بدأنا العام السادس من زواجنا بطلب جديد من ساي، ألا وهو الطفل. حين سمعت طلبها رفضت مباشرة، وصرت أفكر وحدي: ساي ألا يكفيني ما بي لتزيدي علي برعاية طفل؟! ألا تكفيني رعايتك! أرجوك تعلمي الطهي على الأقل قبل التفكير في إنجاب طفل، أم ماذا تنوين إطعامه! ساي أرجوك فكري بعقلانية، أم تريدين ترك العيادة والعمل الذي كان حلمك من البداية وعاهدتني ألا تتخلي عنه! أنا أيضا أريد طفلا لنا ولكني أشعر أن ساي ليست حملا لهذه المسئولية. ومع هذا الطلب في بداية هذا العام بدأ هذا التفكير هو هاجسي ليلا نهارا، لا أفتأ أفكر متى ستستطيع ساي تحمل مسئولية أكبر! متى ستنضج أكثر حتى تستطيع تحمل مسئولية عائلة! لا أنكر أني أنا من بالغت في تدليلها ولكني كنت سعيدا ولم أكن أدرك ذلك أصلا، لكن مع هذا الغزو الفكري الذي اجتاحني لم أعد أحتمل تلك الفكرة، بدأت فكرة الطفل تسيطر علي بشكل كامل، ولكن لا أرغب بطفل ترعاه ساي. تغيرت معاملتي لها، بت أغضب من كل تصرفاتها، كانت تقابل غضبي بالبكاء، أنا نفسي لم أعد أعلم ما حل بي، لم أعد هاك الذي عشق تلك الفتاة، أعلم أني ما زلت أحبها ولكن عقلي يأبى أن يوافقني بعد الآن، بكاؤها أصبح يستفزني لأني أشفق عليها من جهة ومن جهة أخرى أريدها أن تنضج وألا تواجه كل مصاعبها بالبكاء، فما هكذا تحل المشاكل . أصبح الصراع في داخلي يقتلني، استرجعت كلام من حولنا عن أن ارتباطنا منذ البداية كان خطأ، فكرت كثيرا وطويلا وفجأة قررت إصلاح هذا الخطأ، نعم، قررت الانفصال عن ساي لأريحها وأريح نفسي. في البداية فكرت في الانفصال المؤقت، ولكنه ليس حلا جذريا، أريد حلا جذريا لكل تلك المشاكل. لذا عزمت على الطلاق! ذهبت إلى عيادتها وبكل ما أوتيت من قسوة أعلمتها بقراري، تركت روحي عندها وذهبت، لست نادما لأن حياتنا معا أصبحت مستحيلة، أرواحنا تشتاق لبعضها البعض ولكن تعايشنا معا بات صعبا، أخاف من اليوم الذي ستتمنى فيه أنها لم تلتقيني، أخاف عليها من لوم نفسها على حبي، على إعطائي كل ما هو جميل، وأخاف أن تكرهني!
أما أنا فلن يأتي اليوم الذي أندم فيه على حبي لساي، وهل هناك أحد يكره الأطفال؟ فنحن نحبهم مهما أساءوا لنا. هذا كان حالي معها، ضقت ذرعا من بعض تصرفاتها وكنت سريع الغضب شديد الانفعال تماما كالأم الصارمة التي توبخ طفلتها حين تسيء التصرف، ولكن حبي لها لن يتغير. ما فاجأني حقا تقبل ساي للأمر وتحملها لسماع قراري القاسي بشجاعة من غير تلك الدموع التي عهدتها عليها.
بعدما خرجت بعدة دقائق تذكرت أني نسيت محفظتي في العيادة. لم أكن راغبا في العودة ومواجهة ساي مباشرة بعد الانفصال لكن علي استرجاع المحفظة. دخلت العيادة، كان باب غرفتها مفتوحا سمعت صوت انتحاب ساي وبكاءها. لم أشأ أن أقاطعها فعدت أدراجي. انتظرت ساعتين وعاودت الكرة علها تكون قد غادرت العيادة فقد أصبح الوقت متأخرا. دخلت مجددا فرأيتها تغط في نوم عميق على مكتبها والدموع على خديها تماما كالأطفال حين يواجهون المشاكل يبكون ويبكون إلى أن ينهاروا ويناموا. أخذت محفظتي وانسحبت بهدوء تاركا ورائي حب حياتي.
وداعا ساي، سأشتاق إليك.
