باسم مدارس الأجرومية تعلم تلاميذها اللاتينية وتحرص على تزويدهم بنصيب حسن منها؛ لأنها كانت لغة الدين في الكنائس الغربية خلافا للكنائس الشرقية التي كانت تقرأ الصلوات بالإغريقية، ولهذا كانت عنايتهم باللاتينية أكبر من عنايتهم بالإغريقية، وظل معلموها من رجال الدين يتشددون في تعليمها إلى ما بعد الثورة البروتستانتية بزمن طويل، وقد قال معاصر شكسبير الشاعر الأديب المثقف بن جونسون

Ben Johnson

إن لغته اللاتينية كانت قليلة ولغته الإغريقية أقل منها ولكنه كان موفور الحظ من لغة الطبيعة، وهذه شهادة يؤيدها نظام التعليم كله في عصر شكسبير؛ إذ كان تعليم اللاتينية أرقى من تعليم الإغريقية في سلك التلمذة الأولى، وكان التوسع في الإغريقية مطلبا يتوفر عليه طالبه بعد الانتقال من هذه التلمذة إلى ما يتبعها من مراحل التعليم.

وقد عرف بن جونسون معاصره شكسبير معرفة الزملاء ولم يسرف في الثناء عليه، بل لعله كان إلى القصد أدنى منه إلى السرف حين وصف علمه باللغتين اللاتينية والإغريقية، أو لعله كان يقيس علم شكسبير بهما إلى علمه وعلم أقرانه من أساتذة اللغتين، ولكن توماس فولر

Fuller

الشاعر الذي كان يعاصر شكسبير (1608-1661م) يقول في تحيته له: «إنني لا أنحل الطبيعة كل فضلك؛ لأن الشاعر يصنع كما يولد، وهكذا كنت أنت أيها الكريم شكسبير.»

وممن عاصروا شكسبير من الشعراء الأدباء ريتشارد بارنفلد

Barnfield (1574-1627) الذي كان يعجب به ويحكيه ويقول عنه - وإن لم يذكر علمه باللغات - إنه سيخلد كما خلد شعراء اللاتين.

ويجوز مع هذا أن يكون شكسبير أجهل باللاتينية مما وصفه بن جونسون أو وصفه المنكرون، ثم لا يجهل القدر الذي يكفيه للرجوع إلى مصادرها التي لم تنقل إلى الإنجليزية، وهي قليلة لا تستعصي على قارئ متوسط الذكاء قد درس من مبادئها ما درسه شكسبير.

ومشكلة اللغات الحديثة أيسر من مشكلة اللغتين القديمتين؛ لأن الكلمات الفرنسية أو الإسبانية أو الإيطالية التي جاءت عرضا على ألسنة بعض شخوصه لا تزيد على ما يعلمه عامة أبناء عصره من تلك اللغات، وقد كانت رحلاتهم في السلم والحرب إلى فرنسا وإيطاليا تتصل في عهد الرحلات المتلاحقة بين بلاد القارة الغربية، وكان زوار إنجلترا من الفرنسيين والإسبانيين يتفاهمون على نحو من التفاهم بغير حاجة إلى التراجمة في محادثاتهم اليومية مع أبناء البلاد، وكانت إيطاليا في عصر النهضة قبلة المهذبين والظرفاء ينقلون عنها الأزياء، ويأخذون عنها الصحاف المختارة من الطعام ويتشبهون بسادتها في ألعاب البيوت وملاهي السهرات، ويذكرون أوراق اللعب بأسمائها الإيطالية التي بقي بعضها في اللغة الإنجليزية إلى الآن .

فإذا كان في أمرها في اللغات الحديثة وجه للغرابة، فالغريب في هذا الأمر أن يجهلها شكسبير ولا يعرف منها ذلك القدر الذي لا يستعصي على أحد يريده في وقت من الأوقات. •••

ويبدو أن المناظرة بين الفريقين عن أصالة شكسبير قد تحولت إلى سباق في البحث عن المحاسن والأخطاء ولكن على غير المنظور من المنكرين ومن المتشيعين؛ لأن المنكرين هم الذين يتحرون مواطن الإتقان والدراسة الرفيعة ليقولوا إن المنظوم والمنثور في المجموعة من عمل مؤلف غير شكسبير، ويقابلهم من الطرف الآخر من يخالفونهم من المتشيعين المعجبين أو المتعصبين، فيمعنون في تحري مواطن الخطأ والزلل ليقولوا إن المجموعة لا تكون من عمل مؤلف كأصحاب الدراسات الرفيعة الذين ترددت أسماؤهم في أقوال مخالفيهم؛ إذ هي أخطاء بينة لا تخفى على المتعلم الذي أصاب من العلم الرفيع ما أصابه أمثال أولئك الأقطاب.

ولهذا كشف المعجبون بالشاعر ما لم يكشفه منكروه من أخطائه وعيوبه، ولم يتركوا عملا واحدا من منظومه أو منثوره لم يأخذوا عليه خطأ في التاريخ أو في الجغرافية أو في العلم بأحوال الأمم وطبائع الأمور.

ونذكر في أمثلة ذلك إطلاق المدافع في عهد هملت، أي عهد الغارة الدنمركية على إنجلترا، مع أن الأسلحة النارية لم تستخدم في أوروبة قبل القرن الرابع عشر. ومن أمثلة هذه الأخطاء كلامه عن جامعة وتنبرج

Wittenberg

في ذلك العهد مع أنها تأسست في مفتتح القرن السادس عشر، وكلامه عن الحرس السويسري في العهد نفسه وهو نظام لم يعرف في الشمال، وعن شواطئ بوهيمية في رواية «نادرة الشتاء» وعن الساعة الدقاقة في عهد يوليوس قيصر، وعن الأزياء والنباتات والأحياء في غير أماكنها من القارات.

