في حالة الطلاق تستبقي السودانية صداقها إلا في حالة واحدة؛ هي كراهيتها لزوجها، فيتحتم إذ ذاك رد الصداق إلى الزوج، وقد عرفت في بعض الأحيان أن الزوج كان يترك المهر لزوجته المطلقة بمحض اختياره. وإني أقرر عن ثقة واطلاع أن من السودانيين من يتزوج في بحر عشر سنوات بأربعين أو خمسين سودانية - مع مراعاة أن هناك طلاقا مستمرا في حياة مثل ذلك السوداني - كما أن من النساء من تزوجت في هذه الفترة الخمسة عشر أو العشرين زوجا، على أن قانون الزواج الإسلامي ينص على انقضاء فترة بين الطلاق والزواج الجديد لا تقل عن ثلاثة شهور. أما فيما يختص بالمحظيات فيبيح القانون السوداني الديني تمتع السوداني بأي عدد يزيد منهن، ولا ريب في أن إباحة التمتع بالمحظيات أدت إلى انتشار الفساد الخلقي مع انتشار الأمراض السرية الخطرة .
قلنا إن المحظيات السودانيات خطر على الأخلاق وجالبات للأمراض الخبيثة، ولنفصل ذلك نقول إنهن لا يعشن جميعا في المنزل الذي يعيش فيه سيدهن، ما لم يكن لذلك السيد أولاد من إحداهن، فإنها (المحظية) تضطر للبقاء في منزل قانيها ولا يجوز مطلقا بيعها لآخر، ولكنهن في أغلب الأحيان يبعن لأسيادهن على أن يبقين في حوزاتهم فترات قصيرة جدا، على أن يبعن بعد ذلك لغيرهم بأرباح جديدة. ولا ريب في أن هذا الانتقال المستمر من بيت إلى آخر يعرض الأخلاق والصحة لخطر جسيم، وإلى جانب ذلك تذبل زهرة شباب المحظية وتضيع معالم جمالها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المحظية تباع لسيدها في أول مرة وهي في سن صغيرة، عرفنا ما تقاسيه من الآلام الحقيقية التي لا تخفف منها لذة بهيمية غير منتجة.
من المعروف عن تجار الرقيق في السودان أنهم في سبيل الحصول على مكسب نقدي لا يبالون بما يصيب النساء والبنات من ضعف في القوة وفساد في الخلق وتعرض لأخبث الأمراض؛ فكانوا يشترون البنات الصغيرات ويسمحون لهن بالحرية المطلقة في اختيار المنزل الذي تعيش فيه البنت والحياة التي تحياها. ولم يقف الفساد عند حد أولئك التجار، بل تعداه إلى الشارين أنفسهم؛ ففي كثير من الأحيان كانوا يسمحون للتجار ببيع محظياتهن لغيرهم على أن يتعاطى أولئك الأسياد مقدارا معينا من الربح الجديد.
لا ريب في أن شر ما ينتج من فساد خلقي تجده في دوائر الضباط السودانيين وجنودهم؛ حيث يغري أولئك الحربيون الكثيرات من النساء والبنات للعيش معهم في ثكناتهم بصفتهن زوجات لهم، فإذا ما دخلن الثكنات أصبحن كالسلع يتبادلهن جميع الضباط بلا استثناء وبحرية مطلقة. ولم يكن الخليفة عبد الله ضد هذه الفكرة الأخيرة، بل على النقيض من ذلك كان يشجعها؛ اعتقادا منه أن انهماك الضباط في اللذة وتماديهم في إرضاء شهواتهم يجعل مكانا للخليفة في نفوس ضباطه فوق كل مكانة، وبذلك يضمن ولاء رجال الحرب له ورغبتهم في عدم ترك سيادته عليهم.
لا حاجة بنا إلى القول بأن السماح بتلك الإباحة المنكرة قد أدى إلى انتشار أخبث الأمراض بين جميع طبقات الأمة، سواء في ذلك الأحرار والرقيق الرجال والنساء. فإذا ذكرنا حرارة السودان وأثرها السيئ في أي مرض سري خبيث، استطعنا إدراك الانحطاط الخلقي الذي هوى إليه السودان في ذلك العهد. وعلينا ألا ننسى أن السودان كان محروما من جميع الأدوية التي تعالج تلك الأمراض؛ مما أدى إلى تعريض الصحة على وجه عام لخطر عظيم.