ساي 2012
مرت قرابة السنة أو أكثر إلى أن استطعت العودة إلى الحياة الطبيعية وممارسة عملي من جديد بعد الانفصال عن هاك. ما زلت أذكر تلك الليلة كأنها حصلت بالأمس. أذكر أني سمعت وقع أقدام هاك عائدا، كنت بين حالتي الغفوة والصحو، قلت لنفسي حينها إن قبلني على جبيني كما يفعل عادة فبالتأكيد هناك أمل للعودة. كم منيت نفسي أن يفعلها ولكنه هاك وقد اتخذ قراره. تقبلت الأمر، فلا خيار آخر لدي. عاودت العمل ولكن من غير رغبة حقيقية فيه، حاولت أن أشغل نفسي بهوايات جديدة، عاودت اتصالاتي مع أصدقائي، كنت أضعف تارة وأقوى تارة أخرى. كثيرة هي الأيام التي كنت أقرر فيها الذهاب إلى هاك، والتحدث إليه واستمالة عواطفه لنعود ثانية، وكثيرة هي المرات التي وصلت فيها إلى باب بيته، ثم في آخر لحظة كنت أعود أدراجي بنفسية محطمة وروح مرهقة. كنت في حاجة إلى أن أشغل نفسي بقضية أهم من انكسار قلبي وتشتت روحي. فانشغلت في تلك الأثناء بابن صديقتي الذي كان يعاني من مرض التوحد، لطالما جذبني هذا الموضوع ولطالما رغبت في العمل مع أطفال التوحد. بدأت أتابع حالة الطفل، أحببته جدا وشعرت أني أعوض فيه قليلا من شعور الأمومة الذي أفتقده وبشدة. لطالما حلمت بطفل من هاك، يشبهه بشدته ورقته. لكن للأسف هاك هو الذي لم يرغب في طفل لنا، كان يعزو ذلك إلى ضغط العمل وأننا لا نملك وقتا لذلك. كان يريدني أن أحقق طموحي الطبي وألا يشغلني أمر الطفل. لم يكن يدري أن طموحي بات بأن أصبح أما لطفل!
من المضحك أن صديقاتي كن يقترحن علي بكل جدية أن أقوم بعملية زرع لجنين، كما لو أنهن لا يعلمن طبعي ورفضي لتلك الحلول، كم هو ساذج أن تذهب فتاة لطبيب لتحقق أمنيتها بأن تصبح أما، لا أستطيع أن أتقبل تلك الأمور، فتناسيت أحلامي بالطفل. مرت الأيام بحلوها ومرها، لم تعد فكرة الانفصال أو الطفل هي شغلي الشاغل كما كانت من قبل، فقد عاودت الانغماس في العمل. بعد عدة شهور أقيمت ورشة عمل لأهالي مرضى التوحد مع أطباء عصبية مختصين بذاك المرض وكان من ضمن الأطباء المحاضرين الدكتور هاك!
قررت حضور ورشة العمل تلك، أريد مواجهة كل متاعبي، أريد استجماع قواي وإظهار شجاعتي لنفسي ، أريد أن أثبت لنفسي أني قد تخطيته! لكن للأسف أثبت لنفسي العكس تماما، فأنا لم أتخطاه إطلاقا. حين رأيته، كانت على يمينه زوجته، كان ذلك المشهد كالصاعقة! إذن هو لا يفكر أبدا بالعودة لي! لطالما حلمت بالعودة ولطالما منيت نفسي بها! فأولا وآخرا ما حصل بيننا هو مجرد خلافات بسيطة بسبب حدة طبعه وقلة نضجي. كنت أمني نفسي دائما أنها مجرد فترة وستمر وسنعود كما كنا، وما يلزمنا فقط هو الوقت للاستراحة.
لكن ما رأيته في ذاك اليوم قطع كل أوصال الأمل. حين التقت أعيننا أشحت النظر عنه، هو ملك لامرأة غيري، دبت نار الغيرة في قلبي، أحرقتني، أردت الانتهاء ومغادرة المكان بأسرع وقت ممكن، لم أعد أحتمل رؤيتهما معا. من هي تلك التي تمسك بيده؟ من هي تلك التي يستيقظ على صوتها صباحا؟ من هي تلك التي باتت تشارك هاك حياته؟ تعرف كل شيء عنه؟ من هي تلك التي تجلس بجواره في كل مكان؟ من هي تلك التي أصبحت زوجة لهاك! كم هذا مؤلم!
حين عدت للمنزل بدأت أفكار أخرى تدب في رأسي: ماذا لو لم أستطع تجاوز هاك؟ ماذا لو لم أحب أحدا غيره؟ هل سأستمر في حياتي كآلة للعمل فقط؟ شعرت بالجزع، أردت الهرب مرة أخرى؛ لذا قررت السفر، سافرت لمدة نصف عام مرة أخرى كما فعلت بعد طلاقي من هاك ولكن هذه المرة للتأمل فقط. لذا ذهبت إلى الهند، مارست طقوس اليوغا، تأملت كثيرا وفكرت كثيرا. علمت في النهاية أن الحياة مستمرة ولن تتوقف عندي أو عند هاك، شاهدت حالات عديدة من الظلم والقهر والضعف، وعلمت أن هناك من يتألم أضعافا مضاعفة عني، وليس لديهم حتى رفاهية الهرب من هذا الألم كما أفعل أنا الآن. قررت أن أعمل شيئا لهذه الإنسانية؛ لذا عند عودتي تطوعت في منظمات عالمية وبت أشارك في مؤتمرات وورش عمل حول العالم، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أقضي شهرا ونصفا تقريبا من كل صيف في إحدى الدول النامية في أفريقيا وجنوب أمريكا.
Bog aan la aqoon