إهداء
شكر
مقدمة الرواية
1 - كواحة في صحراء
2 - ربيع مزهر!
3 - فصول لا تنسى
4 - أهو شتاء جديد؟!
إهداء
شكر
مقدمة الرواية
Bog aan la aqoon
1 - كواحة في صحراء
2 - ربيع مزهر!
3 - فصول لا تنسى
4 - أهو شتاء جديد؟!
ساي
ساي
تأليف
سحر خواتمي وهبة اعرابي
إهداء
إلى كل قلب تألم حزنا وعانى فراقا.
Bog aan la aqoon
إلى كل روح انتظرت قربا وتعبت اشتياقا.
إلى كل كسر لم يلق جبرا.
سحر وهبة
شكر
كل الامتنان لعلياء وحلا ورولا ومزنة لمساهمتهن في مراجعة سياق أحداث الرواية، ولفادي لدعمه التقني والإداري الدائم لنا.
سحر وهبة
مقدمة الرواية
ليست وحدها الأرض من تتعاقب عليها الفصول، لكنها وحدها من تملك فصولا بتوقيت منتظم ونمط متكرر. فمهما طال شتاؤها، فالربيع سيقبل، ومهما جف صيفها، فالخريف سيحل.
أما أنا، فآه لشتاءات قلبي، لا موعد لها ولا توقيت، لا مدة لها ولا تمهيد. شتاءاتي لا يعقبها ربيع، بل خريف طويل، أرمم خلاله ما أستطيع ترميمه، لأعيد التوازن لروحي، فيحل بعده صيف جاف، بنهار طويل وليل أطول، بوحدة دافئة وسكون مزعج.
مرت سنوات كثيرة ولم يفارقني صيفي، حتى إني نسيت بقية الفصول. لكنه أتاني فجأة ومن غير سابق إنذار، مزهرا وعاصفا في آن معا! أمطر قلبي بملايين الزهور، وأغرق روحي بمروج واسعة.
Bog aan la aqoon
حاولت جاهدة الهرب منه، لكنه حاصرني من كل الاتجاهات. لم يطرق بابي ولم يستأذن، لم يسأل ولم يسمع جوابا، بل اقتحم قلبي اقتحاما، مجيبا كل الإجابات، على كل الأسئلة.
الفصل الأول
كواحة في صحراء
هيروكي
درست علوم الاقتصاد في جامعة طوكيو، منذ صغري وأنا أهوى العمليات الحسابية، الإدارة، والتخطيط. لذا حينما أنهيت دراستي لم يكن صعبا علي أي اتجاه سأختار، فمن الواضح أني سأتابع عملي في المجال البحثي، فبعد حصولي على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، قمت بافتتاح مركز بحوث خاص بي، ومع الأيام أصبح هذا المركز أحد أكبر المراكز البحثية في مجال العلوم الاقتصادية على مستوى العالم، وما زلت أحاول الإشراف قدر الإمكان على كل تفاصيل البحوث المقامة في مركزي البحثي.
حيث إنه مع زيادة التخصص، أصبح لدينا في المركز العديد من الأقسام، ومنها ما هو بعيد كل البعد عن اختصاصي الخاص. لذا في بعض الأحيان أحتاج إلى مدربين خاصين في مجالات معينة ليقوموا بتدريب الباحثين والطلاب والمشرفين، وأولهم أنا البروفيسور هيروكي.
لم أشعر يوما أني اكتفيت من التعلم والقراءة والبحث، كما لم أشعر يوما أني سأكتفي أو سأصل لمرحلة الإشباع، ساعدني على ذلك، شغفي المبالغ فيه، وتفرغي التام له. فأنا الآن في الخمسين من عمري وما زلت عازبا من غير شريكة أو ولد؛ لذا كان وقتي ملكا لي، واستطعت الإبحار في مجال عملي وتحقيق أغلب ما خططت له في حياتي.
أنا هنا أقطن مع عائلة من نوع آخر، فأغلب الطلاب والباحثين يقضون أيام الأسبوع ويبيتون في المبنى التابع للمركز، فلهم شقق صغيرة هنا، يسافر أغلبهم في عطلة نهاية الأسبوع ليعودوا إلى منازلهم وعائلاتهم. أما أنا فيقع منزلي الخاص في الشارع المجاور للمركز. اعتدت أن أمضي ليلتي الجمعة والسبت أطالع الكتب في مكتبة المركز، بينما يخلد من بقي في المركز للنوم. كل شيء هادئ هنا، لا صوت ولا إزعاج ولا تدخل ولا أسئلة. فأنا أجلس وحدي، أنتقي الكتب التي أريدها بهدوء وعندما أشعر بالتعب أغفو معظم الأحيان في المكتبة. لكن الأمور لم تعد كما كانت سابقا، فقد أصبح هناك شخص آخر يشاركني مكتبتي التي كانت هادئة، إنها الدكتورة ساي شوجا.
عندما قرأت السيرة الذاتية للدكتورة ساي من بين العديد من المتقدمين لفت انتباهي طريقة كتابتها لها، لدي طريقة خاصة باختيار الموظفين والباحثين في مركزي، فأنا لا أعتمد فقط على ما يتم كتابته من مهارات وتاريخ طويل من الخبرة، هناك شيء أراه بين السطور، لكن في حالتها لم يكن هناك سطور أصلا، هي بضع كلمات كما لو أنها تعرف بها عن نفسها في موقع تواصل اجتماعي مع قليل من الأمور المهنية.
ما حدث هو أنه قد أبدى بعض الباحثين والطلاب في قسم الاقتصاد السلوكي حاجتهم لخبراء وعلماء نفس، فلم أكتف بمختصي المجال النفسي والاجتماعي، بل قمت بوضع إعلان لأطباء نفسيين أيضا، فأنا أحب التكامل بين العلوم وضم بعضها مع بعضها الآخر. قمت بانتقاء ثلاثة ملفات من بين مائة ملف قام أصحابهم بالتقدم لتلك الوظيفة، كان ملف الدكتورة ساي أحدهم. حين أتت الدكتورة ساي إلى المقابلة كدت أن أطردها من المكتب لولا الآداب العامة للظرف الذي نحن فيه. بدأت المقابلة بطريقة غريبة وانتهت بطريقة أغرب، وكنت على وشك رفضها إلا أنني ترويت قليلا. خلال العشرين عاما الماضية، قمت بإجراء أكثر من ألف مقابلة مع موظفين، باحثين، دكاترة، وطلاب، لم أر في حياتي أحدا منهم أتى إلى المقابلة بملابس رياضية وحذاء رياضي! لكن تلك الطبيبة فعلت! لا أحكم على الأشخاص من خلال مظهرهم، لكن ليس إلى هذا الحد! ألا تستطيع أن ترتدي ملابس عادية، أمن الضروري أن تختبر عدم انحيازي للشكل إلى هذا الحد!
Bog aan la aqoon
حاولت أن أكون حياديا قدر الامكان، فقد علمت عن مدى مهارة الدكتورة ساي في اختصاصها وتميز أسلوبها وانفراده عن غيرها من الأطباء النفسيين. وهذا كان واضحا من المقابلة، لا أعلم ما هي الصفة الأنسب لتلك المرأة، حقا هي متفردة بطيشها مع أنها في الأربعين من عمرها، إنها شخص مرح جدا، صوتها مرتفع أغلب الوقت ولا أعلم لم كل هذا المرح والفرح!
بعد طول تفكير، وجدت نفسي أختار ملفها من بين الثلاثة، أعتقد أن هناك شيئا جديدا تستطيع إضافته لنا. تواصل معها الموظفون المسئولون عن الأمور الإدارية وتم الاتفاق على أن تعمل بدوام جزئي في المركز لأنها لا تستطيع الاستغناء عن العمل في عيادتها. دوامها الجزئي سيكون في أيام العطل، ستأتي إلى المركز يوم الجمعة مساء وتغادر يوم الأحد؛ أي إنها ستبيت في المركز ليلتين لأن بلدتها بعيدة عن المركز. فالدكتورة ساي تستطيع التفرغ أيام العطل فهي غير ملتزمة مع عائلة أو أطفال، فقد علمت أنها كانت متزوجة ولكنها انفصلت عن زوجها منذ مدة طويلة. لكن لم أعلم أنها أيضا تمضي ليلها بين الكتب، المشكلة ليست هنا، المشكلة أن الدكتورة ساي لا تستطيع الجلوس بهدوء حتى في المكتبة. في الليلة الأولى، اعتقدت أن كل شيء سيكون على ما يرام، لكن ما حدث هو أنني لم أستطع أن أقرأ ولا حتى صفحة واحدة! بينما هي قرأت كتابها، واستمتعت بوقتها، وأفسدت علي كل شيء! لم أبد استيائي مباشرة، لكني قررت أن أنبهها إن تكرر الأمر، سأخبرها أن المكتبة ليست مكانا لتبادل الأحاديث والأكل، إنها لا تكف عن التهام رقائق البطاطا والحلويات واحتساء الشاي طيلة فترة مكوثها في المكتبة. سأجد لها حلا إن عاودت ما فعلته الليلة القادمة.
وكما توقعت في اليوم التالي، حل الليل، وفي الساعة العاشرة، ذهبت إلى المكتبة لأراها قد سبقتني إلى هناك واحتلت مكاني أيضا، يا للوقاحة! تجاهلت الأمر، وألقيت التحية وجلبت كتبي. بينما بدأت هي بالكلام والمضغ والضحك. - دكتورة شوجا، أود التركيز، هل لي بذلك؟ - أوه! لقد أزعجتك، أنا آسفة حقا، لكن أرجوك نادني باسمي الأول، لا أحد يناديني باسم شوجا أبدا ولم أعتد عليه طيلة حياتي. - حسنا كما تشائين!
عاد كل منا إلى كتابه، استطاعت أن تجلس لمدة ساعتين بشكل هادئ ثم عادت إلى حركتها المفرطة. مضت تلك الليلة وكنت سعيدا أنها في الليلة القادمة ستكون قد عادت إلى بلدتها.
خلال شهرها الأول في المركز، كنت أراها في المكتبة، لكنني لم أكن ألاحظها أبدا في المركز. شيئا فشيئا بدأت أراها في حديث الجميع. الجميع هنا في المركز يتحدثون عنها، عن أسلوبها المتميز. عندما سمعت ذلك اطمأن قلبي أنني اخترت لهم الشخص المناسب. أصابني بعض الفضول لأرى أداءها، وليتني لم أره!
هيروكي
كان انطباعي سيئا جدا، لن أنسى ذاك المشهد ما حييت. عندما كنت أتجول بين قاعات المركز تذكرت أنها تكون في القاعة الكبيرة للمركز في يوم الجمعة. طرقت باب القاعة ودخلت، فرأيتها وهي واقفة على الطاولة في قمة حماسها كما لو أنها تقدم عرضا مسرحيا! لا أعلم عن ماذا كانت تتحدث، ولا أعلم ضرورة وأهمية ومبرر حماسها ووجودها فوق الطاولة في تلك اللحظة، لكن هذا المشهد لم يعجبني بتاتا!
ما أزعجني أكثر هو أنها حين رأتني ألقت السلام وبقيت على حالها، بل إنها دعتني للدخول وحضور المحاضرة وهي بهذا الشكل المزعج، بلا أي شعور بخطأ الموقف. لم أطل وقوفي، أجبتها أن لدي أعمالا أخرى وعدت إلى مكتبي غاضبا جدا. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أرى تصرفات طائشة هنا وهناك، بينما الجميع يمتدحها. هذا الشيء الوحيد الذي جعلني أطيل من صبري عليها. أما في المكتبة فبت أتجنبها كي لا تزعجني، فإن كانت في الجناح اليميني للمكتبة، كنت أنتقل إلى اليساري أو العكس. أنا في المركز لا أتسامح إطلاقا مع أي شيء قد يعطل عملنا وإنجازاتنا، وطالما أن تأثيرها إيجابي، فلا بأس! أنا لا أدع الأشياء الشخصية تؤثر على قرارتي، فطبيعة عملي تجبرني على التعامل مع كافة أنواع الناس، فاعتدت التعامل مع الجميع بشكل دبلوماسي، وصارت لدي خبرة لا بأس بها في معالجة هذا النوع من الأمور. إلا أنها رغم تجنبي رؤيتها ما زالت تصر على اختبار صبري!
في المركز نقوم بشكل أسبوعي تقريبا بإرسال أوراق بحثية لمجلات علمية عالمية ومؤتمرات وورش عمل. لذا بالمقابل، نستقبل ردودا فيما يتعلق بتلك البحوث بشكل أسبوعي أيضا، مفادها فيما إذا ستتم الموافقة عليها أم لا، وعن التعديلات التي علينا أن نجريها في حال تم اعتماد البحث وقبوله للنشر. أما أنا فتصلني النتيجة النهائية حينما يتم قبولها بشكل نهائي عن طريق رسالة ترسل إلى بريدي الإلكتروني من قبل الكاتب الأساسي للورقة البحثية سواء أكان طالبا أم باحثا، وذلك لكي أقلل قدر الإمكان عدد الرسائل التي تصلني في اليوم، فيتسنى لي قراءة الرسائل التي تتطلب ردي بشكل شخصي. لكن كيف ستستطيع تلك المرأة المندفعة أن توقف حماسها وألا ترسل الورقة البحثية التي شاركت بها والتي تم قبولها بشكل مبدئي؟ كلما تقدمت الدكتورة ساي خطوة في عملها كانت ترسل لي نسخة عن تلك الرسائل، وبذلك باتت تظهر لي في بريدي الإلكتروني حتى إن لم تظهر لي في الواقع!
بعد مرور شهرين على هذه الحال، قمت بإرسال رد على إحدى تلك الرسائل ومفاده:
Bog aan la aqoon
السيدة الدكتورة شوجا
شكرا على رسائلك، لكن لا داعي لإعلامي بكل الخطوات التي تقومين بها، يكفي أن يتم إعلامي حالما تنتهي كل المراحل بأن العمل تم قبوله وسيقدم في التاريخ والمكان المحدد.
أنا أثق بكل الباحثين في مركزي، وأنا هنا المدير ولست على اطلاع كامل بكل التفاصيل، كما أن بريدي الإلكتروني لا يتسع لكل هذا العدد من الرسائل.
أشكر تفهمك، تحياتي،
هيروكي
لم ترد على رسالتي أبدا، ولم تعد ترسل أي معلومات ورسائل بعد ذلك. تجاهلتها فهذا جيد، لا أريد أن أرى اسمها يوميا في صندوق البريد الإلكتروني. مضى عدة أسابيع وهي مختفية تماما، لم أعلم أين هي، فافترضت أن لديها إجازة، فلست أنا من يشرف على الإجازات، وأنا لا أعلم متى يكون الموظف في إجازة، إلا إن قمت بسؤال مشرفه. ثم يبدو أنه مر وقت طويل وأنا لا أراها في الأرجاء حتى إني نسيت وجودها هنا.
هيروكي
مضى على وجود الدكتورة ساي معنا أكثر من شهرين، أعتقد أنه قد حان الوقت لأعلمها بالمهمة الأخرى التي كنت أتطلع لها؛ فقد كان أحد أهم الأسباب الأخرى التي دفعتني لتوظيف طبيب نفسي في المركز هو أن يرى خفايا لا أستطيع أن أراها أنا بين الموظفين، أريده أن يتحدث إليهم، يساعدهم حينما يرى أن هناك خللا ما في وضعهم النفسي. كنت أود الإفصاح عن تلك الرغبة حالما أجد الفرصة المناسبة؛ لذا قررت أن أحتك مع الموظفين أكثر لأرى مدى تقبلهم للدكتورة ساي بشكل عام. في معظم الأحيان أتناول طعام الغداء في مكتبي الخاص نظرا لضيق الوقت، فأطلبه إلى مكتبي ونادرا ما أذهب إلى المطعم الخاص بالمركز، لذا صرت أتردد على المطعم أكثر وأحاول أن أتحدث أكثر مع الموظفين بين ساعات العمل، وعندما سألتهم عن الدكتورة ساي من خلال حديثي معهم اكتشفت أنه لا داعي لإخبارها بهذه المهمة أبدا! فقد قامت الدكتورة ساي بالمهمة وحدها. جميع الموظفين اعتادوا أن يزوروا مكتبها ويتحدثوا إليها عن أمورهم ومشاكلهم بانفتاح شديد، شعرت مجددا بفخر لمهارتي في اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب، هذا جيد، لكن ما عكر صفوي مجددا حولها هو أن الجناح الأيمن للقراء في مكتبة المركز سيتم إصلاحه؛ أي إنني سأضطر للجلوس في الجناح نفسه مع تلك المشاكسة، وأنا حقا لا أحبذ ذلك، فهي امرأة مفرطة الحركة، وأنا لا أنعم بجلسة قراءة صافية إلا إن كانت المكتبة هادئة جدا. أذكر أنها كانت قد كتبت في سيرتها الذاتية أنها تحب ممارسة اليوغا، أشك أنها تستطيع الجلوس ولو لدقيقة واحدة بهدوء، فكيف لها أن تمارس اليوغا؟ لا بد أنها يوغا على طريقتها الخاصة!
