94

فنسي همام ما كانا فيه ولم يذكر إلا نوادر أمين في الخوف من ركوب الترام والنزول منه وهو سائر، فليس أظرف من سهواته المحفوظة إلا نوادره في خوف الترام والمركبات والزوارق وكل ما يسير ويخشى من سيره الهلاك، فقد ولع به أصحابه من جراء ذلك وتعقبوه بالمناوأة والمحاورة عسى أن يقلع عن خوفه فما أقلع ... وآخر نوادره في هذا الباب كان في خلال ذلك الأسبوع، وكان هو وأصحابه يغادرون حديقة الحيوان وهم يوهمونه أنهم سيركبون الترام الذي يهم بالمسير، ويتباطئون لقلة اكتراثهم أن يركبوه وهو سائر، فأسرع قبلهم ليدركه قبل أن يتحرك، فتركوه ووقفوا ينظرون إليه وينظر إليهم وهو لا يجسر على النزول!

وأبى أمين أن يقنع بهذا في أضاحيك يوم، فزاد عليه أضحوكة أخرى من سهواته وبدواته: مضى مع الترام إلى آخر الخط ثم قضى في البحث عن أصحابه بقية الظهيرة، وقد كان في وسعه أن ينزل في المحطة التالية ويركب معهم القطار الذي ركبوه ... ولكن الرجل سخي بسهواته ومخاوفه لا ينفق منها بحساب!

ذكر همام هذا حين رأى المعجزة التي ما رآها قط ولا توقعها ... وعلم أن أمرا خطيرا لا بد قد جرى في الدنيا وقفز بأمين تلك القفزة النادرة، بل تلك القفزة المقطوعة النظير! ولا شك أن الضحك الذي سرى تلك الساعة إلى خاطر همام قد كان بطانة ناعمة وثيرة نسجتها المقادير ليتلقى عليها الخبر المشئوم الميمون، المترقب بنافد الصبر ونافد الحيلة منذ شهور، وقد كان له شأن أي شأن في تهوين المسألة كلها وتلطيفها وإفراغها في مرحلتها الأخيرة في قالب السخر والفكاهة.

فلما جلس أمين إلى جانب همام لم ينتظر سؤالا ولم يأبه للضحك الذي كان يلوح على عيني همام، وقال في رصانة وتؤدة: انتهت مهمتي.

قال همام: لا ريب في ذلك، فإن قفزتك وحدها لدليل أقوى من كل دليل، فأوجز يا صاح، أوجز ولا ضرورة للتفصيل.

قال أمين: الآن هي في مخدع مريب في بيت قريب، تبعتها إليه وعرفته وعرفت اسم صاحبه الذي يستأجره، وعرفت أنها تغشاه من حين إلى حين.

فلم يزد همام على أن أغمض عينيه هنيهة، أغمضهما كأنه يتحاشى النظر إلى سبة شائنة، أو كأنه يتهيأ للراحة بعد سهاد طويل في ارتقاب خبر مكتوم مضنون به عليه، ثم أسرع فصافح أمينا وهز يده هزة الشكر والرضى والابتهاج، وقال له: صدقت، صدقت، لقد انتهت المهمة، فهلم نحتفل بتشييعها!

ونشط كلاهما نشاطا لم يدريا ماذا يصنعان به وكيف يجريانه في مجراه، فانطلقا إلى أطراف المدينة يمشيان بل يغذان السير على غير هدى، وطفقا يطوفان ويعودان إلى حيث كانا حتى صادفا اثنين من أصحابهما الأدباء يلتمسان السهر ولا يتفقان على مكان، فانساقوا جميعا إلى ناد متطرف على هامش الصحراء، وكانت الليلة مقمرة والجو رائقا والسيارات ذاهبة آيبة في خفة وطرب واشتياق.

ويتم التوفيق فيكون أحد الأديبين صاحبنا الذي كان أمين يختلق له الأسئلة في التليفون، ويتم التوفيق مرة أخرى فيجري الحديث في الأدب وفي النثر البليغ وفي صهاريج اللؤلؤ ... أي نعم، في صهاريج اللؤلؤ بعينها، ويقول صاحبنا: لقد قرأته مرتين، ويوشك أمين وهمام أن يسألا: أكان ذلك بعد نصيحة التليفون؟ ولكنهما يكتفيان بالإيماء ويحبسان الضحك، ويضيفانه إلى حساب السرور الخفي الذي يحتويانه منفردين.

فيم كان ذلك السرور؟

Bog aan la aqoon