وهكذا انقطعت حياتي الدراسية بعد أن قضيت نيفا وشهرين بكلية الحقوق، بيد أنني لم أجد السرور الذي كنت أحلم به. أجل لم أفكر لحظة واحدة في الرجوع إلى تجربة الدراسة القاسية، إلا أنني وجدت نفسي بحاجة شديدة إلى انتحال الأعذار الكاذبة عن انقطاعي عن العلم وفراري من معاهده، وتصوير نفسي في صورة الضحية البريئة. ومع أن محاولتي تلك نجحت لحد ما مع الآخرين أو على الأقل مع أمي الصديقة لي بالحق أو الباطل، إلا أنها لم تنفع معي إلا قليلا. ملأني السخط والتبرم، وثار بي نزوع نحو تأديب النفس ومعاقبتها! واتخذ ذلك النزوع صورة حملة هجائية على نفسي، فواجهت نقائصي في تسليم واعتراف لأول مرة.
رأيت حياتي كما هي أحلاما شاردة سخيفة، وخجلا وخوفا يميتان الهمم، وأنانية مطلقة قضت علي بعزلة لا يؤنسها صديق أو رفيق، وجهلا بالدنيا وما فيها، فلا زمان ولا مكان، ولا سياسة ولا رياضة، حتى المدينة الكبيرة التي ولدت وعشت فيها لا أعرف منها إلا شارعين، وكأنني أعيش في حجرة بمفازة! وغشيتني كآبة ثقيلة فاجتررت أحزاني في وحدة قلبية مهلكة. ولكن أمي لم تفارقني لحظة واحدة في تلك الأيام السود، ولم تطق الوقوف مني موقف المعارضة طويلا، فسرعان ما تحولت من جانب المعارضة إلى جانب التأييد، وتظاهرت بالسرور والارتياح، وقالت لي يوما لتسري عني: الخير فيما اختار الله، وهل نملك لأنفسنا شيئا؟! وعما قليل تصبح رجلا مسئولا، ويجيء دورك في تدليل أمك لتقضي بعض ما عليك من دين!
وقضينا الساعات الطوال معا، وأنا آنس بحديثها الطيب الشافي، وبفضلها وحدها انكشفت عني الغمة وتفتح قلبي للحياة ونفض عن جوهره غبار الوساوس.
18
واستشفع جدي بضابط عظيم من رجالات الجيش «ممن عمل ملازما صغيرا تحت رئاسته في السودان» على حد قوله، ليجد لي وظيفة بوزارة الحربية، وكلل مسعاه بالتوفيق؛ ولكن الضابط أخبره بأنني ربما عينت في السلوم! ولما قال جدي ذلك تجهم وجه أمي وقالت باستنكار: السلوم؟! ألا ترى أن كامل لا يستطيع العيش بمفرده؟!
وكانت تظن السلوم بلدا قريبا كالزقازيق أو طنطا على الأكثر، فلما عرفت حقيقتها ندت عنها ضحكة عصبية وعدت الأمر مزاحا. وصاح جدي متبرما: وظفيه بنفسك، أو عينيه في حضنك وأريحيني!