أتى الأسبوع المقبل، وبدأت المعاناة: تدخل الدكتورة إلى المكتبة فتحدث كل أنواع الضجيج والفوضى وتزعجني. ذات ليلة أتت راكضة وهي تحمل أكوابا من الشاي والعصائر، وكعادتي تمتمت في نفسي: ستوقعها، وستتلف الكتب حولها! وما إن أنهيت جملتي تلك حتى رأيت كتابي ملطخا بالقهوة، لكن ليس مما في يديها، بل مما في يدي. فلقد سكبت قهوتي على أحد الكتب القيمة. ذعرت وبدأت بنفض القهوة عن الكتاب بطريقة عشوائية، فصرخت الدكتورة ساي: مهلا توقف!
وضعت أغراضها ثم أتت بمنديل خاص وبدأت بتجفيف الكتاب بخفة شديدة. راقبت حركات يديها وهي تقوم بتجفيفه بعناية فائقة، لقد كانت طريقتها بارعة ونظراتها للكتاب كانت ساحرة. في قلبي لمت نفسي على الظن السيئ بها دوما، وهذه المرة أنا الذي سكبت قهوتي على الكتاب وهي من قامت بتنظيفه. ثم قامت، بحسها الأنثوي، بتنظيف الطاولة والأرضية مع أنها ليست مضطرة لفعل ذلك، ثم نظرت إلى قميصي وقالت: بروفيسور، قم بتبديل قميصك حالا!
Bog aan la aqoon
عندما قالت لي ذلك بصيغة الأمر، أعادت لي ذكريات كنت قد نسيتها تماما، فمنذ سنين لم أسمع صيغة الأمر من أنثى! كان ذلك قبل عشرين سنة، حين قالت لي والدتي قبل وفاتها بسويعات: آكي! وأنت تعيش حياتك، لا تنس أن تحياها، لا تنس أن تكون لك عائلة.
كيف تنبأت والدتي أنني لن أكون عائلة طوال تلك السنين؟ لا أعلم. نعم، لقد نسيت صيغة الأمر ونسيت ذاك الأمر ونسيت أمورا كثيرة. مر ذاك الشريط من الأفكار أمامي بينما كانت الدكتورة ساي تنظف الأرضية ونسيت حتى أن أشكرها، نظرت إلي مجددا وقالت: بروفيسور هل تسمعني؟ - نعم، سأقوم بتبديله، شكرا.
عدت إلى غرفتي وأنا ما زلت أرى وجه والدتي، ومدين لتلك المشاكسة، لكن من حسن حظي أني قمت برد الدين في الأسبوع الذي تلاه مباشرة. وذلك حين وصلت الدكتورة ساي من بلدتها وكانت تود القيام بركن سيارتها. حين رأيتها أصبت بالدهشة، فهي لا تمتلك أدنى فكرة عن كيفية المناورة لركن السيارة بطريقة صحيحة، رغم أن مواقف السيارات عريضة في مرآب المركز ومع ذلك كانت تصارع المقود والمرايا. كنت أراقبها وهي لا تعلم أن أحدهم في المرآب. ظلت تحارب ما حولها عشر دقائق إلى أن أشفقت عليها، تركت سيارتي وتوجهت نحوها: دكتورة ساي، أأساعدك؟ - لا مانع لدي، فقد انتهت طاقتي تماما، منذ الساعة الخامسة وأنا خارج المنزل، وعندما أكون مرهقة، لا أستطيع التركيز إطلاقا، تفضل المكان لك.
وانتقلت إلى المقعد المجاور من غير أن تخرج من السيارة بحركة رشيقة جدا لتعطيني المجال. كانت سيارتها صغيرة مقارنة على ما اعتدت عليه، عدلت وضع الكرسي الأمامي كي يناسبني. كان صوت الأغاني عاليا جدا وكانت الدكتورة ساي تكمل انسجامها مع تلك الأغاني مع أننا على وشك النزول. تفوح من سيارتها رائحة لطيفة على عكس الكثير من سيارات أصدقائي التي تفوح منها رائحة السجائر أو الطعام السريع. على المرآة الأمامية هناك أشكال صغيرة تتراقص هنا وهناك. كل شيء في هذه المساحة الصغيرة كان لطيفا، وبه تفاصيل لطيفة لم أعتد أنا شخصيا عليها. عندما ألقيت نظرة سريعة على الحائط الذي خلف السيارة كي لا نصطدم به، لاحظت وجود كثير من الأشياء على المقاعد الخلفية، يبدو أنها مثلي، لا تستخدمها أبدا، أو بالأحرى لا أحد يستخدمها، فأنا لا أذكر أن أحدهم قد جلس على المقاعد الخلفية لسيارتي، ومن لا يعلم هذا الشعور لا يستطيع تمييزه في سيارات الآخرين.
على أي حال، قمت بركن السيارة في مكان مناسب فشكرتني جدا، نزلنا من السيارة فسمعت صوتا كما لو أنه صوت انفجار، لا أعلم لم أغلب السيدات يقمن بإغلاق أبواب السيارة بهذه الطريقة! فقد لاحظت هذه الملاحظة منذ بدأت التعامل مع زملائي وزميلاتي في العمل أكثر. نعم فقد بدأت مشاركتهم العديد من النشاطات يوميا. بت أتردد أكثر على مطعم المركز لمشاركة الموظفين طعام الغداء، أحتسي فنجان قهوة مع بعضهم، أتنزه قليلا بين ساعات العمل مع الطلاب، أشاركهم أحاديثهم العامة التي لا علاقة لها بالعمل أو الأبحاث.
بدأت بحفظ وجوههم أكثر وربطها مع أسمائهم، فسابقا لم أكن أعلم إلا الأسماء وهي مرتبطة بالإنجازات، كما لو أننا آلات! أما الآن فأنا مستمتع جدا بمعرفة تفاصيل عن حياتهم الشخصية، عن طريقة كلامهم وتعابيرهم، عن شخصياتهم وآرائهم. هكذا يكون حالي في كل أيام الأسبوع، ما عدا يومي الجمعة والسبت. فهناك موظف واحد يسرق انتباهي، تلك الابتسامة، هاتان العينان، وتلك الحركات العفوية، التعابير الطفولية، حركة اليدين، الثواني القليلة التي تسكن بها، ثم الانفجار العظيم حين يحل حماس الكون عليها، لمعة عينيها حين تتحدث عن شيء تحبه كما لو أنها برق يضرب في السماء. بت أستمتع بمراقبتها رغم انزعاجي الدائم منها في المكتبة، فما زالت تلك المرأة تحدث الكثير من الضجة هنا وهناك، وما زالت تزعجني في المكتبة في الليالي التي تقضيها في المركز. مضت عدة شهور على هذه الحال. لن أنسى ذاك اليوم حين نفد صبري، فقلت لها بينما هي منهمكة في التهام أطعمتها غير الصحية: سيدتي، هل تعلمين ضرر ما تفعلين؟
أجابتني بصوت بالكاد يفهم وما زال فمها ممتلئا بالطعام: عن أي ضرر تتحدث حضرة المدير؟
كان ذاك واضحا، حضرة المدير، إنها تسخر مني! تمالكت أعصابي وأجبتها: هذه الأشياء المبتذلة التي لا تتوقفين عن تناولها، سيدتي، عليك أن تذكري أنها مضرة بالصحة. عليك الاهتمام بصحتك في هذه المرحلة من عمرك! - عمري؟
ضحكت بصوت عال، اقتربت مني وقالت لي بصوت خافت: سيدي، عليك أن تتذكر أن الغليون مضر بالصحة، عليك الاهتمام بصحتك خاصة في هذه المرحلة المتقدمة من عمرك!
وكأننا في نزال، ما هي إلا نصيحة أردت أن أسديها لها. لقد طفح الكيل حقا، أخذت كتبي، نهرتها بنظرة ازدراء وخرجت من المكتبة. بعد أن رميت هذه الكلمات: لقد أصبح هذا المكان غير صالح للمطالعة!
Bog aan la aqoon
عدت إلى غرفتي وأنا غاضب وحانق عليها. كانت تلك ليلة الأحد، أي في صباح الأحد ستغادر ولن أراها للأسبوع المقبل، وذلك أفضل!
مضت أيام ذلك الأسبوع بثقل، كنت وبلا شعور أنتظر عودة يوم الجمعة. لم أعر ذلك الشعور اهتماما. لكن حين أتى يوم الجمعة، أتت الدكتورة ساي في ذلك اليوم إلى الاجتماع الدوري حيث كان علينا أن نجلس معا في مهام بعد الاجتماع. كانت الدكتورة ساي على غير طبيعتها، فقد بدت هادئة جدا، تبتسم بين الحين والآخر بينما في حالتها الطبيعية تملأ المكان بالضحك. ابتسامتها كانت مصطنعة وجافة. هل ذلك بسبب ما حصل الأسبوع الماضي؟ سألت نفسي، لكن هذا أفضل، عليها أن تلتزم الهدوء أكثر وتحترم المكان. مضى ذلك اليوم وحين حل الليل، ذهبت إلى المكتبة، لم تكن الدكتورة ساي قد أتت بعد. وضعت كتبي، وبدأت بالقراءة، لم أكن أستطيع التركيز مطلقا فقد كنت أنظر إلى الساعة والباب طيلة الوقت، أين هي؟ لقد انتصف الليل ولم تأت بعد!
بقيت بعدها أكثر من ساعتين في المكتبة لكنني لم أقرأ شيئا. هل حقا كنت أنتظر تلك المزعجة؟ هل اعتدت على التركيز بوجود ضجيجها اللامتناهي؟ أم أني قلق عليها؟
هيروكي
أرسل في كل عام دعوة لحفل نقيمه في المركز في آخر الصيف في التوقيت نفسه الذي يقام فيه المهرجان في البلدة، فيتسنى لنا أن نرى الألعاب النارية من شرفات المركز معا، فبعض الموظفين ليس لديهم عائلات أو شركاء، وبالعادة نتشارك تلك اللحظات أفضل من أن يقضيها كل واحد منا وحيدا. أرسل تلك الدعوات عبر البريد الإلكتروني فيقوم الجميع إما بقبول الدعوة أو رفضها إن لم يكونوا يستطيعون حضورها. لا أذكر أني راجعت أسماء من قبلوا الدعوة في يوم من أيام حياتي، لكن هذه المرة هي الوحيدة التي كنت أنتظر ردا من أحدهم. مضى أسبوع على إرسالي الدعوات، وقد رد معظم الموظفين في المركز ما عدا البعض منهم ومن بينهم تلك التي أنتظر ردها. أفتح يوميا صندوق البريد الوارد، وأبحث عن رسالة تخبرني هل ستأتي أم لا! وفي آخر المطاف أرسلت الرد، بأنها لن تأتي! أغلقت غطاء جهاز الحاسوب بغضب ثم مضيت إلى أحد المخابر، لا أريد أن أرى هذه الرسالة مجددا!
عزيزي البروفيسور هيروكي
أشكرك على الدعوة، لكني لن أستطيع القدوم.
تحياتي
ساي
منذ متى والدكتورة ساي ترد بطريقة مهنية؟ توقعت أنها ستشرح سبب عدم مجيئها، فهي دائما تشرح وتسترسل، ألم تدرك معنى المهنية إلا الآن!
Bog aan la aqoon
أتى يوم الحفل وكان يوم السبت، لا أعلم ما هو سبب رفضها للمجيء، لا بد أن لديها أصدقاء تشاركهم المهرجان. كنت أتخيل كم ستكون فوضوية في المهرجان وكيف ستقوم بتجربة كل الألعاب وكل أنواع الطعام، وسيكون صوت ضحكتها أعلى ما في المهرجان. وبينما كنت أتخيل مدى اندفاعها بدأت الألعاب النارية بالانطلاق. وفجأة لاحظت أن أحدهم يقف في شرفة الطابق السفلي، استغربت جدا، من ذاك الذي يأتي إلى المركز ويجلس وحيدا في ساعة كهذه؟ دققت أكثر فإذا هي ساي! تركت المكان من فوري وانطلقت إلى الطابق السفلي، فقد دفعني الفضول لأرى ما بها. عندما اقتربت من باب الشرفة سمعت صوتا وكأنه صوت بكاء. - دكتورة ساي؟
قامت بمسح دموعها مباشرة. - أهلا بروفيسور هيروكي، عمت مساء، كيف حالك؟ - بخير، ما بك؟ ولم أنت هنا وحدك؟ - لا شيء، أنا بخير، شعرت أنني أود استنشاق هواء طلق فخرجت، تصبح على خير. - انتظري قليلا، أود أن أسألك سؤالا واحدا فحسب. - تفضل. - لم لم تأتي إلى الحفل؟ لم لم تعودي ترتادين المكتبة؟ هل بسبب ما صدر مني من كلمات في المكتبة المرة الماضية؟
ابتسمت ثم قالت: لا أبدا، ليس هذا هو السبب. ثم أليس هذا أفضل؟ تستطيع الآن مطالعة كتبك بهدوء.
ثم مضت. ما تزال ليست بمزاجها الطبيعي وتهربت من مواجهتي وهي تبكي. لم أرد أن أتدخل في شئونها أكثر. انتهت الحفلة فعدت إلى المكتبة، لكنني لم أقرأ شيئا، ظللت أفكر: لماذا هي حزينة؟ في الأسبوع التالي لم تأت أيضا إلى المكتبة ليلة السبت. كما لم أستطع القراءة، كنت أنظر إلى كتبها وأطعمتها التي كانت تحتفظ بها في حال احتاجت إليها على أحد رفوف المكتبة، لا أعلم لماذا أفتقدها؟ لكن حينما حلت ليلة الأحد، أتت ساي إلى المكتبة وجلست لفترة قصيرة جدا. كأنها تؤكد لي ألا علاقة لما حدث بتوقفها عن ارتياد المكتبة، ثم مضت. كانت أشد حزنا من الأسبوع الذي مضى، مع أنها كانت تحاول أن تكون على طبيعتها وتضحك وتتحدث. لكن في عينيها حزنا عميقا أستطيع أن أراه بسهولة. لحقت بها فرأيتها في الشرفة تنتحب بصوت خافت جدا، لا بد أنها من ذلك النوع الذي يخفف آلام الناس ولا يرغب في أن يشاركه أحد أحزانه. ساي تخفي شيئا في قلبها، أردت أن أجبرها على إخباري بما يزعجها، لكن كيف أستطيع أن أتحول إلى ذلك الشخص العفوي الفضولي وأسألها بشكل مباشر، لا أستطيع ذلك حقا. وجدت طريقة أخرى لأتمكن من سؤالها من غير أن تراودها أي شكوك حول غايتي الحقيقة، غايتي الحقيقة؟ لم أنا مهتم جدا؟ أبدو غريبا بعض الشيء! - دكتورة ساي! - بروفيسور هيروكي منذ متى وأنت هنا؟ - الآن، دكتورة ساي هناك أمر علي أن أخبرك به غدا؛ لذا من فضلك تعالي إلى مكتبي في الصباح. - حسنا! - الجو بارد قليلا الليلة، لا تبقي هنا في الخارج. - شكرا، سأكون بخير. - كما تشائين.
ساي
ككل عام، وكطقس من طقوس أشهر الصيف الجاف، تثقلني ذكرياتي، ويمر هذان الأسبوعان بمرارة شديدة. منذ عشرين سنة، تماما في بداية الصيف، بدأ حبنا أنا وهاك. كنا في السنة الثالثة في أثناء دراسة الطب. أخبرني هاك أنه قد وقع في حبي منذ المرة الأولى التي رآني فيها في المختبر بينما كنت أصرخ وألاحق الضفدع الذي كان علينا أن نشرحه. في ذلك اليوم اشتهر اسمي في أرجاء الكلية، ساي التي أفسدت المختبر، فلقد أفسدت المختبر بأكمله وأنا ألاحق الضفدع الذي أضعته، حيث إنني أزلت المثبتات من عليه بدافع الفضول! يا لها من شهرة وسمعة سيئة. لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد كنت أطرد في بعض الأحيان من المحاضرات بسبب ثرثرتي المتواصلة. أذكر أنه في يوم من الأيام قام المسئول عن المختبر بتأنيبي بشدة، لكني حقا لم أكن قد فعلت شيئا خاطئا. دافع هاك عني في لحظتها بشراسة ونبل. أحببت هاك، أحببته ليس بسبب هذا الموقف، بل لأنه كان حولي ويدعمني دائما. يساعدني على التركيز ويعطيني ملاحظات مهمة لم أكن لأسمعها في حياتي، كان لطيفا وحنونا جدا. عشنا قصة حب رائعة، كان هاك هادئا يحب أن يراني وأنا أقفز في كل مكان، كان يقول لي دائما: إن كل أحزانه وهمومه تزول حينما يرى ابتسامتي. توجنا حبنا بالزواج، عشنا خمس سنوات من الانسجام والتناغم. كلانا بقي كما هو، وكلانا أحب الآخر كما هو. لكن شيئا فشيئا بات هاك يبدي استياءه من تصرفاتي، رغم أنني لم أتغير مطلقا. بدأت مشاكل لم تكن موجودة بالظهور، شعرت أنه يختلق المشاكل من لا شيء، لم أكن أفهم ما يود الوصول إليه تماما. أذكر في ذلك اليوم حين اقترحت عليه فكرة إنجاب طفل، كانت ردة فعله عنيفة جدا وأبدى رفضه للفكرة. بعد مرور سنة وصل بنا الأمر إلى حد لا يطاق، كنت أرى في عينيه أنه لم يعد راضيا عن أي شيء صادر من قبلي، وبدأت أنا بفقدان كل طاقة الحب التي امتلكتها له.
