واسترد ما حوله من الأصوات والألوان والعواطف قيمته الأولى عنده وعادت الشمس تشرق كأضوأ ما كانت. ورأى الناس يباشرون أعمالهم كالعادة وأحس هو مثلهم أن ثم أمورا خطيرة وأخرى تافهة ينبغي له أن يعالجها. وصار يقوم في الصباح ويتحرى العناية في غسل وجهه ويتناول غذاءه ويستمرئه أو لا يستمرئه كسابق عهده، ويجد الغبطة بالشمس تطلع والقمر ينير والضيق بالمطر والرطوبة كما كان. ويلعب البلياردو مساء مع نوفيكوف وغيره ويقرأ الكتب ويستجيد بعضها ويستسخف البعض ويسترذله كعهده قديما.
وضايقه - بل آلمه في أول الأمر - أن كل شيء ظل على حاله لم يلحقه تغيير، فحاول أن يبدل هذا الحال بأن يدفع الناس إلى الاهتمام له والاكتراث لموته، وأن يكرههم على أن يقدروا موقفه المفزع وأن يدركوا أن الأمر قد قضي ؛ غير أنه كان كلما أفضى إلى إخوانه بهذا عاد فرأى أنه لم يكن ينبغي له أن يفعل ذلك، وكانوا يعجبون أولا ثم يتشككون ويذهبون إلى الريب في دقة تشخيص الطبيب للمرض. ثم جعلوا يتوخون آخر الأمر أن يتقوا غضاضة وقع المسألة بأن يغيروا موضوع الكلام ويحولوا مجرى الحديث. وهكذا ألفى سمينوف نفسه يحادثهم في كل شيء ما خلا الموت.
ثم نزعت نفسه إلى العزلة وأن يخلو أبدا بنفسه وأن يتعذب مستفردا إذ كان حيز إدراكه قد استغرقه القضاء المنتظر. غير أن كل شيء بقي على حاله كما ظلت حياته وأوساطه كما كانت فبدا له أن من الخرف أن يتصور أن الأمر يمكن أن يكون على خلاف ذلك، أو أنه هو سيصبح ولا وجود له، وصار خاطر الموت أقل لذعا بعد إذ كان جرحا عميقا. ووجدت روحه المكروبة حريتها وتعددت لحظات النسيان التام وانبسطت أمامه وجوه الحياة رائعة اللون والحركة والصوت.
ولم يعد يطوف بنفسه إحساس الهاوية السوداء إلا وهو وحده ليلا، فكان بعد أن يطفئ المصباح يرى شبحا مسيحا لا شكل له ولا معارف يشارفه شيئا فشيئا في الظلام ويهمس في أذنيه «شش شش» بلا انقطاع فيجاوبه صوت بشع كأنه خارج من جوفه ويحس أنه صائر بعض هذا الهمس وهذه الهيولي ويرى حياته فيها لهيبا وانيا محتضرا قد ينطفئ في أي لحظة.
فاعتزم أن يدع المصباح يضيء الغرفة الليل كله، وكانت هذه الهمسات تنقطع في الضوء والظلمة تنتسخ. وفارقة إحساسه بأنه معلق على فوهة هاوية فاغرة لأن النور أشعره وجود ألف شيء تافه مألوف في حياته كالكراسي والنور والدواة وقدميه ورسالة لم يتم كتابتها والحذاء الذي نسي أن يتركه خارج الغرفة، وغير ذلك من الأشياء اليومية المحيطة به.
على أنه مع ذلك كان يسمع همسات صادرة عن أركان الغرفة التي لم ينرها ضوء المصباح فتفغر الهاوية فاها له، فكان يعرق من النظر إلى الظلام بل من التفكير فيه لأنه كان إذا فعل تكتنفه الحلوكة المزعجة، وتحجب عن عينه المصباح وتخفي العالم كأنما أضمره ضباب بارد كثيف. وكان هذا هو الذي يعذبه ويفزعه حتى لكانه يحس الحاجة إلى البكاء كالطفل أو أن ينطح الحائط برأسه.
ولكنه ألف هذه الإحساسات والهواجس على مر الأيام وكلما دنا من الموت. ولم تكن تلج به وتطغى إلا إذا أذكره مذكر - من كلمة أو إيماءة أو منظر جنازة أو قبر - أنه هو أيضا لا محالة ميت فآلى - لكي يتقي هذه النذر - أن لا يسير في سكة تؤدي إلى المقبرة وأن لا ينام على ظهره ويداه معلويتان على صدره.
وكأنما كانت له حياتان: حياته الأولى الرحيبة المفهومة وهذه لا تتسع لخاطر الموت، بل تغضي عنه إذ كانت في شاغل من شئونها، وهي متعلقة بالأمل في البقاء أبدا كائنا ما كان ثمن ذلك، وحياة آخرى مستسرة غامضة غير معينة تقرض - كالدودة في التفاحة - قلب حياته الأولى وتسمها وتجعلها غير محتملة.
وهذا الازدواج في حياة سمينوف هو الذي جعله لا يكاد يحس أي فزع لما واجه الموت وأيقن أن المنتهى قريب. فلم يزد على أن سأل: «أوقد قضي الأمر؟» ليعرف على وجه التحقيق ماذا يجب أن ينتظر.
ولما قرأ في وجوه من حوله جوابهم عن سؤاله عجب الموت كيف يكون على هذه البساطة كأنه مهمة ثقيلة أرهقت قواه وأدرك في الوقت نفسه بنوع من الإلهام الباطن أنه لا يمكن أن يكون إلا هكذا، وأن الموت نتيجة طبيعية لاستنزاف حيويته ولم يتحسر على شيء سوى أنه لن يرى شيئا بعد ذلك.
Bog aan la aqoon