الوصول يستغنى عن الدليل، قال: هيهات! كلما زدت، زادت معرفتك لمحبوبك، وفهمت كيف القرب منه. ودليل هذا: أنك تعلم غدًا أنك اليوم في نقصان. أوما تسمعة يقول لنبيه ﷺ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]؟!
٩٢- ثم ألست تبغي القرب منه؟! فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام! أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟! أما قال الرسول ﷺ لعلي ﵁: "لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من حُمْرِ النَّعَم" ١؟!
فلما فهمت صدق هذه المقالة، تهوست على تلك الحالة٢، وكلما تشاغلت بجمع الناس، تفرق همي٣، وإذا وجدت مرادي من نفعهم، ضعفت أنا، فأبقى في حيز التحير مترددًا، لا أدري على أي القدمين أعتمد؟
٩٣- فإذا وقفت متحيزًا؛ صاح العلم: قم لكسب العيال، وادأب في تحصيل ولد يذكر الله، فإذا شرعت في ذلك، قلص ضرع٤ الدنيا وقت الحلب، ورأيت باب المعاش مسدودًا في وجهي؛ لأن صناعة العلم شغلتني عن تعلم صناعة.
٩٤- فإذا التفت إلى أبناء الدنيا، رأيتهم لا يبيعون شيئًا من سلعها إلا بدين المشتري! أو ليت من نافقهم أو راءاهم نال من دنياهم، بل ربما ذهب دينه، ولم يحصل مراده!!
فإن قال الضجر: اهرب! قال الشرع: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت"٥، وإن قال العزم: انفرد! قال: فكيف بمن تعول؟!
٩٥- فغاية الأمر أنني أشرع في التقلل من الدنيا، وقد ربيت في نعيمها، وغذيت بلبانها٦، ولطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة، فإذا غيرت لباسي،
_________
١ رواه البخاري "٣٧٠١"، ومسلم "٢٤٠٦"، عن سهل بن سعد ﵁.
٢ تهوست على تلك الحالة: أي بقيت أحدث نفسي.
٣ تفرق همي: فترت عزيمتي.
٤ قلص الضرع: انقبض ولم يحلب.
٥ رواه مسلم "٩٩٦"، وأبو داود "١٦٩٢" واللفظ له عن عبد الله بن عمرو ﵁.
٦ بلبانها: بالرضاع منها، حيث شبه الدنيا بأمه، أي: تعوَّد على نعميها من صغره.
1 / 52