الطلاق! كيف وصلنا إلى هذا الحد، لا أعلم. لكني أعلم أنني لغاية ذلك الصيف، كنت أحاول كل جهدي ألا أخسره. لكن لا بد أنه قد اتخذ قراره وانتهى الأمر.
أنا في مزاج سيئ الآن، كان علي أن آخذ إجازة من عملي وألا آتي إلى المركز. أشعر كما لو أن تلك الذكريات تخنقني، بدأ حبنا بالصيف وانتهى بالصيف، والآن مضى على طلاقنا عشر سنين. ما زلت أذكر كلمات وداعه الأخيرة حين قال لي «عليك أن تنضجي أكثر ساي، أتمنى لك حياة سعيدة.» رائحة أشجار الفاكهة تشعل كل الذكريات في قلبي. لذا حين أخرج إلى شرفة المركز أرى دموعي تذرف من غير شعور. لست نادمة على شيء، لكنني أرثي ذكريات عشتها وعشت تفاصيلها.
ولكي يزداد الأمر سوءا، رآني البروفيسور هيروكي مرتين وأنا أبكي. أضحكني عندما سألني إن كنت لا أرتاد المكتبة بسبب ما قاله لي فيها عن إزعاجي له، هل هذا سؤال يسأل لساي؟ لا بد أننا سنصبح صديقين في المستقبل. رغم أنه لا يتحملني مطلقا، إلا أنه لطيف ومحترم، وأنا أقدره جدا، سأخبره عندما يتحسن مزاجي إن كان يقبل صداقتي، سأعتز به حقا إن أصبحنا أصدقاء.
هيروكي
Bog aan la aqoon
لم أستطع النوم جيدا تلك الليلة وأنا أحاول أن أنمق ما أود أن أقوله لها، من غير أن تشعر حيال فضولي بأي شيء. مشكلتي أنها خبيرة نفسية وعلي أن أكون أبرع منها في ذلك المجال. مرت ساعات الليل ثم طلعت الشمس أخيرا، توجهت إلى مكتبي لانتظار تلك المشاكسة التي باتت تزعجني حتى في عدم وجودها حولي. خطتي كانت بأن أخبرها أنها وبصفتها الطبيبة النفسية للمركز فعليها أن تكون بمزاج جيد لأنها ستؤثر على البقية. حينها سأجبرها على الاعتراف وأن تخبرني بالذي يزعجها. تبدو الخطة ساذجة جدا، لكن لا بد أن أجعلها تضعف فتخبرني لم هي حزينة. أود حقا أن أعلم لم هي حزينة، وأن أساعدها. طرقت ساي باب المكتب ودخلت، كانت تبدو أكثر إشراقا عن ذي قبل، وهي بحالة جيدة وبمزاج جيد جدا. فقد حيتني تحية عسكرية وهي تقول: صباح الخير سيدي. - أهلا دكتورة ساي تفضلي. - شكرا.
وجدت نفسي مع مزاجها الجيد في مشكلة، فلقد أفسدت الخطة بالكامل، كيف سأبدأ الحوار وما الذي علي قوله؟ فأنا من استدعاها. حاولت أن أختلق موضوعا متعلقا بالعمل أتحدث فيه، لكن تلك المرأة لم تكن لتقتنع أنني جلبتها منذ الصباح الباكر لأخبرها بمعلومات ثانوية عادة ما أرسلها عبر البريد الإلكتروني في نهاية كل أسبوع. ازداد الأمر سوءا أنها في مزاجها الاعتيادي، هذا يعني أنني لن أنتهي منها بسهولة، حين أنهيت كلامي معها وقلت لها: حسنا دكتورة ساي هذا كل ما في الأمر!
اقتربت مني، وحدقت في عيني وهي تقطب حاجبيها، شعرت بإحراج شديد، ثم قالت: بروفيسور هيروكي! هل تريد أن تقنعني أنك قد استدعيتني لتقول لي هذه الأمور فقط؟ - نعم! - كن معي صريحا، أشعر أن هناك شيئا آخر تود أن تقوله، هذا واضح تماما. كما أن هذا الشيء يبدو محرجا لذا حاولت التراجع عنه وبدأت بالحديث عن شيء آخر. بروفيسور هيروكي، إن كنت تفكر بالاستغناء عن خدماتي في المركز بسبب الضجة التي أحدثها هنا، فاعلم أنني أحب هذا المكان ولا أريد أن أتخلى عن عملي. أخبرني إن كانت لديك أي ملاحظات وسأكون عند حسن ظنك، لا تقلق. أما أن تفكر بإقصائي فلن أسمح بذلك مهما كلف الأمر.
ارتحت عندما اعتقدت ساي أن الأمر كذلك، فأجبتها: ملاحظات! نعم لدي الكثير منها، على أي حال لا تقلقي لن نستغني عنك. وبالمناسبة جلبت مجموعة كتب جديدة، لا تفوتيها. - بالطبع لا، عند العاشرة، لكن لدي طلب! - ما هو؟
نظرت إلي بخجل، شعرت أنها ستطلب أمرا محرجا جدا. - هل أستطيع أن أجلب معي القليل من الحلويات إلى المكتبة؟
تلك المرأة لا تفكر إلا بالطعام مع أنها رشيقة جدا. أومأت لها بالإيجاب، ثم خرجنا لتفقد العمل في الخارج. وأخيرا عادت ساي إلى حالتها الطبيعية، مع أنني ما زلت أود أن أعلم ما كان بها، وأن أشعر بأنني قريب منها. لا أفهم نفسي، لكنني بت مهتما لأمرها.
هيروكي
مرت عدة أسابيع صعبة من العمل الشاق في المركز، كان الفريق بأكمله يعمل بجد شديد. كنا نصل الليل مع النهار، إلى أن خفت وطأة العمل قليلا. حينها عدنا إلى نقاشاتنا الأسبوعية أنا وساي. فلقد أصبحنا أصدقاء، ووجدت أن النقاش معها ليس إزعاجا كما كنت أظن سابقا، بل كان يغني طريقة تفكيري جدا. كنت أستمتع بمناقشة المواضيع التاريخية والنفسية والعملية معها، فهي تمتلك معارف واسعة الطيف، أحببت نظرتها إلى الأمور، نظرتها ليست إيجابية فحسب، بل كانت ملهمة جدا. فهمت الآن طريقتها بالطب النفسي، وكيف أنها تداوي الناس بفهم أعماقهم وإعطائهم ما ينقصهم، لا بما يقوله الطب النفسي؛ لأن لكل شخص احتياجاته الخاصة حتى لو تماثلت الأعراض. حدثتني كثيرا عن أمور كنت غافلا عنها. أحسد ساي، لأنها تمتلك الشجاعة بأن تكون الطبيبة والعالمة والمرأة بطريقتها الخاصة. إنها لا تضع نفسها بأي قالب يفرضه عليها المجتمع؛ لذا فهي صادقة ومحبوبة، نعم محبوبة!
مع الأيام، بدأ قلبي يخفق عند سماع اسمها، دقاته تتسارع حين أراها، وأتعرق حين أتحدث معها. وكثيرا ما أنسى المكان وأتأملها حين نكون في قاعة واحدة. أنتظر الأيام التي تأتي بها بفارغ الصبر، وألاحقها حيث أكون متذرعا بألف سبب. وصل بي الحد أن قمت بالبحث عنها على شبكة الإنترنت، لأقرأ كل ما تقوم بتدوينه. كل ما يصدر منها لطيف وجميل، جميل كجمال عينيها، لم تعد رؤيتها عن بعد خلال تلك الدقائق أو الساعات القليلة كافية لي. تفكيري يدور حولها: متى ستأتي؟ ماذا تحب؟ ماذا ستقول؟ ماذا ستقرأ؟ متى ستضحك؟ أجلس في المكتبة تائه الفكر، حين لا تأتي أضيع، وأفقد صوابي في انتظارها، أما حين تأتي فأضيع في التفكير فيها. هل تفكر بي؟ أم أنا وحدي الذي لا أملك تركيزي منذ أن رأيتها؟
ليتني بقوتها! تلك الواثقة من نفسها تقتحم بضوضائها سكينتي وتتركني مذهولا على أنقاض مكتبتي. أدركت أن قلبي متعلق بها كثيرا، بل أدركت أن هذا ما يسميه البشر، حبا! وفقا لما تؤمن به من أفكار، على الإنسان أن يعبر عما يشعر، هذا يعني أنه علي أن أعلمها بما أشعر من غير تحفظات، أي أن أخبرها بمشاعري الحقيقية نحوها! لا أدري ماذا ستكون ردة فعلها. لكنني تعلمت منها أن أكون مبادرا وألا أخشى العواقب حين أومن بما أفعل.
Bog aan la aqoon
أتى اليوم التالي، الساعة العاشرة، ها هي ساي قد أتت. سأكون شجاعا الليلة وأخبرها بالأمر، لكن المشكلة أنني أشعر بتوعك صحي. لست على ما يرام وأخشى أن يزداد الأمر سوءا. فإن كان كذلك فسأؤجل الموضوع ليوم الغد. فأنا أريد أن أكون بكامل تركيزي. - بروفيسور هيروكي كيف حالك؟ - هيروكي، أخبرتك أن تناديني هيروكي وحسب. - حسنا لا بأس، هيروكي الوسيم كيف حالك؟ - وسيم؟ قلت لك هيروكي فقط! - فقط؟ ألم يخبرك أحد قبلي أنك وسيم؟ - عدنا لمزاحك! - لا أمزح، انظر إلى المرآة، لكن دقيقة، أنت لست على ما يرام! - ما الذي تعنينه؟ - هل تشعر بالتعب؟ فوجهك شاحب جدا. أي إنك حقا لست وسيما في هذه اللحظة لذا لا تنظر إلى المرآة الآن. أخبرني ما الذي يؤلمك؟ - لا شيء، توعك طفيف لكني بصحة جيدة.
دنت مني ووضعت يدها على جبهتي لتتحسس حرارتي، لكن كان ذلك محرجا جدا. وازداد الأمر سوءا حين طلبت مني أن تجري لي فحصا عاما. أعلم أنها طبيبة وتمارس عملها، لكن المشكلة أنها تعتقد أني أنظر إليها كصديقة لا أكثر، لكن الحقيقة ليست كذلك. لذا لم أكن أود أن تقترب مني أبدا، شعرت أن ذلك خيانة لمشاعرها. لذا كان لا بد أن أبعدها عني في تلك اللحظة. - ساي، أرجوك أنا بخير، لا أحتاج شيئا.
نهضت من مكاني، بينما نظرت إلي باستغراب شديد: هيروكي؟ ما الذي دهاك؟ ألا تثق بي؟ - ساي، ليس الأمر كذلك، لا تسيئي فهمي. - إذن ما الأمر؟ - سألتني ما الأمر! حسنا! أنستطيع التحدث في الشرفة؟ - نعم بالتأكيد!
ساي
عندما أخبرني هيروكي بمشاعره الحقيقية تجاهي، صعقت حقا. فأنا لم أتنبه إطلاقا لمشاعره، كيف حدث ذلك من غير علمي؟ على أي حال، فلقد كان جوابي له سريعا جدا: هيروكي اعذرني أرجوك، أنا لا أريد أن أقحم نفسي في هذه المواضيع مجددا. - لست مضطرة لإعطاء أي إجابة الآن، لكن وجب علي أن أوضح لك طريقة نظرتي إليك. لم أكن مرتاحا وأنت تعاملينني بعفوية بينما أكن لك مشاعر خاصة، فكان لا بد أن تعلمي بذلك وبعدها تستطيعين أن تتصرفي معي بالطريقة التي تحلو لك. - هيروكي أقدر صراحتك، وأشكرك عليها. لكن أرجوك، لا تهدر مشاعرك في مكان غير مناسب. - ساي، لن نتحدث اليوم أكثر. أراك غدا، اعتني بنفسك. - بل أنت اعتن بنفسك، حرارتك مرتفعة جدا. اذهب إلى المركز الطبي حالا. - حسنا.
ابتسمت ومضيت إلى غرفتي، أفكر مجددا بما قاله وأفكر بالذي سأفعله الآن. لا حاجة للتفكير بهذا الأمر، فحتما لن أغير شيئا في حياتي. هيروكي رجل محترم، خلوق وذو طباع حسنة، لكنه رجل وأنا يكفيني ما لقيت من الرجال. لا أود أن أكرر تجربتي السابقة. هاك أيضا، أحبني بشدة ولمدة أطول، وعشنا ذكريات جميلة جدا. أحبني كما أنا بجنوني، بغبائي وبجميع عيوبي. ثم ماذا؟ ثم شيئا فشيئا تراجع عن كل ذلك. هل هو الملل؟ لا أدري حقا، لكن ما أعلمه الآن أني قاسيت الكثير إلى أن التأم جرحي القديم. أعيش الآن باستقرار مع نفسي، ولست أرغب في أن أضع نفسي مجددا في خطر جديد، لا أشعر أني بحاجة لأن أبقى بجانب رجل، يكفيني أصدقائي وتكفيني بالدرجة الأولى، ساي، كما هي. لكن كيف سأتعامل مع الأمور من الآن وصاعدا. علي أن أرتب أفكاري من جديد، فأنا لن أترك المركز مهما كلف الأمر، كما أنه ليس من المريح على الأقل في هذه الفترة أن أبقى أمامه، لا بد أن الحل الوحيد هو ألا آتي إلى المركز، وأن أقوم بمهامي من غير المجيء إلى المركز وإرسال نتائجي عبر البريد الإلكتروني والقيام بالاجتماعات عبر وسائل الاتصال، وسنرى بعدها ماذا سأفعل!
هيروكي
لم أكن أتوقع أن تتهرب مني، ليست ساي من تتصرف بهذه الطريقة. قمت بالموافقة على طلبها بأن تعمل من بلدتها عن بعد من غير المجيء إلى المركز، لكن بعد أن تنهي بعض الأعمال هنا. أي أنها ما زالت مضطرة إلى المجيء إلى المركز خلال الأسبوعين القادمين. وهنا بدأت المشاكل، كانت ساي تتصرف معي بغرابة. لقد ضايقني الموضوع بشدة، ربما لم تعد مرتاحة بالتعامل معي، أتفهم ذلك. بالتأكيد لم تكن تأتي إلى المكتبة، بل كانت تقضي معظم أوقاتها بعد العمل في حديقة المركز الخارجية. في أحد الأيام، لم أستطع منع نفسي من اللحاق بها للحديث حول ما تفعله بنا. لحقت بها وناديتها: ساي. - بروفيسور هيروكي أهلا بك! - بروفيسور؟ هل عدنا للألقاب من جديد، هل يعني أنك تفضلين أن أناديك بالدكتورة ساي؟ - لا أبدا، نادني بما شئت أنت تعلم أني لا أحب الألقاب والمراسم والبروتوكولات مع كل الناس، فكيف مع أصدقائي! - جيد، ما زلت تذكرين أننا صديقان! - نعم ومن قال غير ذلك؟ - أفعالك وتصرفاتك. - هيروكي أرجوك، لا تتحدث عن هذا الموضوع مجددا.
استدارت وكادت ترحل إلا أنني ناديتها مجددا: ساي! لكن هذا ليس عدلا منك، ترغمينني على أن أرضى بجوابك. أنت حرة بقرارك، لكن لست حرة بجعلي أتراجع أو أستسلم. عليك أن تفهمي ذلك، ثم إن هروبك من أمامي لن يفيدك في شيء، لا تحسبي أني سأغير رأيي بعد أسبوعين، شهرين أو حتى عشرين سنة. ساي! أنا شخص عشت حياة مكرسة للعلم والأبحاث، لم أتزوج ليس لأني لم أجد الوقت لذلك كما يظن معظم الناس، لا! أنا لم أتزوج لأنني طيلة السنين لم أجد تلك المرأة التي تدخل قلبي عنوة، ترغمني بأن أعشقها بكل صفاتها وبكل ما فيها. وأود أن أعلمك بأمر ربما لا تعلمينه عن البروفيسور هيروكي، هو أنه عنيد جدا، ولا يستسلم!
