164

ولم يجبه يوري وكان غضبه قد سري عنه، بل لقد استشعر شيئا من السرور، وإن كان قد آلمه أنه قد خرج من المعركة مهزوما وإن لم يشأ أن يعترف بذلك.

فقال فون دايتز: «إن مثل هذه الحالة تكر بنا إلى الحياة الساذجة.»

فسأله سانين: «وهل ترى الأفضل أن تكون الحياة مبهمة معقدة.» فهز فون دايتز كتفيه واستغرقه التفكير.

اجتاز ثلاثتهم الميدان ومن بعده السكك المقفرة خارج البلدة وهي أضوأ من الميدان وأكثر نورا، وكان الإفريز الخشبي واضحا حيال الأرض السوداء، وفي السماء الصافية الزرقة تلتمع النجوم.

وقال فون دايتز: «ها نحن هؤلاء قد وصلنا.» وفتح بابا قصيرا اختفى فيه ولم يكد يغيب حتى سمعنا نباح كلب وصوتا يقول له: «ارقد يا سلطان.» وأبصر فناء واسعا فارغا وفي جانب منه كتلة سوداء هي طاحونة بخارية ذهبت مدخنتها الضيقة في الهواء وحولها خصاص، ولم تكن ثم أشجار إلا في رقعة ضيقة من الأرض أمام البيت الثاني، وقد أضاء أوراقها الخضراء نور منبعث من نافذة مفتوحة. فقال سانين: «ما أظلمه من مكان!» فسأله يوري: «أحسب الطاحون قديمة.» فأجابه فون دايتز: «قديمة جدا.» ولما جاوز النافذة المضيئة أطل منها ثم قال بلهجة المرتاح: «لقد حضر خلق كثير.» فأطل سانين ويوري مثله ورأيا رءوسا تتحرك في سحابة من الدخان، فمال إلى النافذة رجل عريض الألواح مجعد الشعر وسأل: «من هنا؟» فقال يوري: «أصدقاء!»

ولما صعدوا السلم اصطدموا برجل صافحهم مصافحة الأوداء وقال بنبرة يهودية بارزة: «لقد خشيت أن لا تحضروا.» وقام فون دايتز بواجب التعريف قائلا: «سولوفتشك - سانين.» فضحك سولوفتشك ضحكة المضطرب وقال: «يسرني أن ألقاك، لقد سمعت عنك كثيرا وأنت تعرف ...» وتطرح إلى الوراء دون أن يخلي كف سانين، فاصطدم بيوري وداس على قدم فون دايتز فقال: «عفوا يا جاكوف ادولفوفتش (دايتز)» وأخذ يهز كفه بقوة. وهكذا طال الأمر قبل أن يبلغوا الباب وكان في الردهة صفوف من المسامير دقها سولوفتشك لاجتماع الليلة وبها القبعات معلقة، وبجانب النافذة زجاجات خضراء ملأى بالجعة. وسحب الدخان معقودة حتى في جو الردهة.

وبدا سولوفتشك في الضوء يهوديا شابا أسود العينين مجعد الشعر صغير القسمات قبيح الأسنان بديها إذ كان لا يزايله الابتسام.

فاستقبلهم القوم بضجة عالية وأبصر يوري سينا جالسة على حافة النافذة، فعاد كل شيء في عينه وضاحا سارا كأن الاجتماع لم يكن في حجرة مرذولة غاصة بالدخان، بل حفلة بين المروج الخضراء في الربيع.

فابتسمت له سينا وهي مرتبكة. وقال سولوفتشك وهو يحاول أن يرفع صوته الضعيف الحوار ويداه تتحركان على نحو زري مضحك: «أيها السادة، أحسبنا جميعا قد حضرنا، أرجوك العفو يا يوري! إني دائما أصطدم بك.» وضحك وهو يدفع نفسه إلى الأمام محاولا أن يتوخى الأدب، فضغط يوري على ذراعه وقال له: «لا شيء!»

وصاح طالب حسن الوجه: «لسنا جميعا هنا لعنة الله على الباقين.» وكان صوته العالي يشعرك أنه ألف أن يأمر سواه، فوثب سولوفتشك إلى المنضدة ودق جرسا صغيرا وابتسم مرتاحا إلى أنه فكر في استعمال الجرس.

Bog aan la aqoon