ولكنه لم يأل جهدا، فسعى لدى معارفه القدماء من مواليد القرن التاسع عشر ممن عملوا قديما تحت قيادته، ولعلهم تأثروا بشيخوخته الثمانينية ونشاطه الموفور .. وما أيقظ في صدورهم من ذكريات فوعدوه خيرا، ووجدوا لي بالفعل وظيفة بإدارة المخازن بديوان الوزارة العام. ولم يكن يفصل بين الوزارة وبين بيتنا إلا ثلاث محطات وعشر دقائق مشيا على الأقدام، فرضيت أمي وقرت عينا، وقدمت مسوغات التعيين وتقدمت للقومسيون الطبي العام كالمتبع، وبالاختصار صرت موظفا من موظفي الدولة. وكان الشعور الذي لابسني وأنا أغادر البيت ميمما الوزارة لأول مرة - شعورا معقدا، فيه زهو وخيلاء، وفيه فرح بالتحرر من عبودية البيت والمدرسة على السواء، ولا يخلو من قلق يساورني كلما أقبلت على جديد من الأمر. ومضيت بقلب خافق إلى محطة «محبوبتي»؛ لأن طريقنا أصبح واحدا منذ ذلك اليوم السعيد ولو لمحطات معدودات، ولئن لم يكن في الوظيفة إلا هذا لكان حسبي من الهناء والسرور، واحتطت بقلبي الضعيف، فوقفت في الطرف البعيد من «الطوار» حتى لا يصعقني وجودي على كثب منها. وجاءت بعد حين قليل تتهادى في مشيتها التي تجمع بين النشاط والوقار، فاستقبلها قلبي بخفقان كزغردة اللسان، ولبثت غاضا بصري ولكن في نشوة جعلت الدنيا من حولي أطيافا وترنيمات. وجاء الترام فركبنا معا، وكانت أول مرة يجمعنا مكان واحد؛ فسرى من ملمسه إلى جسدي مثل الكهرباء، ووددت لو ينطلق بنا بغير توقف .. وإلى الأبد. وحين غادرت الترام عبرت الطريق متعجلا إلى الطوار وأرسلت بناظري إلى مقصورة السيدات فوقعتا على ظهرها وهي جالسة عاكفة على كتاب بين يديها. ولما تحرك الترام التفتت فجأة إلى الوراء فوقع بصرها علي، ثم ولتني ظهرها ثانية. انتفضت من الرأس إلى القدم، وتسمرت قدماي في الأرض، وعلقت عيناي بالترام حتى لم أعد أتبين من معالمه شيئا، ثم واصلت السير غائبا عما حولي، سكران بالنظرة التي جادت بها السماء، وتساءلت في ذهول ودهشة: لماذا التفتت؟ أي داع دعاها إلى ذلك؟ بل أي داع يمكن أن يكون هذا إذا لم يكن تلبية لنداء روحي الخفي؟ إن الراديو يلتقط الصوت من تضاعيف الهواء على بعد الشقة، فما وجه الاستحالة في أن تلبي الروح نداء روح أخرى مشحونة بالهيام والرغبة؟! وازدهاني ذاك الخاطر وآمنت في سعادة لا توصف بأن لروحي تأثيرا على روحها. ولكن رحمتك اللهم، فلشد ما ارتجفت تحت وقع النظرة الخاطفة! ترى هل أنكرت وجهي أم ذكرت به الفتى الذي تطلع إليها لحظة على المحطة منذ ثلاثة أشهر؟! وكنت قد اقتربت من الوزارة فعاودتني اليقظة رويدا، وقلت لنفسي وكأني أودع ساعة النشوة المولية: «إني أحبها، وهذا هو الحب بلا زيادة ولا نقصان.»
وخرجت من دنيا الهيام لأدخل دنيا الحكومة، وقدمت نفسي للمدير فقدمني بدوره إلى زملائي في الإدارة وكانوا تسعة. هؤلاء قلة بالقياس إلى الطلبة، وإنهم لرجال حقا، فلا يمكن أن أتوقع منهم زراية أو سخرية، ورجوت من صميم قلبي أن أبدأ حياة جديدة غنية، ولما لم يعهد إلي بعمل ذلك اليوم وجدت فسحة لمعاودة خواطري السعيدة عن الحرية التي أمني النفس بها، والتي أرجو بها أن أستنقذ نفسي من سجن البيت وعبودية المدرسة، ثم عن النظرة السعيدة التي انتزعها روحي من الأعماق قوة واقتدارا. •••