سكتت طويلا ولم تجبني بأي رد، بل بقيت تنظر إلي كمن يستجدي الآخر ليتركه وشأنه، سألتها بهدوء: ساي! هل ستبقين صامتة؟ ألا من رد؟ طيلة الشهرين الماضيين كنت أحدثك عن الكثير من أموري الشخصية، حدثتك عن مشاكلي في حياتي بعفوية تامة ولم أشعر أنني أتكلم أمام شخص غريب. لكن أنت، وحتى حين يكون الأمر متعلقا بنا، فإنك تفضلين الصمت. هل تجدين ذلك منطقيا؟ أنت لا تبدين بحالة جيدة منذ أن حدثتك في الأمر. لم لا تصارحينني بما تشعرين وتصارحينني بسبب رفضك لإعطاء فرصة لنا؟ لم تسمحين لنفسك أن تواسي الجميع، بينما تمنعين الناس عن إسداء حتى لو قليلا من المساعدة لك؟ لم لا تقبلين أن يكون أحد بجانبك بينما أنت بجانب الجميع دوما؟ لم لا تسمحين لمشاعر الناس أن تغمرك بينما تغمرين الجميع بكل ما تستطيعين من مشاعر ونصائح ووقت وتعاطف؟ - هيروكي، أنا لست من ذاك النوع الأناني، كل ما في الأمر أن تجربة زواجي السابقة كان لها تأثير سلبي على حياتي. لا أحب الحديث عنها، لا لأنني أود أن أحتفظ بالألم لنفسي، لا، بل لأن الحديث عنها يؤلمني بشدة. هناك جانب ضعف في حياة كل إنسان، وأنا أمتلك هذا الجانب. ما آلمني حقا ليس أننا افترقنا أنا وزوجي السابق، بل أتألم لأنه لم يبرر، لم يتكلم، لم يكن صريحا، لم بدأ يكرهني؟ لم لم يخبرني أنني صرت بغيضة لديه في وقت مبكر؟ لم تغير فجأة؟ لم بات يكره المرأة التي كان قد أحبها؟ - ساي لا أريد أن تتألمي أكثر، أنا أعتذر على إصراري بجعلك تتحدثين عن هذا الأمر، لكن أرجوك، أعطينا فرصة، لا أود أن أزعجك أكثر من ذلك. - أرجوك هيروكي، سأقوم بأعمالي من بلدتي بدءا من الغد، سأتواصل مع الجميع عبر الإنترنت، لا أود المجيء مجددا إلى هنا. - كما تشائين.
Bog aan la aqoon
رأيت في عينيها خوفا وقلقا، لا أعلم كيف يتمكن رجل في هذا العالم أن يؤذي امرأة لهذا الحد. مضيت إلى مكتبي ووافقت على طلبها، لكنني لن أتركها وشأنها، سأدعها ترتاح قليلا فحسب. ساي، كوني بخير وعودي لي بسرعة.
هيروكي
أتت حفلة آخر السنة، ومجددا، أرسلت الدعوة إلى جميع الموظفين، هذه المرة جاءت الإجابة بنعم. علمت فيما بعد أن الجميع قد أرسل لها وطلب منها أن تكون موجودة في الحفل، فالجميع قد اشتاق إليها. فمنذ شهرين وهي لا تأتي إلى المركز، بل تقوم بأعمالها من بلدتها، فترسل وتستقبل كل المعلومات وتقوم بمقابلاتها مع الجميع عبر وسائل الاتصال. لم أزعجها طيلة هذه الفترة، علها تعود إلى المركز فأراها. كنت أرسل إليها رسالة واحدة فقط كل أسبوع لأطمئن عليها، من غير أن أطيل عليها أو أضايقها بمشاعري. كنت أتساءل: إن كان الموظفون قد اشتاقوا إليها، فماذا أقول أنا؟
حين علمت أنها ستأتي إلى حفل آخر السنة، بدأت أعد الأيام عدا، إلى أن أتى يوم الحفل. عندما ذهبت إلى القاعة التي سنجتمع بها، رحت أنظر في كل الاتجاهات لأراها ، لكني لم أرها في أي مكان. بدأ الحفل وفجأة لمعت القاعة بضوء رآه قلبي قبل عيني، إنها ساي قد أتت. منذ شهرين لم أرها، كدت أترك كل شيء وأتوجه نحوها لأراها عن قرب وأتحدث إليها، لكني لم أرغب بإزعاجها. وكنوع من أنواع البروتوكولات توجهت ساي نحوي لتلقي السلام، فأنا المدير وصاحب الدعوة. - شكرا بروفيسور على دعوتك، أتمنى لك عاما جميلا. - شكرا لحضورك ساي، أسعدتني رؤيتك بصحة جيدة.
لم أطل حديثي معها أكثر، فلا المكان ولا الظرف يسمحان بذلك، جلست ساي على طاولة بعيدة عن المكان الذي أجلس فيه، لم تكن تتحاشاني كما لم تكن تود الحديث معي. تصرفت بشكل طبيعي. أما أنا فكنت أراقبها، فقد اشتقت إلى كل ما يصدر عنها، وعزمت أن أتحدث معها حالما ينتهي الحفل. كانت ساي بمزاج رائع، جعلت الحفل أجمل وأروع، ألقت الكثير من النكات، وأقامت العديد من المسابقات، وأشعلت القاعة حماسا، ثم لاحظت أنها على وشك الرحيل، كانت متجهة نحوي: بروفيسور، شكرا مجددا على الدعوة، أستأذنكم جميعا فعلي الرحيل الآن. - ساي، تمهلي قليلا، هناك بعض الأوراق التي أود أن أسلمك إياها. - سأتلقاها عبر البريد لا تزعج نفسك وتخرج من القاعة الآن.
شعرت أنها لا تود الحديث معي إطلاقا، فلم أشأ أن أزعجها بإصراري: حسنا كما تشائين. - وداعا!
ساي
عندما تلقيت دعوة البروفيسور هيروكي للحفل، وتلقيت عشرات الرسائل من زملائي في المركز، لم أشأ أن أخيب ظنهم جميعا، فقبلت الدعوة، كما أنه لا يوجد سبب لعدم قبولها؛ فالبروفيسور هيروكي يراعي مشاعري تماما ولا يزعجني إطلاقا، كل ما في الأمر أني أحاول أن أختفي من أمامه لأساعده على نسيان ما يفكر به حولي. سأكذب إن قلت إنني لا أشعر بالإحراج أمامه، بلى أشعر، خاصة أنه بات يرسل لي رسالة كل أسبوع ليطمئن علي من بريده الإلكتروني الخاص. كان ردي دائما مختصرا «أنا بخير» من غير أن أسهب أكثر.
في يوم الحفل، لاحظت أنه يود أن يحدثني؛ لذا تذرع ببعض الأوراق التي يود تسليمها لي، أظهرت له بشكل مباشر عدم رغبتي في أن أتيح له فرصة التحدث إلي، فلم يصر أكثر. لكن بعد أن ودعته ومضيت، جلست في سيارتي عدة دقائق ولم أنطلق. شعرت أني أود أن أسمع ما الذي ينوي قوله، فهو صديق عزيز علي ومنذ مدة طويلة لم أتحدث معه، وأنا سأسافر بعد يومين لقضاء أيام العطلة في جنوب أفريقيا، لكن ماذا سأفعل الآن بعد أن قمت بتوديع الجميع!
بقيت في سيارتي أفكر، ثم عرفت ماذا سأقول له، فاتصلت به. - ساي؟ - نعم هيروكي، لقد تذكرت أنني سأسافر بعد يومين؛ لذا سأعود للمركز الآن لأستلم تلك الأوراق إن لم يكن ذلك مزعجا! - مزعجا! أنت تعلمين أنه ليس كذلك، سأراك أمام مكتبي، متى تستطيعين الوصول؟ - بعد عشرين دقيقة. - سأكون بانتظارك.
Bog aan la aqoon
تظاهرت كما لو أنني سأعود إلى المركز مع أنني ما زلت في المرآب. خلال تلك المهلة أخرجت مرآتي ورحت أتأكد من مظهري، لم أعتد أن أفعل ذلك أبدا، لكن هذا طبيعي، فنظرته لي مختلفة عن نظرة أي شخص آخر. شعور المرأة في تلك الحالة يكون مضطربا وأنا أكثر من يستطيع تحليله. بعض النسوة قد يعتقدن أنهن وقعن في الحب بسبب ردة فعلهن تلك، لم أرد أن أطفئ ذلك الشعور، تركت لنفسي حرية التصرف من غير أن أكبت حقيقة أنني سعيدة بإعجاب أحدهم بي، وليس أي أحد! إنه البروفيسور هيروكي.
ولكيلا أتأخر قطعت سلسلة أفكاري تلك وتوجهت نحو مكتب هيروكي. هناك رأيته ينتظرني، ألقيت السلام عليه، سلمني الأوراق وبدأ يماطل في حديثه معي، يبدو أنه فعلا يود أن يقول لي شيئا. كنا نمشي بينما هو يحدثني، إلى أن وصلنا إلى الشرفة، ورغم أن الطقس كان باردا جدا إلا أنني كنت أود مشاهدة نثرات الثلج. خرجنا إلى الشرفة وعندما لامس الثلج وجهي، لم أشعر ببرودته، فأنا أحبه كثيرا، كانت النسمات لطيفة جدا، صمتنا لعدة دقائق. - ساي، أتسمحين لي أن أسألك سؤالا؟ - تفضل. - إلى متى ستصرين على تجاهل الموضوع؟ - هيروكي، ليس تجاهلا صدقني، لكنني أنتظرك إلى أن تسأم من مشاعرك تلك، فأنت ستسأم منها عاجلا أم آجلا. - ومن أين لك بتلك الثقة؟ - من كل القصص التي سمعت عنها خلال حياتي المهنية، والاجتماعية، وأولها قصتي الشخصية. - أتعممين كل الحالات لكل الناس؟ - لا، أبدا. لكن هناك بعض العلاقات التي باستطاعتي أن أتنبأ عن مستقبلها منذ البداية. - وما هو العامل المشترك للعلاقات التي ستفشل في نظرك؟ - ليس عاملا واحدا فحسب، هي مجموعة عوامل. - وفي حالتنا، لنفرض جدلا أننا ارتبطنا، لم تعتقدين أننا سنفشل؟ - في حالتي، ليس الفشل هو السبب الأهم لتجنبي أي علاقة، إنما عدم رغبتي في ذلك. - سألتك في حالتنا وليس في حالتك وحدك، عندما أنا أكون طرفا في تلك العلاقة، لم تعتقدين أننا سنفشل؟ - وأجبتك أني لا أريد أن أفترض ذلك أصلا! - لم كل هذا العناد ساي، أرجوك أجيبيني بعفوية، وتنازلي عن تلك الفكرة لعدة دقائق. - حسنا، أعتذر عن تصرفي هيروكي، لكن دعني أفكر أولا.
صمت قليلا ورحت أفكر بسؤاله لأول مرة. بينما كنت أفكر كان هيروكي ينتظر بهدوء وهو ينظر إلى الأفق ويفرك يديه ببعضهما فالجو بارد جدا. رتبت أفكاري وأنا أتأمل حركاته ثم أجبته: في حالتنا، سأحلل لك الموضوع كما أراه أنا، أنا لا أتكلم نيابة عنك إنما أعرض وجهة نظري فحسب. أنت رجل ناضج، اعتدت أن تقضي أيام حياتك بروتين هادئ، ليست سنة أو سنتين، أو عشرا، بل خمسين عاما. الآن بدأت تشعر بالوحدة، لأنك قد حققت معظم ما تصبو إليه، وتجاوزت مرحلة ضيق الوقت وقلة المال. لديك سعة من كليهما الآن مع صحة جيدة وبدأت تمتلك الوقت لتسمع مشاعرك أكثر. في هذه الأثناء ظهرت امرأة غريبة الأطوار، جعلتك تراقبها بسبب غرابتها مقارنة بما تعودت عليه سابقا. أنت لأول مرة تتعامل مع امرأة لا تكترث لأمور كثيرة، بت تراقبها لتكتشف لأي مدى هناك أناس غريبون ويتصرفون بطريقة مختلفة عما تعودت عليه خلال حياتك كلها. مع الوقت بدأت تظن أن هذا الاهتمام ينبع من مشاعر الإعجاب، ولأن هذه الحالة هي من المرات القلائل التي حدثت معك في حياتك، ولأنك تشعر بوحدة بعض الشيء، ولأنك تود أن تكتشف طباعا جديدة وتسمع كلاما مختلفا، وترى مشاهد غير مألوفة، قمت بتحويل هذا الإعجاب إلى حب بمحض إرادتك. أنت تمتلك الصبر لتنتظر كثيرا، فيكفيك أنك تعيش تلك الحالة التي ملأت لك بضع سويعات من كل يوم. لذا فأنا أعلم أنك لن تسأم مع مرور الوقت من الانتظار، لكن في المقابل، مع مرور الوقت ستكتشف أن وجودي ليس بتلك الضرورة التي تتخيلها الآن. لنفرض أننا سنرتبط قبل أن تكتشف هذا الاكتشاف، ولنفرض أنني قررت خوض هذه المغامرة، هذا يعني أني سأنجرف بكامل قوتي العاطفية، سأبني أحلاما كثيرة، سأرهق قلبي وعقلي وروحي بأمور لا أنت ولا أي رجل في العالم يستطيع أن يتخيلها. ثم ماذا، ثم سيأتي يوم تضيق ذرعا من حماقاتي التي ظننت أنك أحببتني بسببها، ستكره بعضا من تصرفاتي التي خيل إليك أنها كانت أجمل ما يميزني، ستسأم من كلماتي التي كنت سابقا تنتظرها بفارغ الصبر، والكثير الكثير. ستجد نفسك متورطا في علاقة كنت تظنها الجنة لكنها أضحت ...
لم يدعني أكمل جملتي وقاطعني مباشرة: توقفي ساي، توقفي أرجوك، لم أعد أريد أن أسمع أكثر، لقد ظلمتني جدا. - لكنك سألتني وأنا أجيبك بما أفكر به. - أعلم، لكن لم أتوقع أنك تنظرين لهذه الأمور بهذه الدرجة من التشاؤم، أخبريني إن كانت العلاقات تسير هذا المسرى، إذن متى تنجح؟ متى ومن يستطيع تكوين العلاقات الصحيحة والناجحة برأيك؟ ما هو العامل الفارق والذي يجرف العلاقة تلك من الطريق التشاؤمي ذاك الذي قمت بوصفه إلى الطريق الطبيعي والصحيح؟ - الحب، العطاء، والوفاء. - وكيف سأثبت لك أني أمتلكها؟ المشكلة أني حقا لا أستطيع برهنة ذلك من خلال الكلام، فلا أسهل من الكلام، ولا أستطيع إلا أن أعدك بهذه الخصال، خاصة أننا ما عدنا نلتقي أبدا، أشعر بحيرة كبيرة حيال ما علي فعله. ساي! لقد صعبت الأمور علي جدا. - مهلا، أنا لم أصعبها. ليس من الضرورة أن تمتلك تلك الصفات أنت فقط، علي أن أمتلكها أنا أيضا. فحتى لو تأكدت من تحليك بها، فأنا لا أضمن نفسي أن أكون محبة ومعطاءة دائما. وهنا تكمن مشكلتي هيروكي؛ ولذلك أنا أحكم على أي علاقة قد أفكر الخوض فيها بالفشل. أعتذر هيروكي على صراحتي، على أي حال علي أن أغادر الآن لقد تأخر الوقت وما زال أمامي طريق طويل لأصل إلى المنزل. - حسنا! أسعدني وجودك اليوم، ساي! أتمنى لنا عاما جديدا جميلا كجمالك، عاما نجتمع به معا، أنا متأكد من ذلك، لن أطيل عليك أكثر من ذلك، أود أن أطلب منك طلبا بشكل رسمي، ساي، أتقبلين الزواج بي؟
صدمني حين قال طلبه وقد أمسك بيدي وكاد يضمني إليه، أبعدته عني بهدوء من غير أن أزعجه ووجدت نفسي أجيبه حالا: هيروكي! أنت حقا غريب الأطوار، أهذه نتيجة حوارنا؟
اقترب مني مجددا وقال لي: ساي، خذي كل وقتك للتفكير، لا أريد أن أسمع جوابك الآن. واعلمي أنك في كل مرة تجيبين بها بالرفض، سأجدد الطلب؛ أي إن هذا الطلب سيبقى مفتوحا للأبد؛ لذا لا فائدة بأن ترهقي نفسك برفضه، لأني لن أقبل الرفض.
تنهدت وكنت على وشك البكاء، فقال لي: أعلم أنك لن تأتي مجددا إلى المركز، أرى ذلك في عينيك، أعلم أني تماديت في التعبير عن مشاعري وهذا قد يسبب الألم لك. كوني سعيدة فحسب، لا تبتئسي، أنا على ثقة بأننا سنلتقي مجددا، وليس كأي لقاء.
الفصل الثاني
ربيع مزهر!
