ولما احتملوه في المركبة إلى المستشفى جعل يحملق وعيناه مفتوحتان كل الفتح محاولا أن يأخذ كل شيء بنظرة وأسف، لأنه لا يستطيع أن يثبت في ذاكرته كل دقيق وجليل في هذه الدنيا بسمائها اللانهائية وأناسيها وخضرتها وآفاقها القصية الزرقاء، وصار كل ما لم يكن قد فطن إليه حبيبا إلى نفسه عزيزا عليها ككل ما كان يجده حافلا بالجمال والخطر الجليل، لا بل أحب من أن يناله وصف وأقوم من أن يفي ببيانه تعبير؛ فمن السماء القائمة المترامية ونجومها الوهاجة إلى ظهر السائق الهزيل، ومن وجه نوفيكوف المكتئب إلى الطريق الترب، ومن المنازل ونوافذها المضيئة إلى الأشجار الجهمة التي ظلت مكانها وراءهم في صمت. ومن العجلات المضطربة إلى نسيم العشي اللين، كل أولئك رآه وسمعه وأحسه.
ولما صار في المستشفى دارت عيناه بسرعة في الغرفة الكبيرة ورصدتا كل حركة وشخص حتى صرفهما الألم الجثماني الذي أشعره العزلة المطلقة عما حوله. وانحصرت مداركه في صدر منبع كل آلامه، ثم أخذ في بطء شديد يفارق الحياة وصار إذا رأى شيئا يستغربه ولا يرى فيه معنى، فقد بدأ الصراع الحاسم بين الحياة والموت واكتظ به كل كيانه وخلق له عالما جديدا غريبا موحشا، عالما من الفزع والألم والصراع اليائس.
وكانت تعاوده من حين إلى حين لحظات انتباه وإفاقة فينقطع الألم ويهدأ ويعمق تنفسه وتستبين الشخوص والأصوات من خلال النقاب الأبيض. غير أن كل شيء كان ضعيفا وباطلا كأنه آت من مكانه سحيق. وكان يسمع الأصوات واضحة ثم لا يتبينها أما الأشخاص فلم يكن لحركاتها صوت كأنها أشباح الصور المتحركة وأنكر الوجوه التي كان يعرفها ولم يستطع أن يذكرها.
وكان على السرير المجاور له رجل له وجه حليق غريب يقرأ شيئا ويرفع الصوت به. لماذا يقرأ؟ ولمن يقرأ؟ لم يعن سمينوف بالتفكير في هذا. وسمع بأجلى وضوح أن الانتخابات البرلمانية أرجئت وأن بعضهم حاول أن يقتل غراندوقا، ولكن الألفاظ كانت فارغة لا معنى لها كأنها الفقاقيع انفرجت وزالت ولم تخلف وراءها أثرا.
وتحركت شفتا الرجل والتمعت أسنانه ودارت عيناه وخشخشت الورقة وأضاء المصباح المدلى من السقف ودارت حوله فراشات كبيرة سوداء فظيعة المنظر. وكأنما اشتعل في ذهن سمينوف لهيب فأنار كل ما يحيط به، وأحس فجأة أنه لا يعنيه شيء، وأن كل ما في الدنيا من قوة لا يستطيع أن يطيل حياته ساعة واحدة، وأنه لا بد أن يموت. فهوى مرة أخرى في أمواج الضباب الحالك وعاد الصراع الصامت بين قوتين هائلتين خفيفتين تحاول إحداهما بأقصى ما أوتيت من العنف أن تقضي على الأخرى .
وكانت إفاقة سمينوف للمرة الثانية لما سمع البكاء والترتيل فلم ير وجه الحاجة إلى هذا إذ كان لا صلة له بما هو جار في جوفه، على أن ذلك أضاء ذهنه لحظه فرأى بوضوح وجه رجل مزيف الكآبة لا يعنيه من أمره شيء على الإطلاق، وكانت هذه آخر دلائل الحياة.
أما ما تلا ذلك فيتجاوز مدى الفكر والإدراك.
الفصل الثاني عشر
قال إيفانوف لسانين: «تعال عندي نحيي ذكرى الفقيد.»
فهز سانين رأسه دلالة على الموافقة واشتريا في طريقهما شيئا من الفودكا والخضر وأدركا يوري وكان يتمشى مستمهلا في الميدان وعلى وجهه كآبة شديدة.
Bog aan la aqoon