وجد في السودان في أوائل حكم الخليفة عبد الله قوم أمعنوا في ضروب الفساد وأطلقوا العنان لشهواتهم، فعاقبهم الخليفة في مبدأ الأمر بنفيهم وتشريدهم إلى الرجاف، ولكنه عدل عن ذلك بعد قليل من الزمن، وانتهى إلى حل حاسم في نظره؛ وهو ظهور سهولة كبرى - في معاملة شعب بعيد عن الأخلاق القويمة - في استعمال التعسف والشدة، وصعوبة الجور مع شعب متمسك بأهداب الأخلاق القويمة؛ وتبعا لذلك كان الخليفة عبد الله في آن واحد يكره ويخشى الجعليين الذين سكنوا على شاطئ النيل بين حجر العسل وبربر؛ لأن أولئك كانوا العرب الوحيدين في السودان الذين مقتوا الفساد والرذائل الخبيثة، واحتفظوا بالأسر الفاضلة البعيدة عن الشهوات الشائنة، كما اعتاد أولئك الجعليون النظر إلى الأخلاق بصفتها حجر الزواية في بناء الحياة القويمة والركن الأساسي في تأسيس صحة قوية.
كان تشديد المهدي على نسائه (زوجاته) بالغا أقصى حد، ولم يقف أمر صيانتهن عند حد الخوف من المهدي في حياته، بل تعداه إلى الاحتفاظ بالشرف بعد مماته؛ فكان محرما عليهن وهن أرامله (بعد وفاته) أن يسرن سيرة المحظيات، وأن يعشن عيشة الفجور. وقد ساعد عبد الله على ذلك، فبلغ احترامه لذكرى المهدي حدا دفعه إلى إنشاء بيوت خاصة للأرامل المذكورات؛ حيث تحيط بالمنازل أسوار مرتفعة على مقربة من ضريح المهدي، وقد عين عبد الله على ذلك عددا من الخصيان لمراقبة الأرامل المذكورات آنفا.
شدد الخليفة على زوجات ومحظيات سلفه المهدي بعدم الزواج، وسن قانونا حرم به عليهن أي زواج جديد، فكان ذلك ضد رغبتهن. ولم يكتف بذلك، بل حرم البنات - وأغلبن من بنات موظفي حكومته السابقين - من طلب الزواج بعد أن بقين في منزله إعدادا لاقترانه بهن في المستقبل. ومما يذكر عن عسف الخليفة عبد الله في معاملتهن أنه لم يكن يسمح بمقابلة رجل إياهن، حتى ولو كان من ذوي قرباهن، وكل ما من به عليهن هو السماح لقريباتهن من النسوة بزيارتهن مرة واحدة في السنة. ومع كل ذلك التقييد لم يكن يفسح عليهن في العيش، فكان يقدم لهن ما يكفيهن بالجهد من القوت واللباس، فلا عجب إذا عرفنا أنهن كن يتطلعن دائما إلى التحرير من ربق عبودية الخليفة.
أدرك عبد الله أن عسفه وجوره يؤديان بلا نزاع إلى زيادة الحاقدين عليه والساعين إلى الفتك به، فكان تبعا لذلك كثير الخوف على حياته، فطرد بعنف وقساوة جميع السكان النازلين في منازل صغيرة مجاورة لبيته، وأحل محلهم حرسه الخاص الذي استمر في تنميته يوما بعد يوم، وبعد ذلك بنى سورا ضخما حول مسكنه والمساكن الصغيرة المجاورة وجمع إليها كل أقربائه. على أنه عاد بعد ذلك فأظهر ريبة وخالجه الشك في بعض أقربائه، فآثر إبقاءهم خارج مسكنه المسور. ولعدم الظهور دفعة واحدة بهذا الشك، جعلهم إلى جانب منازل الحرس الخاص. ورغم ذلك كله لم يكن الساكنون في دائرة الخليفة على وفاق وفي ارتياح تام؛ لأن أوامر عبد الله كانت شديدة على حرسه الخاص؛ مما أدى إلى تبرمهم واستيائهم الشديد، كما أنهم تذمروا من مرتباتهم الضئيلة وشكوا لرؤسائهم مرارا من تضييق الخليفة على حريتهم الشخصية. وكان عدد المحيطين بالخليفة بضعة آلاف، ينتمي أغلبهم إلى العرب الخلص، ولم يكن مسموحا لهم على الإطلاق الاقتراب من ذويهم، كما أن الخليفة حرمهم من ترك مساكنهم، ولم يكن يصفح عن هفواتهم الصغيرة، فكان ينزل بهم العقاب الصارم.
عني عبد الله عناية خاصة بحياته، وكان شديد الرغبة في الاحتفاظ بها من عبث الحاقدين عليه؛ فكان لا يخرج في النهار أو الليل إلا وفي معيته أفراد معينون من حرسه الخاص، واثنان أو ثلاثة من خدمه الأمناء له، وفيما عدا ذلك لم يكن يرافقه أي شخص آخر - حتى أقرب أقربائه - ولم يكن يسمح الخليفة لأحد - خلاف الحرس والخدم - بمرافقته.
Bog aan la aqoon