هيروكي
Bog aan la aqoon
مضى على يوم الحفل شهر كامل وساي لم ترسل أي إجابة، لم تتصل، ولم تأت إلى المركز. أرسلت لها عدة رسائل وكعادتها كانت ترد فقط «أنا بخير». لن ينفد صبري، لكنني تعبت من الانتظار، وتعبت من شعور الاشتياق. هذه المشاعر جديدة حقا علي ولا أستطيع التأقلم معها بشكل جيد. يبدو أنها حقا لن تكترث بي، مع الأيام بدأ ذلك الشعور يتسرب إلى قلبي: إنها ستبقى على عنادها هذا إلى الأبد. ومع أني لم أعتد الاستسلام إطلاقا لكني إن بقيت على هذا المنوال وهذه الطريقة فلن أستفيد، ولن أصل إليها أو إلى قلبها، فقررت أن أحاول اللقاء بها، لكنها كانت تتذرع بمشاغلها. بدأت أرسل لها الورود عل تلك الورود تعبر عن مشاعري إن كانت كلماتي تعجز عن ذلك. قمت بدعوتها عدة مرات إلى بعض المعارض الفنية، والمسرحيات، والمعارض العلمية، وسوى ذلك، لكنها رفضت مرافقتي واعتذرت بشدة. بعد مرور شهر آخر على هذه الحال بدأ شعوري ينحاز نحو الاضطراب والمرارة. أذكر أني في ذاك اليوم، كنت سأرسل لها رسالتي الأسبوعية المعتادة، بدأت بكتابة كلماتها، فوجدت لهجتي مختلفة. فقد اعتدت مسبقا أن أسألها عن حالها وأخبرها قليلا عن أخباري وأختم الرسالة بجملة واحدة قصيرة تعبر عن مدى اشتياقي إليها وانتظاري لردها، أما هذه المرة فقد كان مضمون الرسالة يتحدث عن إرهاقي مما تفعله بي، وتعب روحي وقلبي.
ما إن أنهيتها وعاودت قراءتها قبل إرسالها، حتى قررت أني لن أرسلها بهذا الشكل، وفضلت الاحتفاظ بها لي من غير أن أزعجها بها. فأنا لا أحب أن أضغط عليها بما أشعر، فلا ذنب لها بشيء، سوى أنني أحببتها. ولأول مرة في حياتي، تواجهني مشكلة أعجز عن حلها. فكرت كثيرا، ولم أجد وسيلة أو طريقة تقربني إليها، كنت أتساءل: أيعقل أن أستسلم حقا كما تنبأت ساي!
أتى الأسبوع التالي ومجددا، أتى موعد رسالتي لها. ومجددا لم أستطع أن أرسل لها رسالة عادية ومقتضبة. استرسلت كثيرا بالتعبير لها عن كمية الألم الذي بدأ يتسلل إلى قلبي بسبب عدم اكتراثها بي، كان هناك الكثير من اللوم والعتاب الموجه إليها مع أنني أعلم أن ذلك ليس من حقي. استجمعت قواي، لم أقرأها أو أراجعها مجددا لكيلا أغير رأيي، ثم أرسلتها وأغلقت جهاز الحاسوب مباشرة. حاولت أن أشغل نفسي بأمور عدة، توقعت أن يأتيني رد مختلف هذه المرة، كنت راضيا حتى إن وبختني، لكن على الأقل أن يأتي الرد مفصلا أكثر. لكن يبدو أنني قد حصلت على النتيجة المعاكسة، فلم يأت هذه المرة أي رد منها. انتظرت ثلاثة أيام، كانت تلك الأيام متعبة لي بحق. فقد كنت أتفقد بريدي الإلكتروني كل خمس دقائق، علي أرى رسالة أو ردا منها، ثم قررت أن أرسل لها رسالة اعتذار ما إن يهدأ قلبي.
ساي
أصبح موعد رسالة هيروكي الأسبوعية هو موعدي الخاص الذي أتهيأ له بوضع كوب القهوة، والجلوس على أريكتي المفضلة في غرفة الجلوس في منزلي، وإغلاق هاتفي النقال والأنوار، وإغلاق كل ما يمكن إغلاقه وفتح قلبي لسماع كلماته، كان ذلك بإرادتي، لا أعلم لم أجرف نفسي في هذا الاتجاه مع أنني على يقين أنني لن أستسلم ولن أرتبط ثانية بأحد. إنها ليست المرة الأولى التي يسألني بها أحدهم الزواج بعد أن انفصلت عن هاك. في كل مرة كنت أرفض من غير أن أشعر بأي اضطراب. ما خطبي الآن؟ لم أتصرف بهذه الطريقة؟
كنت أقرأ رسائله بشغف، ربما لأن كلماته صادقة جدا، مختصرة، وأنيقة. أقرأ رسالته ثم أجلس بهدوء إلى أن أغفو. أستيقظ صباحا وقد استرجعت قوتي وعدم رغبتي في التفكير بأي أحد. اعتدت على هذا السيناريو على مدى أكثر من شهرين إلى أن أتى ذاك الأسبوع. جلبت كوب قهوتي، أغلقت كل شيء حولي عدا قلبي وجلست أمام شاشة جهازي الحاسوب. قمت بتحميل رسائلي وأنا أنتظر رؤية اسمه، لكن لا شيء منه، أعدت النظر بين الرسائل التي لم تتم قراءتها، فلم أجد اسمه، تأكدت أن الإنترنت يعمل بشكل جيد، ثم أعدت تحميل بريدي الإلكتروني، لكن لم أر اسمه ولم أر رسالته، لم أستطع أن أفهم سبب تأخر رسالته، ولم أستطع أن أفهم سبب انزعاجي من عدم رؤيتها. انتظرت قرابة الساعة، ثم ذهبت إلى سريري، فلم أستطع النوم. بعد ساعتين أمسكت هاتفي النقال وأعدت تحميل بريدي الإلكتروني علي أجد رسالة منه، لم أجد شيئا، رميت هاتفي على الجانب الآخر من سريري وأنا مستاءة ونمت. عندما استيقظت كان مزاجي سيئا، تمتمت بصوت مرتفع وبدأت أتحدث مع نفسي: قلت له إنه سيسأم، وادعى أنه لن يسأم أبدا، هي عدة أشهر ولم يستطع الاحتمال، ثم يدعون أنهم أحبوا وسيعطون ويضحون، كم هذا مضحك!
ضحكت بصوت مرتفع، ثم ساد الهدوء شقتي من جديد، وعلت على وجهي ملامح الاستياء من كل شيء حولي. ثم مرت عدة أيام واعتدت على فكرة تخلي هيروكي عني. كنت أدرك تماما أن مشاعري تلك طبيعية، فأنا امرأة تراجع أحد معجبيها عن إعجابه بها. كنت أبحث عن رسالته الغائبة طيلة أيام الأسبوع، أمني نفسي أنه قد يكون مسافرا، قد يكون مشغولا، ولا يملك وسيلة لإرسال الرسالة، والكثير من الأعذار، والكثير من محاولات البحث عن تلك الرسالة، لكن لا شيء.
في الأسبوع التالي، وفي موعد رسالته، لم أرغب في انتظارها، ولم أشأ أن أجلس جلستي القديمة على أريكتي المعتادة، بل شعرت برغبتي في القراءة فأنا لم أطالع الكتب منذ فترة. ذهبت إلى مكتبتي الصغيرة المتواضعة، كنت أرى وجه هيروكي في جميع صفحات الكتب، كنت أسمع صوته حولي، حاولت تناسي ذلك فلم أفلح. ذهبت إلى سريري وحاولت الخلود للنوم، فلم أفلح أيضا. ثم خطرت لي فكرة جيدة، هي أن أرسل له رسالة لأتفقد حالته، ربما هو مريض أو أي شيء من هذ القبيل. أمسكت هاتفي وما إن فتحته، حتى رأيت رسالة من هيروكي! لقد أثلجت قلبي وأشعلته في الوقت نفسه، لقد كان يعاتبني على كل ما يصدر مني من عدم مبالاة واكتراث، كان يحكي بإسهاب عن مشاعره وعن حيرته، ومن عادتي أن أرسل له جوابا مقتضبا أني بخير، لكني هذه المرة لم أكن أعلم بم أجيبه، فلم أرسل له أي رد، لم يكن هدفي أن أتلاعب بعواطفه، لكنني حقا لا أعلم بم سأجيبه، فهو لم يسألني كيف حالي كما يفعل دائما، بل كان يحكي لي عما يشعر به فحسب. شعرت بألم تجاهه وبت أقرأ رسالته كل ساعة، إلى أن حفظتها تماما.
مر يومان وأنا على هذه الحالة، وصادف اليوم الثالث يوم زفاف إحدى صديقاتي المقربات، أقيم حفل الزفاف في مدينتها التي تقع بين بلدتي والمركز، فارتديت فستاني، وصففت شعري، ووضعت قليلا من مساحيق التجميل، بدوت أكثر جمالا وأنوثة عما أبدو عليه في العادة. تأملت مظهري أمام المرآة، وجدت أني ما زلت أبدو جميلة ورشيقة. خطر في بالي في تلك اللحظة هيروكي، هو لا يعلم إلا ساي بملابس العمل. لا أعلم لم نحب أن يرانا من نعلم بإعجابه بنا ونحن في أجمل صورة؟ ما الفائدة من ذلك؟ إن كان هو في حالاتي العادية قد أعجب بشكلي! هل لنثبت لهم أننا أكثر جمالا، لذا رجاء أحبونا أكثر! لم هذا التصرف اللئيم؟ على أي حال فهو لن يراني ولن أراه. ذهبت إلى الزفاف وعندما وصلت كان أغلب المدعوين بصحبة أحد ما: زوج، أو شريك، أو خطيب، أو صديق، إلا أنا هنا وحدي. شعرت بشعور سيئ حيال ذلك، فلم أجد من أجلس معه أغلب الوقت. وأنا منذ انفصالي عن هاك لم أراقص رجلا ولم أسمح لأحدهم أن يتقرب مني أيا كان، فقد نشأت في بيئة متحفظة جدا، وتطبعت بطباع قد تكون مختلفة عن السلوك العام للفتيات ممن حولي، فأنا لا أتساهل كثيرا في تعاملي مع الرجال، ألتزم حدودا رسمتها لنفسي منذ أن كنت في عمر الرابعة عشر.
أمضيت وقتي في المراقبة والتأمل ولأول مرة أكون هادئة في حفل، كنت أراقب المدعوين ولا طاقة لي أن أجامل أي أحد. اشتقت أن أكون محور حياة أحدهم من جديد، اشتقت أن أشعر بدفء مشاعر أحدهم تجاهي، أن أسمع كلاما جميلا ورقيقا. ومن الطبيعي أن أرى وجهه في كل مكان هنا، نعم كنت أرى وجه هيروكي حولي، أعلم مجددا أنه ليس شعور الحب، إنما شعور الوحدة، وسيختفي كل هذا حالما أعود إلى منزلي. فمن الطبيعي أن أشعر بكل تلك المشاعر وأنا أرى صديقتي تزف إلى زوجها، وحين أرى نظراته لها ونظراتها له، وحين أرى رقصتهما معا. شعرت بتعب ولم أستطع إكمال حفل الزفاف، قمت بتوديع الجميع وانطلقت نحو سيارتي فأمامي طريق ليس بالقصير لكي أصل إلى بلدتي.
Bog aan la aqoon
عندما كنت في طريق العودة، كانت جميع الأغاني التي تصدر من مسجل الصوت في السيارة غاية في الرومانسية، بت أتخيل نفسي عروسا أزف له، سرحت في تفكيري كثيرا، ثم بدأت أضحك! كم كان هذا غبيا! كم أنا حمقاء! شعرت بعطش شديد، فركنت سيارتي في أحد المواقف العامة على الطريق السريع وبينما كنت أنتظر كوب قهوتي من الماكينة، شعرت بأحدهم يلاحقني من خلفي بهدوء، كانت سيارتي بعيدة وكانت أمامي دورة المياه، ركضت مسرعة فدخلت إحداها وأقفلت الباب، من حسن الحظ أن هاتفي النقال كان بيدي. كدت أتصل بالشرطة لكني تراجعت لعدة أسباب، أولا أني لست متأكدة من أن أحدهم يلاحقني حقا، ثانيا كانت فرصة ذهبية لأطلب المساعدة من هيروكي. أريد أن أراه، أريد أن أرى كيف ستكون ردة فعله حين أطلب منه المساعدة، مدى شهامته ومدى تجاوبه، فالموقع الذي أنا فيه الآن أقرب إلى المركز من بلدتي، فهو ليس بعيدا ويحتاج إلى ربع ساعة فقط. كم أنا شقية! فقد اتصلت به وأخبرته أن يحضر حالا: هيروكي أحتاج مساعدتك أرجوك. - ساي! أخبريني حالا ما بك؟ وكيف أستطيع مساعدتك؟ - سأرسل لك المكان الذي أنا فيه الآن، وسأشرح لك التفاصيل فيما بعد. لكن باختصار أشعر أن أحدهم يلاحقني وأنا عالقة الآن في إحدى دورات المياه على الطريق السريع ولا أجرؤ على الخروج منها لأنني أعتقد أنه ما زال في الخارج. المكان موحش جدا وبدأت أطرافي تتجمد. - ساي! لا عليك سآتي حالا، أرسلي لي العنوان مباشرة، لا تقلقي وابقي حيث أنت. - بانتظارك.
هيروكي
عندما رن هاتفي الخاص تلك الليلة كان آخر من كنت أتوقع رؤية اسمه هو ساي! كان صوتها مضطربا للغاية، ذهبت حالا أنا وسائقي الخاص إلى تلك المنطقة. لقد كان الظلام دامسا والبرد شديدا، وقد كانت على حق، فقد رأيت أحدهم ينتظر في سيارته في هذا الموقف العام على الطريق السريع، ما إن رآنا حتى أسرع بالهروب في الظلام، فلم نستطع تمييز رقم سيارته أو نوعها. على أي حال ركضت مسرعا خارج سيارتي واتصلت بها لأعلمها أني هنا وبأنها تستطيع الخروج بأمان. خرجت ساي وكانت فعلا على وشك التجمد، فملابسها لم تكن دافئة، أعطيتها وشاحي ومعطفي وسألتها فيما إن كانت تفضل أن يقلها السائق إلى منزلها أم أنها تفضل الذهاب في سيارتها وقيادتها بنفسها، فأجابتني: هيروكي، أرجوك أتستطيع أن توصلني أنت إلى منزلي؟ - بالطبع!
مضينا بسيارتها وقمت أنا بقيادتها، ولحق سائقي بنا كي يقلني معه حين عودتنا إلى المركز. جلست ساي في المقعد المجاور لي، هذه المرة الثانية التي أقود بها سيارتها، ما زالت كما هي منذ أشهر، ما زالت تلك الأشكال الصغيرة تتراقص على المرآة، وما زالت أغراض ساي متراكمة على المقاعد الخلفية للسيارة. حاولت ألا أحرجها وألا أنظر إليها بشكل مباشر، إلا أن ضوء القمر كان يعكس كل جميل في عينيها. كانت ساي متعبة جدا، ولم يكن طريقنا بهذا الطول، ولم أتحدث معها كثيرا. عندما وصلنا أوصلتها إلى باب شقتها، ودعتها وقبل أن أمضي قالت لي: هيروكي! أشكرك كثيرا لمساعدتك لي، وأنا آسفة جدا لأني اعتمدت على مشاعرك كي أضمن مجيئك، أشعر أني قد قمت باستغلال ذلك كي أجعلك تساعدني في هذه الساعة المتأخرة من الليل. - ساي! لا تقولي هذا الكلام، فأنا لا يمكن أن أتخاذل عن مساعدة أي أحد، فكيف إذا كان أنت! لا تفكري بهذه الطريقة أرجوك! - شكرا مجددا هيروكي، تصبح على خير.
كانت مضطربة للغاية ويبدو أنها خشيت أن أعبر لها عما يجول في خاطري في لحظة شاعرية كهذه، أو أن أتهور بتصرف ما؛ فقد كان من الواضح أن ساي لا تود أن أقترب منها، فقامت بتبديد اندفاعي نحوها ونظراتي إليها بنبرة صوتها الذي كانت تتصنع به حالة الاستقرار، لكنني كنت متأكدا من اضطرابها وضعفها.
وبينما كانت تودعني وتذكرني بأن السائق بانتظاري وأن علي ألا أتأخر عليه، أعادت لي معطفي فارتديته حالا، أردت أن يلتصق المعطف بجسدي مباشرة بعد أن كانت ترتديه. هممت أن أقترب منها، لكنها ابتعدت عني بسرعة وتوجهت إلى باب شقتها، لم تدخل إنما استدارت لتنظر إلي، كنت ما أزال واقفا أنتظر منها أن تودعني بشكل لائق، لكننا لم نفعل، ولم نتكلم، بقينا ربما عشر دقائق ونحن على هذه الحال، كانت نظراتها غامضة لم أستطع أن أقرأ منها شيئا، إلا أنها تشعر بالوحدة فقد كان هذا الشعور واضحا، لم أشأ أن أستغل شعورها ذلك بأي تصرف مني؛ إذ يبدو أن روحها متعبة جدا. لم تشح بوجهها عني، بل بقيت نظراتها مصوبة نحو عيني، كادت تعود باتجاهي، لكنها ترددت، ثم قالت لي: «هيروكي، أود أن أقابلك غدا، تصبح على خير.» ودخلت شقتها وأغلقت الباب.