هذه المآخذ وعشرات من أمثالها قد جمعت من كل فطنة ولكنها لم تثبت شيئا مما أريد إثباته من أصالة شكسبير؛ لأنها نوقشت وغربلت فصارت إلى نتيجة من ثلاث ليس منها ما ينتفع به في هذا المبحث خاصة، وإن كان فيها منتفع للبحث في تاريخ الأدب وفي خصائص العبقرية وأخطاء العلماء والأدباء.

فبعضها ليس فيه خطأ تاريخي ولا جغرافي وإنما الخطأ فيه من النقاد أنفسهم؛ لأنهم نظروا إلى المواقع على ما كانت عليه في أزمنتهم أو في الماضي القريب ولم ينقبوا عن ماضيها المجهول، فبوهيمية كانت في القرن الثالث عشر تمتد من بحر أدريان إلى البحر البلطي ولم تكن خالية من الجداول والأقنية الصناعية، ولم تذكر في موضعها على البحر لأول مرة في مجموعة شكسبير، بل ذكرها جرين على هذا الموضع في روايته دوراستس وفونيه

Dorastus and Fawnia

قبل تأليف رواية شكسبير، وقد كان جرين أستاذا في الأدب من الجامعتين.

وبعض تلك المآخذ خطأ ولكنه لا يجهل أو لا يجهله كاتب الروايات كائنا من كان، ومن قبيله ذكر المدافع في عهود لم تعرفها؛ لأن اختراع البارود مذكور في رواية هنري الرابع التي لم تسلم من مآخذ غير هذا المأخذ، فليس ذكر المدفع قبل عصره جهلا من المؤلف ولكنه جرى فيه على عادة الفنانين من المصورين والمسرحيين الذين كانوا في عصر النهضة يستبيحون المخالفات التاريخية في سبيل تحلية الصورة أو بلاغ التأثير في المناظر المسرحية.

وسواء صدرت هذه الأخطاء عن جهل بحقيقتها أو عن ترخص من الكاتب في سبيل الأداء الفني لقد كانت مما يؤخذ على المؤلفين من كبار العلماء وفي مقدمتهم باكون في كتبه التي تنسب إليه نسبة لا اختلاف عليها، فقد اضطر رينولد مقدم مقالاته إلى التنبيه إلى أخطائه، فقال إنه لم يكن يعنى بصحة التفصيلات في كتابته، ومما حسب عليه أنه أشار إلى ملابس آراس

Arras

على لسان ثمستوكليس وهو يخاطب ملك الفرس، وله في الأنسجة الفارسية والشرقية مندوحة عن ذكر آراس.

ومن العلماء الذين حسبت عليهم أخطاء كهذه شابمان

Chapman

مترجم هومر إلى اللغة الإنجليزية، فإنه يذكر المسدسات في عصر البطالسة بين مناظر روايته «سائل الإسكندرية الضرير» ويجعل أبطال الرواية يقسمون بالأيمان المسيحية.

وقد حسب على الشاعر سكوت خطأ من أخطاء الجغرافية في وطنه أغرب من خطأ بوهيمية المحسوب على شكسبير أو جرين؛ لأنه جعل الشمس في إحدى رواياته

Antiquary

تغرب على صفحة البحر المحيط فوق شواطئ أسكوتلاندة الشرقية ، وأخطاء سكوت التاريخية لا تقل عن أخطائه الجغرافية، ومنها أنه تحدث في رواية إيفانهو

Ivanhoe

عن عصر ريتشارد الأول، فأجرى الأحاديث على نهج الفروسية الذي لم يعرف قبل عصر إدوارد الثالث، ومنها أنه تحدث في رواية كنلورث

Kenilworth

عن الرحلات إلى فرجينيا قبل أن تؤسس هذه المدينة.

وكان الشاعر بروننج

Browning

عليما بالفن الإيطالي، أقام في مدينة فلورنسة اثنتي عشرة سنة لدراسته، ولكنه يقول عن مساشيو

Masaccio

إنه يقتدي بليبي

Lippi

مع أن الأول هو السابق في زمانه.

3

فلا فائدة من الاعتماد على الأخطاء، لإثبات علم المؤلف أو جهله ولا فائدة كذلك من الاعتماد على التشابه بين العبارات، فإنه قد تتشابه في العصر بغير سرقة ولا انتحال، وقد تدل على أن باكون هو الذي اقتبس من شكسبير كما يرى الأستاذ جيرالد ماسي

Massay

الذي يعتقد أن أفكار شكسبير مبثوثة في كتابات باكون، ومهما يكن من تشابه العبارات فليست معجزة الرواية المسرحية في الكلمات بل خلق الشخوص التي تتحدث بتلك الكلمات، وقد يحفظ الإنسان كلمات المشهورين وغير المشهورين الذين يعيشون معه في عصره ولا يستطيع مع هذا أن يجمع منهم رواية أو يصنع منهم شخصية يضعها في موضعها من الرواية، فإذا ثبت التشابه بين مئات العبارات في كلام باكون وكلام شكسبير فالمشكلة باقية بحذافيرها بين ثبوت هذا التشابه الكثير، وتلك المشكلة هي إثبات القدرة على خلق الشخصية ورسم الوحدة في موضوع الرواية، وهذا دون غيره هو فن الرواية المسرحية وعمل الشاعر الخلاق المقتدر على التخيل والابتداع.

