كان الشيخ يتحدث في تأن وصوت مرتعد، وكانت آثار الغضب والحزن بادية على وجهه، وكان الفتيان ينصتون إليه واجمين، كأن شيئا مما ذكره وأفاض فيه لم يخطر لهم ببال، ثم ابتدره أحدهم قائلا: «صدقت يا شيخ، إن أخلاقنا العربية ذهبت عنا منذ حين، وإني أعتقد أن العرب لا تسود إلا إذا تمسكت بعاداتها، عادات البداوة والخشونة، فإذا انصرفت إلى الحضارة أذهلها بريقها فتفننت في النعيم، واستنامت إلى الدعة وتجردت من الشجاعة والحمية، وضعفت فيها تلك العقيدة الإسلامية القوية التي هزمت بها الممالك وثلت العروش، أمام عدد أكبر من عددها، وقوة أضخم من قوتها، وأظن هذا معنى قول الله - وهو الصادق العليم:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
وقال ثان من الفتيان: أظن أن الشيخ صور داء الأندلس في كلمتين: التنازع على الملك والشهوات!
إن هؤلاء الإسبانيات وبال على الملك والملة معا ... إن فيهن لفتنة وسحرا يستلان من النفوس كل أخلاق الرجولة ويستعبدان القلوب ... وفي بيت كل أمير من هؤلاء مئات يتمتع بهن، ويلهو بين الكاس والطاس، وأعتقد أن كثيرا من هؤلاء الجواري جاسوسات لملوك قشتالة وغيرها، ينقلن إليهم أخبار كل أمير، وينفذن ما يأمرونهن به من كل ما يضعف الدولة ويذهب بصولتها.
إن جمال هؤلاء الإسبانيات ورقة حديثهن ولطف دلالهن، مما يعجز عنه الصف ويكبو دونه التعبير، حتى كثرت الأسواق التي يبعن فيها في كل بلد من الأندلس، وأقبل الشبان على التسري بهن، وامتنعوا عن التزوج بالحرائر، فكسدت سوق بناتنا وأصبحن يحتلن على الزواج بالتبرج وإظهار الزينة، واتخاذ وسائل الإغراء، واجتذاب الرجال، ففسدن وسقطن في حمأة من الرذيلة ذادت عنهن الرجال.
وهكذا عدن بالخيبة بعد أن حاولن الاستشفاء من داء بداء.
فقال الشيخ: إننا أتينا من ذلك الجنون الذي أصاب أمراءنا، وهو غرامهم بالتشبه بملوك بني العباس.
سمعوا كثيرا عن إغراق هؤلاء في اللهو والمجون، واقتناء القيان والغلمان، وتبديد الأموال في العظمة الكاذبة، فأبوا أن يكونوا دونهم في شيء من هذا: خمر وقيان وغلمان، ولهو وعبث ومجون، ثم قصور شامخات، وحدائق باسمات ... أما الدولة والأمة ... فلها رب يحميها.
فانبرى ثالث وقال: إن روح اللهو والمجون هذه سرت إلى كثير من الناس، حتى جازت الحد.
دعاني مرة أبو منصور السلامي للتنزه بمنية الفرح، وهي على بعد فرسخين من المدينة، وكان قد صنع صنيعا دعا له طائفة من الأدباء والشعراء والتجار وبعض الفقهاء، فلما استقررنا بالمنية - وكان قد سبقنا غلمانه وعبيده إليها مدت الموائد فلنا منها طعاما شهيا، ثم رفع الطعام، وصفت أواني الشراب، وأخذت القيان في الغناء والرقص، ولعبت الخمر برءوس أصحابي، وعلا ضجيجهم، فكانت قهقهة الإبريق تمتزج بقهقهة المرح، ورنات العيدان والطنابير تختلط بأغاريد طيور الربيع، وخطوات الرقص تساير الألحان فتثير الأعصاب وتهيج الأشجان ... بين نكات وطرف، وفرائد من الشعر تتناثر هنا وهناك:
Bog aan la aqoon