في هذه الفترة عاد «أمين» إلى القاهرة في إجازة طويلة، ورأى من الأمسية الأولى التي قضاها مع همام أين تقف الأمور كما يقول، بغير حاجة إلى إفاضة شرح وإطالة سؤال.
الحقيقة غير معروفة، والسلوى غير ميسورة، والوقت ثقيل كسيح لا يخف ولا يتحرك! وكل وسيلة يقطعانه بها لا تلبث أن تمسه قليلا حتى تتثلم وتكل وترتد عن صفحته الكثيفة وجلده الصفيق؛ فالقراءة لا تنفع واللعب لا يمنع الذهن أن يشرد ويتيه، والسماع لا يطاق، والرياضة مطلوبة مستحبة على أن تكون في غير الأماكن التي كان يطرقها همام وسارة، وهل من مكان لم يطرقاه؟
وكثر التحدث عن الجنون والمجانين وبوادر الهوى التي تصيب العقلاء من حيث لا يعلمون ولا يعلم أصحابهم المقربون، فكان همام يقول: ما أحسب إلا أنني سأكون بين الناس في بعض الأيام فأخلط بالحديث عن سارة وظنون سارة، ثم يسأل أمينا: ترى كيف تقع هذه المفاجأة في فلان وفلان؟ وكيف يكون هذا الخلط لو كان؟
ثم يأخذان في التمثيل والمحاكاة كأنهما يتلهيان ويتفكهان، وإنهما لفي مرارة سقيمة تفسد جميع الطعوم!
هذا أو يعمد أمين إلى فنون من الألاعيب الصبيانية ينفي بها الملل ويموه بها الكآبة، فيدق التليفون ويجيبه الرجل المقصود أو غير المقصود، فيجري بينهما حديث كهذا الحديث: هل أنت فلان؟ - نعم، أنا هو. - أواثق أنت مما تقول؟ - عجبا، ما معنى هذا السؤال؟ - عفوا يا سيدي عفوا ... إنما أردت أن أتحقق من صواب عاملات التليفون، فهل عندك الرقم المطلوب بعينه؟ - نعم يا سيدي، هل من خدمة؟ - بل سؤال صغير إن سمحت! - تفضل. - أرجو أن تجيبني ولا تستغرب، هل قرأت صهاريج اللؤلؤ؟ - صهاريج اللؤلؤ؟ ما هذا؟ - أي نعم، صهاريج اللؤلؤ للسيد توفيق البكري، ظننتك قد سمعت به ... أما سمعت به؟ أما قرأته؟ - بلى، قرأته، فما هذه الأسئلة العجيبة؟ - إذن، تقرءه مرة ثانية!
ثم يلقي السماعة، ويمضي في تخيل فلان هذا وهو يغضب ويصخب، وينعي على مصر والمصريين هذه الفصول التي لا تحدث في باريس ولا لندن ولا برلين!
صبيانيات من هذا القبيل تشغل الوقت، ويندر جدا أن تغصب هماما على ضحكة أو ابتسامة، إلى أن كانت ليلة من هذه الليالي المتشابهات طال فيها السأم ونزر فيها الكلام ورانت فيها الكآبة، فقال أمين: ما الرأي في استئناف الرقابة؟
ولعله قالها لفتح باب من أبواب السمر، أو لعله قالها لدفع السآمة، أو لعله قالها شوقا إلى إتمام عمل بدأ فيه وكبر عليه أن يتركه بغير نتيجة ... إلا أن هماما رحب باقتراحه وحاول أن يجد في معارضته كي يمهد لأمين طريق التراجع إن كان قد تعجل أو بدر منه ذلك الاقتراح تزجية للوقت وجذبا لأطراف الحديث، فلم تسعفه أسباب المعارضة ولم يسعه إلا الموافقة، وهو لا يدري من فائدة لاستئناف الرقابة إلا أنه عمل لن يزيده تعبا على تعبه، وقد يريح.
وبدأت الرقابة بكرة وقد تدرب عليها أمين من جهة، وتهيأت دواعيها من جهة أخرى، وعاونتها المصادفات من جهة ثالثة فنجحت بعد محاولة طويلة نجاحا كان جديرا بعناء المحاولة؛ لأنه أراح هماما وأراح أمينا وصوب الضربة إلى رأس الأوهام واللواعج والمعاذير فقضى عليها.
عاد أمين من رحلته ذات يوم متهللا مسرعا يتكلف الحزن والأسف تكلف الناعي الذي ينقل أخبار الوفاة إلى وارث مدين يتنازعه الحزن والسرور.
Bog aan la aqoon