فرفع سانين رأسه وهو متقد وقال باسما: «ولماذا؟» ورد شعره المتهدل على جبينه «لتنم كما شاءت فإني أحب كل أخضر.» - «أما إنك لفتى مضحك!»
وهزت كتفيها باشة، وقد سرها جوابه لأمر ما.
فقال سانين بلهجة الجازم المقتنع: «إنكم أنتم المضحكون.» ثم انصرف إلى البيت ليغسل يديه، ولما عاد تمطى على كرسي ذي ذراعين مصنوع من عيدان الصفصاف وشاع في جواب نفسه الاغتباط وفي صدره ووجهه الانشراح، وأشعرته خضرة الروضة ونور الشمس وزرقة السماء لذة الحياة أيما إشعار. وكان نفورا من المدن الكبرى يمقت ضجتها. أما هنا فليس إلا الشمس والحرية. ولم يكترث للمستقبل ولا أحس من أجله دبيب القلق، إذ كان غير متبطر - يتقبل من الحياة ما شاءت أن تهديه إليه - وأغمض جفنيه كل الإغماض ومط جسمه واهتز مسرورا لتوتر عضلاته القوية الصحيحة.
وهب النسيم عليلا وعادت الحديقة كلها وكأنها تزفر، وجعلت العصافير هنا وههنا تصخب متناغية عن حيواتها المهمة وإن لم تكن بالمفهومة، وكان كلبهم «ميل» مستلقيا على الحشائش الطويلة منصتا وأذناه مرهفتان ولسانه الأحمر متدل من فمه. وأوراق الشجر تتهامس وظلالها المستديرة ترتعش على الحصى الأملس.
وهاج ماريا إيفانوفنا أن طائر ابنها ساكن، وكان حبها له جما كحبها لأبنائها جميعا، فنازعتها نفسها لهذا أن تستثيره وأن تجرح احترامه لنفسه لتكرهه على الالتفات إلى كلامها ولتحمله على مشاطرتها نظرها إلى الحياة. وكانت كالنملة قد قضت كل برهة من عمرها المديد في إقامة ذلك البناء الواهي لسعادتها المنزلية. وما كان أطوله وأعراه وأخلاه من بواعث السلوى النافية للملال! بل ما أشبهه بالثكنة أو المستشفى! شيد بما يخطئه الحصر من دقائق اللبنات. وتالله ما أعجزها من مهندسة تحسب هذه مباهج الحياة، وإن لم تكن سوى متاعب ضئيلة غادرتها في حالة دائمة من الاضطراب والقلق.
قالت: «أتحسب أن الأمور ستظل سائرة على هذا المنوال فيما بعد؟»
وتضاغطت شفتاها وتظاهرت بأن المربى تستغرق عنايتها، فسألها سانين: «وماذا تعنين بقولك فيما بعد؟» ثم عطس فظنت ماريا إيفانوفنا أنه عطس عامدا ليهيجها وقطبت وجهها على الرغم مما في هذا الخاطر من وضوح السخافة.
ثم قال سانين وكأنه يحلم: «ما أجمل أن يكون المرء هنا معك!» فأجابته بلهجة جافية: «نعم فإن المقام هنا ليس بالذميم جدا.» وسرها من ابنها إطراؤه البيت والحديقة، وكانا عندها كأنهما من ذوي قرباها الملازميها.
ونظر سانين إليها ثم قال وعلى وجهه هيئة التفكير: «لو أمسكت عن مضايقتي بكل أنواع الحماقات لعاد المقام خيرا وأحمد.»
ونطق هذه الكلمات بصوت لين المكاسر فخالفت رقة اللهجة جفوة المعنى،
Bog aan la aqoon