وأقبلت على الحياة الجديدة بأمل جذاب، وظفرت بأول نوع من الصداقة عرفته في حياتي، وهو ما يسمونه بصداقة «المكاتب» هي صداقة جبرية تفرضها زمالة الموظفين في المكتب الواحد، وقد فرحت بها بادئ الأمر لأنه لم يسعني - أنا الذي لم أعرف في حياتي صديقا - إلا أن أفرح بين تسعة من الرجال ينادونني بلا كلفة، ويستقبلونني ويودعونني بأطيب تحية. ولكن وا أسفاه قام خجلي حاجزا منيعا بيني وبينهم. ثم أثبتت لي التجربة أن تلك صداقة لا تستحق الأسف عليها؛ فهي تبدأ مع الصباح بالتحية والمداعبة، وقد تنقلب عند الظهيرة إلى وقيعة دنيئة تختم بإنذار أو عقاب . والأدهى من ذلك أنني لم أعرف لي عملا مستقلا، ولكن ما من واحد منهم إلا ويكلفني بعمل آلي أنفذه صاغرا. وربما قضوا أكثر النهار في ثرثرة وتدخين وشرب القهوة، وأنا مكب على الأوراق في شبه سخرة. ولا شك أنهم فطنوا بمكرهم إلى أني «غر خجول»، فاستغلوا ضعفي أسوأ استغلال. وضاق صدري، وخبا سروري بالحياة الجديدة في الشهر الأول منها، وأيقنت أني المستجير من الرمضاء بالنار! زاد من سوء حالي أن الشرود لم ينقطع عني أثناء عملي فوقعت مرارا وتكرارا في أخطاء السهو، وتوالت علي الانتقادات الساخرة والإنذارات ممن يدعونهم ب «رؤساء اليد»، فكأنني رددت إلى المدرسة بتلاميذها ومدرسيها؛ فعاودتني مرارة حياتي الماضية، وصح عندي أني لن أظفر براحة حقيقية ما دمت على صلة بأحد من الناس! واجتررت آلامي في خفاء. ولم أكن أثور على شيء قط مما يشقيني، وكان ديدني دائما أن أطيع بقلب دام كظيم، وسخط مكتوم. وزاد البلاء حدة أنني لم أجد لحياتي متحولا، ولا أملا في الخلاص ولو بعد حين. وقد كنت أتجلد في المدرسة أحيانا على أمل أنها ستنتهي يوما فأصير رجلا حرا مسئولا، أما الآن فلم أر أمامي إلا مستقبلا متجهما مريرا لا نجاة منه إلا الموت. أجل أدركت أني لن أظفر بالراحة مدى الحياة، وأنه لن تزايلني الرغبة الخفية في الهرب؛ ولكن إلى أين هذه المرة؟ ولم يكن سر بلوتي في عجزي حيال العقبات فحسب، ولكن في تضخيمها وتكبيرها، فإني نصبت من عقلي حرب أعصاب هائلة ضد نفسي .. لم أرض نفسي على الحياة في الواقع، ولم أوطنها على احتماله، فلم أدر ما فلسفة الرضا أو الاستهانة، كما أني لم أقدر على فلسفة القوة أو الثورة، وكان إذا صادفني أمر لا يحتمل - والدنيا كلها عندي لا تحتمل - راح خيالي السقيم يصنع من الحبة قبة، ولاقيت الهم بما يشبه الصبر في الظاهر على حين أنطوي على نفسي في كمد قاتل وغم فتاك. لذلك لم يخل مكان أحل فيه من عدو حقيقي أو وهمي. كان التلاميذ والمدرسون أعدائي القدماء، فغدا الموظفون أعدائي الجدد. •••
ولكن كنت أنت العزاء والسرور! الحياة صحراء قاحلة مهلكة، وأنت بها وحدك الواحة الخضراء الرطيبة تلوذ بها النفس. ووالله ما حمدت للوظيفة من شيء إلا أن نقلني طريقها إلى محطتك، فعندها أنتظر كل صباح مطلعك حتى إذا رأيتك مقبلة في خفة الغزال ووقار الطاووس تراجعت إلى طرفها البعيد فيما يشبه الذعر، ودعوت الله أن يخفف عني شدة الخفقان، ثم أسترق إليك اللحظ متحاميا أن تلتقي العين بالعين، فالتقاؤهما جلل لا يصمد له إلا الأكفاء. وإذا جاء الترام ركبنا معا ولا تدرين سروري به إذ يحملنا معا، ثم أغادره فيسير بك إلى هدفه المجهول مزودة بدعائي أن يصونك المولى ويسعدك، وتبقى لي بعد ذلك صورتك عالقة بخيالي تذر علي الأنس في وحشة سجني الجديد. ولكن إلام أظل على تلك الحال؟ لقد صفق الجزع بقلبي، وأمضني الانتظار.
Bog aan la aqoon