عدت إلى السيارة، وأنا أفكر مليا بما حدث، ساي طلبت أن تراني، ترى ماذا تريد أن تقول؟ ماذا تشعر الآن؟ وهل تطورت مشاعرها نحوي؟ هل تحرك قلبها تجاهي؟ أم العكس تماما؟ هل ستطلب مني ألا أراها ثانية؟ لكن ثقتها بي، وطلبها المساعدة مني أنا بالتحديد، وشعورها بالاطمئنان حيال ذلك، ولد في قلبي كثيرا من الأمل الذي كنت على وشك فقده. لم أستطع أن أنام في تلك الليلة، كانت نظرات ساي الغامضة نحوي تؤرق قلبي، فلست متأكدا، أهي علامة إيجابية أم سلبية! فساي ليست كبقية النساء اللواتي تعاملت معهن، وأنا لا أستطيع قراءة وفهم ردود أفعالها الحالية.
ساي
حين رن هاتفي وأخبرني هيروكي أن باستطاعتي الخروج الآن، لأنه وسائقه أمام سيارتي وينتظرانني، خرجت ورأيته، كنت سعيدة جدا، يا لي من ماكرة! حققت حلمي بأن يراني بفستاني الجميل ومظهري اللائق، لم أظهر له اهتمامي بشيء، رأيت على وجهه علامات الإعجاب لكنه لم يعلق أبدا. طلبت منه أن يقود سيارتي بنفسه، فأنا حقا لا أقوى على قيادتها فقد تجمدت أطرافي تماما. كانت مشاعري مضطربة وقلبي يخفق بقوة خاصة أنه أعطاني معطفه لأتدفأ به. كان هادئا وصامتا طيلة الطريق، أجمل ما في هيروكي أن مشاعره ثابتة، فهو لا ينفعل كثيرا في المواقف الحرجة، ولا يخمد حبه في المواقف العادية، هو لا يستغل المواقف ليرمي بالكلمات هنا وهناك. هذا الثبات كان يعطيني مع الوقت الكثير من الأمان، شعرت بدفء شديد لم أشعر به منذ زمن بعيد. لكن عندما وصلت إلى منزلي اختلف الوضع قليلا، فقد شعرت أن مشاعره ستغلبه، تهربت منه وابتعدت عنه، واضعة مسافة أمان بيننا، فوقفت أمام باب شقتي محتمية به، لكنني لم أستطع ألا أراقب نظراته التي كانت تستجدي بقائي معه، كنت مترددة بين أن أتوجه نحوه مرة أخرى أو أن أودعه وأغلق باب شقتي. أنهيت ذاك التردد وتلك النظرات بطلب غريب مني: هيروكي، أود أن أقابلك غدا، تصبح على خير. - حسنا، أرسلي لي الزمان والمكان، تصبحين على خير.
لم يجادلني عن المكان أو الزمان، فقط قال حسنا، كأنني أملك حرية العبث بوقته كما أشاء، وجلبه من مكان إلى آخر. كم أنا لئيمة، لم أطلب أن أراه أصلا؟ لا أعلم، لقد تفوهت بهذا الطلب وأنا مضطربة، ماذا أود أن أقول له، لا أدري حقا!
Bog aan la aqoon
بقيت طيلة الليل أفكر في غبائي وتسرعي، ثم أرسلت له رسالة حددت له مطعما صغيرا في بلدتي وذلك عند الساعة السادسة مساء، ولم أحدد لنفسي ماذا أود أن أقول له.
ذهبت إلى الموعد بهيئتي المعتادة، لم أبالغ بشيء، فأنا لست في موعد غرامي أو ما شابه ذلك. أنا سأذهب لسبب أجهله، ربما أود أن أحدثه عما يدور في ذهني. وصلت فرأيته جالسا على إحدى الطاولات، تلك الطاولة تم تزيينها بالورود، لا بد أنه قد طلب من صاحب المطعم أن يجهز الورود. شكرته وجلست، ولم أبالغ في مدح ما فعل، مع أن قلبي طار من فرحته. كم هو جميل أن يهتم أحدهم بتفاصيل صغيرة فقط لأجلك! لكن في الوقت نفسه لم أستطع ألا أعبر له عن مدى حبي للورود. فأنا حقا أحب الورود بشكل كبير، ثم بدأت حديثي معه: هيروكي، أنا أشعر بحيرة شديدة، أرجوك، لا أريد أن تسيء فهم موعد اليوم، لا أريد أن أتلاعب بمشاعرك، أنا لست هنا لأخبرك أن هناك أملا لعلاقتنا، لست هنا لأخبرك أنني سأفكر أو أوافق، أنا هنا فقط لأحكي لك عما في داخلي، أشعر بالاختناق! - ساي! لا تقلقي، أخبريني ما بك؟ - لا أعلم ماذا علي أن أفعل، أشعر بالاضطراب والخوف من أن أنجرف بسعادتي حيال مشاعرك، أنا لست مرتاحة لفرحتي بأن أراك، أن أقرأ رسائلك، أن أسمع كلماتك. لم تفعل هذا هيروكي؟ لقد كنت مرتاحة لمدة عشر سنوات، كنت أعيش بهدوء وسلام.
قاطعني وهو يضحك بصوت منخفض، وقال لي: لومي نفسك أولا قبل أن تلوميني، أنا كنت أعيش في هدوء لخمسين عاما، ثم جئت واستطعت أن تستحوذي على تفكيري، وقلبي، ومشاعري. إذن من عليه أن يلوم الآخر؟ ساي! أرجوك لا تنظري للأمر على هذا النحو، ما علاقة تلك السنين بارتباط جديد؟ - أنا حقا لست مستعدة لأي شيء، ليست المشكلة في مشاعرك فحسب، أود أن أتأكد إن كان قلبي مستعدا لخوض تجربة جديدة، تجربة قد تحمل السعادة له أو التعاسة، فكلا الاحتمالين وارد، أنا لا أعلم كيف سأتصرف حيال الأمر. - أتودين نصيحتي؟ - نعم أرجوك. - على الأقل، عودي إلى المركز، دعينا نتقابل بشكل أكبر، حينها على الأقل تستطيعين تقدير الأمور بناء على حقائق وليس على تخيلات ورسائل عن بعد.
أعجبتني فكرة هيروكي، هو محق، كيف سأتخذ أي قرار سواء بالنفي أو بالإيجاب إن كنا لا نرى بعضنا؛ لذا قررت أن أعود إلى المركز، وحين عدت عرفت تماما، كيف يولد الحب! لم يكن إدراكي لحقيقة مشاعري سريعا، بل أخذ الأمر مني عدة شهور إلى أن اكتشفت حقيقة مشاعري تجاه هيروكي. في الأسابيع الأولى بت أراقب تحركاته، أراقب كل ما يثبت لي أنه ينظر اتجاهي، يفكر بي، يود أن يرضيني، يتحايل لمحادثتي. كل تلك الأمور كانت ترضي الأنثى التي في داخلي. في المركز عدت كما أنا ساي الشقية، العفوية، ذات الصوت العالي والضحكة التي لا تتوقف. وهو يراقبني، يراقب كل تحركاتي وأرى عينيه كم ترسل كلمات حب لي. في المقابل، منذ أن رجعت إلى المركز لم يرسل لي أي رسالة خاصة ولم يتحدث معي فيما يتعلق بنا أبدا، أعلم أنه لا يود إزعاجي، ويريدني أن أعيد ثقتي بنفسي، وأن أبني ثقتي به بهدوء وبشكل تدريجي، وهذا ما حدث، بدأت أشتاق إليه أكثر فأكثر، أفكر فيه طيلة الوقت، وأحب رؤيته. أما المكتبة، فكانت ملاذي الآمن، كي أراه وهو مبتسم، لم نكن نتحدث كثيرا في المكتبة، فلم تعد كما كانت من قبل، فقد صار الطلاب يترددون عليها صباحا ومساء وفي أيام العطل، وفي وجود الطلاب لا فرصة لي حتى أن أجلس في مكان قريب منه، فمن عادة الطلاب أن يتقربوا منه كثيرا وينتهزوا الفرصة لرؤية ما يقرؤه، وما يفعله، وما يقوله. هيروكي يمثل قدوة مثالية لهم، هم يحبونه كثيرا، وعلاقتهم به ليست علاقة مدير بموظفيه، بل علاقة معلم حنون، لم أشعر أبدا أن ذلك يزعجني، على العكس، كان يعطيني شعورا جميلا وأنا أرى الجميع ملتفين حوله، ونظرات الود والاحترام والمحبة كانت نابعة من قلوبهم جميعا تجاهه. كل ذلك كان رائعا وكان يزيد من مشاعر الأمان لدي لكن ليس حينما أرى نظرات واضحة من الحب من امرأة تجاهه!
الدكتورة بريجيت، دكتورة في علم الاقتصاد، التحقت بالعمل هنا منذ عدة أشهر أي في أثناء غيابي. لم أكن قد تنبهت لوجودها إلا عندما أصبحت تبالغ بوجودها معه في كل الأماكن: في المكتبة، وفي مكتبه، وفي المطعم، وفي الحديقة، وفي ساعات الفراغ، لم تكن نظرات تلك المرأة نظرات إعجاب واحترام وتقدير وحسب، بل تجاوزت ذلك. إنها جريئة جدا، لا تهتم أن تلتصق به حيثما يكون متذرعة بعملها وأبحاثها. لا أعلم مدى أهمية أن يتابع معها كل تفاصيل بحثها. أفكر بتلك الرسالة التي أنبني بها حينما أرسلت له تفاصيل ورقتي البحثية، ثم أراها وهي تستشيره في كل صغيرة وكبيرة فيزداد غيظي. أنا ساي لا يسمح لي أن أشاركه أمور البحوث وهي تستطيع! أنا التي يحبها وينتظر جوابها لطلبه منذ أكثر من ستة شهور، وهي تسمح لنفسها أن تقتحم عليه حياته في كل لحظة من أجل ذلك البحث المشئوم! من تظن نفسها؟ ثم لا أفهم لم لا يخبرها أنه مشغول ولا يتدخل بكل تفاصيل العمل ومراحله؟ هنا بدأت الوساوس تصل إلى قلبي، فعلا لم لا يضع لها حدا كما كان يفعل مع كل الموظفين؟ هل تعجبه نظراتها وملاحقتها له؟ طبعا فقد فتح قلبه للحب وبات يستسيغه، فما المانع أن يتناسى مشاعره الحقيقية التي هي أصلا لي ويغطيها بمشاعر لتلك المرأة؟ كم أشعر بالغيظ! كما لو أن أحدهم يسرق أشياء هي من حقي وملكي أنا! اهتمامه ووقته ليس من حقها! كيف ستفهم ذلك! بقيت أراقبهما معا وبدأت النيران تشتعل في قلبي، ماذا لو أحبها بالفعل؟ نعم، فهو لم يعد يحدثني بموضوعنا بتاتا! أهذا جزائي لأني أتحت له المجال وصارحته بحيرتي؟ أهكذا هم الرجال، حين يشعر أن المرأة ستصبح ملكا له، يسأم منها؟ أكان شعوره ضحلا إلى هذه الدرجة؟ بدأ الحزن يتسلل إلى قلبي مرة أخرى، هذا تماما ما كنت أخشاه، أن أفتح قلبي مجددا للحب وأن يخذل ذاك القلب! لم فعلت هذا بنفسي؟ كم أنا ضعيفة! حمقاء وغبية! كيف سأعود مجددا فارغة القلب، كيف سأرتاح من غير التفكير بمشاعري الغبية تلك؟ علي أن أسيطر على مشاعري قدر الإمكان. كنت أحاول جاهدة ألا أدخل بدوامة الحزن والألم، لكن مهما حاولت السيطرة على نفسي، فأنا لا أستطع أن أكون لطيفة معه أبدا، بدأت أعامله بطريقة غليظة، أتحدث معه بأسلوب جاف هذا إن تحدثت. كنت أراه وهو مستغرب مني، وكنت أدعه في حيرته تلك، أريده أن يشعر بتأنيب الضمير نتيجة تصرفاته تلك، كنت أعلم بداخلي أني أتوهم كثيرا لكن لا شيء كان يثبت لي العكس. فما زالت نظرات الدكتورة بريجيت له واضحة جدا، وهو إلى الآن لم يوقفها عند حدها، كما لم يعد يريد الحديث معي أو سؤالي عن أخباري، أو عن وضعي، ولم أتعامل معه بتلك الطريقة؟ مضت عدة أسابيع على هذه الحال، وأنا لم أعد أحتمل بريجيت تلك إطلاقا.
هيروكي
منذ أن عادت ساي إلى المركز، عادت الألوان إلى حياتي، ألوان تفوق ألوان الطيف كلها. عاهدت نفسي ألا أفاتحها بالموضوع أبدا، فأنا أخشى أن تترك المركز مجددا، وهذا ما لن يحتمله قلبي من الآن فصاعدا.
في الأسابيع الأولى التي قضتها في المركز كانت تماما كما هي، ساي النشيطة، المرحة، ابتسامتها لا تفارق وجهها الحسن، أسمع ضحكتها في كل زاوية في المركز، فأشعر كما لو أني أسمع لحنا بل أغنية حب، لكن لم يطل حالها كذلك، فقد مرت عدة أسابيع لم تكن فيها ساي على طبيعتها أبدا، فسلامها وكلامها كانا جافين جدا، لم أعلم ما بها، خشيت أنها كانت تتخذ قرارها، وأن تعاملها الجاف هذا مؤشر سيئ، أنا فعلا انجرفت بحبي لها ولا أستطيع أن أتخيل أن تخبرني بقرار الرفض، لكن لم أكن أود أن أسألها فأعجل سماعي لهذا النبأ، فتغاضيت تماما عما أراه من تصرفاتها تجاهي. حين صادفتها ذات يوم في مطعم المركز، لم أستطع أن أمنع نفسي من مناداتها ودعوتها للجلوس معي على الطاولة نفسها، لقد اشتقت إليها وقلبي لم يعد يقوى على بعدها عني أكثر، جلست وحيتني ثم قالت لي وهي مغتاظة وتتصنع عكس ذلك: شكرا بروفيسور، لكن أخشى أن ذلك سيزعج حبيبتك! - أنا لا أملك حبيبة بعد، فالتي أحبها ما زلت أنتظر جوابها منذ أشهر وهي ما زالت تفكر، لا أعلم ربما نسيت طلبي، ربما نسيت أمري، أو حتى اسمي. هي وحدها من أفكر فيها ليلا نهارا، مع كل يوم يمضي أزداد تعلقا بها، وهي لا تبادلني شيئا من تلك المشاعر؛ لذا لا أعتقد أني أستطيع أن أسميها حبيبتي بعد!
لقد فهمت مباشرة من تقصد، إنها بريجيت، لم أكن أتخيل أن تشعر ساي بالغيرة منها، لكن يبدو أن ذلك قد حصل بالفعل، تظاهرت بعدم اكتراثي وفهمي لما ترمي إليه وأدرت الحديث لصالحي وعبرت لها عن بعض الكلمات التي في قلبي، علي أخفف عنه حمل هذا الحب. لم تستطع أن تخفي ابتسامتها حين سمعت كلماتي، كانت تجاهد ظهورها لكني رأيتها. أعلم أني أحبها وأن قلبي متعلق بها كثيرا، لكن لم أكن مدركا مدى هذا الحب، فأنا لم أتصور يوما في حياتي أني سأخلط بين مشاعري الخاصة وقرارتي في العمل. فبحث الدكتورة بريجيت مرتبط باختصاصي، ومن عادتي أن أشرف على هذه البحوث بكل تفاصيلها بنفسي لأني الأكثر خبرة بها، لكن يبدو أن غاليتي ساي تشعر بالغيرة من وجودي مع الدكتورة بريجيت. هل علي أن أشكر الدكتورة بريجيت على ذلك؟ لأنها جعلت مشاعر ساي تتحرك باتجاهي؟ أعتقد أن بعد مشاعر الغيرة تلك لم يعد الطريق طويلا لسرقة قلبها بالكامل.