4

ولا يعد الخلاف على أصالة شكسبير منتهيا في الآونة الحاضرة، فإنه يتجدد بين حين وحين حول فرض حديث أو حول فروضه السابقة، ولا اختلاف بين أدلته في الحالتين، وليس في كل ما قيل من جانب المنكرين أو المتشيعين ما يفيد الحكم على أصالة شكسبير كما فهمها التابعون له في جيله من أبناء القرن السابع عشر، ولنا أن نفهم الآن كما فهموا أن شكسبير لم يكتب كل حرف في مجموعته وأنها تحتوي كلاما لغيره، خطأ من جامعي أعماله ورواياته أو تعمدا من شكسبير عند تمثيل بعض الروايات التي تعرض عليه لتنقيحها وتهيئة بعض المواقف فيها للعرض من جديد، ولا تزال هذه الإضافات مفروزة على اختلاف بين المجتهدين في استنباط الدلائل عليها، ولكنها قد تحذف من المجموعة ويبقى للمجموعة بعد حذفها هيكلها الذي قامت به معجزة الشاعر، ويبقى في هذا الهيكل موضع الإعجاز إلى جانب مواضع الزلل والإسفاف التي لا يستغرب اجتماعها في عمل شكسبير ولا في عمل غيره من العباقرة المعدودين، ولكن التفاوت هنا كالتفاوت بين أعضاء البيئة الواحدة لا فرق بين محاسنها ومعائبها في الانتماء إليه، وقد تساعد المحاسن والمعائب معا على التمييز بين الصحيح والمنحول من مجموعة الروايات والقصائد، حيثما أمكن تقرير «الطابع الشخصي» الغالب على تفكيره وعاداته في التعبير والأداء.

تراث عالمي

يختار العالم شعراءه بقسطاس عادل منزه عن الجنف والمحاباة غاية ما يستطاع العدل في حكم من أحكام الناس؛ لأن الجور في الحكم إنما يأتي من التحيز إلى جانب دون سائر الجوانب، والعالمية والتحيز إلى جانب واحد نقيضان.

والعالم يختار شعراءه على مهل، ولا يكون الحكم في اختياره للشاعر المختار ولا للأمة التي تنميه ولا لطائفة من الأمم يشملها هوى عارض في سنوات معدودات ولكنه حكم يرجع إلى قضاة متفرقين لأسباب متعددة، إذا تطابقت واستقامت على وجهة واحدة فهي بنجوة من أهواء الجور والمحاباة، ويكاد هذا الحكم يستقل عن منازعات الرأي في مدارس الأدب ومذاهب النقد؛ لأن حكم العالم باختيار الشاعر يتم عند تمام الاهتمام بتقديره ولا تنتظر مدارس الأدب حتى تفرغ من الأسماء والعناوين التي تطلقها على ذلك التقدير، ولا غبار على ميزان الاهتمام في جملته، إذ يكفي أن يطول اهتمام العالم كله بكلام شاعر لتثبت له القيمة الأدبية، أيا كان اسم تلك القيمة في مذاهب الأدباء والنقاد.

وآية الشاعر العالمي متى وجد في أمة من الأمم أن هذه الأمة لا تستطيع أن تحصره فيها؛ لأنه استحق «العالمية» بمزاياه الإنسانية المشتركة بين الأقوام والأزمنة، ولم يستحقها بمزية مقصورة على قومه يكررونها ويعيدونها بما استأثروا به من صفاتهم المكررة المعادة، وإذا لم يكن في إنجلترا شكسبيران ولم يكن في اليونان هوميران فليست علاقة الوطن في أحدهما بأثبت من علاقة الإنسان حيث كان.

ولهذا يحدث أحيانا أن يتشيع للشاعر العالمي أناس من غير وطنه على أناس من صميم وطنه، وقد يهجرونه في بلاده زمنا ثم يعودون إليه بهداية جديدة من الغرباء عنهم، فهم يستوردونه مرات من «الخارج» ولا يحق لهم أن يمنوا على «الخارج» بأنهم قد أصدروه إليه.

تلك آية من آيات «العالمية» تتمثل في شكسبير كما تمثلت في نظرائه من عباقرة العالم، فلا تستأثر بلاده اليوم بمأثرة من مآثر العناية به فيما عدا القربى «المحلية» التي فرضتها اللغة والمكان، وفي بلاد اللغة الإنجليزية من أجل ذلك متاحف لآثاره ومعاهد لذكرياته وطبعات من أصول كتبه لا يضارعها بلد آخر يتكلم بلغة أخرى ... أما دراسته ومراجعة أقواله وأقوال نقاده وشراحه، فذلك مجال يتسابق فيه قومه وغير قومه، ولا يندر أن يكون قومه هم المسبوقين فيه. •••

