ولا محل لاختلاف الرأي أمام الواقع المتواتر، ومن هذا الواقع المتواتر أن شكسبير شاعر متأمل عميق التأمل، وأنه يملأ العبارة بمعانيها وأخيلتها حتى ليوشك أن تضيق عنها، ومن الواقع كذلك أن صناعته الشعرية طوعت له زمام المعاني والأخيلة حتى استطاع أن يبرزها للقارئ ولا يخفي بها جمال النغم ومسحة الجزالة والعذوبة، فما أثنى عليه أحد من المعجبين به في عصره إلا كانت صفة «الحلاوة» أسبق الصفات إلى ثنائه، وكاد المعجبون بحلاوة نظمه أن يخيلوا للقارئ الذي لا يعرفه أنه شاعر من شعراء الطرب والإيقاع، ليس له من مزية تذكر إلى جانب اللفظ الرشيق والنغم العذب والعبارة المونقة.
ويقول أوليفانت سميثون صاحب كتاب «حياة شكسبير وعمله» ما فحواه: إن الشهرة التي جلبتها هذه الأشعار لشكسبير لشهرة واسعة، قد انهال عليه الثناء من كل صوب، فقال وليام كلارك إن شكسبير - العذب - جدير بكل ثناء من أجل قصة لوكريس، وقال جون ويڨر
Weever
يناديه: أيها المعسول اللسان شكسبير، وقال ريتشارد كاريل «إنه كاثيولس اللسان الإنجليزي.» وكاد أن يغلب عليه لقب شكسبير «الحلو» أو الشاعر المعسول.
أما شعره من حيث الصناعة العروضية فقد أسعده فيه حسن الحظ وحسن التصرف، فإنه بدأ النظم حين اكتمل العروض في لغته وتمت له قوالب الأوزان من مأثورات النظم في لغات الجزر البريطانية ولغات القارة الأوروبية، فأخذ من أوزان السكسون والنورمان والأيقوسيين والغاليين، واقتبس من بحور الشعر في فرنسا وإيطاليا ورومة القديمة، وكان من هذه الأعاريض ما يقوم وزنه على النبرة وما يقوم وزنه على حروف المقطع التي نسميها الأسباب والأوتاد في اللغة العربية، وانتقل الشعر المرسل إلى اللغة الإنجليزية لأول مرة بعد ترجمة المطولات اللاتينية، فجاء هذا الشعر - المعفى من القافية - في أوانه مع نشأة الفن المسرحي وضرورة النظم في غير المعاني الغنائية أو في غير معاني الغزل والمناجاة.
ولم يزد شكسبير شيئا على هذا العروض المكتمل غير حسن الاختيار وحسن التصرف، فاختار وزن الموشحة لمقطوعاته ونظمها من أربعة عشر سطرا تتخالف القافية في جميع سطورها إلا في السطرين الأخيرين، فإنهما يتحدان في قافية واحدة، واختار الوزن المسمى بالروي الملكي لكثير من أغانيه، وهو يتألف من الرباعيات والمثنويات في روي الرجز والتسميط باللغة العربية، وزاد الشعر المرسل «رسلا على رسل»؛ لأنه لم يتقيد بحصر الجملة في سطر واحد، وتسنى له بهذا الاسترسال أن ينتقل بالعبارة من سطر إلى سطر حيثما اطرد له المعنى أو المعاني المتلاحقة، وقد سبقه مارلو إلى إطلاق السطر ونقل موضع الإيقاع، ولكن الشعر المرسل إنما اكتسب مرونة النثر وإيقاع الشعر المنغوم على يد شكسبير، وأفادته نشأته في الريف أنه استخدم أهازيجه للغناء الخفيف في المواقف التي تلائمها من روايات الملهاة أو المأساة، وأسعده حسن التصرف مع حسن الحظ؛ فانقادت له ملكة الشاعر البليغ وملكة الناظم الصناع.
الخصائص والمزايا
من العسير جدا أن تتفق وجهات النظر في استحسان مزايا الشاعر مع كثرة موازين النقد وكثرة آراء النقدة وأساليبهم في تطبيقها، ولكنه إذا تعذر الاتفاق على إنكار مزاياه فقد يكون ذلك لفضل فيه أكبر من وجهات النظر وأجدر منها بالاعتبار وأحق بالبقاء.
فمن الجائز مثلا أن ينكر الناقد عليه مزية من مزايا الفن ويعود فيشهد له بمزية أو مزايا كثيرة فيما عداها.
ومن الجائز أنه ينكر عليه جميع المزايا ويقابله في زمانه نقدة يضارعونه في المكانة والخبرة ويخالفونه في إنكاره ، ويستندون في آرائهم على الأصول التي يستند إليها وإن لم يذهبوا مذهبه في تفسيرها وتطبيق مبادئها.
Bog aan la aqoon