بعد حديثي المقتضب مع ساي في المطعم ذلك اليوم، عدت إلى مكتبي واستدعيت البروفيسور هاندا والدكتورة بريجيت وأخبرتهما أنه من اليوم فصاعدا سيكون البروفيسور هاندا المشرف الأساسي لبحث الدكتورة بريجيت أما أنا فيتم إعلامي فقط في المراحل الأخيرة وفي الحالات الخاصة. لم أتردد إن كنت سأفعل هذا أم لا، فأنا طبعا سأفعل، نعم أريد أن أرضيها، لا أريدها أن تجرح أو تتضايق مني أو من غيري. أريد أن أراها وهي مرتاحة، تلك الشقية، لا تكترث بي بينما أنا أغير مسار العمل لأجل مشاعر قد لا تكون غيرة حقيقية، لكن مع كل هذا وذاك، أنا أشعر بالسعادة لأني أود أن أرضيها، أشعر بالسعادة لأنه أصبح لدي أولوية جديدة غير العمل، أمن الضروري أن تكون كل قراراتنا منصبة على مصلحة واحدة فقط! أليس من حقي أن تكون لي أولوية أخرى! على أي حال، حلت تلك المشكلة لمدة بسيطة لكن الدكتورة بريجيت بقيت على تواصل معي. أعتقد فعلا أنها تمتلك مشاعر خاصة تجاهي، وربما هذا ما رأته ساي قبلي وأدركته؛ لذا اشتعلت نار الغيرة في قلبها. لكن ماذا علي أن أفعل؟
Bog aan la aqoon
مضت عدة أسابيع، ورأيت في عيني بريجيت إصرارا على مشاعرها. وذات يوم في المكتبة صرحت الدكتورة بريجيت وبكل وضوح عن مشاعرها، لم أرد أن أكسر قلبها لكن كان علي أن أكون صريحا معها، شكرتها على مشاعرها الجميلة واللطيفة ثم قلت لها: دكتورة بريجيت، علي أن أكون صادقا معك، أنا فعليا متورط بحب امرأة لا أعتقد أنها تكرهني لكنها لا تبادلني المشاعر حاليا. أنا أنتظر ردها منذ سنة تقريبا وسأنتظره لآخر يوم في عمري. - أهي الدكتورة ساي؟ - نعم. - نظراتك واضحة تجاهها، تلك المرأة غريبة الأطوار، لا أعتقد أنها الخيار المناسب، على أي حال هذه حياتك وأتمنى لك التوفيق.
مع أنني لست مضطرا أن أحكي لها، وأنا بطبعي أكره أن أتحدث عن خصوصياتي لزملاء العمل، ولم أكسر تلك القاعدة منذ عشرات السنوات. لكن في هذه الحالة كان الطريق الأسهل هو أن أخبر الدكتورة بريجيت بذلك كي لا تزعج ساي بعد الآن بتقربها مني. هكذا سأغلق كل المشاكل التي ستأتي من هذا الباب. لا أريد مشاكل أكثر، فأنا قد طال انتظاري وبدأ صبري ينفد. أيامي تمضي وأنا أتحسر على كل دقيقة تمر وساي ليست بقربي، لا أعتقد أني سأبقى صامتا بعد الآن، قررت أن أبدأ بالضغط عليها، مهما كانت النتائج.
ساي
بدأت الأيام تمضي بصعوبة علي، مشاعري مضطربة وروحي مرهقة، هذا الأسبوع عندما مضيت إلى بلدتي، أخذت إجازة من عملي في العيادة لعدة أيام، أشعر أني متعبة جدا وأحتاج إلى استراحة. مضى أول أسبوع بشكل رائع، فقد خصصت الكثير من المواعيد في عيادات البشرة والاهتمام بالصحة، واعتنيت مجددا بنفسي. قابلت الكثير من صديقاتي اللواتي لم أرهن منذ سنوات، لقد كانت حقا فرصة جيدة، مارست هوايتي بالطبخ وعمل الحلويات، علي أن أعترف أمام نفسي أني وددت لو أن هيروكي يتذوقها، خاصة كعكة التفاح التي كان يفضلها. في كل لحظة كنت أشعر أني أريد أن أراه، أتحدث إليه، قلبي يكاد ينفجر حين أفكر فيه. كنت تارة أشعر بالفرح وتارة بالحزن، ثم أتأمل كثيرا، وأعاود الكرة من جديد. كخبيرة نفسية، كان علي أن أفهم نفسي بسهولة وأن أكون صادقة، تماما كما أنصح من حولي. فلكي تصل إلى أعماق مشكلتك، وتكون قادرا على مسك خيوط حلها، عليك أولا أن تكون صادقا مع نفسك. لذا قررت أن أجلس مع الدكتورة ساي، أخبرها بصدق عما أشعر به، علي أساعد نفسي على إيجاد حل لكل هذا الاضطراب الذي أشعر به والذي يمنعني من التركيز. فكرت طويلا ووجدت أن كل هذه الأعراض تدل وببساطة على أني أكن لهيروكي مشاعر خاصة، وأود مشاركته كل الأمور التي أقوم بها في حياتي اليومية، وأشعر برعشة في قلبي حين أذكر تعابير وجهه. ثم تنبهت فجأة لأمر مهم جدا ، إنها أسابيع الصيف الكئيبة خاصتي، منذ يومين، كان اليوم الذي انفصلنا به أنا وهاك. على مدى السنوات العشر الماضية كنت أمارس طقوس الحزن والكآبة في هذين الأسبوعين بشكل لا إرادي، هذه المرة لقد مرت تلك الأسابيع من غير أن أتنبه لها أصلا!
إنه أيضا نوع من أنواع الحب، حين يصر الطرف الآخر على مشاعره، ويبقى صامدا أمام تجاهل من يحب، ويبذل قصارى جهده ويناضل كي يحتل تفكيره وقلبه. وتدريجيا، يصبح ما أراده حقيقة، أشعر أن هذه هي حالي مع هيروكي، لقد بقي متمسكا بمشاعره وعلم أنه سيستطيع إقناعي، علم أن مشاعره ستصل إلى قلبي في نهاية المطاف وستؤثر به. هناك من يشكك بهذا النوع من تبادل المشاعر ولا يدرجه تحت مسمى الحب الحقيقي، أن يحب الشخص من أحبه. أين المشكلة في ذلك! إن كان تبادل المشاعر تدريجيا! لقد أحببته، نعم، لقد أحببت هذا العالم الوسيم، الذي يكره رقائق البطاطا.
في ذلك اليوم لم أستطع أن أنتظر يوم الجمعة، بل أسرعت إلى سيارتي وانطلقت إلى المركز. كانت الساعة الخامسة عصرا، وكان الجو حارا جدا، وضعت الأغاني المفضلة التي أحبها وبدأت أعيش كلماتها وأنا في طريقي إليه. كنت في قمة حماسي، ولم أكن أعلم ما أود أن أقوله، لكن كانت المشاعر التي أشعر بها من أجمل المشاعر التي عشتها في حياتي كلها. كنت سعيدة جدا ولا أعلم كيف سآخذ الأمور بطريقة عفوية فالأمر محرج جدا.
وصلت إلى المركز، وانطلقت مباشرة إلى مكتبه، فلم أجده هناك. فبدأت أبحث عنه بين القاعات، وبينما أنا منهمكة بالبحث رأيته في الممر مع أحد طلابه، تفاجأ لرؤيتي في المركز في يوم الثلاثاء. قطع حديثه مباشرة مع طالبه واتجه نحوي مسرعا. لم أعلم ماذا سأقول له، قمت بإلقاء التحية فسألني: ساي! هل لديك عمل إضافي اليوم في المركز؟ - لا، بل أقصد نعم، لا أعلم، ربما. - ساي! هل من خطب؟ هل أنت على ما يرام؟ - نعم، أعتقد أني بخير. - تعتقدين؟ ساي، لا تبدين بخير، وجهك شاحب، أرجوك أخبريني ما بك؟
لم أستطع أن أطلب الحديث معه، لأني لا أعلم كيف سأبدأ وماذا سأقول، أخبرته أنني سأرتاح في مكتبي قليلا، فودعني ومضيت. ثم رأيته مجددا بعد عدة ساعات لكني لن أتحدث إليه، وعدت إلى مكتبي، وبينما أنا قلقة وأفكر، طرق أحدهم باب مكتبي، نظرت من طرف الباب فإذا هو هيروكي، لم أفتح له الباب، واعتذرت بأني لست قادرة على رؤيته الآن، لكنه أصر على أن يتحدث معي كما لو أنه شعر بما يجول في خاطري، وعلم أني هنا لأخبره بشيء يخصه: ساي، عزيزتي، أنا قلق بشأنك كثيرا، أرجوك لا تتركيني بهذه الحالة، أخبريني ما بك؟ - حسنا، أراك عند الحديقة بعد قليل. - سأنتظرك.
نظرت في المرآة وسألت نفسي، أهو قرار نهائي ساي؟ ثم أجبت نفسي، نعم بالتأكيد، وانطلقت مسرعة إلى الحديقة. هناك حين رآني، رحب بي، نظرت إليه بارتباك وخجل ثم أخذت نفسا عميقا. حاولت أن أزيل حالة الارتباك المسيطرة علي، وعندما شعرت أني مستعدة بدأت حديثي معه وعلى شفتي ابتسامة هادئة: هيروكي، طوال العشر سنوات الماضية كنت قد توهمت أنني قد أقفلت قلبي بشكل محكم، كنت واثقة أنني لن أضعف أمام حب أحد ما. مررت بعشرات المواقف وكنت قوية، صلبة، متماسكة أمام كل ما عرض علي من مشاعر وحب. كنت حازمة، متمكنة من نفسي ومن قلبي، كنت أرفض بسهولة، أرفض كل شيء من غير أن أبذل جهدا، كنت أكمل حياتي من غير أن أذكر أي كلمة قيلت لي، أو نظرة إعجاب وجهت نحوي. لكن منذ سنة وأنا أشعر أنني في ساحة معركة بين قلبي وعقلي، بين مشاعري وأفكاري، بين ماضي وحاضري، بين عهودي وتخيلاتي. عاهدت نفسي ألا أفكر بالارتباط ثانية لكني أتخيل وجودك بجانبي في كل مكان. كل عهودي كانت منحصرة حول أن أنفرد بنفسي وحيدة، لكن مشاعري كلها تدور حولك أنت. كل الصور التي أراها من ماضي تخبرني أنه علي الابتعاد عن تلك المنطقة الخطرة، عن الحب، عن المشاعر الجميلة، لكن حاضري يدفعني لتلك المناطق. أحكم عقلي فأرى أنه من التهور أن أدفع بنفسي إلى تجربة جديدة لا أعلم عاقبتها، لكن يأبى قلبي إلا أن يرمي بي إلى تلك المتاهة، لم أكن أعتقد أنني سأعود مجددا إلى تلك المشاعر. وها هو قلبي يعلن انتصاره، وها أنا اليوم جئت لأخبرك، أني استسلمت تماما.
نظر إلي بهدوء شديد، شعرت أنه يقوم بتخزين الكلمات التي قلتها في قلبه وعقله وذاكرته وروحه، كانت عيناه تلمعان بشدة، رأيت ابتسامة لطيفة ارتسمت على وجهه، كانت ابتسامة امتنان وثقة، ابتسامة مليئة بالحنان، شعرت بدفء شديد، أمسك بيدي وقال: ساي! كنت واثقا أن هذا اليوم سيأتي، منذ اللحظة الأولى التي شعرت فيها بمشاعر خاصة تجاهك، علمت أنك ستكونين نصفي الآخر وكنت متأكدا أنك ستقبلين مشاعري يوما ما وستبادلينني إياها. ساي، شكرا لك.
Bog aan la aqoon
لم أستطع أن أطيل هذا الجو الذي يشعرني بالإحراج كثيرا، أجبته بكل حيوية وثقة: عفوا سيدي، ذلك من دواعي سروري.
فضحك هيروكي وكانت المرة الأولى التي أراه فيها يضحك، كم كان ذلك جميلا! لم نستطع في ذلك اليوم أن نتوقف عن الكلام. كل واحد منا كان يخبئ في قلبه كثيرا من المواقف والكلام والمشاعر التي عاشها طيلة تلك السنوات وحيدا مع نفسه، وكل واحد منا وجد الآن شريكا لحياته، فكما لو أننا نود أن نسابق الزمن؛ لذا راح كل منا يتحدث ويتحدث عن أشياء حدثت في الماضي، أحلام حلم بها وحققها وأخرى لم يحققها، أيام جميلة وأخرى متعبة وحزينة، والكثير الكثير من الكلام. بقيت يدي بين يديه وأنا أحدثه وأسمعه، تكلمت كثيرا، ووددت لو أن تلك الليلة تطول لمائة عام، لكن كان علينا أن نعود إلى منازلنا فغدا لديه عمل منذ الصباح الباكر والكثير من الاجتماعات.
ولكي نقتنع بإيقاف أحاديثنا وافتراقنا لتلك الليلة قلت له: ستكون الأيام كثيرة وسنلتقي، أعدك أني سأكثر من مجيئي إلى المركز، حينها أجابني: لا لن تكثري مجيئك إلى هنا، ولن نلتقي!
هيروكي
عندما كدنا نفترق، أخذت تعدني أنها ستكثر زياراتها إلى المركز وأننا سنجد فرصا أكثر لنلتقي، أجبتها أن ذلك لن يحدث: لا، لن تكثري مجيئك إلى هنا، ولن نلتقي، بل ستقيمين معي، ساي تزوجيني!
انتظرتها أن تجيبني، فلم أسمع صوتها، وتماما كالأفلام التي نراها، وضعت ساي يديها على وجهها وهي سعيدة وصرخت: أأنت جاد هيروكي؟ - كيف لا وأنا قد طلبت ذاك الطلب منذ أكثر من سنة، أجيبيني، أتقبلين بي زوجا؟
أجابتني بصوت يملؤه الحماس والفرحة: نعم أقبل!
لم أتمالك نفسي، أخذتها بين ذراعي، ثم سألتها: ساي! متى نحدد موعد زفافنا؟ - أسنقيم حفل زفاف؟ - طبعا، لكن لن يستغرق الأمر طويلا كي نرتبه، كوني على ثقة من ذلك. - يا إلهي كم هذا محرج!
قالتها وهي تضحك بأعلى صوتها، وتنظر إلي بعينيها الفرحتين، وقلبها المفعم بالحياة. أخيرا عاد صوتها إلى حيويته، وأسلوبها إلى شقاوته، وكلامها إلى طبيعته، حيث إننا تحدثنا كثيرا، وكعادتها كان حديثها ممتعا، كانت تغرقني بالتفاصيل دائما فتجعلني أشعر وكأنني أعيش الحدث نفسه، أخبرتني عن طفولتها وكيف كانت وحيدة لأهلها، لم تستطع أمها الإنجاب بعدها لظروف عدة منها الظروف الصحية، ولكن ساي مع شقاوتها وحسها المرح كانت بمثابة عشرة أطفال لها. حدثتني عن مراهقتها وعن محاولتها الفاشلة للاندماج مع الفتيات في صفها، ضحكت كثيرا فساي التي أعرفها الآن اجتماعية جدا، لم أتوقع أنها في يوم من الأيام عانت من الوحدة. ثم حدثتني عن حياتها الجامعية وكيف أنها من أجمل أيام العمر، من غير قصد مني شعرت بالغيرة، لا شك أنها تعتبرها كذلك لوجود زوجها السابق فيها، كانت تتجنب الإشارة إليه، لا أدري إن كانت لا ترغب بإزعاجي أو لا ترغب بإزعاج نفسها. سألتها: ساي، هل لديك مشكلة بذكر هاك؟ أجابت بالنفي التام لأنها لم تعد تكن له أي مشاعر، حتى مشاعر الغضب منه اختفت من قلبها. ثم سألتها بكل حمق: ساي أجيبيني بصراحة، لو عاد هاك قبل سنة من الآن، هل كنت سترتبطين به مجددا؟
انتظرت إجابتها ولكن من غير رد. لمت نفسي على سؤال لا معنى له في وقت كهذا. لماذا تظهر أغرب أوجهي معها؟! لماذا أفصح عن مخاوفي أمامها؟! لقد دخلت ساي لمكان في قلبي لم يستطع أحد الدخول إليه مطلقا، وكشفت أمورا عن نفسي لم أكن أنا أعرفها. أنا حقا لم أكن أتوقع أن لي ذاك الوجه الغبي الذي يغار من ماضي المرأة التي يحبها، ربما الغيرة ليست غباء. أنا بصفتي بروفيسورا لطالما كررت تلك القاعدة لطلابي حين يستفسرون عن أمر ما مرفقين سؤالهم بجملة «عفوا بروفيسور لدي سؤال غبي.» فأجيبهم: «لا يوجد هناك سؤال غبي.» لكني اليوم تأكدت أنه موجود، فسؤالي ذاك كان من أغبى الأسئلة على مدى التاريخ.