على أن هذه الشهرة العالمية لم تتوطد لشكسبير على عجل، فقد مضى أكثر من مائة سنة قبل أن ينتقل اسمه من جزيرته شوطا بعيدا إلى أرجاء القارة الأوروبية، ثم سرى فيها على مهل، فاختلف مجراه ومجرى السياسة في دولته اختلافا ينبئ عن كثير من أسرار العظمة الأدبية، وأظهر ما ينبئ عنه أن العظمة الأدبية التي ترتفع إلى أوج المكانة العالمية تسير بخطاها ولا تسير في ركاب دولة تحميها، فلو كانت في القارة الأوروبية بلاد تحتجب عنها شهرة شكسبير لسبب من أسباب السياسة الدولية لكانت فرنسا وألمانيا وروسيا أحق البلاد أن تحتجب عنها تلك الشهرة وأن تقف عند حدودها فلا تعبرها، فإنها الدول الثلاث التي أقامتها الحوادث منذ القرن السابع عشر مقام المنافسة - أو المنازعة - للدولة البريطانية في طلب السيادة على القارة وما وراءها، ومن لم يشتبك منها في حرب مع دولة شكسبير خلال القرن التاسع عشر فقد كان في ذلك القرن يجمع عدته لتلك الحرب ويتوقعها في أوانها، ولكن هذه الدولة كانت بين أسبق الدول الأوروبية إلى تعظيم الشاعر الغريب عن القارة وترويج أدبه والتنويه بقدره، وكان أسبقها في الزمن وفي التنويه فرنسا التي كانت خلال القرن كله تتلقى زحوف شكسبير زحفا بعد زحف وتذود جيوش بلاده في ميادين القارات الأربع بين العالمين القديم والجديد.

وآية «العالمية» في تنويه فرنسا بالشاعر الغريب أن يكون له فيها أنصار يفضلونه على أعلام الشعر والفن في أمتهم من طراز كورني وراسين وموليير، ومن لم يفضله في جميع المزايا على إطلاقها فقد فضله في بعض مزاياه غير متحرج ولا متحفظ، ومن هؤلاء من رفعتهم «شهرتهم العالمية» في حينها إلى طبقة كورني وراسين وموليير، وهم: هوجو، ولا مرتين، وأناتول فرانس، وأندريه جيد، ورومان رولان. •••

وفي ألمانيا ننظر إلى الأدباء والمفكرين الذين جعلتهم الأمة الألمانية فخرا «وطنيا» لها فإذا هم أكبر أدبائها ونقادها إعجابا بشكسبير، وقد كتب عنه هردر وجيتي وشلجل ولسنغ في ألمانيا، وكتب عنه كولردج وكارليل وهازليت وأرنولد في إنجلترا، وتقارب الوقت الذي كتب فيه هؤلاء وهؤلاء كأنهم في مباراة بينهم للتعريف به والإبانة عن معرفتهم بقدره، فلو كان قصب السبق في هذه المباراة لمن أعلن من فضله ما لم يعلنه الآخرون لتردد القارئ طويلا قبل أن يسلم قصب السبق للإنجليز أو الألمان.

وبعد حربين من حروب الحياة والموت بين ألمانيا وإنجلترا يحصي الناقد الألماني ولفجانج كليمين

Wolfgang Clemen

1424 عرضا لروايات شكسبير - ويشير إلى أسبوع خاص أفرد لتلقي الروايات على مسرح الدولة بدرسدن، ويذكر أن جماعة شكسبير استأنفت إصدار مجلتها الخاصة بأخباره وبحوثه، فصدر منها ثلاثة أعداد من الرابع والثمانين إلى السادس والثمانين بعد انقطاعها لضرورات الحرب، وعادت الجماعة إلى عقد جلساتها السنوية بمسرح بوشام

Bochum ، فانتخب لرئاستها الشاعر المؤلف إسكندر شرودر

Schroder

بعد موت رئيسها السابق في سنة 1951.

1 •••

ويوم نبغ بوشكين رائد المسرح الروسي الحديث كانت دولته ودولة شكسبير قد وقفتا موقف الطرفين المتناجزين من المسألة الشرقية ومسألة الهند والشرق الأقصى، فكان إضعاف إحدى الدولتين وإحباط سياستها في آسيا وأوروبة هدفا صريحا للدولة الأخرى، وكانت روسيا وإنجلترا يومئذ كالعدوتين «الطبيعيتين» في عالم الأحياء.

وفي الحقبة التي استحكم فيها هذا العداء بين الدولتين نشأ بوشكين، وقرأ الأدب الفرنسي واطلع على أدب الأقدمين، ثم درس شكسبير فجعل وصيته الأدبية كلمتين: «اقرأ شكسبير!» وأنكر دستور الأقدمين ليأخذ بدستوره في وحدة الحركة دون وحدة الزمن والموقع، وفضل طريقته في الأحاديث المفردة والهمسات الجانبية على حيل المحدثين التي يظنونها أقرب إلى الطبيعة، وهي في رأيه أبعد من الطبيعة ومن الذوق السائغ في فن التمثيل.

وجاء تولستوي بعد عصر بوشكين، وكان سني الرأي في جميع الفنون الجميلة لأسباب تشبه أسباب المتطهرين من الإنجليز، ولم يكن من دأبه أن يكترث لنقد النظم والنثر أو يحفل بترجيح زي على زي في القصص أو التمثيل، ولكنه وجد «الفن الشكسبيري» قضية من القضايا الشاغلة لأذهان المثقفين من أبناء بلاده، ورأى أنه جدير منه بتأليف كتاب يخصصه لموضوعه؛ فألف كتابه عن شكسبير والدرامة ليقول إنه لا يتذوق مسرحياته ولا يدري سر تعظيمه والافتتان بأدبه، وكل ما يراه منه أن أبطاله تعوزهم الشخصية وأن مواقفه لا تجري على السجية، وأن فنه في أعماقه لا يصدر عن الينبوع الذي ينبغي أن يصدر منه كل فن أصيل وهو جوهر القداسة، فحمد قراء تولستوي صراحته ولم يأخذوا برأيه، بل عدلوا عنه إلى رأي قرين له يعادله في المنزلة الوطنية والعالمية ويدري من دقائق الفن والذوق ما يعجم عليه، وهو إيڨان ترجنيف الذي ذهب إلى رأي في شكسبير يناقض رأي تولستوي فيما قاله عنه في محاضرته عن هملت ودون كيشوت.

