حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .
هذا يا بني إنذار من الله لهذه الأمة التي نسيت الله فأنساها أنفسها، وانغمست في النعيم فغطى على أعينها فهي لا تبصر، وعلى آذانها فهي لا تسمع ... ولا تجد أينما سرت إلا مجالس لهو ومحاضر أنس ... خمر ونساء ... نساء وخمر ... هذا شعار هذه الأمة المنكودة، كأنما هي في حلم لذيذ لا تريد أن تستيقظ منه، وقد جاءتها المثلات وصاحت في آذانها العبر ... ولكنها سادرة عابثة تسير إلى الهوة التي لا قرار لها وهي لا تشعر.
إن هذه الأمة المسكينة كقطيع من الشاء. لا راعي له ولا حافظ، وقد أحاطت بها الأسود من كل جانب، والأمراء الأمراء؟؟ ... أين هم؟! ... إنهم في تصارع وتطاحن ... بعضهم أعداء بعض، لا تنطفئ نيران الحروب بينهم، يريد كل واحد منهم أن ينفرد بالقوة والسلطان، ويريد أن يمحو ملك أخيه، ويستأصل شأفته ولو أدى ذلك إلى الاستعانة بملوك الإسبان، وهؤلاء يغرون بعضهم ببعض، ويزينون لهم ما هم فيه من حقد وخلاف وحرب؛ ليضربوا هذا بذاك، حتى يضعفوا جميعا.
كان على هؤلاء الأمراء أن يلتف بعضهم حول بعض، وأن يكونوا حلفا عربيا قويا أساسه المحبة والتعاضد، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص، إذا فجأتهم صيحة، أو حلت بهم نازلة.
إن الله سبحانه وهب لأحط أنواع الحيوان غريزة تدفعه إلى التجمع والتعاون للدفاع عن النفس والحوزة: فالنمل تعيش أسرابا ... والنحل تعيش أسرابا ... والطير تصف في جو السماء أسرابا ... والظباء تسير أسرابا ... فما للإنسان المسكين يميت غريزته، وتتغلب عليه شهوة التملك والقهر، فيحارب من يجب أن يستعين بهم، ويبدد قوته في سبيل أن يعيش منفردا بعظمة موهومة وسلطان كاذب.
انظروا كيف أضعف هذه الأمة صبية بني أمية الذين دعوا أنفسهم ملوكا، ثم خلعوا على أنفسهم ألقاب الخلافة أسوة ببني العباس!! فقد استعان بعضهم على بعض بالبربر والصقالبة وملوك الإسبان، فهلك أربعة منهم في نحو سبع سنين وأضاعوا ملكا عظيما، بناه آباؤهم الأولون بآرائهم وسيوفهم.
ثم ماذا حصل لما تفرقت الكلمة وكثر الأمراء، وانفرد كل أمير بولاية؟؟ المصيبة نفسها ... لهو وسرف، وإغراق في الشهوات، ثم تفرق وتخاذل وغدر.
ارجعوا إلى ما حصل في هذه المدينة منذ عهد قريب ... ثار فيها البربر واشتد فيها الخلاف، وتأججت نار العصبية بين البربر والعرب، فتنازع للتغلب عليها أبو القاسم ابن عباد وبنو الأفطس، وأرسل أبو القاسم ابنه عبادا لإخضاعها، فحاصر ابن الأفطس بها وأفنى رجاله، ثم أسره وتملك المدينة.
وكانت هذه الحادثة صائحة الشر بينهم، ولا يزالون إلى اليوم في حروب لا تنطفئ نارها، ولا يخمد أوارها، ومثل هذا من الشر والتنازع، ترونه في بقية الأمراء.
نحن يا أبنائي غرباء في هذه الأرض ... غرباء في مملكة قوية ملكناها من أهلها بقوة السلاح، ولا نستطيع أن نبقى فيها إلا بقوة السلاح. نحن غرباء فاتحون بين قوم أولي قوة وأولي بأس شديد، لا ينامون على الضيم طويلا، ولا يصبرون على ضياع ملكهم ... غرباء فاتحون نزلنا أرض الأندلس، وهي جنة وارفة الظلال، متدفقة الأنهار، كثيرة النعم، وافرة الخير، فكان علينا أن نشكر الله - عز شأنه - بالحرص على هذا الفردوس الأرضي، وأن نجاهد متواثقين لتنمية خيراته وإعداد العدة للذود عنه، وأن نستعيذ دائما من نزعات إبليس الذي أخرج آدم من الجنة، وما كان فيها من نعيم مقيم. كان علينا أن نعلم - وقد نزلنا أرض الإسبان، وأخضعنا أهلها ووضعنا الجزية على سادتها وكبرائها - أننا قد انعزلنا بديننا وقومنا - وهم فئة قليلة - في بلاد نائية، وفي جزيرة منقطعة عن المشرق، وكان علينا أن ندرك المرمى البعيد الذي ألمع إليه طارق حين أحرق سفنه وقواربه، وصاح في قومه: «البحر وراءكم والعدو أمامكم، وليس لكم إلا الجلد والصبر».
Bog aan la aqoon