Bog aan la aqoon
هيروكي
ساي، هي تلك الأميرة التي احتلت قلبي وعقلي، ها هي الآن معي وفي بيتي. ليلة زفافنا، كانت ساي مشرقة كوردة براقة، بكل حيويتها بكل نشاطها وبابتسامتها الساحرة. كانت تقفز هنا وهناك، تحيي الجميع وتتكلم مع المدعوين وتراقص الأطفال. عندما انتهى حفل الزفاف وانطلقنا سوية كانت ساي تمشي بخطوات هادئة جدا على عكس ما كانت عليه قبل قليل أثناء الحفل. شعرت بأنها تحاول الآن استيعاب بدئها لمرحلة جديدة في حياتها. كنت أحمل في صدري قلبا يخفق بسرعة لا نهائية. نظرت إليها، بدت مرتبكة بعض الشيء، ليست لأنها محرجة، أستطيع أن أفهم ما تشعر به الآن. ساي ستعيد تجربة الزواج مرة أخرى، هي لم تعد تمتلك تلك الثقة الكاملة بأن من يحبها سيبقى معها للأبد. أما قولي لها: «سأبقى معك وسأحبك للأبد» فلن يطمئنها، حتى لو كانت متأكدة من ذلك، فتجربتها السابقة ستلوح لها. كان علي أن أطمئنها وأعلمها أن مشاعري حقا لن تتغير تجاهها. تأملت ملامحها وهي ساكنة فمن النادر أن تكون كذلك، هي جميلة في كل حالاتها، تحيط بها هالة رائعة من الحيوية والتفاؤل والحب، لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أعبر عما أشعر به، كنت في حاجة لأن أفصح لها عما في قلبي علي أرتاح قليلا فأستطيع بعدها أن أطمئن تلك الحسناء، هي حسناء بأخلاقها، بسلوكها، بضحكتها، بسكونها وجنونها. يشع من وجهها نور لم أره من قبل، أهو صدقها؟ أهو حبها للآخرين؟ أم هي كذلك، خلقت جميلة مهما فعلت؟ ساي هي الآن لي ومعي وفي قلبي وفي روحي. لقد سمحت لقلبي أن يعبر إليها، كم أنا محظوظ بها! مشاعري تفوق الكلام. من أين سأبدأ؟ فجأة نطقت بحروف اسمها بكل حبي وبكل ما أحمل لها من مشاعر: ساي! أنت، كما أنت وكما ستكونين، وكما ستحبين أن تكوني. كما كنت، وكما ستتغيرين، وكما لن تتغيري، سأبقى بجانبك، داعما لك، فخورا بك. سأراك دائما وأبدا أجمل امرأة في الدنيا، أجملهن بروحك، بمشاعرك، أجملهن بملامحك، بطباعك، أجملهن بتفاصيلك، أجملهن حتى بأخطائك. ستغدو أحلامك أحلامي، وستكون كلماتك لحنا لحياتي. إن سئمت من طباعي أعلميني، وإن غضبت من تصرفاتي أخبريني، لكن كوني على يقين أني لا أقصد إزعاجك. إن شعرت بالحزن فشاركيني حملك، وإن أحسست بالملل فعبري عن ذلك. سعادتك هي أغلى ما أتطلع إليه، ابتسامتك لا تجعليها تفارق شفتيك، أما دموعك فلا أريد أن أراها. قوي أنا كنت قبل لقائك، لكن حين رأيتك، ورأيت فيك نصفي الذي لم أكن لأكتمل من غيره، بت أقوى وأجمل، بت أكثر اندفاعا وحماسا وحبا للحياة. أحتاجك، أحتاج وجودك بي ومعي.
كانت عيناها تلمعان بشدة حين كنت أحدثها، ربما لم أقل لها كلاما منمقا ككلام الشعراء، لكنني قلت كلاما رأيته وقع في فؤادها. - هيروكي، لا أحتاج أن تطمئنني، أنا مطمئنة بك، لست بحاجة لأن تبرهن لي عن مقدار حبك؛ فأنا التي حظيت بالرجل الأفضل، بحبه، وقلبه، وقوته، وجماله. أحتاجك، أحتاج أن تمد روحي وتدفعني كي أمضي قدما إلى الأمام وإلى الأمام فقط. لن أخذلك وأعلم أنك لن تخذلني. أنا هادئة اليوم لأني ممتنة، ممتنة لكل شيء ساعدني كي ألتقي بعالمي الذي اختصر لي عالمي. مليئة هي حياتي بوجوه وأحداث كثيرة، لكني ما رأيت لك شبيها في فصول عمري.
ساي
كم كان شعورا غريبا وجميلا، حين سألني هيروكي فيما إذا كنا سنقطن في منزله الخاص الحالي أم أنني أفضل أن يقوم بتغييره أو على الأقل تجديده، أجبته أن لا حاجة بأن يجدد شيئا، فكما اعتقدت ، منزله مصمم ومجهز بأحدث التكنولوجيا، ولم أستغرب حين زرته؛ فهيروكي يحب أن تظهر آثار النعمة عليه، فسياراته من أرقى طراز، واسعة، وأنيقة، ومجهزة بأحدث ما توصل له العلم ومتناسبة مع شكله ومظهره ومكانته في المجتمع. مكتبه والمركز الذي أسسه على النحو ذاته. حين حضرت للمرة الأولى من أجل مقابلة العمل معه، أذكر أني دهشت من رفاهية المكان وبالذات مكتبه الخاص. أنا لم أجلس في مكتب فاخر كهذا، ذي إطلالة متميزة كتلك التي رأيتها. حتى هو عندما رأيته لم أخمن أنه في الخمسين من عمره، بل في منتصف الأربعينات، ربما لأنه اعتاد على ترفيه نفسه ولأنه أيضا يفصل بين ضغوط عمله وحياته الخاصة، وضغوط حياته الخاصة عن مزاجه الشخصي. فتراه هادئا دائما، متفائلا ذا صدر رحب ومزاج جيد.
في الفترة الأولى بعد زواجنا وحين كنا نتنقل معا في البلدة، كان هيروكي يتقصد أن يمر على كافة الأماكن وأن يرانا جميع معارفه. يلقي السلام عليهم ويخبرهم قبل أن يسألوه «أعرفكم، الدكتورة ساي، زوجتي.» فيباركون لنا ويهنئونه. أما أنا فكنت أتأمله، كان سعيدا وفخورا بي جدا، شعرت بفرحته وكأن قلبه يتراقص، يمسك يدي بحنان ويقبض عليها برفق شديد، لاحظت أنه لم يكن يتركها أبدا ولا حتى ثانية واحدة، هو يشعر بقبضته وليس كما لو أنه ينساها، كانت مشاعره تصلني بكل تفاصيلها. أما حين يود الحديث معي يضمني إليه لأقترب منه أكثر ويحدثني بصوته الهادئ وبنبرته الجدية الساحرة. أجمل ما في هيروكي هو أنه لا يبدي استغرابه من تصرفاتي، لا يبدي لي أنه يرى شيئا غريبا ويتقبله لأنه يحبني. من غير شعور مني كنت أقارن ردة فعل هاك في كل مرة كنت أتصرف فيها بطياشة أو بحماس مبالغ به أو بعفوية غريبة، كان هاك يظهر تعابير بأنه مستغرب مما أفعله ومن ثم يبتسم، كمن يقول للآخر، تبدين غريبة لكني أحبك فلذا سأتقبل تلك الغرابة. ليس من حقي أن أقارن لكن عقلي الباطني كان يفعل ذلك رغما عني. لم ينظر لي هيروكي أبدا تلك النظرات ، بل على العكس، كان إن جلست هادئة قليلا يسألني فيما إذا كنت متعبة أو متضايقة من أمر ما. على أي حال، بعض الناس لا يستطيعون استيعاب كم هو متعب أن يكون الشخص متحمسا طيلة الوقت، لا يدركون كم هو مرهق وخارج عن نطاق الإرادة، أن تفرض عليك شخصيتك أن تكون مبتسما ومرحا أغلب الوقت، أن تظهر بمظهر الغبي بسبب أمر اندفعت إليه في لحظة حماس، ثم تشعر أنه لم يكن يستحق كل هذا الاندفاع، فتخمد وتكمد فجأة وتعاني من تغيرات دائمة في مزاجك. استطاع هيروكي أن يحتوي حماسي واندفاعي بحنان ورفق، لم يشعرني يوما أني أبدو غبية أو كلامي مبالغ فيه أو حماسي لا مبرر له.
أحد الأمور الأخرى التي لم أستطع إلا أن أقارنها أيضا هي كيف يكون الزواج في عمر الشباب مختلفا عن الزواج في عمر الأربعين والخمسين. فنحن كلانا الآن مستقران، بنينا ما بنيناه والآن لم نعد بحاجة لبذل مجهود إضافي لأقساط منزل أو دراسة مكثفة في مجال العمل أو التفكير من أين سأحصل على كذا؟ ومتى سأفعل كذا؟ فنحن وإن كنا مشغولين تماما في العمل لكن لدينا تحكم كامل بوقتنا ونستطيع في أي لحظة أن نأخذ إجازة أو نخفف وتيرة العمل. فأنا قد قمت بنقل عيادتي إلى البلدة التي نسكن فيها أنا وهيروكي، وسأتابع عملي فيها وفي المركز، لكن كل هذا من غير ضغوط متعبة أو مرهقة.
هيروكي
لم تعد الحياة كما كانت من ذي قبل، لم تعد الأيام تتكرر بتلك الرتابة السابقة. ساي هنا، تملؤني وتملأ عمري بكل ما هو جميل، جديد، ومتميز. حتى منزلي ملأته بتفاصيل كثيرة لم أكن أتخيل وجودها. مرت سنة ونصف ليست كالعسل بل هي أحلى، أستيقظ صباحا على صوتها العذب. كالوردة حسنائي، تزهر كل يوم بلون جديد. لكن الحياة ليست بوتيرة واحدة، ودوام الحال من المحال، أتى ذاك الأسبوع الغريب، حيث كانت ساي على غير عادتها، شاردة الذهن، كثيرة التفكير، قليلة الكلام، كما أنها لم تكن تضحك أبدا. لم أفهم ما الذي يساور ذهنها، لكنني لم أشأ أن أبدي استغرابي من ذلك. فضلت أن أتركها تعيش تفاصيل التغيرات النفسية التي تطرأ على أي امرأة، فأنا أعلم أن النساء لا يعشن حالتهن المزاجية بتواتر متساو، بل تتغير بشكل دائم، لكنني قلقت بعض الشيء عليها ولم أشأ أن أسألها الكثير من الأسئلة، عبرت قليلا عن ذلك ووجدتها لم تتجاوب معي، فقررت أن أعاود سؤالها مجددا عما يشغل بالها بعد يومين إن لم تتحسن حالتها المزاجية.
لكن قبل مضي هذين اليومين، تلقيت اتصالا بعد مغادرة ساي من المنزل إلى عيادتها، كانت المتصلة تتحدث بصوت خافت وبسرعة، لم أفهم منها إلا أن هاك قد عاود الاتصال مع ساي في الفترات الأخيرة! لم تشرح تلك المتصلة أكثر ولم أسألها، ولا حتى للحظة، لم يراودني شعور الشك بساي إطلاقا، لكن استطعت أن أفسر قلقها خلال الأيام الفائتة.
Bog aan la aqoon
لا أعلم ما هي التفاصيل، ولست متأكدا أساسا من أن المتصلة صادقة أم لا، كما لم أبد للمتصلة أي اهتمام بما تقوله كي لا أجعلها تصل لما ترومه إن كانت تود العبث معنا فحسب. لكن تلك المرأة لم تتركني وشأني، بل أرسلت لي توقيت المواعيد التي التقت بها ساي مع هاك، إنها مصرة لسبب أو لآخر أن تزعجني، من هي تلك المرأة؟ وماذا تريد؟ والأهم من ذلك! ماذا يريد هاك؟ وما بال ساي؟ ولم لم تخبرني بشيء؟ لا أعلم الكثير عن هذه الأمور، ولا أعلم كيف علي أن أسألها، ما الذي يجري؟ فكرت كثيرا ووضعت كافة الاحتمالات بدءا من كونهما يتحدثان بشأن يخص عملهما الطبي، انتهاء بفكرة عودتهما لبعضهما وإدراك ساي بأنها تود ذلك فعلا! هل تسرعت ساي بالارتباط بي؟ أنا حقا لا أعلم، لكن ما أعلمه أن كل تلك الاحتمالات ضدي، ودليل ذلك مزاج ساي وتغيرها عني في الأيام الفائتة. قررت أني لن أقحم نفسي بدوامة الاستجواب والأسئلة والتخوين، أود أن أريح تفكيرها وأغيب بعض الوقت عن ناظرها، أما هي فعليها أن تتخذ قرارها من جديد. إلى الآن لست أعلم ما الأمر، لكنني مضطر للسفر إلى السويد بسبب انعقاد مؤتمر هام؛ لذا فهي فرصة جيدة لتعيد حساباتها. سوف أسافر وأطيل مقامي هناك إن لزم الأمر إلى ما بعد المؤتمر علها تخبرني بما يجول في خاطرها، وإن لم تفعل، فسوف أصارحها وأنا بعيد عنها وأسألها. هذا كثير علي، لا أستطيع أن أتخلى عنها وهي أمامي! لا أعلم، لا أود أن أحرجها، كما لا أود أن أجرحها! لذا فسأطعن قلبي، لا خيار آخر لدي!
أتى موعد السفر وما زالت ساي مهمومة وعلى غير عادتها، كنت أتأملها بحزن شديد وهي تحكم لي ربطة عنقي، وربما للمرة الأخيرة: هيروكي هل من خطب؟ - أترينني نسيت شيئا؟ - كن مطمئنا، لم تنس شيئا فقد حزمت حقيبتك بنفسي ووضعت لك كل ما تحتاجه. - نعم، معك حق!
أخبرتني أن أكون مطمئنا، ولم تعلم أنني بعد قليل سأترك قلبي معها وأغادر.
ساي
فاجأتني الممرضة حين أخبرتني أن هاك في غرفة الانتظار وحان دوره. تفهمت تماما حالة هاك، لم أكن أود أن أعطيه المزيد من الوقت أو التفكير، أمره لم يعد من شأني، جملتان أراد أن يقولهما وسمعتهما وانتهى الأمر، أدرك هاك أن رسالته قد وصلت ولم يتصل بي ثانية، لا أنكر اعتصار قلبي ألما عليه حين رأيته، ولكن الدروب لم تعد تجمعنا وليس في يدي حيلة. بقيت لعدة أيام شاردة البال أفكر في هاك، أظن أنني كنت كئيبة بعض الشيء، لاحظ هيروكي ذلك لكنني لم أود أن أشرح الموضوع لأنه غير مهم. حقا لا أريد أن أتحدث عن شيء، أحتاج لبعض الصمت في هذه الأيام.
بعد عدة أيام أخبرني هيروكي أنه سيسافر لحضور مؤتمر في السويد، فأعددت له حقيبة سفره، وحين ودعني بدا عليه الشحوب كثيرا، قلقت جدا، هل هيروكي مريض؟ هل يخفي عني شيئا؟ سألته، فأكد لي أنه بخير، إنما هو انشغال باله بشكل عام. ما أعلمني به في بادئ الأمر أنه سيغيب عشرة أيام فحسب، مر أسبوعان، وما زال هيروكي غائبا ولم يأت بعد، أخبرني أن دورة تدريبية جديدة سيتم افتتاحها وأن إقامته ستطول أسبوعا آخر، لم أعد أشعر بالراحة في المنزل وحيدة من غير هيروكي، أشعر بغربتي في كل مكان، فمنذ أكثر من سنة وأنا أصحو على صوت منبه ذاك العالم النشيط. هو يستيقظ باكرا منذ الساعة الخامسة صباحا، يتسلل من سريره كي يقرأ رسائله الإلكترونية، وبعد ساعة يوقظني بلطف وحنان. لا أدفأ من يوم يبدأ باحتساء قهوة أعدها هيروكي، وبقرب هيروكي، ومع تبادل الحديث مع هيروكي. منذ أن تزوجنا وهو يعاملني كأميرة، لقد ازداد تعلقي به، أحببته أكثر فأكثر. أستطيع بسهولة أن أرى كم هو ممتن لكل ما أقوله، لكل ما أفعله، أو حتى لكل ما لا أفعله، هو راض دائما فحسب. ذاك الرضا والامتنان يدفعانني دوما لإعطاء المزيد له، من الحب والمشاعر والاهتمام. أحاول أن أحيطه بكل ما هو جميل بكل ما أملك من طاقة. أشعر بسعادة غامرة حين أرى أن راحته فقط أن يستند على كتفي وأضمه بين ذراعي.
حين طال غيابه كثيرا اتصلت به وأخبرته أنني سأسافر لبضعة أيام إلى مدينتي، علني أخفف من وطأة وحدتي، وحدتي التي كنت قد اعتدت عليها لسنين طويلة، الآن لم أعد أستطيع تحملها حتى لأسابيع! كم يتغير الإنسان بسرعة! ما زاد الأمر سوءا هو أنني بقيت أفكر في حالة هاك، وجودي لوحدي أعاد لي ذكرياتي السابقة مع هاك. أعاد لي كل الأيام الماضية بحلوها ومرها، لم تكن قصتنا بتلك البساطة، لتنتهي من روحي ببساطة!
الفصل الثالث
فصول لا تنسى
هاك 1994
Bog aan la aqoon