وظل شكسبير «العالمي» إلى ختام عهد القياصرة شقة وسطى يتلاقى فيها المحافظون والثائرون، ثم ذهبت الثورة بعهد القياصرة بعد الحرب العالمية الكبرى ولم تذهب بمكانة شكسبير على المسرح، بل زادته عليها مكانة مثلها في ساحة الموسيقى والغناء.

جاء في بريد السجل السنوي الذي يصدر عن أخبار الشاعر باسم «عرض شكسبير» بقلم خبيره الروسي الأستاذ موروزوف

Morozov : «شهدت سنة 1950 عددا من عروض الإخراج الجديد لروايات شكسبير على المسارح السوفيتية وحافظت رواية عبد الله المغربي على مكانها الأول بين تلك العروض ، فإن هذه الرواية الإنسانية النبيلة تستجيب لها أغلى الأوتار في قلوب النظارة منا، والنغمة التي وقع عليها شكسبير قصة الحب بين عبد الله وديدمونة تستجيش منهم أعمق العواطف، ويترجمها المسرح السوفيتي كأنها قصة الثقة المخدوعة ولا يترجمها كأنها قصة الغيرة الثائرة.»

ثم قال الكاتب: «إن شكسبير يعرض أيضا في مسارح الموسيقى، وقد عرضت له في سنة 1950 رواية عبد الله منغمة بتلحين فردي ... وليست مسرحيات شكسبير فرصة للممثلين وحسب، بل هي فرصة للمنشدين وخبراء الإلقاء، وقد كان جولبنتسيف

Golubentsev

عند عرض روميو وجولييت يلقي شذرات منها بين حين وحين.»

وقد ذكر الكاتب خمس روايات فكاهية لها حظوة خاصة بين نظارة التمثيل أو مستمعي الموسيقى، وهي روايات ترويض السليطة، والليلة الثانية عشرة، والعناء الضائع، وزوجات وندسور المرحات، وملهاة الأغلاط، ومنها ما يمثل في العواصم على مسارح الدولة.

وبعد، فإن روسيا وألمانيا وفرنسا هي الدولة الأوروبية الكبرى التي كانت تنافس إنجلترا في السيادة على القارة خلال القرن الذي استفاضت فيه لشكسبير شهرة عالمية أو شهرة أوروبية، وشأنها فيما نحن بصدده أن العناية فيها بالشاعر الغريب أدل على استقلال الفكرة الإنسانية أو استقلال رسالة العبقرية في عالم الفكر من نظائر هذه العناية في الأمم الأخرى، فهي فكرة تتخطى حواجز السياسة وتشق بين الأمم طريقها فهي غنية عن خطط السياسة ومساعي الحكومات.

أما فيما عدا ذلك فلا فرق بين كبار الدولة وصغارها في رعاية الأمم لحق الفكرة الإنسانية، فهي في جملتها تسهم بما عندها في أداء هذه الفكرة وتبليغها، فبدأ ڨردي بتلحين مكبث في سنة 1847 قبل أن تظهر لشكسبير ملحنة واحدة في بلاده، وتلاها بتلحين عبد الله المغربي، وزوجات وندسور، والملك هنري الرابع. وكانت ترجمات الروايات إلى اللغة الإيطالية تتلاحق من أواخر القرن الثامن عشر إلى هذه السنوات.

وليس في القارة لغة لم تترجم إليها روايات من شكسبير ولم تسهم في تمثيله أو إخراجه بنصيب ملحوظ، وقد أصبح الاشتراك في إحياء هذه العبقرية على صورة من الصور واجبا يتنافس فيه أبناء الأمم لغير ضرورة محتومة سوى الأنفة من فوات حصتهم في تلك العبقرية الخالدة، ففي بلاد البلجيك شعب من الفلمنكيين يستطيع أن يفهم شكسبير بلغة من اللغات التي يمثل بها على المسارح البلجيكية، فرنسية أو ألمانية، ولكنهم يغارون على لغتهم أن تخلو من ترجمة، ويغارون على مسرحهم أن تنقضي عليه سنة بغير عرض خاص باسم شكسبير، ومما يفخرون به أن مسرحهم لم يخل من عرض رواياته إلا في السنوات من 1914 إلى 1919 وهي سنوات الحرب العالمية الأولى. •••

وقد وصل شكسبير إلى الأمم الشرقية في الشرقين الأدنى والأقصى مع المسرح الحديث، وترجمت روايتاه الأوليان إلى اللغة العربية من الفرنسية، وهما: روميو وجولييت، وهملت. وسميت الأولى بشهداء الغرام.

وكان طلاب المدارس يدرسونه أجزاء متفرقة في سلك التعليم الثانوي في البلاد التي تقرر فيها التعليم باللغة الإنجليزية كالهند ومصر، ثم تقررت له دراسات مطولة في معاهد الدراسة العليا، وأصبحت قراءته من مطالعات البرامج المدرسية أو الجامعية، فعرفه طلاب الشرق كما عرفه طلاب الغرب على منهج هذه المطالعات.

ويتوق النقاد الغربيون كثيرا إلى العلم بأثر شكسبير في أذهان الشرقيين المتعلمين وغير المتعلمين، ويسألون عن هذا الأثر من قرأوه ومن شهدوا تمثيله في المسارح الوطنية والمسارح الأوروبية التي تمثله بمختلف اللغات، ويخيل إلينا أن أولئك السائلين يشعرون بخيبة الأمل كلما سمعوا جوابا لا غرابة فيه؛ لأنهم يتوقعون من الشرقي دائما أن يكون إنسانا غريبا: يرى بعين غير الأعين ويفهم بفكر غير الأفكار.

وقد رأينا أحدهم يهتم بسؤال شيخ من الشرقيين «البحت» كما قال عنه؛ لأنه نشأ قبل أن ينشأ الجيل الذي تفرنج في الحواضر ودور التعليم، وكان هذا الشيخ يشهد رواية روميو وجولييت من فرقة متنقلة بمدينة الأقصر تعرض رواياتها في مولد من الموالد المشهودة التي تنتجعها فرق التمثيل والغناء في الإقليم، فاقترب منه وسأله عن رأيه في «الحكاية» التي يشهدها. قال الشيخ على ثقة وبراءة: لقد كان حقا أن تموت عجوز السوء التي كانت تتوسط بين الفتى والفتاة، فإنها أحق بالموت منهما وممن هلك من أهلهما، وما يأتي الفساد في البيوت إلا من هذه العجوز وأمثالها ...

والنقاد الغربيون الذين يسألون عن أثر شكسبير بين نظارته من الشرقيين يستريحون لسماع هذا الجواب، ويصيبون إذا قالوا إنه جواب لا يسمعون مثله من عامة النظارة في البلاد الغربية، ولكنهم يعدون الصواب إذا اعتقدوا أن الشيخ الشرقي «البحت» قد أجاب بذلك الجواب؛ لأنه «إنسان غريب» إذ ليس بالغريب أن يرد ذلك الخاطر على فكر إنسان يستمد الرأي من تجاربه، سواء فهم الروايات تكتب للعبرة أو تكتب لحكاية الواقع كما ينبغي أن يكون في الحياة، ولو كان كاتب «روميو وجولييت» شرقيا لجاز أن يتلقى من الشيخ الشرقي اعتراضا كذلك الاعتراض.

ونحن نحس الولع بقنص الغرائب فيما نقرأه من الآراء التي يقال عنها في الغرب إنها نماذج شرقية، ويعنون أنها تعبر عن الطبائع الشرقية في صميمها، ولا يقصرون معناها على حالة خاصة، إذا جاز أن تعرض للإنسان في الهند والصين ومصر والسودان، جاز أن تعرض له في كل مكان.

ونود أن نسوق بعض الأمثلة لهذه الغرائب من كتاب ألفه الأستاذ رانجي شاهاني الهندي

Ranjee Shahani

وسماه «شكسبير في الأعين الشرقية»، ورآه العلامة مدلثون موري والعلامة إميل ليجوي

Legouis

مثالا مقبولا لفهم شكسبير في نظر الشرقيين، وكلا العلامتين حجة في النقد الأدبي ولكنهما «غير حجة»، ولا ريب في إطلاق الحكم على الأفكار الشرقية بين أهل الهند وبين غيرهم من أمم الشرقين الأدنى والأقصى.

فمما أورده الكاتب شاهاني من مآخذ الشرقيين على شكسبير أنهم لا يحسون مأساة في أعماق ضمائرهم؛ لأن فجيعتها الكبرى هي الموت وليست النكبة الأبدية في الموت عند البرهميين والبوذيين الذين يدينون بالخلاص وتجدد الحياة.

ومما أورده من تلك المآخذ أن شكسبير يتناقض في المنظر الواحد وأنه أشد ما يكون تناقضا في رواياته المفضلة على سواها.

قال: «إن هملت قد وجدت صادقة مصدقة للحياة، وأعجب بها الهنود المثقفون وغير المثقفين على السواء ولكنها تنطوي على تناقض محسوس في موضع أو موضعين؛ إذ يقول هملت في مناجاته الثالثة عن العالم الآخر: «إنه المملكة التي لا يرجع منها من ذهب إليها .» وهو لما يكد يفرغ من رؤية طيف أبيه على المعقل، فكيف نفسر هذا؟ إن شكسبير كما يقول عنه جيتي يرسل ألسنة أبطاله بالمقال المناسب لكل مقام ولا يبالي أن يتناقضوا، وهذا صحيح على الجملة ولكننا هنا أمام تناقض واضح، وكثير من مصاعبنا في فهم الرواية يأتي من أمثال هذا الخطل الدرامي، وما عدا ذلك من نقائض الرواية فهو أعمق وألصق بطبيعة هملت في تكوينها؛ إذ هو يضطرب بين قطبين متعارضين: قطب العقيدة وقطب الإنكار: نصفه مسيحي ونصفه إغريقي على غرار الأقدمين.»

وتكثر أشباه هذه المآخذ في ملاحظات الكاتب وفي الملاحظات الأخرى التي تروى عن الشرقيين ويراد بها أنهم يفهمون الفن بطبيعة غريبة عن الطبائع التي تعبر عنها فنون الغربيين، وليس فيما قرأناه منها ملاحظة واحدة يختص بها الشرقيون أو تصدر عن الشرقي لأنه شرقي، ولا يجوز أن تصدر من الغربيين، وأن يصدر عن الشرقيين أنفسهم ما يناقضها ويذهب إلى وجهة تقابل وجهتها، وإنما هي آراء تختلف كما تختلف الآراء دون أن تختلف الطبيعة في صميمها.

فالرأي الذي يقول به الكاتب البرهمي عن التناقض بين مأساة شكسبير وعقيدة الخلاص بعد الحياة، يقول الأستاذ مدلتون موري بمثله عن التناقض بين العقيدة المسيحية وبين المآسي جميعا في أساسها، ويقدم ملاحظات الكاتب الهندي فيقول: «إن المأساة والمسيحية لفي تناقض يشبه هذا التناقض، ولولا أن المسيحيين تعودوا ألا يدينوا أنفسهم باطراد التفكير، أو ربما تعودوا ألا يؤمنوا حقا بعقائدهم لما تغاضوا عن هذا التناقض.»

وعندنا أن نصيب الأستاذ موري من الصواب لا يزيد على نصيب الأستاذ شاهاني منه، فما كان الإنسان ليتجرد من طبيعته؛ لأنه يؤمن بما وراء الطبيعة، وما كان ليبطل شعوره بالمأساة لاختلاف الطبيعة وما بعد الطبيعة في نظره، وإنما تأتي المأساة من هذا الشعور الذي يدور على محورين ولا يتيسر له أن يديره على محور متحد لا لبس فيه.

وليس بالحتم مع هذا أن يكون البوذيون أو البرهميون على رأي متفق في النظر إلى المأساة بهذه النظرة، فبعض البوذيين من بورما - كما جاء في الكتاب نفسه - يعجبون بشكسبير لأسباب دقيقة، ويقول أحدهم: «إن أدب شكسبير يعمل على تعليم أمثلة عالية من الأخلاق كالتي تعلمها الديانة البوذية بلا فارق من الوجهة الأدبية، وإنه لعلى الرغم من تقديره البالغ للدنيا ليضع يده في يد البوذي متصافحين حين ينظر هذا إلى الدنيا نظرة الزهد فيها.»

أما التناقض في رواية هملت فنحن - من قراء الرواية الشرقيين - لم نشعر قط أنه من المصاعب التي تحول دون القارئ الشرقي وفهمها، وأذكر أننا كنا نقرأ «هملت» مع صديقنا المازني، فكنا نتوقف عند هذا التناقض لنعجب من صدقه ودقته في التعبير عن شخصية بطل الرواية؛ إذ كان شكسبير يصور لنا إنسانا مخبول الحس، مضطرب الإرادة، يتردد بين الانتقام والإحجام؛ لأنه يشك في الطيف: هل هو شيطان من الجحيم يغريه بالإثم أو هو في الحق طيف أبيه يحضه على الواجب؟! ومن تردده أنه كان يحار في كونه ويتساءل: أيكون أو لا يكون؟ ثم يتقلب في الجواب ويتقلب في العمل كما يحدث لكل حائر مضطرب العقيدة بين الشك واليقين، ولو أنه ظهر لنا في الرواية على غير هذه الصورة لكان هذا هو التناقض الذي يعاب على المؤلف ويوقع القارئ في صعوبة الفهم لهذه الشخصية التي يجب أن تكون متناقضة، ثم لا يرى منها في المواقف المختلفة إلا التوافق والاستقامة على مسلك واحد.

إن شكسبير لم يكن يعرف عن الشرق شيئا من تواريخه أو أحواله أو مواقعه وأمكنته يزيد على القسط الشائع بين أبناء زمنه، مما تناقلوه عن الصليبيين ومن تقدمهم من رواد السياحة وطلاب الغرائب والأساطير، وكلما وردت الإشارة إلى الشرق في رواياته وقصائده فهو شرق الطيوب والعطور وشرق الأسرار والخفايا، وشرق الأرواح والجنة التي تفارق الهند لتلهو وتعبث في مفازة الغرب ثم تعود إليها، وربما حماه صدق البديهة فأورد تلك العجائب موردها من الفكاهة والتندر بالأساطير، وربما أومأ إليها متسائلا كما أومأ إلى قصة نبي الإسلام والحمامة في روايته الأولى من تاريخ هنري السادس، فقد كان محمد - عليه السلام - يوهم العرب في زعمهم، أنه يتلقى الوحي من ملك في صورة حمامة تقف على كتفه وتضع منقارها في أذنه؛ لأنه - كما زعموا - عودها أن تلتقط الحب منها! وقد سمع شكسبير بهذه القصة وسمعها معه الأوروبيون من رواة الحروب الصليبية، فلما أومأ إليها عرضا لم يزد على أن يتساءل: أوكان محمد يسمع الوحي من حمامة؟! إنك إذن لتسمعينه من عقاب!

فإذا كان العلم بالشرق علم أحوال وتواريخ فلا خبر من أخباره الصحاح عند شكسبير أصدق من صدق الحس في استغراب الغرائب وتلوين الروايات المنقولة بصبغة الأساطير، وليس للشرقيين لديه ذخيرة من التاريخ أو الجغرافية يستعيدونها من رواياته وأشعاره، ولكنه إذا تحدث إلى الناس عن طبيعة الإنسان فحصتهم عنده هي حصتهم في تلك الطبيعة الخالدة الشاملة كاملة غير منقوصة، وإنه ليحجز الشرق بغير حاجز ذلك الذي يظن أن الانتماء إليه حجاب بينه وبين رسالة من الرسالات العالمية في الأدب والفن، أو يظن أن هذه الرسالات تتخطى حدود الأقاليم واللغات والعصور ثم تقف عند حدوده، كأنه خارج من نطاق العالمية أو نطاق الإنسانية!

ولا مشاحة في اختلاف الأذواق والمشارب، ولكنه اختلاف موكل بالشكل والعرض وليس هو بالاختلاف الذي يتغلغل إلى أعماق الطبيعة وبواطن الحياة، بل هو الاختلاف الذي يطويه الأدب العالمي ويلفه في ساحته الضافية فوق الحواجز والسدود، وقد يتغير الذوق بين الأمتين المتجاورتين، وقد يتغير في الأمة الواحدة بين جيلين، ولكنه آخر الأمر كاختلاف الأجواء في الكوكب الواحد: صيف وشتاء، ودرجات من الحر والبرد ومن النور والظلام، لا يتحدث المتحدث بها عن شيء مجهول بين قطبيه.

فلم يبلغ اختلاف الذوق في فهم شكسبير وتمثيله أشد مما بلغ في المسرح الإنجليزي من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، فإن هذا المسرح قد انقسم يومئذ إلى معسكرين ونشبت بينهما معركة فنية سميت بمعركة روميو وجولييت، كان مدارها على تمثيل الرواية بنصها أو تعديل بعض مناظرها وفقراتها وتحويل منظرها الأخير إلى «خاتمة سعيدة» تخرج الرواية من عداد المآسي المحزنة كما وضعها شكسبير، وظلت هذه الرواية تمثل للمتكلمين بالإنجليزية على نصوص متعددة إلى سنة 1847 التي أعيدت فيها الرواية إلى نصوصها ومناظرها كما مثلها مؤلفها على مسرحه، ولم يحدث بين ذوقين في المشرق والمغرب أن يفترقا في فن العرض والإخراج أبعد من هذا الافتراق.

ففي مصر خرج المسرح العربي بين المعسكرين فحذف بعض المناظر وأبقى ختام الرواية على أصله موافقا للعنوان الذي ارتضاه وهو شهداء الغرام، ولما تغنى الشيخ سلامة حجازي بالشعر في مواقفها الأخيرة كان مستمعوه المعجبون هم جمهرة النظارة على الفطرة، وكان نقاده هم نقلة النقد من المسارح الأوروبية، وكأنهم نسوا أن مواقف الغناء قد غنيت على المسرح الفرنسي بتلحين

Gounod ، وأن الرواية تمثل ملحنة ببعض أجزائها كما تمثل ملحنة بجميع أجزائها من وضع موسيقيين آخرين.

وقيل غير مرة: إن فكاهة فلستاف في روايتي هنري الرابع ورواية زوجات وندسور المرحات إنما تعجب أهل الشمال وتضحكهم، ولكنها لا توافق الجنوبيين من أهل أوروبة ولا من الشرقيين، فجاء ڨردي الإيطالي فاستخرج «شخصية» فلستاف من الروايات الثلاث، وأطلق اسمه على ملحنته فتقبلها أهل الجنوب كما تقبلها أهل الشمال.

هذه الاختلافات في الذوق الصحيح أو المدعى توجد في البلد الواحد وتوجد من باب أولى على تشعب واتساع بين الشرق والغرب وبين الأقطار المتباعدة، وقد تعوق أنواعا من أعمال الفن التي تغلب عليها المسحة المحلية أو العوارض الموقوتة، فتصلح لبلدة ولا تصلح لأخرى وتروق طائفة من الناس ولا تروق غيرها، بل هي قد تروق الطائفة بعينها في وقت ولا تروقها في وقت آخر، أما أعمال الفن التي ترينا الإنسان على حقيقته الباقية فلا سبيل عليها لأمثال تلك الفروق والمفارقات، بل هي ذات رسالة في تاريخ الفكر الإنساني تتحقق بإلغاء تلك الفروق والمفارقات وإدماجها وتعبر الزمن من فوقها ومن ورائها في حياة واحدة باقية، هي حياة الإنسان الخالدة في مرآة العبقرية الخالدة، وهي كما رأينا تؤدي الأمانة الكبرى في طريقها الثابت لا تعتمد على سطوة تحميها ولا تجفل من سطوة تنازعها، وهذه هي أمانة الفكر الإنساني من قديم الزمن سبقت دعوة الداعين وعظات الواعظين، وعرفت الإنسان «إنسانا» واحدا قبل أن يلغط بها رسل الدول وسماسرة السلطان مخلصين وغير مخلصين.

وآخر ما نختتم به هذه الكلمة عن رسالة «الفن العالمي» أن روايات شكسبير تنقل إلى اللغة العربية تامة محققة في عهد استقلال، ولم تنقل على هذا المثال خلال سبعين سنة في عهد حماية أو احتلال.

سطوة الدولة لم تكن لها يد بالأمس في «ترويج» شكسبير بين الفرنسيين والألمان والروس، وسطوة الدولة لم تروجه بين المصريين وهم يعملون بأعينها ولا يفلتون من قبضة يدها.

أخذته الأمة حصة من التراث الإنساني لا تنزل عنها، ولم يفرض عليها ضريبة تدين بها لمن يغلبها ويتحكم فيها.

وتلك آية «الفكر» الإنساني في الآداب العالمية: كل أمة تسأل عن حصتها منه؛ لأنه تراث مدخر لجميع بني الإنسان.

Bog aan la aqoon

Usul - Qalabka Cilmi-baarista ee Qoraalada Islaamka

Usul.ai waxa uu u adeegaa in ka badan 8,000 qoraal oo Islaami ah oo ka socda corpus-ka OpenITI. Hadafkayagu waa inaan fududeyno akhrinta, raadinta, iyo cilmi-baarista qoraalada dhaqameed. Ku qor hoos si aad u hesho warbixinno bille ah oo ku saabsan shaqadayada.

© 2024 Hay'adda Usul.ai. Dhammaan xuquuqaha waa la ilaaliyay.